الصيد من فوق المنارات العالية
بقلم: محمد شحاتة حسين آل عمار الشريف - مصر
" هناك في الذاكرة مكان لا نفكر حتى في زيارته، أو معرفة أحواله، ولا تأتينا عنه أي أخبار لا من قريب ولا من بعيد، ربما صورة الشخص التي يقولون أن من يراها فسيظن أنه قد رآه من قبل، هي الملامح المشتركة لكل الغرباء"
تتحلل الشمس في المقبرة لتصل إلى دائرة صفراء، ويتحلل القمر ليصل إلى دائرة بيضاء، والأشجار إلى أعواد يابسة بسيطة الأغصان، والنهر إلى فضاء أبيض يتلألأ، أما النور فيتحول إلى نور ربما! أما الذين التقينا بهم، أولئك الذين هم أكثر مما نعرفهم في حياتنا، الذين نلتقيهم في الشوارع والقطارات والمواصلات، الذين نراهم في كل مكان من حولنا، فيتحولون إلى شخوص أولية، وتتكرر هذه العملية، حتى نصل إلى أن الغرباء كلهم في ذاكرتنا يتحولون إلى غريب واحد، بملامح واحدة، له عينان وأنف وفم وشعر وأذنان، ربما هو نحن ما لم ننظر قط في مرآة.
فلا نعرف عنهم أي مزية مختلفة عن كونهم مجرد بشر، لا شجعان ولا جبناء، ولا أذكياء ولا أغبياء، ولا نعرف إن كان لدى أحدهم قدرات خارقة أم لا، فبطاقة الغريب لا تعريف بها ولا اسم ولا عنوان، إنما بها صورة تتلاشى مع مرور الزمن.
كأن الغرباء وجوه رملية كبيرة، ملقاة كلها على شاطىء معزول مثل هذا الشاطيء الشاسع ، وكلما أتى الموج أخذ من رمالها، وكشف عن كل تلك الوجوه، فإذا بها كله وجوه لوجه واحد معدني ناصع اللمعان.
حين نطيل النظر في النور فإننا نرى الظلام، وفي وسط الظهيرة، دائما ما تكون هناك ظلمة ما.
حين نضمحل، ونُنسى من قبل الذين عرفونا، أو يضمحل ونَنسى من نعرف، فإننا نتبدد ونتلاشي مثل تلاشي الموج في هذا البحر البعيد، ليكون جميعنا عند جميعنا لنا أماكن في مقبرة الغرباء. ولنا في الوجود صورة مثل تلك الصورة الأولية"
أنهى جيمس كتابته، وفرك عينيه وراح ليستكمل عمله.
جيمس حارس منارة بولاية ميتشجان، وعمره قارب على الستين، ولم يكن لديه لا زوجة ولا أولاد.
لكن ذلك كان في الزمن البعيد، قبل أن تغادره زوجته وقد أخذت معها طفليها، كان ذلك قبل عشرين عاما تقريبا.
ومنذ ذلك الحين لم يكن لديه في حياته سوى عمله، والذي كان يقضي فيه أوقات كاملة لا يفعل أي شيء سوى الصيد من أعلى المنارة، من خلال صنارة أعدها لهذا الغرض، والكتابة.
كان يكتب كثيرا، ولا يهتم بنشر أي شيء من كتابته، كان يعالج نفسه بها كتسلية وتأمل، وكان يلقي بكل ما يكتبه في خزانة خشبية ضخمة، حتى أنها كادت تمتلأ بأحجام وصنوف مختلفة من الأوراق المكتوبة بأنواع مختلفة من الأقلام.
فكان في كل إجازة يغادر المنارة الزرقاء كما كان يحب أن يسميها، رغم أنها بيضاء، لكن لزرقة الجو عادة من حولها ولتكاثف الغيوم الرمادية فوقها، كان يشعر أنها منارة مصبوغة بالحبر الأزرق في لوحة زرقاء رمادية فوق صخور سوداء داكنة على جرف بحر هائل.
أنهى مهمة الصيانة، وقام بتنظيف النوافذ والعدسات، وتأكد من انضباط الساعات، وتأكد أنه ما من مصابيح تحتاج إلى تغيير وأن كل الفتائل جيدة.
هكذا حياته هادئة، لا شيء يكدر صفوها سوى قليل من الذكريات.
لديه طاولة خشبية، وكرسي مكتب، وكرسي طويل، وسرير فوقه بعض الأغطية، وخزانة خشبية كبيرة، وقطعتان كوميدينو على واحد منهما كثير من الصور، كلها لأشخاص ما عاد بينه وبينهم أي صلة،من بينها صورة لطفليه وزوجته.
كان شابا وزوجته شابة تقف إلى جواره في ثقة وشموخ، وكانت تبدو فخورة به وبطفليها.
كان من المفترض أن يكون معه حارسان آخران، تبعا لتقسيم النوبات، لكن هذه المنارة وغيرها كانت تكتفي بحارس واحد، لنوبة واحدة. من الساعة السادسة مساءا حتى السادسة صباحا، ولم يكن هناك أي ضغوط بخصوص عملها، فهي بعيدة متطرفة، ولن يصل إليها أي مركب إلا إذا كان قد جنح جنوحا كبيرا فهي ليست قبالة شاطيء مقصود أو خط بحري مزدحم.
مما كان يجعله يقوم بعمله بأريحية، خلال اثنتي عشرة ساعة. ولمدة أسبوع، حتى يأتي بديله، حينها يمكنه النزول ليخلي خدمته لكنه لا يمكنه المغادرة بشكل كامل، فحين ينزل يتحول إلى حارس أرضي. ويمكنه فقط التجول في المدينة الصغيرة قرب المنارة، والمبيت ببيت المنارة، وهو بيت صغير مجهز للسكن للعاملين بها، وإذا ما طلب مغادرة الموقع فعليه انتظار مجيء بديل له. فلا يمكن ترك المنارة بلا حارسين.
تجول جيمس في المدينة، وهو يشعر بمزاج استثنائي، فالشمس مشرقة ودافئة، والشوارع مليئة بالمارة، كذلك المتاجر مفتوحة للجميع.
وذهب كعادته لشراء بضعة كتب، وكان قد سأل صاحب المكتبة عن كتب وروايات تدور قصصها حول المنائر وعمالها. والذي وعده بأن سيأتيه بأي كتاب منها فور أن يقع بين يديه.
وهز البائع وجهه الأبيض بإبتسامة بسيطة، فابتسم جيمس، وراح يقرأ في عناوين الكتب الجديدة. ووقعت عيناه على رواية جديدة الصدور واسمها " ذهب مع الريح" للكاتبة مارجريت ميتشل.
كان غلافها أصفر من الورق المقوى المغلف بالقماش. فاشتراها. وبعد أن أخذ جولة قصيرة عاد إلى بيت المنارة.
كان قد جهز قهوته وقام بإشعال حطب المدفأة وتجهز للقراءة وهو مملوء بشوق لقراءة هذه الرواية التي عنوانها يشبه الكثير من أحداث حياته.
قضى جيمس الليلة كلها وهو يقرأ الرواية، حتى جاءت الساعة السادسة صباحا وهي موضوعة على صدره وكان قد توقف عند عبارة اشلي ويلكس وهي تقول" ربما، أريد الأيام الخوالي مرة أخرى ولن تعود أبدا، وأنا مسكون بذكرياتهم، وذكريات العالم الذي يسقط حول أذني".
استيقظ جيمس، وقضى يومه بشكل عادي، لا يكاد يفكر بأي شيء ذي أهمية. وعاد إلى نوبته بعد يومين، وبعد أن تأكد من أن كل شيء مرتب وفي مكانه وجاهز للعمل، خاصة أن هذا المساء يبدو شديد الرمادية والسحب داكنة بشكل ينذر بقرب عاصفة، وكان قد اعتاد هذه الأجواء، فتح خزانة أوراقه. ونظر إليها، ثم أغلقها . وأمسك بصنارته وفتح نافذة من المنارة تطل على البحر، وجلس على كرسيه الطويل. وراح يصيد في البحر.
بقلم: محمد شحاتة حسين آل عمار الشريف - مصر
" هناك في الذاكرة مكان لا نفكر حتى في زيارته، أو معرفة أحواله، ولا تأتينا عنه أي أخبار لا من قريب ولا من بعيد، ربما صورة الشخص التي يقولون أن من يراها فسيظن أنه قد رآه من قبل، هي الملامح المشتركة لكل الغرباء"
تتحلل الشمس في المقبرة لتصل إلى دائرة صفراء، ويتحلل القمر ليصل إلى دائرة بيضاء، والأشجار إلى أعواد يابسة بسيطة الأغصان، والنهر إلى فضاء أبيض يتلألأ، أما النور فيتحول إلى نور ربما! أما الذين التقينا بهم، أولئك الذين هم أكثر مما نعرفهم في حياتنا، الذين نلتقيهم في الشوارع والقطارات والمواصلات، الذين نراهم في كل مكان من حولنا، فيتحولون إلى شخوص أولية، وتتكرر هذه العملية، حتى نصل إلى أن الغرباء كلهم في ذاكرتنا يتحولون إلى غريب واحد، بملامح واحدة، له عينان وأنف وفم وشعر وأذنان، ربما هو نحن ما لم ننظر قط في مرآة.
فلا نعرف عنهم أي مزية مختلفة عن كونهم مجرد بشر، لا شجعان ولا جبناء، ولا أذكياء ولا أغبياء، ولا نعرف إن كان لدى أحدهم قدرات خارقة أم لا، فبطاقة الغريب لا تعريف بها ولا اسم ولا عنوان، إنما بها صورة تتلاشى مع مرور الزمن.
كأن الغرباء وجوه رملية كبيرة، ملقاة كلها على شاطىء معزول مثل هذا الشاطيء الشاسع ، وكلما أتى الموج أخذ من رمالها، وكشف عن كل تلك الوجوه، فإذا بها كله وجوه لوجه واحد معدني ناصع اللمعان.
حين نطيل النظر في النور فإننا نرى الظلام، وفي وسط الظهيرة، دائما ما تكون هناك ظلمة ما.
حين نضمحل، ونُنسى من قبل الذين عرفونا، أو يضمحل ونَنسى من نعرف، فإننا نتبدد ونتلاشي مثل تلاشي الموج في هذا البحر البعيد، ليكون جميعنا عند جميعنا لنا أماكن في مقبرة الغرباء. ولنا في الوجود صورة مثل تلك الصورة الأولية"
أنهى جيمس كتابته، وفرك عينيه وراح ليستكمل عمله.
جيمس حارس منارة بولاية ميتشجان، وعمره قارب على الستين، ولم يكن لديه لا زوجة ولا أولاد.
لكن ذلك كان في الزمن البعيد، قبل أن تغادره زوجته وقد أخذت معها طفليها، كان ذلك قبل عشرين عاما تقريبا.
ومنذ ذلك الحين لم يكن لديه في حياته سوى عمله، والذي كان يقضي فيه أوقات كاملة لا يفعل أي شيء سوى الصيد من أعلى المنارة، من خلال صنارة أعدها لهذا الغرض، والكتابة.
كان يكتب كثيرا، ولا يهتم بنشر أي شيء من كتابته، كان يعالج نفسه بها كتسلية وتأمل، وكان يلقي بكل ما يكتبه في خزانة خشبية ضخمة، حتى أنها كادت تمتلأ بأحجام وصنوف مختلفة من الأوراق المكتوبة بأنواع مختلفة من الأقلام.
فكان في كل إجازة يغادر المنارة الزرقاء كما كان يحب أن يسميها، رغم أنها بيضاء، لكن لزرقة الجو عادة من حولها ولتكاثف الغيوم الرمادية فوقها، كان يشعر أنها منارة مصبوغة بالحبر الأزرق في لوحة زرقاء رمادية فوق صخور سوداء داكنة على جرف بحر هائل.
أنهى مهمة الصيانة، وقام بتنظيف النوافذ والعدسات، وتأكد من انضباط الساعات، وتأكد أنه ما من مصابيح تحتاج إلى تغيير وأن كل الفتائل جيدة.
هكذا حياته هادئة، لا شيء يكدر صفوها سوى قليل من الذكريات.
لديه طاولة خشبية، وكرسي مكتب، وكرسي طويل، وسرير فوقه بعض الأغطية، وخزانة خشبية كبيرة، وقطعتان كوميدينو على واحد منهما كثير من الصور، كلها لأشخاص ما عاد بينه وبينهم أي صلة،من بينها صورة لطفليه وزوجته.
كان شابا وزوجته شابة تقف إلى جواره في ثقة وشموخ، وكانت تبدو فخورة به وبطفليها.
كان من المفترض أن يكون معه حارسان آخران، تبعا لتقسيم النوبات، لكن هذه المنارة وغيرها كانت تكتفي بحارس واحد، لنوبة واحدة. من الساعة السادسة مساءا حتى السادسة صباحا، ولم يكن هناك أي ضغوط بخصوص عملها، فهي بعيدة متطرفة، ولن يصل إليها أي مركب إلا إذا كان قد جنح جنوحا كبيرا فهي ليست قبالة شاطيء مقصود أو خط بحري مزدحم.
مما كان يجعله يقوم بعمله بأريحية، خلال اثنتي عشرة ساعة. ولمدة أسبوع، حتى يأتي بديله، حينها يمكنه النزول ليخلي خدمته لكنه لا يمكنه المغادرة بشكل كامل، فحين ينزل يتحول إلى حارس أرضي. ويمكنه فقط التجول في المدينة الصغيرة قرب المنارة، والمبيت ببيت المنارة، وهو بيت صغير مجهز للسكن للعاملين بها، وإذا ما طلب مغادرة الموقع فعليه انتظار مجيء بديل له. فلا يمكن ترك المنارة بلا حارسين.
تجول جيمس في المدينة، وهو يشعر بمزاج استثنائي، فالشمس مشرقة ودافئة، والشوارع مليئة بالمارة، كذلك المتاجر مفتوحة للجميع.
وذهب كعادته لشراء بضعة كتب، وكان قد سأل صاحب المكتبة عن كتب وروايات تدور قصصها حول المنائر وعمالها. والذي وعده بأن سيأتيه بأي كتاب منها فور أن يقع بين يديه.
وهز البائع وجهه الأبيض بإبتسامة بسيطة، فابتسم جيمس، وراح يقرأ في عناوين الكتب الجديدة. ووقعت عيناه على رواية جديدة الصدور واسمها " ذهب مع الريح" للكاتبة مارجريت ميتشل.
كان غلافها أصفر من الورق المقوى المغلف بالقماش. فاشتراها. وبعد أن أخذ جولة قصيرة عاد إلى بيت المنارة.
كان قد جهز قهوته وقام بإشعال حطب المدفأة وتجهز للقراءة وهو مملوء بشوق لقراءة هذه الرواية التي عنوانها يشبه الكثير من أحداث حياته.
قضى جيمس الليلة كلها وهو يقرأ الرواية، حتى جاءت الساعة السادسة صباحا وهي موضوعة على صدره وكان قد توقف عند عبارة اشلي ويلكس وهي تقول" ربما، أريد الأيام الخوالي مرة أخرى ولن تعود أبدا، وأنا مسكون بذكرياتهم، وذكريات العالم الذي يسقط حول أذني".
استيقظ جيمس، وقضى يومه بشكل عادي، لا يكاد يفكر بأي شيء ذي أهمية. وعاد إلى نوبته بعد يومين، وبعد أن تأكد من أن كل شيء مرتب وفي مكانه وجاهز للعمل، خاصة أن هذا المساء يبدو شديد الرمادية والسحب داكنة بشكل ينذر بقرب عاصفة، وكان قد اعتاد هذه الأجواء، فتح خزانة أوراقه. ونظر إليها، ثم أغلقها . وأمسك بصنارته وفتح نافذة من المنارة تطل على البحر، وجلس على كرسيه الطويل. وراح يصيد في البحر.