الأخبار
لبنان: جيش الاحتلال يتسلل إلى بلدة كفركلا ويفجر منزلاًتحقيق لـ(الغارديان) ينشر معلومات مروّعة عن القنبلة التي استخدمها الاحتلال في قصف كافتيريا "الباقة"طائرة غامضة في سماء إيران: مسيّرة إسرائيلية غير معروفة تُسقطها الدفاعات الجوية قرب كاشان"العليا الإسرائيلية" تصدر قراراً بتجميد هدم 104 مبانٍ في مخيم طولكرمالمجلس الوطني: دعوة تطبيق السيادة الإسرائيلية على الضفة تطور بالغ الخطورة وتوجه عدوانيما الهدف من تدشين السعودية أول سرية من منظومة "ثاد" الأميركية؟الأمم المتحدة: 97% من النازحين بقطاع غزة ينامون في أماكن مفتوحةبن غفير: لن أسمح بتمرير صفقة متهورة وإدخال المساعدات خطأ كبيرالكويت تدين تصريحات إسرائيلية تدعو لتوسيع نطاق الاحتلال في الضفة الغربية(القناة 15) الإسرائيلية: تغيُّر بارز بموقف إسرائيل ضمن المقترح الجديد لوقف إطلاق الناروزير إسرائيلي: نضوج سياسي يدفع نحو صفقة تبادل الأسرىمستوطنون يقتحمون الأقصى بحماية مشددة من شرطة الاحتلالالصحة العالمية: النظام الصحي بغزة يواجه خطر التوقف التام(نيويورك تايمز) تكشف ملامح الصفقة المحتملة.. تهدئة وتبادل للأسرى على خمس مراحلعشرات الشهداء والجرحى في سلسلة مجازر دامية على مناطق متفرقة من قطاع غزة
2025/7/3
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

قراءة في رواية "حدائق البندق" للكاتب الفلسطيني خيري حمدان

تاريخ النشر : 2023-04-11
قراءة في رواية "حدائق البندق" للكاتب الفلسطيني خيري حمدان

بقلم: أ. باسمة صواف

"اثنتان وعشرون درجة يا ابني، هي عدد درجات البيت العتيق الذي تركناه في الوطن قبل النزوح. اثنتان وعشرون درجة..
كم تمنّيت يا أدهم أن أمتلك بيتًا واسعًا وحديقة من البندق، لكنّ الاحتلال فجعني ليُهبطَ سقف أمنياتي لبيت يكاد يتّسع لآلامي وهواجسي، ضاعت يا ابني حدائق البندق في متاهات الأحلام والتمنّي".
من رواية حدائق من البندق.. للكاتب والمترجم الفلسطيني المغترب خيري حمدان.. (106) صفحة، تم تناولها الكترونيا.
---------------
ما بين الأمنية والواقع مسافات من الغربة والمنفى..والحلم المرتجى..وحدائق من البندق التي لم تتحقق في الوطن، لكنها تحققت فيما بعد في الأردن..!! لكن السؤال لماذا حدائق البندق؟!! سؤال يستلهم الممكن لكنه يحلق في المتخيل.. ليصبح واقعا بعد اللجوء.. كيف لا، "وشجرة البندق تثمر وتطعم حتى عامها الثمانين"1"، ويقال إن البندق من "النباتات المقدسة عند بعض الشعوب.. ارتبط رمزيا وتاريخيا بالسلام والصفح والمصالحة، كما ارتبط اسمه بإله التجارة وحامي القطعان والقوافل، إله الإغريق هيرميس بن زيوس ومايا"2
أهو الحلم المتخيل؟!! أم البحث عن معادل جمالي للوطن في المنفى ضمن صراع العودة واللجوء وإن حمل العنوان بعدا مجازيا..!!
"أبي، أتذكُرُ حدائقَ البندق؟ هذه الحديقة أمامَنا هديتي لك. هدية دونَ مناسبة، لأنّك صاحبُ قلبٍ كبير. هديّة العمر والأمل والحياة. لم يصدّقْ العجوزُ عينيه وبكى، ثمّ عانقني وسط أنظار أعضاءِ العائلة المبهورين. دخلنا إلى البيت الدافئ، جلسنا، تحدّثنا مطوّلا. غلت لميسُ القهوةَ وقدّمتْها في الركن المجهّز بأرائك ومقاعدَ خشبيّة. طاف والدي في أنحاءِ الحديقة، شاهد بأمّ عينيه شتائلَ اللوزِ والبندقِ والزيتون. والبندقُ يتجلّى شامخًا في أنحائها.
- سأبيتُ الليلةَ هنا يا أدهم."

تقوم الرواية على شخصية رئيسة هي شخصية أدهم الذي عاش في مخيم جنّاعة في مدينة الزرقاء هو ووالديه، وإخوته: سليم، سليمان، علي، عدنان، كمال، لميس، عبير . ليسرد لنا حكاياهم المختلفة مستخدما أسلوب الاسترجاع منتقيا أهم الأحداث التي تحمل نقدا اجتماعيا.. وإزاحات فكرية وقيمية.. لتشير إلى سمات الشخصية.

ولأن الشخصية تلعب دوراً مهمّاً في البناء الروائي، وفي تطوير أحداثها، اهتم الكاتب بشخوصه لجذب القارئ وإدماجه في النص.. يرى محمد نجم "أن الكاتب لا يكتفي برسم شخصياته من الواقع، بل يترك العنان لخياله في تشكيل الشخصيات، ويعتمد ذلك على فهم الكاتب لهذه الشخصية في ممارسة سلوكها تحت ظروف معينة، معتمداً في ذلك على القياس3، ولا تتحدد الشخصية بفعلها فحسب، حسب قول سعيد بنكراد، بل "تتحدد أيضاً من علاقتها بالشخصيات الأخرى، فإن عملية توزيع المواصفات داخل النص الروائي على شخصيات متعددة، تعدّ عنصراً رئيساً في تشكيل الذات، وفي عالمها القيمي"4. وهذا ما لاحظناه في العلاقات بين الشخصيات في الرواية التي كشفت عن ذواتهم وسماتهم.. خاصة شخصية أدهم بسبب علاقاته الممتدة..

تنبثق الحكاية من مخيم جنّاعة.. ويعدّ المخيم من "أكثر الأمكنة انتشاراً في معظم الروايات الفلسطينية باعتباره الشاهد الحي والملموس على مظاهر البؤس والتشرد الذي خلفته مأساة فلسطين"5 ومن الهم الفلسطيني.. الذي يحمل حلم العودة ويحاول تحقيق ما أمكن، ليمضي الأبناء بهذا الحلم.. الذي بات مستحيلا ليشكلوا حياتهم الخاصة بهم كأي مواطن عربي.. يتعلم.. ويعمل.. ويتزوج.. ويسافر.. ويدافع عن المخيم ومشاكله.. وحدث أن طالب أحد المواطنين الأصليين بملكية جزء من الأرض التي أقيمت عليها المساكن في جنّاعة بعد سنوات طويلة من بنائها.. ليشعر اللاجئ الفلسطيني بالخوف من التشرد للمرة الثانية..!!
"تبيّن أنّ ورثةَ بدري بهاء الدين يمتلكون حجّة ملكيّة 28 دونما من أراضي جنّاعة، وأرسلوا للأهالي إنذارات لإخلاء بيوتهم أو دفع ثمن الأرض بأسعار السوق المتعارف عليها حاليًا، وأنت تعرف يا أخي أنّ هذا الحيّ قد بُني على أنقاض الاحتلال الإسرائيلي والنكبة، ويستوعب عشرات الآلاف من اللاجئين. هذا جنون، كيف يمكن إخلاء هذا المكان، إنّه بمثابة تاريخ وشاهد على العصر، لا يمكن التخلّي عن مخيّم جنّاعة".

يبدأ الفضاء المكاني في الرواية من "بروكسل" حيث يعيش أدهم الذي كان يشعر بالاختلاف عن باقي إخوته.. والذي أصبح يمارس مهنة الصحافة ويحب السفر والتنقل.. حاملا معه حواف ذاكرة ليأخذنا معه في عوالم لولبية بأمكنة وأزمنة مختلفة، فيها مضامين تاريخية.. وحياتية واقعية في بعضها.. بلغة راقية، وأسلوب ماتع.. يخضعك لسيطرتها حتى آخر كلمة في الرواية.

هل كان على أدهم أن يخضعنا لتناقضاته الفكرية.. والسلوكية..ومشاعره المتدفقة كالنبع.. لنعيشها معه.. لتبدأ حكايته بشكل مختلف من خلال صورة إعلان في إحدى شوارع بروكسل لامرأة انتقمت من ذاتها في قصة شعرها وبدت بكامل جمالها دون مساحيق لتبدأ رحلة البحث عنها.. وكاد أدهم تقديم نفسه "أضحية للمثليين" من أجل الحصول على معلومات عن تلك المرأة..!!
"الفكرة التي ابتكرها المخرج غير تقليديّة، والصورةُ المعروضةُ بجرأة في صخبِ الحياةِ في العاصمةِ الأوروبيّةِ قطعة فنية نادرة، كيف خطرَ له توظيفَ فتاةٍ غيرَ مروّضة حسب المعايير المتّفقِ عليها في عالمِ الدعايةِ والإعلان. منْ هيَ؟ ما اسمها؟ أريدُ أن أعرفَ كلّ شيءٍ عنها".

يلتقي أدهم بميرنا في البتراء.. بعدما علم بوجودها هناك لتصوير إعلان فتندمج روحهما كلوحة فنية إغريقية..!! ليعيشا حالة من العشق العبثي الذي لا حدود له.. فيبدأ أدهم بالبحث عن ذاته، عن هويته التي ضاعت ما بين الوطن والمخيم.. وبروكسل.. ليخلق لديه حالة من الاغتراب المكاني لتبدأ تساؤلات لديه: "كيف لي أن أتصرّف الآن؟ لا أشعر بالملل أو برغبة ما للخلاص من حضنها، أنا الذي ركض خلفها، ووقف أمامَ صورتها لساعات طويلة كأبله، وكدت أقدّمَ ذاتي أضحية على مذابح المثليين للوصول إلى عنوانها أو للاقتراب منها خطوة أخرى، وها قد حصلتُ على كلّ شيء. في تلك اللحظة تسلّل السؤال الذي كنت أخشاه، هل أبحث عن بديل لهذا المكان؟"

وتأكدت عبثية العشق لديه حينما سافرت ميرنا والتقى بناريمان الفنانة الشرقية التي قدمت له جسدها دون ضوابط، ما جعل أدهم يعيش حالة من الشوش العاطفي الذي يعيشه أغلب المغتربين، ودهشة الاندماج والتوحد مع امرأة شرقية.. "ناريمان جزءٌ من هذه المعادلة، وطرف في واقعة التجاذب العاطفي الذي أعيشه ما بين الشرق والغرب، وكنت أجهل هذه الحقيقة في تلك المرحلة الحرجة من حياتي."
 
وتأخذنا الشخصية إلى حالة من المقارنة بين المرأة الأوروبية والشرقية في ممارسة الحب، بقوله: "أدرك طبعًا أنّ هناك طابع مشترك بين النساء، ورغبة شبه مطلقة للتملّك والشعور بالأمان والاستقرار، لكن الفارق يتمثّل في طريقة التعبير؛ أدرك كذلك صعوبة المقارنة بين أوروبيّة تعوّدت تنظيم حتّى مواعيد الجنس، وشرقيّة متأهّبة طوال الوقت للانطلاق ولا تقبل أقلّ من كلّ شيء، وعلى استعداد دائم لإشعال النيران في كيان الرجل إذا تخلّى لوهلة عن مشاعر الودّ والوفاء."
وهذه المقارنة تحمل بعدا سيكولوجيا واجتماعيا في إطار مجتمعي يتعلق بامرأة شرقية مطلقة مرتين كشخصية ناريمان!!
ربما أشار الكاتب إلى هذا التيه والتجاذب في شخصية أدهم الفلسطينية ليشير إلى حالة غير مستقرة في الواقع الفلسطيني بين الشرق والغرب متمثلة بشخصية ميرنا وناريمان..!!

*****
وينتقل الفضاء المكاني إلى العراق.. الموصل.. فتأخذ شخصية سليمان مساحة من الرواية وإن بدت شخصية أدهم السارد العليم بالأحداث فيختلط صوته بصوت الراوي، فيشير إلى رحلة سليمان المتعبد المعتدل في عقيدته وفكره.. الذي يبحث عن ذاته في هذا الكون ليقترب أكثر من الخالق.
يلتقي سليمان بأستاذه الشيخ الدليمي الموصلي.. الذي قُتل لمعارضتة لذوي الرايات السوداء.
وهنا يشير الكاتب إلى أحداث الموصل بعرض قضية أصحاب الرايات السوداء والفكر المتطرف، والقتل هو وسيلتهم الوحيدة لتحقيق الأهداف من أجل الوصول إلى غاياتهم غير المشروعة..
يتزوج سليمان من ليلى ابنة الدليمي بعد تردد طويل، فيخطبها بعد أن يشعر بالخطر يتهددها من محارب -صاحب الفكر المتطرف- ليهرب معها إلى الأردن ليتبدل حالة فيخرج من دائرة التعبد المنعزلة إلى الحياة الطبيعية الملتزمة من أجل توفير حياة سعيدة لزوجته ليلى وابنته ليلى الذي لا يعرف لماذا أطلق عليها اسم أمها، هل حدسه الذي يصيب دائما ؟!! "ونسمّيها ليلى إذا كانت أنثى.. شعرت بالامتنان دون أن تفهم إصراره على تكرار اسمها في العائلة كأنّه يتنبّأ بأمر ما وغالبًا ما تتحقّق تنبُؤاته."

يتحقق حدسة فتصاب ليلى بمرض خبيث في رأسها لترحل بعد رحلة عذاب مع المرض، وتبقى ليلى الصغيرة التي نجحت في منع والدها من الترحال.. "ليلى الصغيرة وحدها حالت دون اختفاء سليمان ثانية، كان على وشك السفر إلى الهند وسفوح الهملايا بعيدًا في رحم الشرق الأقصى دون أسباب ومبرّرات مقنعة. لكن ما أن تمسك الصغيرة بأصابع يده حتى يشعّ وجهُها وتضحك. لا، لن يتركها يتيمة ووحيدة في هذه المدينة".

ليس صدفة أن يذكر الكاتب العراق.. وأحداث الموصل.. فهي الشقيقة.. والجرح واحد ممتد.. طرح مخاوفه، ورؤيته للفكر المتطرف من خلال شخصية سليمان.. بطريقة تشير إلى التوازن الفكري والعاطفي حيث قال: "حين سُئل سليمان عن طبيعة علاقته مع التنظيم، وهل يتوقّع نجاحه واستمرار ولايته في الموصل ومناطق نفوذه الأخرى. أجاب وقد بان الألم على تقاطيع وجهه بأنّ هناك بعدٌ عقائديّ أخطر بكثير من البعد الجغرافي لتنظيم الرايات السوداء، وأنّ المنطقة تحتاج لعقود طويلة من الزمن لهزيمة الفكر المتطرّف القاتل. بدا مقتنعًا من عدم قدرتهم على البقاء لفترة زمنية طويلة في أيّ من معاقلهم المختلفة، لكنّ البذرة التي زرعوها قابلة للنموّ بسهولة في أيّ مكان دون سابق إنذار لانعدام العدالة الاجتماعيّة. "

*****
أما المرأة فقد كان لها نصيب في الرواية بتناول أهم قضية، ألا وهي العنف من جانب الزوج نتيجة الغيرة المرتبطة بفكر الرجل المتزمت الضعيف الذي يمارس رجولته على زوجته من خلال شخصية لميس التي تزوجت زواجا تقليديا، تفاجأت بشخصية زوجها فريد.
 
أظهر الكاتب مقارنة بين فريد المتزمت وسليمان الملتزم.. المعتدل من حيث ممارسة الدين سلوكيا، ليضعنا في مفارقة واقعية، بقوله:
"بعد الإفطار وأداء صلاة المغرب الجماعيّة، انفرد سليمان مع فريد لفترة وجيزة. توسّم الأخيرُ خيرًا وتوقّع دعمًا من الأخ المتصوّف الناسك، لمناصرته في سلوكه المتحفّظ القاسي تجاه لميس.
 
- لا بدّ من اتّخاذ الاحتياطات اللازمة، هذا زمان صعب وفيه فجور وفتنة. قال فريد وعيناه تتوسّلان سليمان، فما كان من أخي إلا أن أمسك بأطرافِ أصابِعِه عظمتي ترقوة فريد وشدّ قليلا، رأيتُ فريدَ يركعُ أمامَ أخي ويتأوّهُ من شدّة الألم، ثمّ تركه سليمان دون أن يتفوّه بكلمةٍ واحدةٍ، وابتعد عنه وقد امتلأت عينا فريد بالدمع وارتجف جسده من هول المفاجأة. سليمان نحيفُ الجسدِ ولا توحي بنيتُه بالقوّة، كيف تمكّن بهذه السهولة أن يخضعَ قامة فريد المهيبة؟"
 
فينتهي الأمر بطلاق لميس وإنجاب الطفل (مروان) لعيش في كنف جده لأمه.. ويعاني بعد ذلك لعدم اهتمام والده به.
كما تناول الموضوع ذاته من خلال شخصية عمه (العصبي) الذي يضرب زوجته فاطمة ليصل به الأمر إلى كسر ذراعها، لتبدو له شهية بعد ساعات فتنصاع له راضية "ما أن غادرنا بيت عمّي حتّى ذهب الرجل للاغتسال، خيّم الهدوء على المنزل، تهادى الرجل مبتسمًا إلى غرفة النوم وشدّ فاطمة من يدها السليمة. تمنّعت الزوجة قليلا وقالت معاتبة:
- في النهار تكسر يدي وفي الليل تركبني؟
- ما هذه الكلمات الفاجرة يا فاطمة، على أيّة حال، أنا..لم أقصد الإساءة يا عزيزة. لم يجد الشجاعة للاعتذار واكتفى بأن همس قائلا: العني الشيطان يا مرة، تعالي يرضى عليك."
قدم الكاتب نموذجين من المرأة المعنفة: واحدة ترفض البقاء مع زوجها وتنفصل عنه، وأخرى مجردة من إرادتها!!
وقدم لنا أيضا نموذج المرأة المأخوذة بالشهرة متمثلة بشخصية عبير، التي تخلت عن قيمها من أجل إثبات أنوثتها في كنف رجل أحبته معلنة خيانة صامتة لزوجها فريد، لتقع في شرك رجل يمارس طقوس الانحلال مع نساء من أجل إشباع رغباته.. ليتركها بين هسيس جرحها وصراخ كبريائها بعد أن انتزعت الشهرة جمال روحها النقية بعد مشاركتها في برنامج (محبوب العرب) وانبهارها بأضواء النجومية التي أظلمت بصيرتها ومارست الرذيلة مع عازف مشهور بكل سهولة..!!
 
نلاحظ أن "الأنا" عند عبير بعد التحول الذي طرأ على وضعها المادي والاجتماعي "لا يقبل أن يأخذ في الاعتبار إشباع الدوافع بإقامة العقبات في طريقها ومقاومتها غير أنه يفقد في هذه الوضعية الدفاعية رقابة تلك الدوافع التي تجد في العارض الوسيلة الملتوية للإشباع الذاتي ولمحاولة التسرب داخل الوعي" 6، لذا نجد عبير قد خلعت ذاتها من أجل البدء بشخصية جديدة تتوافق مع مستواها الاجتماعي والمهني الجديد..!!

*****
تناول الكاتب شخصية علي (الذكي) الذي يؤمن بأن الغاية تبرر الوسيلة، حيث أصبح محاميا ناجحا، تزوج من امرأة غنية بعد أن طلقها من زوجها من أجل العيش في مستوى اجتماعي مختلف في العاصمة عمان.. متناسيا ظروف القهر والفقر في المخيم.. فيدخل في عملية مشبوهة (شراء سلاح وبيعه) ليعتزل ذلك بعد تكوين ثروة كبيرة، لكن النتيجة كانت طلقة في صدره وهو في قبرص..!!

وهذا يرجعنا إلى ما قاله فرويد عن رغبات الإنسان المحصورة في اللاوعي التي يمكنها الانفجار في أية لحظة إلى الخارج وتصبح سبباً لمأساة بشرية 7.
"نطق بجرأة غريبة بكلمة متفجّرات بعد نجاح الصفقة الأولى، وابتلع الطعم بمهارة فائقة. "أين تذهب كلّ هذه الأسلحة؟"، حكّ رأسه وسرعان ما تناسى هذا السؤال العابر وفي البال حجم الأموال التي حوّلت لحسابه البنكيّ. تستخدم الرصاصة والعبوة الناسفة والصاروخ لمرّة واحدة فقط. بووووم وانتهينا. الحرب تبتلع كلّ ما في طريقها، تبتلع حتّى الأمل."

"تناول طعامه في أحد المطاعم المتواجدة على الشاطئ، وقرّر التنزّه بعد المساء على الساحل بانتظار اقتراب موعد إقلاع الطائرة. جلس فوق صخرة مرتفعة وكان الجوّ دافئًا كالعادة. الأمواج تتراقص فوق الكتل الصخريّة أمامه. سمع لوهلة صوت أزيز رصاصة مكبوتة ارتدّ صداها في صدره لينقلب مدميًا فوق الصخور. الإصابة محكمة حتّى أنّه فقد الحياة قبل أن يرتطم بالكتل الصلدة دون أن يدرك أبدًا ما أصابه بهذه السرعة".

أما سليم الأخ الأكبر فقد عاش حياته بشكل طبيعي تزوج وسافر إلى الخليج ليكون مالا ويرجع إلى الأردن ليشتري شقة فيها. وعدنان المدرس الذي يحبه الطلبه قدم إلى منحة في عُمان للعمل هناك..!!
"سيحصل عدنان بعد عدّة سنوات على منحة للعمل كمدرّس في عُمان، سيستثمرها أخي على الفور. سيمضي هناك خمسَ سنواتٍ فقط ليعود ويرفع بيتًا متواضعًا في الزرقاء الجديدة ليستقلّ مع عائلته."
ويظهر الكاتب فلسفة الرجل الشرقي المغترب.. الذي يضع مبررات لخيانته للمرأة الغربية التي أحبها حيث قال: "لا أجد تفسيرًا مقنعًا، ربّما أقمتُ علاقة مع امرأةٍ أخرى لمعرفةِ مدى الرغبة الكامنة فيّ للتوحّد مع مشرقي، ولإيجاد مبرّر للارتباط مع المفهوم الجغرافي للوطن حسب المخزون الجيني في ذاتي. أعرف بأنّي قد جرحت مشاعرك، كان بإمكاني التزام الصمت والكذب.."
وهنا إشارة من الكاتب بأن المغترب يبقى مشدودا مكانيا وجينيا بالمكان الذي ولد ونشأ فيه. وقد أظهر الكاتب من خلال شخصية أدهم ذلك.. فتحول السفر باتجاه عكسي؛ ليشعر بالأمان..!!
"لا أريد العودة إلى الفنادق، لا أرغب بتقديم بطاقتي الشخصية لموظّف الاستعلامات لتدوين بياناتي التي لم أعد واثقًا من صحّتها. قد أستقلّ حافلة إلى العقبة للاستحمام في مياه البحر الأحمر هربًا من شتاتي".

نلاحظ في النص السابق أن أدهم اختار السفر إلى العقبة المقابلة لمدينة (أم الرشراش) التي أطلق عليها الاحتلال اسم (تل أبيب) ليبقى الوطن قريبا منه لا يفصله سوى مساحة جغرافية مائية (البحر الأحمر)..!!
ينهي الكاتب روايته بطرح رأيه في فكرة السفر بأنها مخرج وليس هربا، ويكمل بطريقة فيها تشظي وضبابية مع إشارة إلى الربع الخالي..تاركا فضاءات مفتوحة للمتلقي.. بقوله:
"بدا لي السفر بحدّ ذاته مخرجًا وليس هربًا. الجلوس فوق العجلات المتدحرجة آلية علاج نفسي ناجحة. ما أن ترمي بذاتك الأخرى فوق المقعد حتّى تهيم بالفضاءات الشاسعة من حولك، لعلّ الحافلة تنطلق تجاه الربع الخالي، تسمح للصحراء أن يخترقَ محرّكها المدويّ، تملأه بالتراب والسراب وتلفّه بالصمت المقيم في البيوت المتراميّة في كلّ مكان من حولي. "


نلاحظ مما سبق أن الرواية أضاءت حياة الفلسطيني في الشتات متناولا الكاتب المكان والزمان عبر تقنية الاسترجاع، والذي يعد "من أكثر التقنيات الزمنية حضوراً وتجلياً في النص الروائي. يتحايل الروائي من خلاله على تسلسل الزمن السردي"8 لذا نجد الكاتب قد عمل توازنا بين الواقع والماضي من خلال شخصية أدهم ليكتمل السرد..
كما نلاحظ اهتمام الكاتب بالزمن النفسي للشخصيات خاصة شخصية أدهم وسليمان ليعكس لنا رأية في كثير من القضايا السياسية والاجتماعية بلغة واقعية تارة، وشاعرية تارة أخرى ليقع القارئ في فخ جمالية اللغة التي أضفت سحرا على صفحات الرواية، على الرغم من استخدام اللغة المحكية في بعض أجزائها، ولتكشف لنا اللغة القلق والنزاع الداخلي في بعض الشخصيات مثل: أدهم، سليمان، علي، عبير.
كما كان للحوار بنوعيه وجود في الرواية، يرى محمد نجم أن حيوية السرد وتدفقه يرجع إلى الحوار المعبر الرشيق9. فالحوار هو "اللغة المعترضة التي تقع وسطاً بين المناجاة، واللغة السردية"10.
ويعدّ الحوار الداخلي "من أهم التكنيك الفني لتيار الوعي على الإطلاق"11، "وقد استعمل هذا التكنيك للكشف عن نفسية الشخصيات وتفكيرها"12، وهذا ما أتقنه الكاتب، واستطاع من خلاله الكشف عن أهم الأحداث في طفولة وحاضر الشخصيات، حيث كشف عن سمات كل منها. بالإضافة إلى السرد الذي استطاع قارئ الرواية أن يعيش تفاصيلها من خلال التسلسل والاسترجاع الزمني عبر صفحاتها.

ونخلص القول: إن الكاتب خيري حمدان أضاء لنا حياة الفلسطيني في الشتات.. وعرض لنا حياة جيلين: الأب وأولاده.. بلغة جميلة ترتقي إلى مستوى الرواية التي تجذبنا من العنوان.. وتشدنا حتى آخر حرف فيها.. مبينا لنا أن الفلسطيني لم ولن ينسى وطنه، حتى المخيم الذي لجأ إليه فهو يبقى مشدودا.. وفيا له.. محاولا إيجاد حلول لمشاكله وهذا ما أظهره في الرواية، ومن حقه أن يمارس حياته الطبيعية وإن حمل حلم العودة على كاهله..!!
كما أظهر الكاتب ثقافتين بحضارتين مختلفتين: الغرب والشرق.. والتي تشير إلى ثقافته وبناء عالمه الروائي الذي "ينبض بالحياة"


 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف