الأخبار
إعلام إسرائيلي: إسرائيل تستعد لاجتياح رفح "قريباً جداً" وبتنسيق مع واشنطنأبو عبيدة: الاحتلال عالق في غزة ويحاول إيهام العالم بأنه قضى على فصائل المقاومةبعد جنازة السعدني.. نائب مصري يتقدم بتعديل تشريعي لتنظيم تصوير الجنازاتبايدن يعلن استثمار سبعة مليارات دولار في الطاقة الشمسيةوفاة العلامة اليمني الشيخ عبد المجيد الزنداني في تركيامنح الخليجيين تأشيرات شنغن لـ 5 أعوام عند التقديم للمرة الأولىتقرير: إسرائيل تفشل عسكرياً بغزة وتتجه نحو طريق مسدودالخارجية الأمريكية: لا سبيل للقيام بعملية برفح لا تضر بالمدنييننيويورك تايمز: إسرائيل أخفقت وكتائب حماس تحت الأرض وفوقهاحماس تدين تصريحات بلينكن وترفض تحميلها مسؤولية تعطيل الاتفاقمصر تطالب بتحقيق دولي بالمجازر والمقابر الجماعية في قطاع غزةالمراجعة المستقلة للأونروا تخلص إلى أن الوكالة تتبع نهجا حياديا قويامسؤول أممي يدعو للتحقيق باكتشاف مقبرة جماعية في مجمع ناصر الطبي بخانيونسإطلاق مجموعة تنسيق قطاع الإعلام الفلسطينياتفاق على تشكيل هيئة تأسيسية لجمعية الناشرين الفلسطينيين
2024/4/24
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

العدد 62 من «كراسات ملف»: التطبيع .. المسار والتداعيات

تاريخ النشر : 2023-02-12
المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات (ملف) 

التـطبـيــع

ــ المسار والتداعيات ــ

يوسف أحمد - عضو المكتب السياسي - للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين

سلسلة «كراسات ملف»

العدد الثاني والستون ــ أوائل شباط (فبراير)2023

المحتويات

تمهيد

1 ــ بديهيات المقاطعة واختراقات التطبيع

2 ــ من إطلاق المبادرات حتى «كامب ديفيد» و«أوسلو»

3 ــ «صفقة ترامب» .. تطبيع ، سيطرة أمنية، نهب اقتصادي

4 ـ الآليات الصهيونية في تمرير سياسات التطبيع

5 ــ حسابات الربح الصافي في رصيد دولة الاحتلال

6 ــ التطبيع أمام جدار الرفض العربي

7 ــ القضية الفلسطينية في صدارة «مونديال قطر»

8 ــ نحو جبهة عربية موحدة في مواجهة التطبيع

تمهيد

■ يتصل مفهوم «التطبيع»، بحسب القانوني الدولي، بمسار العلاقات البينية مابين الدول والكيانات والتشكيلات والأطر السياسية والإقتصادية وغيرها، وقد ورد في القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة مجموعة من القواعد والأحكام نظمت هذه العلاقات، في سياق الحفاظ على الحقوق والمكانة السيادية لكل من هذه الكيانات. كما سنت الشرعة الدولية أحكاماً تحت عنوان«المسؤولية»، حددت فيها مسؤوليات الدول كأشخاص في القانون الدولي تجاه مواطنيها وحمايتهم من أية تجاوزات بحقهم من قبل طرف أخر، والذي بمقتضاه «على الدولة التي تنتهك مصلحة مشروعة طبقاً للقانون الدولي إلتزام إصلاح ما ترتب على ذلك الفعل حيال الدولة التي ارتكب هذا الفعل ضدها أو ضد رعاياها». وسنت الشرعة الدولية تحت عنوان«الحفاظ على السلم والأمن الدوليين»، أحكاماً تتيح لمنظمة الأمم المتحدة التدخل لفض النزاعات بين الدول، والعمل على تطبيع العلاقات في مابينها. وبعض هذه الأحكام تندرج تحت «الفصل السابع» من ميثاق الأمم المتحدة، الذي يعطي المنظمة الدولية الحق في التدخل العسكري المباشر لفرض تنفيذ قراراتها ذات الصلة بهذه النزاعات، وضبط العلاقات بين الأطراف المتنازعة تحت سقف القانون الدولي.

وإذا كانت الأحكام العامة للقانون الدولي تجيز إبرام الإتفاقات الثنائية بين دولتين معترف بهما دولياً،إلا أن ميثاق الأمم المتحدة وقراراتها ذات الصلة بالقضية الفلسطينية،والصراع العربي ــ الإسرائيلي تضع إسرائيل في خانة المتمردين على القانون والشرعة الدوليين، أولاً : بسبب احتلالها الأراضي الفلسطينية ومن ثم العربية بالقوة العسكرية، والذي ترافق مع ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بحق مئات الآلاف من سكان البلاد الأصليين. وثانيا: التهرب من تنفيذ شروط قرار قبول عضويتها في الأمم المتحدة ــ 11/5/1949، الذي جاء في ديباجته ضرورة تنفيذ القرارين: الرقم 181 ، وهو قرار التقسيم، بما يعني قيام الدولة العربية في فلسطين، وقد ورد في الفقرة (ج) من هذا القرار، أن أية تغييرات وتجاوزات في تطبيق قرار التقسيم تعتبر تهديداً للسلم والأمن الدوليين وتعتبر عملاً عدوانياً، والقرار 194، الذي أكد وجوب عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم وممتلكاتهم التي طردوا منها والتعويض عليهم. وثالثاً: رفضها تنفيذ قرارات الأمم المتحدة المتعاقبة التي أكدت لزوم الإنسحاب من الأراضي الفلسطينية والعربية التي احتلتها في حرب العام 1967، وتنكرها المتواصل لحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره على أرضه، والقائمة تطول في تعداد أدلة خروج دولة الإحتلال على مبادىء الشرعة والقانون الدوليين.

وعلى هذا الأساس، ينظر إلى قيام أي دولة بتطبيع علاقاتاتها مع دولة الاحتلال الإسرائيلي على أنه قبول بنتائج عدوانها على فلسطين والدول العربية، وتجاوز على قرارات الإجماع العربي الرسمي ذات الصلة بالصراع العربي /الفلسطيني ــ الإسرائيلي، كما يعتبر تجشيعاً، يصل لدرجة المكافأة، على استمرار سياساتها العدوانية التوسعية. وقد كان تطبيع العلاقات بين أطراف من النظام الرسمي العربي والدولة العبرية، مطلباً إسرائيلياً مدعوماً من حلفائها، وفي المقدمة الولايات المتحدة، بهدف فرض التعامل مع إسرائيل كمكون طبيعي في الخريطة السياسية للمنطقة. دون مقابل.أي رضوخ النظام العربي الرسمي لنتائج حرب العام 1948، بشقيها: تشريد الفلسطينيين من وطنهم، وقيام الدولة العبرية، ولنتائج عدوان 1967: احتلال باقي فلسطين وأراض عربية واسعة، ونزوح مئات الآلاف من السكان.

■ منذ تأسيسها ــ 1897، سعت المنظمة الصهيونية العالمية لتسويق مشروع قيام «دولة اليهود» في فلسطين. وفي سياق هذه المساعي، ورد في مذكرات شخصيات رسمية عربية أن ممثلين للمنظمة أجروا اتصالات مع عدد من المسؤولين العرب، في محاولة لكسب قبولهم لهذا المشروع. وقد أرفقوا طلبهم بعروض إغراء بالمساعدة على تنمية بلدانهم إقتصادياً في حال سهلوا قيام هذه الدولة، وأوقفوا دعمهم للثوار الفلسطينيين.

وقد ساهمت الدول الاستعمارية الأوروبية، خاصة بريطانيا، في هذه المساعي ضمن خطاب ادعت فيه أن قيام «دولة اليهود» في فلسطين «لن ينتقص من الحقوق العربية فيها»، في الوقت الذي كانت فيه هذه الدول تعمل على  إقامة «دولة وظيفية»، تتماشى مع مصالحها ومشاريعها الاستعمارية في المنطقة العربية، بعد إنتهاء استعمارها المباشر للدول العربية مع انتهاء الحرب العالمية الثانية. وفي قناعة هذه الدول ، أن الإستعمار المباشر لم يعد ممكناً وذو تكلفة باهظة، فقبلت استقلال الدول المستعمَرة ،مع إبقاء سيطرتها على ثرواتها. ورأت الدول الإستعمارية  أن قيام إسرائيل سيوفر لها «الشرطي»، الذي يعطل أية مشاريع نهضوية إستقلالية للشعوب العربية، من خلال العدوان والإحتلال. وقد اتضح ذلك أكثر من خلال الدعم العسكري غير المحدود لإسرائيل، وتمكينها من السلاح النووي بدعم فرنسي، ما جعلها القوة الكبرى في المنطقة، وأطلق العنان لسياستها العدوانية تجاه الدول العربية. وقد نسجت دولة الاحتلال الإسرائيلي تحالفات إقليمية بهدف حصار الدول العربية، عبر «إستراتيجية الأطراف»(وسميت أيضاً «إستراتيجية الضواحي»)، فتحالفت مع إيران الشاهنشاهية شرقاً، وتركيا شمالاً، وأثيوبيا جنوباً، ما جعل المنطقة العربية داخل طوق من تحالفات إسرائيلية - إقليمية، شكلت أساساً لتعاون أمني، اقتصادي، استخباراتي، في ظل رعاية غربية.

(1)

بديهيات المقاطعة واختراقات التطبيع

■ شكلت جامعة الدول العربية «مكتب مقاطعة إسرائيل» ــ 1951، لمتابعة تنفيذ القرار الرسمي العربي، الذي رفض إقامة أية علاقة مع دولة الاحتلال طالما هي مستمرة باحتلال الأرض الفلسطينية. وأقرت الجامعة في العام 1954 قانوناً موحداً لمقاطعة إسرائيل تبنته جميع الدول العربية، التي أنشأت في عواصمها مقرات خاصة بمكتب المقاطعة، وسنت قوانين تجرم التطبيع وتعاقب عليه، واتخذت إجراءات عقابية بحق الشركات والمؤسسات التي تتعامل مع إسرائيل وحظرت دخول بضائعها إلى أسواقها. وقد أدت هذه الإجراءات إلى إلحاق خسائر كبيرة بالإقتصاد الإسرائيلي، وشكلت له عامل قلق وعدم إستقرار لسنوات طويلة.

وعلى الرغم من ذلك، استمرت اللقاءات الإسرائيلية السرية مع العديد من المسؤولين والرؤساء العرب في العواصم الغربية، دون أي إعلان رسمي عنها، نظراً لحالة الرفض الشعبي العربي، وتحسباً من استخدامها في الحملات والإتهامات المتبادلة مابين الأنظمة العربية. وتتجاهل هذه الاتصالات حقيقة أن إسرائيل كيان معاد للعرب، قام على أنقاض الوطن الفلسطيني، وشنّ العديد من الحروب العدوانية ضد الدول العربية المجاورة، وحتى البعيدة عنها، واحتلاله للأرض والحقوق الفلسطينية والعربية ما زال قائماً. ويعتبر مجرد الاتصال معه تنازلاً عن الحقوق واستسلاماً للواقع الإحتلالي، وهذا يتناقض بل يتعاكس مع إرادة الشعوب الحرة التي ترفض على الدوام أي شكل من أشكال الظلم والاستبداد والقهر والاحتلال، وخيارها رفض هذا الواقع الظالم، والنضال من أجل تغييره. وبهذا الفهم، يتأكد أن التطبيع، بمختلف أشكاله، هو نقيض المقاومة بمختلف أشكالها. وحين نرفض التطبيع، فنحن ندعو إلى المقاومة التي هي حق لجميع الشعوب المقهورة والمحتلة أرضها والمصادرة سيادتها وكرامتها، وتحميه مواثيق الأمم المتحدة، التي تشرع مقاومة الاحتلال، وحق الشعوب في الدفاع عن حقوقها ومصالحها.

لذلك، فإن المقاطعة ومواجهة التطبيع ليست وجهة نظر تطرح على طاولات البحث أو في المؤتمرات، بل بديهية من بديهيات ثقافتنا في إطار المواجهة مع هذا العدو. فالكيان الصهيوني وعدوانيته هو حقيقة واقعة لا تحتاج أدلة، والمجازر والإعتقالات واحتلال الأرض والعدوان اليومي على الشعب الفلسطيني، واستمرار إحتلالها لأراض لبنانية واختراقه البري والبحري وعدوانه على سوريا وشعبها واحتلاله الجولان وتهديده المتواصل للعديد من الدول وابتزازها وحصارها بسبب دعمها لقوى المقاومة في المنطقة، بل إعتداؤها على سيادة دول عربية بعيدة آلاف الأميال (العراق وتونس..)، كل ذلك وغيره الكثير يؤكد عدوانية هذا الكيان، كما يؤكد أيضاً بأن الصراع والمواجهة معه لا يمكن أن يخضعا لمنطق الأوهام والتبريرات البائسة عند المستسلمين والمطبعين.

نقول هذا الكلام ونحن ندرك الواقع الذي نعيشه اليوم، وندرك بالتالي حجم المخاطر الكبرى التي نواجهها، وفي المقدمة منها سياسة التطبيع . لكننا نعلم أيضاً بأن هذا الإنبطاح ليس وليد اللحظة، فمنذ اللحظات الأولى لنكبة الشعب الفلسطيني كانت هناك إتصالات عربية ولقاءات مباشرة وغير مباشرة من قبل مسؤولين عرب مع مسؤولين إسرائيليين، مرة تحت ذريعة التخفيف من الخسائر ومرة أخرى من أجل معالجة الوضع الإنساني الناشئ عن النكبة، وغير ذلك من تبريرات كانت تمثل في واقعها الحقيقي إستجابة لضغوط دولية.

ولعل الفارق  بين اليوم والأمس هو أنه ما كان يجري سراً ومن تحت الطاولة أصبح اليوم أمراً طبيعياً، بل أن بعضهم بات يتباهى أنه أول من طرق باب كيان الاحتلال الاسرائيلي لدرجة يمكن إطلاق وصف «ماراثون التطبيع» على الحالة التي وصلها النظام الرسمي العربي في تعاطيه مع التحديات التي تواجه كل المنطقة العربية.

شكل توقيع إتفاقية كامب ديفيد بين مصر ودولة الإحتلال بداية الإختراق الإسرائيلي الرسمي للجسم العربي، لتبدأ بعد ذلك رحلة طويلة ومعلنة من التطبيع الرسمي بين إسرائيل وبعض الدول العربية التي لم تعد تجد في العداء لإسرائيل أمراً مربحاً!، وتحت يافطة «العصر الأمريكي»، الذي افتعل الحروب بشكل مباشر أو من خلال أدواته الظلامية، فدمر بلداننا ونهب ثرواتها وقضى على ما تبقى من شيء اسمه «تضامن عربي»، إلى دخول الجيش الأميركي الأراضي العربية واحتلاله لدول الخليج تحت مسميات متعدده، إلى إفتعال الصراعات المذهبية والطائفية، وما تبعها من فوضى وأزمات بشرنا بها «المحافظون الجدد» في الولايات المتحدة، الذين أشعلوا سلسلة من الحروب ما زالت نيرانها مشتعلة في أرجاء المنطقة العربية حتى يومنا هذا.

ثمّة رابطٌ عجيبٌ في التزامن بين افتعال الحروب والأزمات في بلداننا العربية، وتصاعد التطبيع مع إسرائيل، إذ هرولت النظم العربية التي تدور في الفلك الإمبريالي الأمريكي إلى التطبيع وقادت عربته، ونقلته من السر إلى العلن، كما شنّت تلك القوى حرباً مسعورة، ليس ضد  فصائل وقوى المقاومة فقط، بل ضد القضية الفلسطينية برمتها وأصل الصراع فيها، وشكّكت تلك القوى والنظم في الرواية العربية الفلسطينية للصراع، لصالح تبنّي الرواية الصهيونية، والتي تقول إن الفلسطينيين ليسوا أصحاب الأرض الحقيقيين وهم طارئون عليها، وهم من يمارس الإرهاب. كما كان لافتاً رعاية تلك الأنظمة حملة تشويه القضية الفلسطينية وقوى المقاومة،عبر حملة ممنهجة في الإعلام الرسمي،وتوظيف جيوش من المغرّدين والناشطين المطبعين عبر وسائل التواصل الاجتماعي، الذين يعيشون حالة من نقص المناعة الوطنية والقومية. وكان الهدف من كل ذلك تعميم ثقافة جديدة تبشر بسلام مزعوم جربناه على مدار أكثر من أربعة عقود، وكانت النتائج كارثية ومأساوية على جميع المستويات.

وهنا، يأتي السؤال عن مدى نجاح هذا المسار الصهيوني الممتد منذ عقود في اختراق العقل والجسد العربي، وتطويعه وتغيير قناعاته تجاه هذا الكيان الذي عايشته عدة أجيال في عالمنا العربي، وانطبعت في أذهانها صور القتل والإجرام والدمار والعنصرية. كل ذلك شكل الإستعصاء الكبير أمام الطموحات الإسرائيلية، التي لم تمكنها كل اتفاقات التطبيع من «كامب ديفيد» حتى «صفقة القرن» الأمريكية و«اتفاقات أبراهام» من تحقيق هذا الحلم. وبقيت الشعوب العربية هي الحصن المنيع الذي يُفشل كل هذه الأهداف والمخططات، التي حاول الاحتلال، وبعض النظام الرسمي العربي، من خلالها أن يخدع العالم، وأن يقدم الكيان الصهيوني بإعتباره دولة طامحة للسلام، ظناً منه أن هذه الصورة المخادعة ستخفي وجهه الحقيقي الملطخ بدماء الأطفال والنساء والشباب، الذين يُعدمون يومياً في الأراضي الفلسطينية، التي تلتهمها المشاريع الاستيطانية وحملات التهويد والمصادرة، ويواجهها الشعب الفلسطيني بقوة وبسالة وتضحيات كبرى في ميادين المواجهة،مؤكداً تمسكه بالأرض والحقوق الوطنية، رافضاً التنازل عنها مهما بلغت التضحيات والمؤامرات.

ولا بد من التأكيد بأن مهمة مواجهة التطبيع، هي مهمة كل فرد في وطننا العربي. وكل الحركات الشعبية العربية وحركات التحرر وكل أحرار العالم مدعوون لتحشيد طاقاتهم لمجابهة ما سمي زوراً وبهتاناً بالتطبيع، لأن ما يجري بالمنطقة العربية من أقصاها إلى أقصاها ليس تطبيعاً يرمي إلى إقامة علاقات عادية بين دولتين تتنازعان على قطعة حدودية من الأرض، بل هو تحالف استراتيجي، أمني، عسكري، اقتصادي، ثقافي، يتبنى السردية الصهيونية، ويعمل تحت سقف الإستراتيجية الأميركية – الإسرائيلية، وبما يخدم أغراضهما.

(2)

من إطلاق المبادرات حتى «كامب ديفيد» و«أوسلو»

■ في ظل إتفاقات الهدنة بين إسرائيل والدول العربية، كلاً على حدة (لبنان، سوريا، مصر، الأردن)، بقيت حالة اللا حرب واللا سلم قائمة. وفي تلك الفترة ، تركزت المداولات السياسية المباشرة، عبر مؤسسات الأمم المتحدة، وغير المباشرة عبر أقنية خلفية تم الكشف عنها لاحقاً،على مناقشة قضية اللاجئين الفلسطينيين. وقد أصدرت الأمم المتحدة القرار 194 ــ 11/12/1948 ــ الذي دعا لعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم وممتلكاتهم التي طُردوا منها والتعويض عليهم. وجاء في «الموسوعة الفلسطينية»أن رئيس الولايات المتحدة، دوايت إيزنهاور(آنذاك) اقترح إعادة 100 ألف لاجئ فلسطيني إلى ديارهم مقابل سلام دائم مع إسرائيل، غير أن رئيس الحكومة الإسرائيلية، ديفيد بن غوريون رفض، لأن ذلك برأيه يجعل من إسرائيل دولة ثنائية القومية، ويلغي طابعها اليهودي.

■ طرحت مسألة التفاوض بين دول عربية وإسرائيل، إثر حرب 1967، واحتلال ماتبقى من الأراضي الفلسطينية وفوقها مساحات واسعة من أراضي أربع دول عربية (مصر وسوريا ولبنان والأردن). وقد أبدت إسرائيل استعدادها للتفاوض مع هذه الدول والبحث في مستقبل أراضيها المحتلة، شرط الاعتراف بها وتطبيع العلاقات معها. وحددت منسوب انسحابها من هذه الأراضي بتوفير حدود آمنة لها،أي الإنسحاب من بعضها وليس كلها، وهو التفسير الإسرائيلي للقرار 242، بينما أبقت مسألة البحث في مستقبل الأراضي الفلسطينية المحتلة بعدوان 1967، خارج التداول. ومن هذه الزاوية فقط، قبلت إسرائيل بمبادرة وزير الخارجية الأميركية، روجرز ــ 2/6/1970، والتي وافقت عليها كل من مصر والأردن.

■ أحدثت حرب تشرين ــ 1973 نقلة مهمة في مجرى الصراع العربي ــ الإسرائيلي كان من الممكن البناء عليها في تعزيز مكامن القوة العربية في مواجهة إسرائيل. لكن نتائجها المهمة تآكلت، جراء زيارة الرئيس المصري الأسبق أنور السادات إلى القدس ــ 1977، ودخوله منفرداً في مفاوضات مع إسرائيل، أدت إلى توقيع إتفاقية «كامب ديفيد» ــ1978، ومن ثم «معاهدة السلام - المصرية – الإسرائيلية»ـــ1979، التي شكلت منعطفاً خطيراً في تاريخ المنطقة، وأضعفت قدرة العرب على المضي في إدارة الصراع مع العدو الإسرائيلي، حين تخلت مصر عن مطلب استرجاع الأراضي المحتلة بحدود 4 حزيران(يونيو) 1967، واكتفت، بدلاً عن ذلك، بانسحاب إسرائيل حتى الحدود المصرية الفلسطينية. وبهذا أعطت اتفاقية «كامب ديفيد» الشرعية لاحتلال إسرائيل للأرض الفلسطينية والعربية الأخرى، وفتحت الباب لمزيد من التغول الإسرائيلي وتثبيت الإستيطان وتجاوز القرارات الدولية، التي تنص على إنسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة بعدوان 67. وشكلت الإتفاقية ضربة قوية للمشروع القومي العربي الذي كان يطمح لاستعادة الأراضي العربية المحتلة، كما شكلت إعلاناً بالتخلي عن العمل العربي المشترك في إطار السعي إلى الحل الشامل، واندفاعاً نحو الحل المنفرد والإعتراف بحق إسرائيل في الوجود، وإضعاف مكانة القضية الفلسطينية ،وتهديد الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني.

■  اندلعت الإنتفاضة الفلسطينية الكبرى ــ 1987 ، فخلقت وضعاً جديداً فلسطينياً، وعربياً، عالمياً، وأعادت فرض القضية والحقوق الوطنية والسياسية لشعبنا الفلسطيني على رأس اهتمامات المجتمع الدولي ودول المنطقة، وأدخلت القضية الفلسطينية «إلى كل بيت في أمريكا والعالم»، كما قال جورج بوش لغورباتشوف في قمة مالطا، وخلقت تطوراً جديداً ونوعياً من إبداع الشعب الفلسطيني. وقد وصفها القادة السوفييت بـ«أعمق وأشمل إنتفاضة ديمقراطية عرفتها حركة تحرر وطني منذ الحرب العالمية الثانية».وفيما أسس «إعلان الإستقلال» الصادر عن المجلس الوطني الفلسطيني ــ 1988، لمد ديبلوماسي فلسطيني دعمَ المنتفضين على الأرض، جاء الحوار الأميركي مع منظمة التحرير ــ 1989، ليبدأ مسلسل إحتواء الانتفاضة والالتفاف على مسارها نحو بالحرية والإستقلال.

■ شهد العقد الأخير من القرن الماضي أحداثاً كبرى أبرزها انهيار الاتحاد السوفييتي ومنظومة الدول الإشتراكية، وإعلان تفرد الولايات المتحدة بقيادة العالم. وبضغط من واشنطن، انعقد «مؤتمر مدريد» ــ 30/10/1991، مدريد، تحت شعار «الأرض مقابل السلام».أفرز المؤتمر مسارين تفاوضيين متوازيين: الأول ثنائي يبحث قضايا الأرض والإنسحاب منها وغير ذلك من عناوين، والثاني متعدد يتضم إلى جانب عناوين أخرى، قضية التطبيع التي كانت مطلباً إسرائيلياً يهدف إلى عقد «اتفاقات سلام» مع الدول العربية. وقد مهدت الإدارة الأمريكية الطريق لعملية التسوية بالضغط على جميع الوفود الإقليمية للقبول بالنظام الإقليمي الجديد ، الذي يجب أن يكون لإسرائيل دور أساسي فيه، وأن الأولوية ستكون، وهنا كانت الخطورة، للترتيبات الإقليمية.

ظل الموقف العربي ــ المعلن ــ يؤكد على تلازم مسارات التفاوض، إلى أن انحرط فريق فلسطيني متنفذ في منظمة التحرير، سراً في مفاوضات مع إسرائيل، انتجت بعد جلسات ماراثونية «اتفاق أوسلو»، الذي شكل محطة سوداء بالنسبة للشعب الفلسطيني والشعوب العربية، حينما ذهبت القيادة المتنفذة في منظمة التحرير الفلسطينية إلى أوسلو من وراء ظهر الشعب والمؤسسات الوطنية الفلسطينية الرسمية، لتوقع إتفاقاً مع اسرائيل، إعترفت بموجبه بحق إسرائيل في الوجود، في مقابل إعتراف إسرائيلي بمنظمة التحرير ممثلاً للفلسطينيين في مفاوضات الحل الدائم. وقد إستفردت القيادة المتنفذة بالقرار السياسي بعيداً عن صيغة التوافق الوطني الذي أرسته منظمة التحرير باعتبارها حركة تحرر وطني ترتكز في سياستها على مبدأ التوافق السياسي في اتخاذ القرار. وبهذا أضرت القيادة الفلسطينية بمنظمة التحرير وهمشت دورها ومؤسساتها لصالح الحصول على سلطة حكم إداري ذاتي محدود.

مهد «اتفاق أوسلو» الطريق لتسارع عمليات التطبيع بين إسرائيل وبعض الدول العربية، التي وجدت بتوقيع هذا الاتفاق فلسطينياً فرصة للتحلل من التزاماتها القومية تجاه القضية الفلسطينية، فسارعت إلى فتح أبوابها أمام وفود رسمية إسرائيلية على مختلف المستويات، والتي أخذت بالاتساع شيئاً فشيئاً، الى أن أصبح التطبيع أمراً عاديا تم ترجمته بمجموعة من العناوين وتم توقيع إتفاق «وادي عربة » بين الأردن وإسرائيل ـــ 1994، ويتبعها بعد ذلك إفتتاح مكتب التنسيق الإسرائيلي في الرباط، كما أعلن عن فتح مكاتب إسرائيلية في تونس وموريتانيا وقطر. وبهذا كله كان المستفيد الوحيد هو الطرف الإسرائيلي، فيما الطرف الفلسطيني الذي فتح الباب، كان في حالة ضعف يستجدي الحقوق، بينما الطرفان الأمريكي والإسرائيلي يفرضان عليه المزيد من الشروط والتنازلات الإضافية، وفي مقدمتها التخلي عن المقاومة، وتعديل بنود الميثاق الوطني، وغيرهما من الشروط التي تلبي المصالح الاسرائيلية ومشروعها الإستعماري التوسعي.

اعتقدت القيادة الفلسطينية المتنفذة أنها قادرة على إستخدام التطبيع كجزرة تلوح بها أمام الإسرائيليين، باعتبارها مؤهلة لفتح أبواب العالم العربي والإسلامي أمام علاقات طبيعية مع دولة الاحتلال، مقابل تحصيل الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية، لكنها كانت، ومنذ اللحظات الأولى، لاتملك القدرة على التحكم بهذه الورقة، في الوقت الذي كانت فيه دول عربية قد شرعت بافتتاح مكاتب تمثيلية إسرائيلية في عواصمها، مثل تونس وقطر.

■ أطلق مؤتمر القمة العربية في بيروت ـــ 2002  مبادرة سياسية تحت عنوان «مبادرة السلام العربية» تضمنت العديد من العناوين، من ضمنها الانسحاب الاسرائيلي من الأراضي العربية والفلسطينية المحتلة بعدوان عام 1967، إلا أن إسرائيل أهملت كل الجوانب السياسية، وأبقت على ما ورد فيها بخصوص العلاقات الطبيعية العربية معها. ولنا أن نتذكر التصريح الشهير لأرييل شارون، رئيس وزراء العدو في ذلك الوقت، الذي قام باجتياح الضفة الغربية بعد القمة العربية مباشرة ، حيث قال«إن هذه المبادرة لا تساوي الحبر الذي كتبت به». والمؤسف، أنه في الوقت الذي تعلن فيه  إسرائيل رفضها لما ورد في هذه المبادرة بشأن الإنسحاب وقيام الدولة الفلسطينية،اندفعت بعض الأنظمة الرسمية العربية باتجاه التطبيع مع إسرائيل كهدية مجانية.

(3)

«صفقة القرن» .. تطبيع، سيطرة أمنية، نهب إقتصادي

■ تقلد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مهامه كرئيس جديد للولايات المتحدة في الشهر الأول من عام 2017، وكان قد أعلن خلال حملته الانتخابية مواقف متطابقة مع سياسات حكومة نتنياهو، بدأها بنعي «حل الدولتين»،واتضحت هذه المواقف على نحو أدق مع إطلاقه خطة«صفقة القرن»،التي تتماثل مع خطة نتنياهو؛«السلام الاقتصادي»، وتعطي الأولوية لـ«الحل الإقليمي»، على حساب «الحل الثنائي» بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي. ويقوم «الحل الإقليمي»،على مبدأ جوهري هو تطبيع العلاقات الرسمية العربية الإسرائيلية،على أوسع مدى ممكن بدءاً من العلاقات الديبلوماسية مروراً بالتعاون الإقتصادي، وصولاً إلى التحالف الأمني. ولتسريع تحقيق إنجازات على هذا الصعيد مارست إدارة ترامب ضغوطاً شديدة على عواصم عربية عدة، أدت إلى توقيع إتفاقات تطبيع، بدأتها دولة الإمارات العربية ــ  13 /8/ 2020، وبعدها أعلن عن اتفاقية مماثلة مع البحرين، وتم توقيع الاتفاقيتين( «اتفاقات أبراهام») بحفل رسمي واحد ــ 15/9/2020، وانضم إلى قطار التطبيع لاحقاً كل من السودان والمغرب.

قامت الإستراتيجية الأمريكية ــ الإسرائيلية بشأن التطبيع وفق حسابات تشير إلى أن إحداث إختراق في الجانب العربي على هذا الصعيد، سيضع  الجانب الفلسطيني تحت وطأة ضغوط إضافية بانضمام أنظمة رسمية عربية إلى ركب تطبيع العلاقات مع إسرائيل، ويؤدي ذلك، بتقدير هذه الحسابات،إلى شطب المعادلة الرسمية العربية السابقة،التي كان تشترط لتطبيع علاقاتها مع دولة الاحتلال، إحداث تقدم جوهري في الحل السياسي للصراع الفلسطيني ـ  الإسرائيلي وفق «حل الدولتين»، ويرى مهندسو «صفقة القرن»،أن تقدم مسار«الحل الإقليمي» سيضعف تأثير الإجماع الفلسطيني على رفض الصفقة بسبب إفتقاد الفلسطينيين للدعم السياسي الرسمي العربي.

وكان لافتا أن الإعلان عن كل خطوة تطبيعية جديدة كان يصدر عن البيت الأبيض أولاً ، في بيان ثلاثي، جمع في كل مرة الراعي الأمريكي وطرفي التطبيع. ويسجل كل من ترامب ونتنياهو توقيع كل اتفاق في خانة إنجازاته السياسية غير المسبوقة:

• فالرئيس ترامب الطامح لتجديد ولايته الرئاسية مرة ثانية يعتبر توقيع «اتفاقات أبراهام»، ثمرة سياسته الحازمة مع دول المنطقة العربية، مشيراً إلى السياسات«الرخوة»التي مارستها الإدارات الأمريكية السابقة، بمن فيها الإدارات الجمهورية، تجاه ملف الصراع العربي /الفلسطيني ــ الإسرائيلي.  

• ويرى نتنياهو، الطامح أيضاً إلى استمراره على رأس الحكومة، أن الفضل في توقيع الاتفاقات يعود لمواقفه «الصلبة» في صد الضغوط التي مارستها إدارة أوباما عندما دعت  ــ 4/6/2009،إلى وقف جزئي للاستيطان، ووقف هدم بيوت الفلسطينيين كمقدمة لإطلاق جولة جديدة من المفاوضات، وأن معارضته لهذه الإدارة ،التي كانت ــ برأيه ــ تجامل العرب، أدت في النهاية إلى إنضمام السياسة الأمريكية الرسمية ذاتها إلى مواقفه وسياساته كما تبدت في «صفقة القرن». في إشارة واضحة إلى أن الصفقة  تتطابق مع مشروعه السياسي، كما عبَّر عنه في محطات مختلفة، منها على سبيل المثال مداخلته الشهيرة في مؤتمر هرتسيليا-2008، وتصريحاته المختلفة للصحافة الإسرائيلية ـــ 2014. والتي تقدم حل «السلام الإقتصادي» بديلاً عن الحل السياسي، وتحول القضية الفلسطينية من قضية سياسية نشأت بسبب الغزو الصهيوني لفلسطين، وينبغي حلها بموجب قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة، إلى مجرد قضية معاناة اقتصادية «للسكان الفلسطينيين في المناطق»، تعالج بمشاريع تنموية بتمويل إقليمي ودولي، تحت سقف أمن إسرائيل.

■اعتمدت الولايات المتحدة سياسة الترغيب والترهيب، لزج دول المنطقة العربية، في مشروع إقتصادي إقليمي، عنوانه «السلام من أجل الإزدهار». ضمن خطاب يشدد على أنه لاينبغي أن يشكل الملف الفلسطيني عقبة، أمام إنتقال المنطقة بدولها وأنظمتها وشعوبها، إلى حالة من الإزدهار الاقتصادي والرفاه الاجتماعي. وكان ذلك هو الأساس الذي انعقدت بموجبه «ورشة المنامة» الإقتصادية ــ 25/6/2019، بإشراف مستشار الرئيس الأمريكي ترامب وصهره ،غاريد كوشنير، ومشاركة وفود كل من السعودية والإمارات وقطر ومصر والبحرين والأردن والمغرب، والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وغابت عنها فلسطين، حيث عبرت السلطة الفلسطينية عن رفضها للمؤتمر معتبرة أنّ السلام الاقتصادي رؤية إسرائيلية لن تجلب الأمن ولا تشكل حلًا سياسيًا يُنهي الاحتلال.

وبحقيقة الأمر، إن كل ما كان يراد من ورشة البحرين، هو إجبار الفلسطينيين على القبول بالمال مقابل التخلي عن الأرض والحقوق، وهذا ما لم يحدث، حيث غابت فلسطين ومعها روسيا، ورفضتها العديد من الدول العربية والأجنبية، ولهذا خرجت الورشة ببيان ختامي هزيل لا يتناسب مع ما سبقه من تحضيرات وضجة إعلامية تحدثت عن تفاؤل كبير حول التنمية الاقتصادية والإستثمار لصالح الشعب الفلسطيني، وترافقت أيضاً مع تظاهرات وحالة رفض شعبي على المستوى الفلسطيني والعربي. وكل ما كسبه الإحتلال من هذه الورشة هو تعميق الانقسام العربي، ودق إسفين بين السلطة الفلسطينية وبعض الأنظمة العربية، وكشف العلاقة التي كانت تحت الطاولة بين إسرائيل وبعض الأنظمة العربية، بضغط أمريكي وإسرائيلي، والتطلع لمزيد من الخطوات التطبيعية وإبرام الإتفاقات الأمنية والعسكرية والإقتصادية مع الإحتلال الإسرائيلي، لتفتح المزيد من الطرق أمام تطبيق أحد أركان «صفقة القرن» وهو تطبيع العلاقات العربية - الإسرائيلية وبناء تحالف أمريكي - إسرائيلي- عربي ، على طريق دمج إسرائيل في الإقليم.

■ كشفت «إتفاقات أبراهام»،خروج الأنظمة المطبعة عن التزامها السياسي والقانوني والأخلاقي المفترض بقرارات الإجماع العربي ذات الصلة بالقضية والحقوق الوطنية الفلسطينية. وقد غضت هذه الأنظمة الطرف عن الإجراءات والخطوات الأمريكية والاسرائيلية، المناقضة لمبادرة السلام العربية وقرارات القمم العربية والإسلامية، كالإعتراف الأمريكي بالقدس عاصمة لإسرائيل، وبالسيادة الاسرائيلية على الجولان، وبشرعية الاستيطان، واعتبار الضفة الغربية «أرضاً إسرائيلية»، وقبل كل ذلك المحاولات المحمومة لتصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين، عبر إنكار حقهم في العودة،ومحاصرة «الأونروا» مالياً تمهيداً لإنهائها.  

وزادت هذه الاتفاقيات من ضعف الحالة العربية،مع غياب العمل العربي المشترك، لصالح اتفاقات التعاون مع اسرائيل، التي ركزت في صياغة علاقاتها مع هذه الأنظمة على الجوانب الأمنية والعسكرية والاقتصادية والمالية والثقافية.ونشأت في  أوساط الجامعة العربية، توازنات جديدة فرضت حالة من الصمت والتواطؤ أدت لتمرير خطوات التطبيع، بدعوى«الحق السيادي للدول العربية في  اتخاذ قراراتها ورسم سياساتها».

بالنتيجة،وضعت جامعة الدول العربية قانون مقاطعة إسرائيل في أدراج إرشيف قراراتها بفعل الضغوط الأمريكية والإسرائيلية، وقد شكل مكتب المقاطعة إزعاجاً فعلياً لدولة الاحتلال، وأرغم مؤسسات وشركات كبرى على وقف أعمالها فيها. ولهذا، كان إلغاء قوانين المقاطعة العربية الرسمية في مقدمة استحقاقات التطبيع الرسمي مع العدو، الأمر الذي أدى إلى تحوّل مكتب المقاطعة، بعد إغلاق مكاتبه في عدد من الأقطار العربية، إلى جهاز مشلول وشكلي، وأصبحت المقاطعة الرسمية مرهونة بقرار كل دولة على حدة.

 (4)

الآليات الصهيونية في تمرير سياسات التطبيع

■ تعتمد دولة الاحتلال الإسرائيلي العديد من الآليات في إدارة عملية التطبيع مع الدول العربية بجوانبها السياسية والدبلوماسية والثقافية والإقتصادية والأمنية وغيرها، مستفيدة من كل بنود الاتفاقيات التي وقعتها مع تلك الدول، بما يمكنها تحقيق الإنجازات والمراكمة في تحقيق الاختراقات من أجل تثبيت كيانها وإرغام العرب على تقبل وجودها كدولة جارة وشرعية في المنطقة. ويعتمد الكيان الصهيوني كثيراً على هذه الآليات في إدارة الصراع وتحييد بعض أطرافه وعزلهم عن القضية الفلسطينية.

• في الجانب السياسي، يعني التطبيع  بالنسبة لإسرائيل إقامة علاقات سياسية ودبلوماسية مع الدول المطبعة، على قاعدة الإقرار بإنتهاء حالة الصراع الذي كان عنوان علاقة النظام الرسمي العربي مع الإحتلال الإسرائيلي في المرحلة السابقة، واستبداله بشعار« نبذ العنف والارهاب» بما يخدم  تكريس واقع الاحتلال والنتائج التي أفرزها من إستيطان واستعمار، والصمت على السياسة العدوانية الاحتلالية العنصرية، بهدف إدماج إسرائيل من موقع القيادة في«الشرق الأوسط الجديد»، وتقوية نفوذها في المنطقة. وهذا هو الهدف الأمريكي ــ الإسرائيلي من «اتفاقيات السلام» منذ «كامب ديفيد» وصولاً الى «اتفاقات أبراهام». وقد توسعت دائرة التطبيع السياسي لتشمل دولاً إقليمية ودولية بضغط من الولايات المتحدة الأمريكية.

• إقتصادياً: يسعى الكيان الصهيوني إلى إنهاء حالة المقاطعة بكل أشكالها التي كانت مفروضة من قبل العرب وبعض الدول الإقليمية على الكيان الصهيوني، من خلال فتح الأسواق العربية أمام البضائع الإسرائيلية ، وتعزيز التعاون في القطاع النفطي، وفتح طرق النقل والمواصلات، والتنقل بحرية للأشخاص والبضائع جواً وبحراً وبراً، وفي جميع وسائل الإتصالات، ولا يستثنى قطاع الزراعة من هذه السياسات التطبيعية.

ومارس الكيان الصهيوني ضغوطاً على الدول العربية من خلال الولايات المتحدة الأمريكية إلى قبول التطبيع الاقتصادي والاستجابة إلى التغيرات التي حدثت في المنطقة. وقد حثت إدارة جورج بوش الإبن على عدم قبول المملكة العربية السعودية بالإنضمام إلى منظمة التجارة العالمية حتى تسحب السعودية نفسها من المقاطعة العربية لإسرائيل.

وقد وضعت جامعة الدول العربية قانون مقاطعة إسرائيل في أدراج إرشيف قراراتها بفعل الضغوط الأمريكية والإسرائيلية، وقد شكل مكتب المقاطعة إزعاجاً فعلياً لدولة الاحتلال، وأرغم مؤسسات وشركات كبرى على وقف أعمالها فيها. ولهذا، كان إلغاء قوانين المقاطعة العربية الرسمية في مقدمة استحقاقات التطبيع الرسمي مع العدو، الأمر الذي أدى إلى تحوّل مكتب المقاطعة، بعد إغلاق مكاتبه في عدد من الأقطار العربية، إلى جهاز مشلول وشكلي، وأصبحت المقاطعة الرسمية مرهونة بقرار كل دولة على حدة.

• التطبيع الثقافي: وهو من أخطر أنواع التطبيع، لأنه يرتبط بالعقل والوعي الجمعي للشعوب وتشكيل الثقافات والقناعات والمواقف خاصة في القضايا التأريخية والقضايا المتشابكة، حيث تلجأ الدول المستعمِرة إلى تغيير ثقافة الشعوب المستعمرة، من خلال بث المفاهيم الجديدة واستثمار المؤسسات الثقافية والتعليمية ودور النشر والجمعيات والنوادي في عملية التطبيع الثقافي. ويدرك الكيان الصهيوني جيداً أن الإختراق الحقيقي للمجتمعات العربية ومشهد التطبيع لا تكتمل صورته بدون التطبيع الثقافي، وأن ميدان الثقافة ميدان خصب ومؤهل لتغيير الفكر العربي والثقافة الشعبية المرتبطة بعداء الصهيونية، ويستطيع من خلاله ضرب الهوية العربية وسلخ الشعوب عن هويتها وموروثها الثقافي والتاريخي، وضخ الروايات والصور والمعلومات التي يريدها الكيان الصهيوني إلى الشعوب، وقد استعمل في هذه السياسة السينما والكتب التأريخية والقصص المزيفة التي تسرد التاريخ وفق الرواية الصهيونية.

ويستهدف التطبيع الثقافي كل ما هو متصل بالتأريخ والوعي العربي وذاكرته وثقافته وصياغة التأريخ، وفق استراتيجية تستهدف مناهج التعليم ، بحذف كل ما يشير إلى مراحل الإحتلال، وسرقة الآثار وتدميرها أو إخفائها لإعادة رسم خارطة فلسطين الجديدة، وتغيير أسماء القرى والمدن الفلسطينية وأسماء الشوارع،وإخفاء كل ما يرتبط بالحق الفلسطيني التاريخي بالارض، والضغط على الدول المطبعة لتعديل مناهجها التعليمية وشطب كل ما يتصل باحتلال إسرائيل للاراضي الفلسطينية والعربية والمجازر الصهيونية ونكبة العام 1948.

وعلى هذا الأساس يسعى الإحتلال الاسرائيلي للتسلل الثقافي للمجتمع العربي وتطبيعه بشكل مؤثر على اتجاهات متعددة، وقد سجل نجاحات وإن كانت محدودة، من خلال فتح مكاتب تمثيل اقتصادية وثقافية وإعلامية بشكل علني أو سري، وتبادل الزيارات مع بعض الدول العربية،ومشاركة وفود شبابية وطلابية واكاديمية وثقافية في ندوات ومؤتمرات بدعوة ورعاية إسرائيلية أو بمشاركة إسرائيليين.

• في الدعاية والترويج: يدرك الكيان الصهيوني أهمية الإعلام. وقد كتب هرتزل، في افتتاحية العدد الأول من مجلة أسبوعية للحركة الصهيونية )دي وولت عام 1897) بأن «الصحيفة درع حامي للشعب اليهودي وسلاح ضد أعدائه»، ومنذ ذلك الوقت وهو يفكر بأن الإعلام قبل الدولة من أجل تحقيق أهداف الدولة. ومن أجل ذلك أقامت الحركة الصهيونية منذ مطلع القرن الماضي مؤسّسات ومصانع ومكتبات وجامعات تؤسس للمرحلة القادمة في مشروعها التّوسعي، أي إقامة الدولة. وكان من بين توصيات مؤتمر الحركة الصهيونية الأول في بازل عام 1897، التأكيد على أهمية الإعلام ودوره في التّعبئة والتّثقيف، حيث نصّ على «ضرورة نشر الرّوح القومية والوعي بين يهود العالم من أجل خلق «الدّولة اليهودية» في فلسطين».

ويحظى الإعلام اليوم بمكانة رفيعة في المؤسسات الحكومية الصهيونية، إذ تمتلكُ كلُّ الوزارات أجهزةً إعلاميةً، وتعتبر وزارة الخارجية جهازاً إعلامياً ضخمًا في سبيل ما يُسمى الـ «هسبراه»، وهو اللوبي الصهيوني الذي يعمل دوليًا ومحليّاً في إقناع العالم بالدّعاية الصّهيونية وللتّرويج لإسرائيل، كالمُحاججة حول أخلاقية جيش الاحتلال الصهيوني أو الادّعاء أنّ الكيان الصّهيوني هو الدّولة الصغيرة وسط غابة عربيّة متوحشة، وهي منصة الديمقراطية في وسط عربي متخلف واستبدادي، وهي التي تمثل واحة الحريات في الشرق. وبطبيعة الحال، فإنّ الهدف من ذلك تجميل صورة الاستعمار وجعل الاحتلال أمراً واقعاً وطبيعيّاً وأكثر قبولاً في المنطقة، وتحديداً في الوطن العربي.

وعلى هذا الأساس، وظف الكيان الصهيوني كل وسائل الاعلام من أجل اختراق المجال العربي، وقد استضافت محطات إعلامية عربية عديدة  شخصيات إعلامية ومسؤولين صهاينة في برامجها الإخبارية ، ولا سيما في الشاشات المؤثرة و أكثرها متابعة في الوطن العربي مما يجعل من الرواية الصهيونية حاضرة في البيت العربي لتبرير جرائمهم المرتكبة في فلسطين.

ولا شك أن ضعف الاعلام العربي، قد خلق فجوة كبيرة بين المواطن العربي والمؤسسات الاعلامية الرسمية وغير الرسمية. وتروج وكالات أنباء عالمية أن الكيان الصيهوني يتعرض لهجمات إرهابية من قبل جهات مسلحة، ما يظهر صورة مزيفة أمام الرأي العام، كما وظفت ماكنة الاحتلال الإعلامية  شبكات التواصل الاجتماعي لبناء صورة إيجابية عنه من خلال المنشورات والصور والفديوهات التي تصور أن المجتمع اليهودي مسالم ومتعايش مع الجميع في شتى المجالات السياسية والاجتماعية والثقافية والرياضية والفنية، في الوقت الذي تتعاكس ممارساته كلياً مع هذه الصور، حيث ممارساته العنصرية تجاه الفلسطينيين في مناطق العام 48 تتصاعد وإهماله للمدن والقرى الفلسطينية وحرمانها من البنى التحتية والمدارس والجامعات، وسن قوانين عنصرية بهدف تهجيرهم وطردهم في سياق مشروعه لاقامة الدولة اليهودية.

ولا بد هنا من الإشارة إلى عملية التطبيع المباشر التي تجري مع عدد من الإعلاميين العرب، سواء من خلال العلاقة والتواصل المباشر، أـو من خلال الولايات المتحدة الأمريكية، التي تجند إعلاميين في العديد من وسائل الإعلام العربية الخاصة، وتمدهم بالأموال والرعاية والاهتمام لاستغلالهم في الترويج للسلام مع الاحتلال والتحريض على قوى المقاومة في فلسطين والمنطقة. وتُعقد لهذه الغاية مؤتمرات وورش العمل في دول عربية وغربية بمشاركة إعلاميين إسرائيليين. ولعل ورشة العمل التي انعقدت في أنقرة عام 1994 تشكل نموذجاً لهذه السياسة، حيث أقام الكيان ورشة في ذلك العام سميت بـ«خلوة أنقرة»، أشرفت على تنظيمها مؤسسة أمريكية صهيونية تدعى «مشروع البحث عن أرضية مشتركة»، واستمرت الدورة ثلاثة أيام تحت عنوان «ثقافة سلام في الشرق الأوسط». ويتكرر هذا النموذج حالياً بأشكال وعناوين مختلفة ،تارة تحت عنوان دورات إعلامية تدريبة، وتارة تحت عنوان تبادل التجارب والخبرات والتواصل الاعلامي، وغيرها من العناوين والأساليب التي يعمل الكيان الصهيوني بمساعدة أمريكية على إنجازها، بما يمكنه من تعميم التطبيع الإعلامي بمختلف مجالاته.

(5)

حسابات الربح الصافي في رصيد دولة الاحتلال

■ كان واضحاً، أن قطار التطبيع مع الكيان الصهيوني سيقود تدريجياً البلاد العربية المطبعة إلى مأزق متعدد الأبعاد، في ظل نهب مواردها وابتزاز حكامها سياسياً ومالياً وإجبارهم على دفع المزيد من الأموال لقاء استمرار حكمهم. ولعل إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق ترامب ساعدت كثيراً على إدراك هذه الحقيقة، إذ تمكنت خلال أقل من ثلاث سنواتٍ فقط من سحب أكثر من تريليون دولار من المملكة العربية السعودية ودول الخليج مجتمعةً، وما زالت الولايات المتحدة تواصل ابتزازها للحصول على المزيد من الأموال والثرواث العربية من خلال الضغط على الأنظمة لاستمرار التزامها بالمزيد، تحت شعار حمايتها من خطر اخترعته واشنطن وتل أبيب لتسويق مصالحهما المشتركة. وقد فرضت الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل في«ورشة المنامة»على العديد من الدول العربية التعهد بدفع مليارات الدولارات لما أطلق عليه مشروع «السلام الاقتصادي»، الذي يشكل جزءاً من صفقة القرن، الهادفة لتصفية القضية والحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني.

■ بقراءة تداعيات الإتفاقات التي عقدتها بعض الأنظمة الرسمية العربية مع كيان الإحتلال خلال السنوات والعقود الماضية، نرى بوضوح أن الدول العربية التي وقعت هذه الاتفاقيات لم تستفد منها، بل عادت بالضرر عليها وعلى إقتصادها ومصالح شعوبها، بينما حصد الإحتلال الإسرائيلي الكثير من المكاسب:

• كانت أهم بنود إتفاقية «كامب ديفيد» تتمثل بإنهاء الحرب بين الطرفين، وإنشاء علاقات طبيعية على أساس تبادل المصالح، والإنسحاب الإسرائيلي من سيناء. وبهذه الاتفاقية تمكنت إسرائيل من إبعاد أهم دولة وجيش عربيين عن الصراع العربي الإسرائيلي،ما خلق خللاً إستراتيجيا في الجبهة السياسية والعسكرية العربي، أما بشأن ما كان يطمح إليه النظام المصري من تنمية اقتصادية واستغلال أراضي سيناء بعد الإنسحاب الإسرائيلي منها، فقد أكدت السنوات التي تلت توقيع اتفاقية «كامب ديفيد»، أن نتائج الاتفاقية عادت بالضرر الكبير على البنى والقطاعات الاقتصادية المصرية، حيث تراجع القطاع الزراعي والصناعي وجرى تهميشه ، كما تم إحكام السيطرة على النفط المصري وتكريس سيطرة إسرائيل على مكامن الغاز المسروق من داخل الحدود البحرية للبنان ومصر وقطاع غزة، إلى جانب إغراق مصر بالديون الكبيرة لصندوق النقد الدولي والخضوع لإملاءاته وشروطه، التي أرادت إعادة رسم هيكل الاقتصاد المصري، وجعله متسقًا مع متطلبات التطبيع الأمريكي ــ الإسرائيلي، الأمر الذي يؤكد بأن الكيان الصهيوني لم يدخل بعلاقة تطبيع مع الدول العربية كي ينقذها اقتصادياً ولا حتى لمصلحة متبادلة، وإنما يريد السيطرة على ثرواثها، وخلق أسواق عربية تتدفق اليها السلع والمنتجات الإسرائيلية، بحيث تصبح الدول المطبعة مستعمرة اقتصادياً، وظيفتها تغذية خزانة واقتصاد ومصانع وشركات دولة الاحتلال.

• أكد تقرير دائرة الإحصاء المركزية في إسرائيل، أن حجم التجارة بين إسرائيل والدول العربية المطبعة زاد بشكل ملحوظ في الأشهر السبعة الأولى من عام 2021، مقارنة بنفس الفترة من عام 2020. وارتفع بنسبة 234 %، إثر تطبيع العلاقات وفق «اتفاقيات أبراهام». وجاء في التقرير ذاته، الذي نشرته وزارة الخارجية الإسرائيلية، أن التجارة مع الإمارات العربية المتحدة، في نفس الفترة من عام 2021 وصلت إلى 613.9 مليون دولار، ومع الأردن 224.2 مليون دولار، ومع مصر إلى 122.4 مليون دولار، ونمت التجارة مع المغرب إلى 20.8 مليون دولار، وأما البحرين فقد وصلت إلى 300 ألف دولار.

تعود هذه الأرقام بغالبيتها لصادرات إسرائيل إلى الدول العربية المطبعة، ما يشير الى أن تنامي استعمار الاحتلال الإسرائيلي للسوق العربية سيكون له في المستقبل تداعيات بالغة الخطورة على النظام الاقتصادي العربي ككل،لأن قدرة الإقتصاد الإسرائيلي على إختراق بنى وهياكل إقتصاد الدول المطبّعة أكبر بكثير من قدرة إقتصاد هذه الدول على إختراق بنى وهياكل الإقتصاد الإسرائيلي، ولأنّ تنامي العلاقات الإقتصادية بين إسرائيل وهذه الدول، سيشكل عقبة أمام عملية التكامل الاقتصادي العربي، ويجعل السوق العربية سوقاً استهلاكياً مرتبطة بالاقتصاد الإسرائيلي، على حساب الاقتصاد العربي ومصالح الشعوب وواقعها الاجتماعي والاقتصادي، الذي بات يشهد انحداراً كبيراً تؤكده نسب الفقر والبطالة المرتفعة في الدول العربية.

فقد سجّلت المنطقة العربية أعلى معدّل بطالة عالمياً في عام 2022 بنسبة 12%. وأفادت لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا(الأسكوا) في تقريرها ـــ 30 /12/ 2022، حول مسح التطورات الاقتصادية والاجتماعية في المنطقة العربية، بارتفاع مستويات الفقر في المنطقة العربية في عام 2022 مقارنة بالسنوات الماضية، ليصل عدد الفقراء إلى ما يقرب من 130 مليون شخص، أي ما يمثل ثلث سكان المنطقة. يضاف إلى كل ذلك تفاقم أزمات المياه والصحة والتعليم وغيرها من المشكلات الكبرى، التي تعيشها الشعوب العربية والتي يعود جزء كبير منها للهيمنة الاسرائيلية، كما هو حال أزمة المياه، حيث تواصل إسرائيل نهب مصادر المياه الجوفية والسطحية في الدول المجاورة وخصوصا في الجولان السوري المحتل، وجنوب لبنان، إلى جانب سيطرتها على أكثر من 85 في المائة من مصادر المياه في فلسطين، حيث تعمل على الضخ المستمر لهذه المياه، وتخزينها في آبار وإعادة بيعها مرة أخرى لبعض الدول العربية، كما هو الحال مع الأردن.

كل ذلك يقودنا لخلاصة ، مفادها بأن التطبيع، إستعمار إقتصادي وعسكري وأمني وثقافي لن يعود على لدول العربية وشعوبها منه إلا الضرر والمزيد من التدهور في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، والجزرة التي يرميها الاحتلال لجذب الأنظمة للقيام بالمزيد من الخطوات التطبيعية، ما هي إلا طعم يخفي وراءه أهدافاً إستعمارية تخدم المشروع الإستراتيجي الصهيوني الاستعماري، الذي سيجعل البلدان العربية أسيرة مصالحه وأطماعه التوسعية الاستعمارية العدوانية.

(6)

التطبيع أمام جدار الرفض الشعبي العربي

«فلسطين قضيتنا المركزية»، شعار رفعته الشعوب العربية منذ النكبة الكبرى عام 1948، وتحول لاحقاً من مجرد شعار وجداني إلى فعل سياسي تضامني أخذ أشكالاً ملموسة في دعم الشعب الفلسطيني ومساندة نضاله، من أجل إنجاز حقوقه الوطنية المشروعة. وقد تبدى هذا الإحتضان والتضامن الشعبي العربي في العديد من المحطات النضالية التي مرت بها القضية الفلسطينية.

 ■ إحتضنت الشعوب العربية اللاجئين الفلسطينيين المطرودين بقوة الإرهاب والمجازر الصهيونية، وفتحت لهم البيوت وقدمت لهم المساعدات، قبل أن تبادر الحكومات الرسمية والهيئات والمؤسسات الدولية بتقديم الرعاية لهم ومتابعة شؤونهم.

وبعد أن استشعر الفلسطينيون أن قضية عودتهم إلى ديارهم تحتاج كفاحاً شرساً مع الاحتلال الإسرائيلي، وأسسوا حركات وفصائل المقاومة، شهدت قواعد الثورة الفلسطينية في مخيمات وبلدان اللجوء والشتات تطوع أعداد كبيرة من الشباب العربي في هذه الحركات والفصائل، ويوجد في سجلات الشرف الفلسطينية أسماء الآلاف من الشهداء العرب، الذين شاركوا في عمليات فدائية ومواجهات مباشرة مع قوات الاحتلال الاسرائيلي.

وسجلت الجماهير والشعوب العربية مواقف مشرفة في الوقوف ضد الإعتداءات والمجازر الصهيونية بحق الشعب الفلسطيني، فعند كل عدوان إسرائيلي تمتلىء شوارع العواصم العربية  بمئات الآلاف من الجماهير العربية التي تهتف لفلسطين والمقاومة وتصدح أصواتها وحناجرها المنددة بالاحتلال والعدوان، وبصمت وتقاعس الأنظمة الرسمية العربية، التي لا تستجيب مواقفها لإرادة الشعوب بفعل إرتهانها للإرادة الأمريكية والإمبريالية العالمية.

ووقفت الشعوب العربية ضد التطبيع مع الإحتلال منذ بداية مساره السري، وانتفضت بوجه الأنظمة التي وقعت وأعلنت عن اتفاقيات تطبيعية مع إسرائيل، واعتبرتها لا تمثل إرادة الشعوب وطالبت بالغائها، وأقفلت الأبواب أمام الإحتلال ومنعته من تحقيق الإختراقات التي ينشدها في المجتمعات العربية، وفرضت عليه العزلة الشعبية، وحاربت كل من ركب هذا القطار المذل بكافة مستوياته السياسية والاقتصادية والثقافية والفنية والرياضية، إنطلاقاً من وعيها وإدراكها لمخاطر التطبيع على القضية الفلسطينية وعلى مصالح وحقوق وثروات الشعوب العربية.

وكان للإجرام والإرهاب والعدوان الصهيوني دور كبير في تأجيج المشاعر العربية وتوحيد الشعوب في مواجهة كيان الإحتلال، الذي لم تقتصر عدوانيته واحتلاله على  الشعب الفلسطيني فقط، بل طالت العديد من الدول العربية؛ لبنان وسوريا ومصر والأردن وتونس والعراق والسودان. فارتسمت في عقول وأذهان الأجيال العربية صورة واضحة عن حقيقة هذا الكيان المبني على فكر صهيوني إرهابي إحتلالي تسير سياساته المصالح والمطامع الإستعمارية التي تهدف لضرب وإضعاف البلدان العربية، وخداع العالم وتقديم نفسه باعتباره دولة طامحة للسلام، ظناً منه أن بإمكانه أن يخفي وجهه الحقيقي الملطخ بدماء الأطفال والنساء والشباب في وطننا العربي وفي القلب منه فلسطين. وواصلت آلة الحرب والعدوان قتل الشعب الفلسطيني وسرقة المزيد من الأرض واستعمارها وتهويدها وتهجير أهلها بالإرهاب والقتل والإعدام الميداني والإعتقال اليومي.

■ شهدت المدن المصرية إحتجاجات شعبية كبرى عبر خلالها الشعب المصري عن رفضه للاتفاقية وطالب بالغائها والتراجع عنها، ونجحت الجمعيات والاتحادات والنقابات والعديد من القوى السياسية المصرية في منع الاحتلال من تحقيق أي اختراق داخل المجتمع المصري بمختلف فئاته. وجرى على الصعيد الرسمي تعليق عضوية مصر في مؤتمر القمة العربية، الذي انعقد في بغداد عام 1978، وتطبيق قوانين مقاطعة الشركات والأفراد المصريين الذين يتعاملون مع إسرائيل، ودعوة الحكومة المصرية إلى العودة نهائياً عن الاتفاقية كونها خروجاً عن الإجماع العربي.

وبرغم مرور عشرات السنين على توقيع الاتفاقية فما زالت الأصوات الشعبية تتعالى مطالبة بالغائها كونها أضرت بمصر ومصالحها وشعبها وبالقضية الفلسطينية بعكس ما روج لها في ذلك الوقت، وهذا ما أكده المناضل والسياسي المصري أحمد بهاء الدين شعبان خلال مقابلة صحفية معه قال فيها: « إن مصر لم تجْـن شيئاً يُـذكر من هذه الاتفاقية، بينما حقَّـقت إسرائيل مكاسِـب كثيرة، ومن يقول إن «كامب ديفيد في جزء منها تستهدف حل المشكلة الفلسطينية»، فالمشكلة لم تُـحل، والوضع على الأرض يتدَهور، وهذا لا يحتاج إلى كلام». وإن قالوا «إن كامب ديفيد كانت مقدِّمة لسلام شامل في المنطقة"، فإن هذا لم يحدث. فرغم مرور ثلاثة عقود على توقيعها، فما تزال أيدي إسرائيل ملطَّـخة بدماء الفلسطينيين والعرب».

وإلى جانب الموقف الشعبي المصري الرافض للتطبيع، يسجل ايجاًباً الدور البارز للنقابات المهنية والفنية والعلمية والأندية الرياضية والاتحادات الطلابية المصرية التي لعبت دوراً مهما في مواجهة التطبيع مع الكيان الصهيوني، وتضم هذه النقابات والاتحادات ملايين الأعضاء من مختلف الفئات والمهن، فإلى جانب مساهمتها في نشر ثقافة المقاومة والمقاطعة للاحتلال وتشكيلها لجان خاصة لدعم فلسطين والقدس، وإطلاق حملات لمقاطعة البضائع الصهينية، فقد ساهمت قوانينها أيضاً في بناء حاجز كبير منع إسرائيل من استثمار الاتفاقية على المستوى الشعبي، وسجلت العديد من الإجراءات العقابية وقرارات الفصل والتجميد من قبل النقابات بحق بعض المصريين الذين خالفوا قوانين المقاطعة، وخصوصاً في المجالات الثقافية والفنية والعلمية والرياضية والاعلامية. مع التأكيد بأن نجاح النقابات بهذه القضية، ما كان له ليحصل لولا وجود بيئة شعبية مصرية كبيرة معارضة للتطبيع مع الكيان الصهيوني، وهذا ما تؤكده العديد من استطلاعات الرأي التي تجريها بعض مراكز الأبحاث العالمية، والتي تشير نتائجها أن أكثر من 90% من الشعب المصري ما زال يعارض بناء علاقة طبيعية مع إسرائيل ، ويرفض الانفتاح عليها في مختلف المجالات التجارية والرياضية والثقافية والإعلامية والفنية وغيرها.

■ رفض الشعب الأردني اتفاقية «وادي عربة» ـــ 1994، وطالب بإلغائها، انطلاقاً من العلاقة والروابط القوية التي تجمع الشعبين الفلسطيني والأردني، واستمرار الإنتهاكات الاسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني، والإبتزاز الإسرائيلي المتواصل للأردن في شتى المجالات وخصوصا الاقتصادية منها. وأدرك الشعب الأردني أن إسرائيل هي الطرف الرابح من الاتفاقية، ولم يجنِ الأردن منها سوى تراجع إسرائيلي متتالٍ عن تطبيق الاتفاقات، وأهمها الانسحاب من الأراضي المحتلة وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس، كذلك لم تُراعِ إسرائيل الوصاية الهاشمية، فالقدس ومقدساتها عرفت فصولاً لم تتوقف من الانتهاكات، وتنوّعت الاعتداءات الإسرائيلية على المقدسات الإسلامية والمسيحية. أما على المستوى الداخلي الأردني، فالحياة المعيشية لم تتحسن، والوعود المرتبطة باتفاقية وادي عربة بقيت وعوداً، بل استغلت إسرائيل الأزمات الاقتصادية في الأردن لممارسة المزيد من الضغط والإبتزاز عليها. ومديونيات المملكة في تزايد، وهذا يعني أن الاتفاقات لم تنعكس إيجاباً على الشعب الأردني.

وعلى المستوى الشعبي فإن حدود الاختراق الاسرائيلي بقيت محدودة جداً ومحصورة ببعض التجار وأصحاب المصالح، والحركة الشعبية الاردنية بمختلف مكوناتها موحدة حول رفض التطبيع بكل أشكاله، دون إغفال المحاولات الاسرائيلية المتكررة لاختراق المجتمع بأساليب وطرق مختلفة، في غالبيتها تدخل من باب استغلال الأوضاع الاقتصادية الصعبة، أو من باب بعض حالات التبادل الثقافي والزيارات المتبادلة بين طلبة المدارس وغيرها من الأساليب الأخرى والتي تلقى معارضة كبيرة من غالبية القوى والهيئات والاتحادت الشعبية والسياسية الاردنية وتعمل على تعريتها وفضحها وإجهاضها، كما حصل في آذار 2021، بالمشروع التطبيعي الذي تم تحت عنوان «يسلمو إيديك»، بين سيدات أردنيات وممثلات عن العدو الصهيوني،الذي استغل الأوضاع المادية الصعبة في منطقة وادي عربة، وحاول من خلاله استخدام السيدات الاردنيات كأدوات ترويج للعدو الصهيوني، وإسهامهن في إظهار «إنسانية» المجندات في جيش الإحتلال أو الداعمات له. وإرسال الاحتلال في الشهر ذاته لاعبين إسرائيليين للمشاركة في رالي «الباها» الدولي بمنطقة وادي رم والعقبة، والتي جوبهت برفض وتنديد شعبي كبير، كما واجهت القوى الشعبية المعارضة للتطبيع محاولات أكاديمية إماراتية لاستقطاب طلاب أردنيين للتطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي، من خلال عرض تقديمي لجامعة «محمد بن زايد» الإماراتية حول الدراسات العليا والمنح الدراسية بالشراكة مع جامعة إسرائيلية، في ندوة أقيمت في الجامعة الأردنية،وقد انسحب الطلاب والهيئة التدريسية من تلك الندوة ونظموا وقفة إحتجاجية إستنكاراً وغضبا.

ما يجري في مصر والأردن من حالة رفض شعبي واسع لكل أشكال التطبيع يسحب نفسه على غالبية الدول العربية التي التزمت شعوبها بقضية فلسطين ونضال شعبها بوجه الاحتلال، وإلى جانب القوانين التي أقرتها العديد من برلمانات الدول العربية والخليجية منها بتجريم التطبيع ، شُكلت العديد من لجان المقاطعة الشعبية لمواجهة التطبيع بمبادرة من هيئات وأحزاب وجمعيات واتحادات عربية، يسجل لها دور كبير في تعميق وعي وثقافة مقاومة التطبيع.

(7)

القضية الفلسطينية في صدارة «مونديال قطر»

■ وجه مونديال كأس العالم 2022 في قطر، صفعة قوية للاحتلال، وضربة قاضية لرهاناته، بعد أن ظن أن قطار التطبيع العربي الرسمي،سيغير نظرة الشعوب العربية تجاه إسرائيل. فانهارت كل تحضيراته لاستغلال هذا الحدث الذي دفع نحوه الفرق الإعلامية والصحفية والمشجعين والعاملين في المؤسسات الاسرائيلية متوهماً أن النظرة تجاه دولة الإحتلال قد تغيرت، وأن اتفاقات التطبيع قد فعلت فعلها في الشعوب، وبأنهم سيُستقبلون في مدرجات «المونديال» بإعتبارهم صناع السلام.

لقد أدرك الاحتلال الاسرائيلي منذ اليوم الأول لإنطلاق المباريات، أن طموحاته قد أنهارت، حينما شاهد أعلام فلسطين ترفرف في مدرجات الملاعب، فحاول تجاوز هذا المشهد الموجع ، واذ به يتلقى الصفعات المتتالية من الجماهير ليس العربية فقط بل والأجنبية، التي حولت «المونديال» إلى تظاهرة كبرى لتأكيد الدعم لفلسطين، وكأنهم يقولون للعالم بأن فلسطين مشاركة، وبأن المنتخب الفلسطيني حاضر ويحمل الرقم 33 في المونديال، وأن اسرائيل دولة مارقة لا تستحق سوى العزل والطرد من كل الميادين، التي تجتمع فيها الشعوب التي تحترم المواثيق والمبادىء الدولية والإنسانية.

وبدأ الاحتلال يعيش حالة من العزلة الكبيرة، حيث رفضت الجماهير العربية والأصدقاء من المشجعين الأجانب التعاطي معه ومع إعلامه وصحافته وقاطعتها ورفضت الإدلاء والتصريح وإجراء المقابلات معها، واكتفت بالتصريح الوحيد اليها بالقول: «الحرية لفلسطين.. بالروح بالدم نفديك يا فلسطين»،كما اضطر العديد من الصحفيين الإسرائيليين إلى التخفي وإظهار جوازات سفر أجنبية، والتحدث باللغة العربية لتفادي الغضب الشعبي المتوقع من الجمهور.

هذه المشاهد جعلت الاحتلال يعيش حالة من التوتر والتخبط والإحساس بأن كل مساعيه قد ذهبت سدى وسقطت في الإمتحان الشعبي العربي والعالمي، حيث لم يقتصر رفع العلم الفلسطيني على المشجعين العرب فحسب، بل رفرف في أيدي الآلاف من المشجعين الأجانب، الذين رفعوه إلى جانب أعلام بلادهم، وامتد حصار ومقاطعة الاحتلال إلى خارج أسوار الملاعب، فكانت مشاهد التضامن مع فلسطين وشعبها حاضرة في الشوارع والأسواق والمحال التجارية القطرية، حيث المئات من المشجعين العرب من كافة الدول العربية والخليجية والإفريقية والأجنبية كانت تحرص يومياً على الخروج في الساحات والشوارع، وهي تحمل اللافتات والشعارات المكتوبة بعدة لغات، والتي تساند نضال الشعب الفلسطيني وتؤكد رفضها للاحتلال وسياساته العدوانية وصور الشهداء الاطفال والأسرى.

وقد اضطر الإسرائيليون إلى إخفاء هويتهم خوفاً من تعرضهم الإذلال ،كما حصل مع العديد منهم الذين أخرجوا من سيارات الأجرة، بعد أن عرف سائقوها أنهم إسرائيليون. هذه المشاهد جعلت الإحتلال يخرج عن طوره، وبدأت وسائل الإعلام الإسرائيلية تتحدث عن «عنصرية الشعوب العربية»، وكتب الصحفيان راز شيكنك وعوز معلم في مقال مشترك «نشعر بأننا مكروهون، محاطون بالعداء، غير مرغوب وغير مرحب بنا، في الشارع يطالعنا فلسطينيون، وإيرانيون، وقطريون، ومغربيون، وأردنيون، وسوريون، ومصريون ولبنانيون وتونسيون وكويتيون وعراقيون بنظرات كراهية وحقد».

كما عبرت الكاتبة الاسرائيلية، ميخال أهروني، في مقالتها بصحيفة «إسرائيل اليوم»، عن الحضور القوي للقضية الفلسطينية في المونديال بالقول«الفلسطينيون كلهم في قطر، الواقع محرِج»، وتابعت« لقد نجح اليمين الإسرائيلي على مدى سنوات طويلة جداً في أن يُنسي الجمهور الإسرائيلي الفلسطينيين، وفي المونديال جاءت الصدمة وتذكّر الجميع، بما فيه الإعلام الإسرائيلي، بأن الفلسطينيين لا يزالون هنا خلف الجدار. وفي قطر الكثير جداً من الناس الذين يركلون الكرات، لكن اتضح أن هناك من يركل الواقع المحرج للاحتلال في وجوهنا».

ونشرت صحيفة « لوس أنجلس تايمز» الأمريكية تقريراً بعنوان«القضية الفلسطينية تحتل مركز الصدارة في كأس العالم»، بينت فيه حجم حضور العلم والرموز الفلسطينية على المدرجات وضمن فعاليات المونديال. وجاء في التقرير« بينما تجمع الفريق المغربي لالتقاط الصور، احتفل بعض لاعبي الفريق بتلك اللحظة بعلم البلاد ولكن، كان هناك علم آخر حمله الفريق في المقدمة وفي المنتصف،علم فلسطين، الذي رافق الفريق المغربي ولاعبيه وجمهوره خلال كل المباريات».

وقال الكاتب شاحار بيرديشفسكي في مقال بصحيفة «معاريف» الإسرائيلية:«كنا جميعًا نتمنى أن يكون لقطار التطبيع بعض التأثير على الرأي العام في العالم العربي تجاه إسرائيل، واكتشفنا أننا كنا مخطئين. الآن نشهد الحقيقة المرة التي وضعها مشجعو كأس العالم العربي أمام أعيننا». وأضاف «كأس العالم الحالية ستُذكر أكثر من أي شيء آخر، باعتبارها كأس العالم للتضامن العربي حول السردية الفلسطينية».

وتابع قائلًا «تلقت الرواية الفلسطينية دعماً وتأييداً واسعين خلال كأس العالم بقطر. وفي جميع المباريات كان يرى على الأقل علم فلسطيني واحد يرفرف في الملعب، بينما في عدة مناسبات رفعت لافتات كبيرة كتب عليها «فلسطين حرة».وأضاف «دعونا لا ننسى عبارات الكراهية العديدة ضد المذيعين والصحفيين الإسرائيليين، الذين أتوا إلى قطر لمجرد القيام بعملهم».وختم بقوله« شئنا أم أبينا، كأس العالم في قطر يعكس أن هناك أصواتاً  ضد الاحتلال الإسرائيلي وإنكار حقوق الفلسطينيين.وفي المستقبل ستسود الأصوات الداعية لمقاطعة إسرائيل بسبب الاحتلال وستصل إلى قصور الحكام، طالما استمرت إسرائيل في السيطرة على المناطق، فلن يكون هناك شرق أوسط جديد».

عناوين مُكررة في كل يوم عن حالات طرد مراسلين إٍسرائيليين ومشجعين من المقاهي والمحلات، وكأن الحدث يعيد نفسه كل يوم مع جماهير مختلفة. والأمر لم يقتصر على الجمهور العربي، حيث وثّقت بعض الفضائيات خلال مباراة للمنتخب الكاميروني تجمهر عدد من الشبان الكاميرونيين أمام الملعب، حاملين علم فلسطين ومطالبين بالعدالة للقضية الفلسطينية، وعندما سألهم الصحافيون عن سبب دعمهم، قالوا إنّ صوت المظلومين يصل صداه إلى كل العالم، ومعروف أن الكاميرون، كدولة، صوتت ضد أكثر من قرار لصالح فلسطين في الأمم المتحدة.

أثبت مونديال كأس العالم في قطر، أن السعي الإسرائيلي المتواصل لإحداث إختراق في النسيج والوجدان الشعبي العربي قد أنهار بضربات الجزاء من الجماهير العربية، بنقيض كل محاولات التشويه والتضليل التي مارستها العديد من مراكز الأبحاث والإحصاء الأمريكية والغربية، والتي حاولت بنتائجها التضليلية أن تظهر تقبل الشعوب العربية وقبولها بالتطبيع، ليظهر زيف كل استطلاعاتها المخاذعة، وهذا ما عبر عنه الصحفي الإسرائيلي  راز شيشينك، في  موقع «ذا أثليت (The Athletic) » الأمريكي، وهو الصحفي الذي اشتهر بادعائه خلال المونديال أنه من الإكوادور قبل أن يكشف المشجعون كذبه حينما قال«بعد أن وصلت إلى قطر أدركت الحقيقة بأنه لا أمل في تحسين علاقتنا مع الشعوب العربية التي ترتبط بفلسطين إرتباطاً عجيباً».

إنها إرادة الشعوب العربية، التي تسكن فلسطين وجدانها وضمائرها، الشعوب التواقة للتحرر، الرافظة لكل أشكال التطبيع والقهر والظلم والاحتلال، المتمسكة بالهوية العربية، وبروح الوحدة والتضامن العربي الذي مزقته الأنظمة الرسمية ، لكنه ما زال موجوداً في ضمائر الشعوب التي عبرت عن انتمائها وارتباطها بالقضية الفلسطينية، وجسدت بالفعل شعار«فلسطين القضية المركزية لكل الشعوب العربية»،وأكدت عجز الدول المطبعة عن تغيير ومحو التاريخ وإخفاء الواقع الإجرامي للاحتلال، وفشلها في السيطرة على وجدان الشعوب مهما وقعت من اتفاقيات تطبيعية.

فتحية للشعوب الحرة التي جعلت من كأس العالم الحالي مونديالا للتضامن العربي مع القضية الفلسطينية، وتمكنت فلسطين المرفوعة على أكتاف الشعوب العربية من تحقيق النصر وهزيمة إسرائيل في أكبر مسرح في العالم.

(8)

نحو جبهة عربية لمقاومة التطبيع

■عندما ذهب نظام أنور السادات إلى الحل المنفرد مع دولة الاحتلال، تذرع بهدف استعادة الأراضي المصرية المحتلة، في حين رأى النظام الرسمي العربي أن هذه الخطوة مخالفة للإجماع العربي. وأقام عدد من الدول العربية «جبهة التصدي والصمود»، لمحاصرة النهج الساداتي، وقطع الطريق على أية محاولة، للالتحاق به. وعندما ذهبت الأنظمة العربية الأربعة إلى التطبيع مع دولة إسرائيل ضمن «اتفاق أبراهام» الذي ضم الى جانب البحرين، الإمارات، ثم السودان وبعدها المغرب، إدعت أن وراء هذا التطبيع رغبة في «نشر السلام» في المنطقة. وبذلك، انتقل صف من الأنظمة العربية خارج «مبادرة بيروت» وقرارات الجامعة العربية وقممها، وقمم منظمة التعاون الاسلامي، التي ربطت تطبيع العلاقة مع إسرائيل بانسحابها من الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة عام 1967.

يهدف مسلسل التطبيع إلى قيام  تحالف أميركي – عربي – إسرائيلي، يخدم المصالح الأمريكية والإسرائيلية في المنطقة، ويناصب العداء لكل من يتمرد على التبعية للولايات المتحدة أو كل من يقف إلى جانب الشعب الفلسطيني في نضاله الوطني المشروع، أو إلى جانب شعوبنا العربية في نضالاتها من أجل الحرية والديمقراطية والأمن والإستقرار والعدالة الإجتماعية.

وكان لافتاً، أن العلاقات بين أطراف التطبيع الجديدة، وبين دولة الاحتلال،  قد تدحرجت بسرعة. فخلال أشهر قليلة، أبرمت هذه الأنظمة سلسلة اتفاقات، تجارية، وسياحية، واقتصادية، وصناعية، وأمنية، وثقافية، وصولاً إلى إقامة قواعد عسكرية إسرائيلية في دولة الإمارات، بذريعة نشر القبة الحديدية، لحماية البلاد، من خطر مزعوم، في محاولة لإعادة صياغة المعادلات الإقليمية، بحيث تصبح إسرائيل، هي الضمانة لأمن الدول العربية، وتصبح الدول الرافضة للتطبيع وقوى المقاومة هي الخطر.

هذا يعني، أنهم بصدد صياغة معادلات سياسية وجيوسياسية جديدة، من شأنها أن تعيد صياغة المفاهيم والقيم، وأن تعيد صياغة النظام السياسي العربي، باتجاه تعزيز تحالف مكوناته الرئيسية مع واشنطن وتل أبيب، وفك ارتباطها بالقضية الفلسطينية، وبقضايا الشعوب، لصالح تعميم حالة التطبيع.

■ ولمواجهة هذه المخاطر،ينبغي على قوى وحركات التحرر العربية وأطراف المشروع القومي والتحرري العربي وفي قلبها حركة التحرر الفلسطينية، بناء جبهة مقاومة عربية، تتحمل فيها هذه القوى مسؤولياتها التاريخية، بالعمل على إلغاء اتفاقيات التطبيع مع الاحتلال ،والخروج من «أوسلو» والتحرر من قيوده، وسحب الإعتراف بدولة الإحتلال، وفك الإرتباط الإقتصادي معها، ووقف التنسيق الأمني، وإعادة تعريفها كدولة إحتلال إستعماري استيطاني، عنصري، فاشي، لا تؤمن إلا بالحرب والعدوان والقتل ومصادرة الأرض، وتهجير السكان، ولا تكن إلا الكراهية للسلام الحقيقي المتوازن والشامل، القائم على حق الشعوب في تقرير مصيرها على أرضها وبناء مستقبلها ودولها الوطنية المستقلة، في نظام يكفل لشعبه الحريات السياسية والإجتماعية على السواء.

ولا يمكن التحرر من من الاحتلال إلا بالمقاومة الشعبية الشاملة بكل الأساليب المتوفرة، وفي إطار جبهة وطنية، موحدة لشعب فلسطين تنهي الانقسام، وتضع حداً للرهان على حلول فاسدة كاستئناف المفاوضات تحت الرعاية الأمريكية المنحازة إلى جانب الاحتلال، وتحشيد كل الطاقات لمواجهة سياسات الاحتلال من خلال بناء استراتيجية وطنية فلسطينية موحدة والتأسيس لشراكة وطنية شاملة، من خلال إنجاح الانتخابات الرئاسية والتشريعية والمجلس الوطني، والتجديد الديمقراطي لبنية المؤسسة الوطنية للخروج من حالة التشظي وإعادة بناء الوحدة الداخلية الفلسطينية في إطار منظمة التحرير الإئتلافية.

ومن الضروري أيضاً بذل الجهود لتوسيع ودعم حركات مقاطعة إسرائيل على كافة المستويات، وتفعيل سلاح القانون الدولي لمحاكمة الاحتلال على جرائمه، التي يرتكبها بحق شعبنا وشعوب المنطقة وأحرار العالم. والعمل على بناء جبهة عربية وعالمية لمواجهة المشروع الأمريكي ــ الإسرائيلي الذي يعرض الأمن والاستقرار في الوطن العربي والعالم للخطر.

وتتحمل المؤسسات والاتحادات والنقابات والقوى السياسية العربية مسؤولية كبيرة في مواجهة هذه السياسات والمخططات من خلال العمل على تعزيز ثقافة المقاطعة ومواجهة التطبيع، بعيداً عن الأصوات التي تحاول أن توهمنا بعدم جدواه، وأن نسعى لتعميم فكرة المقاطعة وثقافتها في المدارس والجامعات، وبين صفوف الشباب والمشاركة الفاعلة في لجان مقاومة التطبيع ،التي أثبتث جدواها، وساهمت في العديد من البلدان العربية بإفشال الكثير من السياسات التطبيعية على كافة الصعد السياسية والاقتصادية والثقافية والفنية والرياضية، التي تستهدف عقول أجيالنا، من خلال بعض الشاشات التلفزيونية العربية وبرامجها التطبيعية، كما من خلال المناهج التعليمية التي بتنا نرى في بعض كتبها كلمة إسرائيل على خارطة فلسطين، وغيرها الكثير من الظواهر التطبيعية. وبهذا الإطار لا بد أيضاً من إيلاء الاهتمام الأكبر للجان حركة مقاطعة إسرائيل  (BDS)، التي أثبتت تأثيرها في مواجهة الكيان الصهيوني، والتي تتعرض اليوم على الصعيد الدولي لحملة كبيرة من بعض الحكومات والبرلمانات الغربية، التي تسن قوانين تعاقب حركات مقاطعة إسرائيل وبضائع مستوطناتها، واعتبارها حركات معادية للسامية، مطالبة بحظر نشاطها وفعالياتها.

من نافل القول، إن القاسم المشترك بين جميع عناوين «صفقة القرن» التي طرحها الرئيس الأمريكي السابق ترامب، هو استهدافها للحقوق الفلسطينية والعربية في آن، ما يجعل من الترابط بين القضية الفلسطينية وعمقها العربي أمراً واضحًا ينبغي البناء عليه بمهمات مشتركة فلسطينية وعربية وإسلامية.

وإذا كانت الصفقة وما تبعها من اتفاقات تطبيعية بين بعض الأنظمة الرسمية والإحتلال الاسرائيلي ليست معزولة عن المشروع الأمريكي الصهيوني الإستعماري في المنطقة، فهي تعطي الحركة الشعبية العربية فرصة إعادة الإعتبار لدورها الوطني والقومي بتحركات شعبية وسياسات تتصادم مع إفرازات وتداعيات هذا المشروع في أوطانها. إذ ليس منطقياً أن تكون مهمة المقاطعة في الدول الأوروبية في نهوض واضح ، فيما هي غائبة وأحيانا منعدمة في بعض الدول العربية. 

إن الحالة العربية مطالبة بالاستجابة لمهمتين: أولهما مواجهة عمليات التطبيع بمختلف أشكاله. وثانيهما مقاطعة المنتوجات والمؤسسات الأمريكية التي تدعم الاستيطان في فلسطين. والنجاح في هاتين المهمتين يسهم بشكل مباشر في إفشال المخططات والمؤامرات التصفوية التي تستهدق القضية الفلسطينية والمنطقة العربية، كما يفشل أبرز عناوين «صفقة القرن» في شقها الإقليمي، ما يبعث برسالة قوية إلى الشعب الفلسطيني أنه ليس وحده في ميادين المواجهة.

 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف