الأخبار
الحكومة الإسرائيلية تصادر معدات وكالة أنباء أمريكية وتمنعها من البثبن غفير يطالب باستيطان يهودي لغزة .. وهجرة طوعية لأهالي القطاعيأس أمريكي من الحوار مع نتنياهوكيف ستواجه إسرائيل عقوبات لاهاي؟القسام تستهدف قوات الاحتلال بالقذائف والعبوات الناسفة شمال قطاع غزةالصحة: الاحتلال ارتكب 5 مجازر وحصيلة الشهداء ارتفعت لـ35647الخارجية القطرية: ندعم الجنائية الدولية بمبدأ المحاسبة ومفاوضات وقف إطلاق النار متوقفةمعروف: مذكرات التوقيف بحق نتنياهو وغالانت خطوة قانونية بالاتجاه الصحيحإعلام إسرائيلي: القتال العنيف بغزة سيستمر حتى أكتوبر 2024ما دور العقوبات الأمريكية في حادث مروحية الرئيس الإيراني؟كتائب القسام: قصفنا معبر رفح بقذائف الهاون من العيار الثقيلقوات الاحتلال تتوغل شرق دير البلح وسط اشتباكات ضارية مع المقاومةأونروا: نزوح 810 آلاف فلسطيني من رفح خلال أسبوعينحماس: نية المحكمة الدولية باستصدار مذكرات اعتقال بحق قيادات حماس مساوة بين الضحية والجلادإسرائيل تنشئ "غرفة حرب" لمواجهة تحرك المحكمة الجنائية
2024/5/22
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

قصة الشهيد ضياء الريماوي

تاريخ النشر : 2022-12-25
قصة الشهيد ضياء الريماوي

نصير أحمد الريماوي

الشهيد ضياء محمد شفيق الريماوي

استشهد في الذكرى35 لانطلاق انتفاضة الحجارة الأولى

* يوم الاستشهاد عاد من مدرسته، اغتسل، وتوضأ، وصلى ركعتين

*عندما أصيب، وقع على الأرض، رفع سبابته إلى أعلى ونطق الشهادتين بصوت متحشرج ومتقطع، وقال: سلموا لي على أبي

* والدته" يسرى" حملت مقدمة نعش فلذة كبدها على كتفيها، مرفوعة الجبين، وهي تزغرد له تنفيذا لوصيته ، وزفّت العريس في عرس الشهادة وسط الحناجر الهادرة الهاتفة لفلسطين، ولعلعة البارود.

بقلم الكاتب: نصير أحمد الريماوي

الشهيد هو بكر والديه، ولد بتاريخ14/7/2006م بعد الزواج بعام مباشرة، وكان والده يطمح من زواجه لإنجاب الأطفال، وتربيتهم، وتعليمهم ليكونوا السند له في حياته المعيشية.

في يوم ميلاده المذكور أعلاه كان الوالد والوالدة في مدينة "طولكرم"  للمشاركة في عرس " فارس" ابن عم الوالدة، وهناك بدأت الوالدة تشعر بمخاض الولادة، وعلى الفور تم نقلها إلى المشفى.. ثم وضعته بعد عناء.. وظهر إلى النور عند الساعة العاشرة صباحا.

كانت فرحة الوالد بمقدمه كبيرة جدا، وزع الحلوى أثناء الاحتفال به، وصادف ذلك الاحتفال بفرحتين معا هناك، عرس"فارس" مع عرس الطفل" ضياء" القادم للحياة.

ثاني يوم، جهزوا امتعتهم وغادروا "طولكرم" متوجهين إلى بلدة "بيت ريما" مسقط رأسهم.. عندما وصلوا المحسوم العسكري الإسرائيلي قرب قرية " دير بلوط"، أوقفهم جنود الاحتلال، فتشوا بطاقات الهوية، وعندما شاهدوا حديث الولادة طلب بعض الجنود- وهو يتمسخر- تسمية الطفل على اسم قائد فلسطيني اغتالته سلطات الاحتلال في غزة بتاريخ 6/7/2006، وهو "الدكتور حسين عجوة"  البالغ من العمر(44) عاما.

عندما وصلوا البلدة، أسماه عمه الأسير"عمر شفيق الريماوي" -ا لذي كان مطاردا آنذاك، ومختئبأ في المقاطعة حيث كان الرئيس أبو عمار طيب الله ثراه،- طلب من شقيقه "محمد"، والد الطفل، بأن يحضره إليه كل أسبوع لرؤيته، فكان يداعبه، و يتصور معه، ويشتري له الملابس، وتعلّق به لأنه هو من أسماه "ضياء" بعد الجدال الذي جرى بينهم حول الاسم، البعض طلب تسميته على اسم جده "شفيق"، والبعض الآخر طلب تسميته على اسم خاله الأسير" وليم الريماوي" المحكوم بـ(32) سنة والذي ما زال يقبع في معتقل "عوفر" الصهيوني حتى الآن. ظل عمه المطارد كل أسبوع يراه حتى تم اعتقاله لمدة (7) سنوات في المعتقلات الصهيونية، وعندما أفرج عنه  أصبح عمر ضياء (8) سنوات، وطالبا في المدرسة.

ولد في ظل ظروف: مجازر، وقتل أطفال، واغتيالات،

واعتقالات، وعدوان عسكري همجي

أعود إلى الظروف التي كانت تعيشها فلسطين عندما ولد فيها "ضياء"، حيث كان الغضب العارم يعمّ المدن: الفلسطينية، والعربية، والإسلامية، والمظاهرات الغاضبة احتجاجا على المجزرة الإسرائيلية التي نفذتها بارجة عسكرية صهيونية بتاريخ 9/6/2006 باطلاف قذيفة تجاه عائلة الطفلة "هدى غالية"، وقتل خمسة أشقاء وشقيقات لها مع والدهم كانوا يلهون ويلعبون على شاطئ بيت لاهيا شمال غزة.. وقبل ذلك بيوم، اغتالت طائرات جيش الاحتلال القائد العام للجان المقاومة الشعبية، والمراقب العام لوزارة الداخلية" "جمال أبو سمهدانة" 43 سنة"، كما اغتالت بعد شهر القائد الثاني للألوية" أبو يوسف القوقا". على إثر ذلك نفذت المقاومة الفلسطينية عملية نوعية في موقع عسكري صهيوني قرب"كرم أبو سالم" جنوب قطاع غزة، أطلقوا عليها اسم" الوهم المتبدد"، أدت إلى أسر الجندي الإسرائيلي "جلعاد شاليط"، وقتل جنديين آخرين، وأعلنت كتائب القسام، وألوية ناصر الدين، وجيش الاسلام مسؤوليتها عن العميلة المشتركة، وربطت حرية "شاليط" بإطلاق سراح مئات الأسرى والأسيرات الفلسطينيين، بمن فيهم الأطفال، وأصحاب المحكوميات العالية في سجون الاحتلال. عقب ذلك شنّ الاحتلال هجوما واسع النطاق على قطاع "غزة" بتاريخ 28/6/2006 في محاولة يائسة لتحرير الجندي، وأدى ذلك إلى دمار هائل في البنية التحتية والمقار الحكومية، وعاش القطاع في ظلام دامس بسبب قصف المولدات الكهربائية، كما شنت سلطات الاحتلال حملة اعتقالات واسعة شملت: اختطاف ثمانية وزراء من الحكومة الفلسطينية، وعشرين نائبا من المجلس التشريعي،وكوادر من حركة حماس.. لقد تقدمت دولة "قطر" بتاريخ 13/7/2006 بمشروع قرار لمجلس الأمن يقضي بوقف الهجوم على غزة واطلاق سراح الجندي، إلا أن الولايات المتحدة الأمريكية استخدمت حق النقض الفيتو.

ترعرع "ضياء" في ظل هذه الظروف وفي ظل والديه، وكان مدللا لكونه أول حفيد للعائلة، والكل يعتز به، وكان يرافق جده منذ نعومة أظفاره، والتحق بمدرسة بشير البرغوثي الثانوية حتى الصف الحادي عشر، وكان من الطلبة الجيدين..

كان دائما -وهو في المدرسة- يحكي لوالده بأنه يرغب في أن يصبح ميكانيكي أو كهربائي سيارات، حتى وهو في داخل المدرسة كان دائما يصلّح، ويزرع أشجار مع المعلمين لدرجة أنه أوصى بعض المعلمين -بعدما انتهوا من زراعة الأشجار- وحمّله أمانة بأن يحدّث الطلبة والأجيال اللاحقة عمن زرعها!.. رد عليه المعلم"عبد الحليم زيداني": إن شاء الله ستكون في ميزان حسناتك يا ضياء. كأنه يريد أن يزرع القيم في نفوس الطلبة وحبهم للأرض، ويضمر في نفسه سّرا  لم يفهم.

من بين صفاته الحميدة كان حبه لمساعدة كبار السن، وغيرته على أهله، وقد ذكر لي والده في إحدى الأيام بأنه أخذه معه إلى مدينة "بيت لحم"، وهما سائران معا في الشارع، شاهد شيخا كهلا يحمل كيسا.. فسارع إليه وحمله عنه دون أن يعرفه.. كذلك أثناء موسم قطاف الزيتون كان يساعد والده في منطقة "بربارة" من أراضي قرية "عابود" المجاورة، يطلب من شقيقيه "شفيق و براء" وشقيقتيه على تلبية ما يطلبه الوالد منهم ببدون تردد، ويحضّهم على ذلك!..

لقد عمل سائقا لدى معصرة الزيت العائدة لـ" خالد الريماوي" خلال هذا الموسم، ينقل ثمار زيتون المزارعين لهرسها وعصرها هناك ومن ثم إعادة الزيت إلى أصحابه، فمن شدة طيبته وخلقه تعلق به العاملون فيها، وكذلك المواطنون.

ما زال الشاب" إبراهيم مرعي" يتذكر خصال الشهيد الحميدة، ومساعدته في قطاف ثمار الزيتون، وتنتابه حالة من الحزن الشديد، وحرقة النفس كلما ذهب إلى بساتين زيتونه.

بعد خروج عمه" عمر" من المعتقل الصهيوني أنشأ له مزرعة دجاج، وأغنام، وخرفان في منطقة" الروس"  التابعة لهم، يقول: عندما كنت أذهب إلى المزرعة يسرح "ضياء" معي وينام معي هناك، ويساعدني.. عتدما اشتد عوده وأصبج  عمره (14) سنة صار يساعد والده في أعماله، ويأتي إليّ يعمل معي، وكلما أحاول إعطاؤه أجرة مقابل عمله، يرفض ولا يرضى، ويقول لي: أعطني فقط لأشتري ملابس، وبوت.. أنا بصرفهن..

كان يراني وأنا أعمل لوحدي فيأتي للمساعدة دون مقابل دون أن أطلب منه، وأنا أقول له: أريد أن تعمل معي بالأجرة..

لقد ألحّ عليّ تعليمه السياقة، فعلمته حتى صار نصف سائق، ويعتمد على نفسه.. كنت من عادتي عندما استيقظ صباحا، أتناول طعام الفطور ثم أذهب إلى مقبرة البلدة ومعي إبني"ريماوي" و" ضياء"، أقرأ الفاتحة على أرواح: جدي، وجدتي، وأعمامي، والشهيد"راجح".. سألني "ضياء" ذات مرة: من هذا يا عمي؟

- هذا هو شقيق جدك.. استشهد في دير الأرمن عام 1948 أثناء التصدي لهجوم العصابات الصهيونية، والدفاع عن ثغور مدينة القدس..عندما سمع منّي ذلك، قال: مثلما أطعمه ربي الشهادة، أتمنى من الله أن يطعمني إياها..!

لقد أثار كلامه استغرابي رغم صغر سنه يومئذ ثم ذهبنا معا للعمل في المزرعة وأنا أفكر في مقاصد أقواله.. قبل ثلاثة أسابيع من استشهاده دعوت إخوتي وأولاد شقيقاتي لحضور عقد منزلي الجديد الذي بنيته حديثا لتناول طعام الغداء، وكان ذلك يوم الخميس، جاء الكل باستثناء "ضياء" حيث كان في المدرسة.. لكنه اتصل بي، وسألني: هل عقدتم يا عمي؟

أجبته: نعم، عقدنا والحمد لله..

قال: ابعث لي سيارة..

أرسلت له سيارة.. جاء جائعا..   كنت مخصصا له منسفا لحين قدومه.. عندما وصل، قلت له: تعال لتناول الطعام الشهي يا عمي..

تناول المنسف، وأكل حتى شبع، وصادف في ذلك اليوم، حرّاث يحرث في أرضنا،. أخذت أحرث عنه لإعادة ذكريات الحراثة..صرت أحرث و "ضياء" يصوّرني بجهاز الجوال، ثم طلب منّي أن يحرث عني.. فرفضت.. زعل.. وأخذ على خاطره..ناديته لإرضائه، وقلت له: هيا نقوم معا بزراعة الزهرة، والبطاطا، والبروكلي، وبعضا من الخضار الشتوي.. اقتنع بالفكرة.. بدأ "ضياء" يحفر حفر صغيرة الحجم في الأرض، وأنا،  وابني "يونس" نزرع حتى انتهينا.. ثم عدنا إلى البلدة.. اشترينا أغراض وقهوة، وأخذنا من المنزل فراش، وثلاث حرامات، وثلاث وسائد، وعدنا مرة ثانية إلى المنزل المعقود حديثا لحراسته من العبث.. جلسنا على سطح البئر.. وضعنا عددا من قطع الطوب على شكل مستطيل ثم جمعنا كسفا من الحطب الجاف، واشعلنا النار، وسهرنا حتى الساعة الخامسة صباحا.. بعد ذلك، أنا صعدت إلى سطح المنزل، وسقيت العقد بالماء حتى ارتوى.. بعد ذلك، عدنا أدراجنا إلى البلدة..

يكمل"عمر": قبل شهور اتصل بي مدير، وسكرتير مدرسته، وأبلغاني بأن

 " ضياء" يحرّض الطلبة على الخروج في مظاهرات ومسيرات تضامنية مع الشهداء والأسرى.. أذهب على وجه السرعة إلى المدرسة و أكفله.. ما أن تمر فترة وجيزة، حتى يعود ويكرر نشاطه الوطني من جديد.. صرت أخاف عليه، وبخاصة عندما استشهد الشقيقان" جواد وظافر الريماويين" بتاريخ 29/11/2022م في ذكرى اليوم العالمي للتضامن مع شعبنا الفلسطيني، واستشهد في هذا اليوم أيضا، "راني مأمون أبو علي" من بلدة بيتونيا، و"مفيد إخليل" من بلدة بيت أمر، و"رائد النعسان" من قرية لمغير.. كنت ألاحظ عليه طول السهر مع أصدقائه وزملاء الدراسة، ويشاهد أخبار التلفاز وجرائم الاحتلال فيشتاط غضبا، وكل ما يقتحم جيش الاحتلال البلدة يخرج ليلا خلسة، وكنت دائما أحرص على عدم خروجه.. وكلما كنت أحدثه لمصلحته يخفض رأسه ويبتسم ابتسامة بريئة. في إحدى المرّات كنا جالسين في عزبة "أبو وسيم" مع أعمامه ووالده، قلت لأبيه: شد على ضياء، إذا بظل على هذا الحال يا إما يعتقل أو يصاب بجراح أو يستشهد...رد الوالد: لماذا؟ وهل ابني أفضل من الشهداء الآخرين؟ وكما ترى.. جيش الاحتلال يعدم شبابنا باستمرار دون حساب أو عقاب..

يضيف"عمر": قبل استشهاده بيوم كنّا جالسين على الدّوار أمام السوبر ماركت التابع لنا الموجود بجانب المنزل عند الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، أنا، وعمه "يونس"، و"طالب فيصل" وبعض الأقارب، فقال"يونس": أنا شاعر اليوم إذا بيدخل جيش الاحتلال هذه الليلة سيستشهد البعض.. سأله "طالب": لماذا؟

- هذه هي طبيعة أهل البلدة.. تغلي غليانا على جريمة إعدام الاحتلال لشقيقين من  البلدة، فهي مكلومة...

لقد خرج الكلام من فمي بطريقة عفوية، وقلت: إذا بستشهد أحد سيكون منّا!!!! لأنني أعرف جرأة "ضياء"، واصراره على التصدي لوحشية جنود الاحتلال كبقية الشباب الوطني..

فعلا، بعد ثلاث ساعات اقتحم جيش الاحتلال البلدة فجرا، وكان "ضياء" في المنزل.. اتصل بي أخي" محمد " والده , سألني: هل اتصلت بـ"ضياء" يا أخي؟ بيقول إنك اتصلت به، ويريد الخروج لرؤيتك..

قلت: لا، لم اتصل به قط.. ولا تدعه يخرج اطلاقا،. ممنوع الخروج.. لهذا بقي" ضياء" في المنزل.

لقد لاحظ والده قبل استشهاده بأربعة أيام، مدى تأخره في الليل.. انتظره داخل المطبخ مرة، وكان مصمما على ضربه حال عودته.. صباح اليوم التالي ذهب إلى أرضهم في "الروس".. عندما دخل الغرفة الموجودة في المزرعة، تأكد بأنه كان يحرس المزرعة، وسهر مع اصدقائه، وعندما إلتقيته، سألته: في شيء عليك يابا؟؟

قال: خليها على الله..

طلب سيجارة من والده، أعطاه..أشعلها.. وأخذ ينفث الدخان من فمه وأنفه كأنه يحكي قصة غامضة لم يفهما الأب.

استشهد في الذكرى ألـ(35) لانتفاضة الحجارة الأولى

استحمّ، وتوضأـ وصلّى ركعتين

صباح يوم الخميس- وهو يوم الاستشهاد 8/12/2022م- صادفت الذكرى الـ(35) لانتفاضة الحجارة الأولى.. قال "محمد" والد الشهيد:  استيقظ من نومه مبكرا على غير عادته للذهاب إلى المدرسة، ثم جاءني وطلب منّي(20) شيقلا كمصروف جيب.. فأعطيته ثم خرج قاصدا مدرسته.. عندما عاد من المدرسة بعد انتهاء الدوام كان مرتديا على رأسه قبعة خضراء اللون أهداها له بعض الأشخاص اللذين أدّوا العمرة، قال لجدته "أنيسة": أنا جوعان كثيرا يا ستي.. قدمت له الفريكة مع اللحم، وأكل بنهم.. ولأول مرة في حياته يأكل بهذه الشراهة الملفتة للنظر مع أنه لم يحبها سابقا..

يكمل الوالد: لما رجع طلبت أمه منّي السماح لها بالذهاب إلى مدينة قلقيلية للمباركة لإبنة شقيقتها، وجهزت شنطتها للسفر.. جاءها "ضياء" وسألها: هل القبعة الخضراء حلوة على رأسي يا أمي؟

الأم: لا، ليست حلوة..

- أمانة يا أماه قولي حلوة.. أريد كمان أن أطلب منك طلبا- قبل ما يستشهد بساعة تقريبا- لا تروحي إلى قلقيلية إذا تحبينني وتعزينني..

- خلاص يا بني لن أذهب، وعد..

بعد ذلك، دخل غرفة نوم والديه.. بدأ ينظر إلى المرآة وهو مبتهجا ويضحك، ثم يخرج منها، ويعود إليها ثانية يجول بنظره فيها كأنه يودعها، ثم يسأل أمه: هل تريدين شيئا يا أماه؟ أريد الخروج لمدة ساعة..

تابع والده: كنت جالسا قرب الدوّار بجانب المنزل، جاء إليّ وهو يضحك، وطلب مني(20) شيقلا مرة ثانية، سألته: لماذا تضحك يا ضياء؟

- مبسوط لك يا با..

ركب سيارته "المازدة" المشطوبة.. لفّ بها في شوارع البلدة، ثم عاد يتطلع في وجهي وهو يضحك.. ويضحك، ويقول لي: والله مبسوط لك يابا قدّ الدنيا..

قبل بيوم عند مغيب الشمس، كان يلح عليّ، ويسألني: هل تريد حلق شعر رأسك لتتزين؟

أجبته: أراك متعجلا، فلم العجلة؟

-اذهب وأحلق شعرك، أريد أن أفرح لرؤيتك أنيقا يا أبتي، وفي عندي لك  خبرا سارا سوف تنبسط منه..

بعد ذلك، خرج الوالد من المنزل متوجها إلى بلدة "سلواد" للمشاركة في تشييع جنازة الشهيد"مجاهد حامد" الذي أعدمه جنود الاحتلال بتاريخ7/12/2022م أثناء مطاردته شمال مدينة رام الله..

أصدر والده خارطة لبناء منزل له، وحفر الأساسات

وكلما عرضها عليه يقول له: أعط هذا المنزل لشقيقي.. أنا مشروع شهادة

قبل استشهاده بنصف ساعة اتصل به الوالد من سلواد، وسأله: أين أنت يايا؟

- أنا في المنزل وأريد الخروج..

- تمام، اسمع إذأ، لا تنس الذهاب إلى الأرض، وإغلاق باب الغرفة هناك وأحضر شقيقك "شفيق" معك..

- ولا يهمك يابا.. قبل الخروج، نادى على زوجة عمه"كرم" وطلب منها احضار طفلها الرضيع.. أحضرته له.. لاعبه وداعبه.. حضنه.. وطبع عددا من القبلات على خديه ثم أعاده إلى أمه..

ذهب إلى الأرض كما وعد والده، ورأى شقيقه "شفيق"، سأله شقيقه: إلى أين أنت ذاهب؟

- أريد أن أذهب مشوار ضروري، وسأعود إليك لآخذك معي إلى المنزل.. ثم غادر,,

تابع الوالد حديثه: بعد أربعين دقيقة اتصلت به أكثر من ست مرات، ولم يرد عليّ..عاودت الاتصال بزوجتي"يسرى" وسألتها: هل رجع ضياء إلى المنزل؟

الزوجة: لا، لم يعد..

كلما كنت أعرض عليه خارطة المنزل الذي قررنا بناءه، وحفرنا أساساته، كان يقول لي: أعطِ هذه المنزل لشقيقي"شفيق"، أنا مشروع شهادة يايا..

"يونس" عم الشهيد، لفت انتباهي إلى أنه كان يشاهد طائر البوم يأتي ويحط على برج الاتصالات المجاور لمنزلهم عند الساعة الثالثة فجرا، وعلى مدار يومين قبل الاستشهاد، ويبدأ بالنعيق كأنه نذير شؤم، فكان يخرج على الفور ويطرده..

ترك خلفه الحمام، والأشجار المثمرة

لتحكي للأجيال قصة بطل

لقد كان من بين هواياته، تربية طيور الحمام بيحث يوجد لديه الآن(20) زوجا.. تطير الحمامات في سماء البلدة، أثناء النهار، كأنها تبحث عنه وترسل رسائلها السماوية بهديلها الحزين على فراقه.. لقد كان مهوسا بزراعة الأرض بالأشجار المثمرة.. لقد فارقها لتحكي للأجيال قصة بطل كان يحب أرض الوطن والكفاح في الحياة.

اغتسل، وتوضأ، وصلى ركعتين بعد عودته من المدرسة

وأوصى زوجة عمه بألا تقول لأحد

نعود إلى حديث"عمر": في صباح ثاني يوم الخميس، أنا توجهت إلى دوامي في المخابرات العامة كالعادة، وعدت إلى المنزل عند الساعة الثانية عصرا، وجدت زوجتي في منزل الوالد، وكان "ضياء " موجودا أيضا، نادتني زوجتي "صابرين" ورغبت في ابلاغي أمرا مهما.. دلفنا إلى غرفة مبيت الوالدين،.

 سألتها : ما الأمر يا أم الريماوي؟

- قالت لي: إن ضياء يريد الاستشهاد!! قلت له: يا "ضود" الشهادة تاركة كل الناس وستأتي إليك؟ كنت أمازحه..

 أجابني: لقد اغتسلت، وتوضأت، وصلّيت ركعتين بعد عودتي من المدرسة.. وأوصاني بألا أقول لك حتى لا تمنعه..

جلسنا معا في صالون منزل الوالد، وقلت له: عندما أعود من الأرض سأحاسبك حسابا عسيرا، وحسابك عندي..

ثم طلبت زوجتي منّي أن أحمّم والدي "شفيق"، وأحلق له لحيته نظرا لعدم قدرته بسبب اعتلال صحته وكبر سنه، ربنا يعطيه الصحة والعافية، فما كان منّي إلا أن طلبت من حفيده "ضياء"، وقلت له: حمم جدك، واحلق له لحيته حتى يذهب إلى صلاة الجمعة يوم غدٍ جميل الهيئة، وسأعطيك (50) شيقلا، وأنا سأنقل قضبان الحديد الآن إلى الورشة.. كنت في كل يوم آخذه معي عصرا إلى الأرض والمزرعة، إلا في هذا اليوم طلبت منه البقاء في المنزل لاستحمام جده..

جدته" أنيسة" كان لها رأي آخر، وقالت لـ"ضياء": لا تحمم جدك اليوم، حممه صباح غد الجمعة قبل موعد الصلاة أفضل..

هذه الصّور ممكن أن تكون آخر صوري

أما " أحمد سامح" خال الشهيد، وهو أسير محرر فقد روى لي آخر لحظاته وكلامه معه، قال: قبل أسبوع من استشهاده أخذته مع أولاد أختي إلى مدينة "قلقيلية" وعمهم "طارق"، كنا نضحك ومبسوطين.. دخلنا إلى مطعم معا.. قلت لـ"ضياء" أطلب يا خالي وخسّر خالك.. ضحك، وقال: لست جوعانا، أبن خاله قال: يبدو أنه خجلان.. فسألته: لماذا تخجل؟؟؟ ضحك ثانية وقال: حرام، لا أريد خسارتك.. تناولنا طعام الغداء معا، ثم ذهبنا إلى عرس إبنة خالته "آية"، والتقطنا معا صورا تذكارية، قال ضياء حينها: يمكن أن تكون هذه الصور هي من آخر صوري!

قبل أربع سنوات كان موجود في قاعة مسجد البلدة لفّ نفسه بسجادتين من تحته وفوقه ثم وضع شنطتة المدرسة تحت رأسه، وصار يمثل كأنه شهيد، كما كرر ذلك قبل يومين من استشهاده حيث لفّ نفسه بالعلم الفسطيني وراية حركة "فتح" الصفراء واستلقى على أرض منزل قيد الإنشاء، وسأل من كان يقف حوله: أريد أن أرى منكم كيف ستودعوني يوم الاستشهاد..كان بحوزة الشباب بعضا من ماء زمزم حصلوا عليه ممن أدوا العمرة، فقالوا له: اشرب من ماء زمزم وتمنى..

سألهم: إذا شربت من الماء ماذا سيحصل معي؟

- الله سيحقق لك أمنيتك..

شرب الماء، ودعا ربه أن يعجل له الشهادة!!

لا تبكين يا خالاتي وأمي، وزغردن يوم عرس الشهادة

يضيف أحمد": لقد كان قبل شهرين يردد كلاما غريبا أمام خالاته وأمه، ويوصيهن في حال استشهاده ان لا تبكي يا أمي، وزغردن لي يا خالاتي..

سألته أمه: وإذا لم تستشهد؟

أجاب: سأذهب إلى عند خالي الأسير" وليم" القابع في معتقل "عوفر الصهيوني..

في أحد الأيام أبلغني أخي المعتقل بأن" ضياء" يذهب إلى قرية "النبي صالح" مع الشباب.. صرت اقنع في ضياء بألا يذهب إلى هناك، فعاجلني بقوله: جميع أخوالي اعتقلوا، فلماذا لا أعتقل أنا.. ثم وعدني بعدم الذهاب إلى هناك، لكنه ذهب يوم الاستشهاد إلى قرية "عابود" المجاورة لنا...

لقد كان جده"سامح" والد أمه يرقد في مستشفى رام الله، جاءني اتصال يقول لي: بأن "شفيق" الشقيق الأصغر لضياء هرب من مدرسة " رواد الغد" وذهب إلى مدرسة بشير البرغوثي.. على الفور اتصلت بالأستاذ" بسام" وسألته عن "ضياء" هل هو موجود أم لا في المدرسة؟

أجابني: ضياء موجود في المدرسة..

اتصلت بـ"ضياء"، وسألته: كيف انتما؟ وأين شقيقك "شفيق"؟ قال" نحن تمام.. طلبت منه العود إلى المنزل سريعا، لرؤيتهما هناك..

جهّزت والدي المريض، وعدت به إلى البلدة.. طلب منّي والدي أن أرسله إلى منزل أختي أم الشهيد قبل نصف ساعة من الاستشهاد، قلت: يا والدي انت تعبان، خلينا نذهب إلى منزلنا..قال: لا، خذني إلى هناك..

نزولا إلى عند رغبته ارسلته إلى هناك.. كان "ضياء" موجودا.. استقبل جده أيما استقبال، واطمأن عليه، ثم روّح سيده بنفسه.. ثم عاد وأخذ إخوته وجده" شفيق" وجال بهم بسيارته "المازدا" داخل شوارع البلدة.. من عادته دائما يصطحب جده، ويلف به للترويح عنه، وقتل ملل المكوث في المنزل بسبب المرض..وكان أحن واحد عليه، يحممه باستمرار، ويحلق له، ويوضّبه..وعند الساعة(3,45) طلب من جدته" أنيسة"عشرين شيقلا لتعبئة السيارة بالبنزين.. أعطته، ثم غادر..

ذهبوا  في نزهة راجلة مشيا على الأقدام

فقابلهم جنود الاحتلال بوابل من الرصاص

كان يقود سيارته بسرعة، وعجلاتها تنهش سطح الشارع نهشا، اتصل بأصدقائه من طلبة التوجيهي الذين رغبوا بالتفسح في أحضان الطبيعة للترفيه عن أنفسهم من ضغط الدراسة والحشر في غرف منازلهم تحضيرا لامتحانات الثانوية العامة، تجمعوا.. وتطوع "ضياء" بنقلهم في سيارته لزيارة صديقا لهم فاتح مغسلة في قرية"عابود" المجاورة- يذكر أنه الوحيد بينهم في الصف الحادي عشر- اثناء ذهابهم باتجاه "عابود" توقفت السيارة عن السير في منتصف الشارع الصاعد تجاه"عابود" من الناحية الشمالية( طلعة واد عابود) بسبب نفاد البنزين منها، تقاسموا ثمن البنزين وذهبوا إلى "عابود" وابتاعوا بـ(27) شيقلا بنزين للمركبة من محطة المحروقات الموجودة هناك، وعادوا إلى السيارة.. زوّدوها بالبنزين ثم واصلوا سيرهم حتى وصلوا صديقهم المذكور.. رحّب بهم.. جلسوا عنده لمدة خمس دقائق، وكانت الساعة تشير إلى(4.15) بعد العصر، ثم ذهبوا معا في نزهة راجلة مشيا على الأقدام سلكوا طريقا ترابيا تجاه منطقة تدعى" القطوع"، بعدما تركوا السيارة متوقفة،هذه المنطقة تابعة لأراضي القرية، وتمتاز بكثرة صخورها ووعورتها وتمتد إلى الشارع العام من الناحية الجنوبية الذي تتموضع على جانبية ثلاثة أبراج مراقبة عسكرية إسرائيلية، إثنان منها في أراضي "عابود"، والثالث مقابلهما في أراضي قرية "دير أبو مشعل".. عندما اقتربوا من حافة الشارع المذكور وهي مرتفعة عن الشارع، كانت الأبراج العسكرية على يسارهم، وهناك جيب عسكري متوقف على يمينهم، ويقف على جانب الشارع من الأمام مستوطن صهيوني بسيارته ويجري اتصالات من خارجها.. هذا ما شاهده الشباب وهم يسيرون ويتمازحون، ويتحدثون عن مثابراتهم في الدراسة لتحصيل نتائج مرضية تؤهلهم لدخول الجامعات والتخصصات التي يرغبونها.. لم يعلموا بوحود أفراد من جيش الاحتلال يختبؤون بين الصخور، ولا بالكمائن العسكرية الإسرائيلية بين الصخور، ولم يعلموا ما يُخبأ لهم ويدور في هذه المنطقة..

لحظة الاستشهاد، رفع سبابته إلى أعلى..نطق الشهادتين،

وقال بحشرجة وصوت متقطع: سلموا لي على أبي

عندما اقتربوا من حافة الشارع، تفاجأوا بإطلاق الرصاص العشوائي وبكثافة تجاههم من قبل جنود الاحتلال من داخل الأبراج، ومن المختبئين بين الصخور من جميع الاتجاهات، من الجنوب، والغرب، والشرق، ومن مسافة قربة جدا ما بين(30-40) مترا مما أدى إلى إصابة " ضياء محمد شفيق الريماوي" البالغ من العمر (16.5) سنة بإصابتين مباشرتين واحدة بالصدر من الناحية اليمنى، وخرجت الرصاصة من ظهره تاركة شقا كبيرا، والثانية في خاصرته اليمنى، وكذلك أصيب" هشام حيدر الريماوي"17 سنة،  وقعا على الأرض فورا ثم صار"هشام" يصيح بصوته، ويقول" تصاوبنا.. تصاوبنا.. أما "ضياء" فرفع سبابته إلى أعلى.. نطق الشهادتين، وقال بصوت متقطع و بحشرجة: سلموا لي على أبي.. وفارق الحياة مسربلا بدمائه الزكية، ثم أحاط بهما جنود جيش الاحتلال، وتركوهما على الأرض ينزفان، ومنعوا الاقتراب منهما.. أما بقية الأصدقاء فكانوا يسيرون في الخلف لحظة اطلاق الرصاص، عادورا إلى الخلف يركضون ورصاص الجنود يتطاير من حولهم، وأصابوهم بجراح في الأرجل والكتف، ولاحقوهم تحت وابل من الرصاص، وهما: علي فادي الريماوي17 سنة أصيب في ساقه، ومجد طارق الريماوي 17 سنة أصيب بإحدى كتفيه، لكنهما ومن معهما تمكنوا من الركض لمسافة (200) متر باتجاه "عابو" وهم مصابين بجراح نازفة، وصار بعضم ينادي على أهل القرية لإحضار الشهيد والجريح الآخر.. ذهب عددا من الشباب إلى هناك في محاولة لإنقاذهما إن أمكن، فوجدوهما محاطين بجنود الاحتلال.. منعهم الجنود الاقتراب منهما تحت تهديد السلاح.. لقد شاهدوا إمراة من قرية" دير أبو مشعل" تصرخ وهي تطلب من الجنود السماح لها برؤية الشهيد والجريح معتقدة بأن أحد أنجالها بينهما.. أخيرا، وبعد اصرارها الشديد، سمحوا لها برؤيتهما و تأكدت بأنه لا يوجد أحد من أبنائها.. عادت أدراجها وهي تبكي وتذرف الدموع على ما شاهدته من جريمة بحق فتيان عُزَّل لا يحملون معهم شيئا سوى أحلامهم..

أعود لأصدقاء الشهيد الذين تمكنوا من الهرب والإفلات من أرهاب حنود الاحتلال.. عندما وصلوا داخل قرية"عابود" ركبوا سيارة الشهيد على الفور وعادوا إلى المركز الصحي في بلدة بيت ريما لاسعافهما ومن ثم تم تحويلهما إلى المشافي في رام لله..

تمت مواراة جثمانه الطاهر بجوار الشهيدين "جواد وظافر" في مقبرة البلدة بناء على وصيته للأصدقاء.

عقب الجريمة النكراء، يقول عمه" عمر": اتصل بي "يونس" ابن عمة الشهيد وأبلغني بأن أربعة شبان من بلدتنا أصيبوا بجراح.. وصل منهم إثنان إلى العيادة، وبقي إثنان يحتجزهما جنود الاحتلال قرب عابود، و"ضياء" واحد منهما.. اتصلت على وجه السرعة بوالده"محمد"، وسألته: أين أنت؟ أجابني: في بلدة سلواد، أشارك في جنازة شهيد.. قلت له: ضياء متصاوب قرب عابود، وجنود الاحتلال يحيطون به ومانعين نقله واسعافه.. بعد ذلك، صرت اسمع أقوال متضاربة من الشباب حول من هو الجريح، ومن هو الشهيد؟؟ لكن قلبي كان دليلي، قلت لهم: قلبي بيقول بأن الشهيد هو "ضياء"..

من ناحيته" أحمد" خال الشهيد يقول: جاءتني جدته تبكي وهو تقول: ضياء متصاوب ويحتجزه جنود الاحتلال.. شغلت السيارة، وذهبت إلى قرية" النبي صالح" حتى وصلت الحاجز العسكري.. لم أرَ شيئا.. أتصلت بها وأبلغتها بأنه لا يوجد شيء في النبي صالح، ثم قفلت راجعا.. وتوجهت إلى ميكانيكي سيارات على الشارع العام في قرية النبي صالح.. سألني: "شو صار مع المصابين برصاص الاحتلال ما بين عابود ودير أبو مشعل؟" حينئذ، أيقنت أن المصابين هناك.. ذهبت بسيارتي إلى هناك.. شاهدت وجود ما لا يقل عن عشرين جنديا إسرائيليا مع خمسة جيبات عسكرية يغلقون الشاع العام بالحجارة والجيبات، وفي حالة استنفار وحشي.. توقفت ثم فتحت باب السيارة.. عندما هممت بالنزول منها سحب بعض الجنود سلاحه وصوّبه نحوي.. قلت له: طخ.. هجم عليّ وأمرني بعدم النزول واغلاق الباب.. وصار يغلط ويتلفظ بكلمات جارحة.. سمعت المسؤول عنهم يقول لهم: يبدو هذا قريبهما.. وطلب منهم الصعود إلى جيباتهم العسكرية.. سألت الجندي: أين المصابين؟ فلم يرد أحد.. بعد منعي، عدت بالسيارة حتى وصلت قرب مستعمرة" حلميش" الصهيونية القريبة من النبي صالح، هناك تصادفت مع سيارة إسعاف مسرعة قادمة من رام الله باتجاهي؟ قلبت وجه سيارتي، ولحقتها .. كانوا مانعين اقتراب الناس وسيارات الاسعاف لأكثر من نصف ساعة، بعد ذلك جاءت سيارة اسعاف إسرائيلية ونلقوا الشهيد والجريح باتجاه قرية "رنتيس" الواقعة على حدود الخط الأخضر ومن هناك تم تسليم جثمان الشهيد إلى الاسغاف الفلسطيني، فيما اعتقلوا الجريح في الفخذ "هشام" ونقلوه إلى مشفى"شنايدر" الاسرائيلي داخل فلسطين التاريخية.. بعد ذلك بعث لي أحد المسعفين من سيارة الاسعاف التي حملت الشهيد صورة للشاب الشهيد..تمعنت فيها.. فتأكدت أن الشهيد هو "ضياء".. كان يرتدي على رأسه قبعة خضراء اللون، وبلوزة سوداء اللون مع بنطال أسود اللون، وكان شباحه الداخلي غارقا بدمائه الطاهرة..

عندما تلقى والده" محمد" خبر استشهاده، ردد كلمات: الله أعطى والله أخذ.. الله أعطى والله أخذ.. وأثناء وداعه قبّله وهو يوصيه: سلم يا ولدي على جميع الشهداء وعلى عياش...

أوصى بدفنه بجانب الشهيدين"جواد وظافر"

وأن تزغرد والدته ولا تبكيه

تم تنظيم جنازة مهيبه له بحيث انطلق موكب الشهيد من مجمع فلسطين الطبي برام الله بجنازة عسكرية تكريما له، وشاركت الفعاليات الجماهيرية والقوى الوطنية والإسلامية، وجماهير غفيرة في مراسم تشييع جثمانه الطاهر ملفوفا بالعلم الفلسطيني والكوفية في بلدة "بيت ريما" تتقدمهم والدته" يسرى الريماوي" حاملة مقدمة نعش فلذة كبدها على كتفيها، مرفوعة الجبين، وهي تزغرد له تنفيذا لوصيته لها قبل استشهاده، كأنها تزف العريس في عرس الشهادة وسط الحناجر الهادرة الهاتفة لفلسطين، ولعلعة البارود. كما ألقيت الكلمات الوطنية المنددة بجرائم الاحتلال بحق الأطفال، والتي تؤكد على تشبث شعبنا بكفاحه ضد الاحتلال الغاشم من أجل إنجاز حقوقه الوطنية المشروعة. وتمت مواراة جثمانه الطاهر بجانب الشهيدين "ظافر وجواد" كما أوصى الشهيد أصدقاءه .

من المثير للاشمئزار أن سلطات الاحتلال تتهم طلبة المدارس هؤلاء وراء عمليات إرباك، واستهداف جنود الاحتلال، والمستعمرين الصهاينة بالحجارة والزجاجات الحارقة!!!

قتلوا الطفلة "جنى" بوجود "فرجينيا غامبا"

ممثلة الأمين العام للامم المتحدة في فلسطين

الغريب أيضا، وصول الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة "فيرجينيا غامبا" المعنية بالأطفال في ظل النزاعات المسلحة إلى الكيان الصهيوني المصطنع بتاريخ11/12 للتحقيق عن كثب لوضع إسرائيل على القائمة السوداء الخاصة بالدول التي تؤذي وتقتل الأطفال. في مساء نفس اليوم أعدم جنود الاحتلال الطفلة "جنى زكارنه" 16 سنة من جنين بأربع رصاصات بالرأس، وهي على سطح منزلهم تطعم قطتها بيضاء اللون، وتلهو معها؟؟؟ بهذه الجريمة الوحشية استخف الكيان الصهيوني بمهمة ممثلة الأمم، وبالقانون الدولي، وحقوق الأطفال...هذا هو ديدن النازيين والفاشيين.. والمجد للشهداء.

عندما زرتهم في البيت  لكتابة القصة ، جلس جده "شفيق" بجواري بعيون دامعة، يبكيه بحرقة، وبيده اليمنى يمسِّد على لحيته، وهو يقول:" يا عمي كان ناوي يحلق لي لحيتي و يحممني صباح غد الجمعة لكنه استشهد وراح الحنون، وظلت لحيته على ما هي حدادا عليه ينتظر عودة الشهيد..

هذه هي قصة بطل آخر من أبطال بيت ريما، نذر روحه، وحياته للوطن، وما بدّل تبديلا.

ولد "ضياء" في ظروف: المجازر، وقتل الأطفال، والاغتيالات، والعدوان العسكري، واستشهد في نفس الظروف: اقتحامات ، واعدامات، وقتل أطفال أبرياء، واغتيالات...

قال تعالى: ولا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون. صدق الله العظيم

***
صورة الشهيد ضياء الريماوي



 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف