الأخبار
إعلام إسرائيلي: إسرائيل تستعد لاجتياح رفح "قريباً جداً" وبتنسيق مع واشنطنأبو عبيدة: الاحتلال عالق في غزة ويحاول إيهام العالم بأنه قضى على فصائل المقاومةبعد جنازة السعدني.. نائب مصري يتقدم بتعديل تشريعي لتنظيم تصوير الجنازاتبايدن يعلن استثمار سبعة مليارات دولار في الطاقة الشمسيةوفاة العلامة اليمني الشيخ عبد المجيد الزنداني في تركيامنح الخليجيين تأشيرات شنغن لـ 5 أعوام عند التقديم للمرة الأولىتقرير: إسرائيل تفشل عسكرياً بغزة وتتجه نحو طريق مسدودالخارجية الأمريكية: لا سبيل للقيام بعملية برفح لا تضر بالمدنييننيويورك تايمز: إسرائيل أخفقت وكتائب حماس تحت الأرض وفوقهاحماس تدين تصريحات بلينكن وترفض تحميلها مسؤولية تعطيل الاتفاقمصر تطالب بتحقيق دولي بالمجازر والمقابر الجماعية في قطاع غزةالمراجعة المستقلة للأونروا تخلص إلى أن الوكالة تتبع نهجا حياديا قويامسؤول أممي يدعو للتحقيق باكتشاف مقبرة جماعية في مجمع ناصر الطبي بخانيونسإطلاق مجموعة تنسيق قطاع الإعلام الفلسطينياتفاق على تشكيل هيئة تأسيسية لجمعية الناشرين الفلسطينيين
2024/4/26
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

"الديوان في الأدب والنقد" للعقاد والمازني

تاريخ النشر : 2022-12-22
"الديوان في الأدب والنقد" للعقاد والمازني

بقلم: د. إبراهيم عوض

صدر هذا الكتاب فى جزأين: الأول سنة 1920م، والثانى سنة 1921م، ومؤلفاه هما الكاتبان الكبيران عباس محمود العقاد وإبراهيم عبد القادر المازنى. وقد بسطا فيه مذهبهما الأدبى من خلال الهجوم على أشهر شاعر وأشهر ناثر فى عصرهما: أحمد شوقى ومصطفى لطفى المنفلوطى، واختص العقاد بنقد شوقى، أما المنفلوطى فقد كان من نصيب المازنى، الذى لم يكتف به بل أضاف إليه عبد الرحمن شكرى رغم أن شكرى كان يَشْرَكُه هو والأستاذ العقاد فى الاتجاه الأدبى لدرجة أن العقاد ومؤرخى الأدب يعدونه أحد أعضاء مدرسة "الديوان". ولا شك أنها مفارقة غريبة: أن يُعَدّ شكرى أَحَدَ الأعمدة الثلاثة التى تقوم عليها مدرسة الديوان مع أنه لم يكتب حرفا واحدا فى الكتاب الذى سُمِّيت هذه المدرسة باسمه، بل رغم تعرضه فيه لهجوم ساحق.

وأرْجَحُ الظن أنه لولا الجفوة التى حدثت بين المازنى وشكرى قبل صدور كتاب "الديوان" مما سنشير إليه لاحقاً لكان شكرى قد شارك زميليه فى تأليف هذا الكتاب. لقد كان الأصدقاء الثلاثة قبلاً يتبادلون تقديم أشعارهم، ومن ذلك مثلا المقالاتُ التى كتبها المازنى عن شكرى فى جريدة "عكاظ" ابتداءً من 27 يوليه 1913م ورفع فيها شعره إلى السماء العالية، وجعل البيت الواحد منه يَفْضُل شعر حافظ كله مؤكدا أنه هو النموذج الذى ينبغى أن يُحْتَذَى. لكنْ حدث بعد ذلك بسنوات أَنْ كَتَبَ شكرى فى مقدمة الجزء الخامس من ديوانه يلفت الأنظار إلى ما اكتشفه فى بعض قصائد المازنى ودراساته، أو دلَّه عليه بعض الأدباء، من تشابهات قوية مع طائفة من القصائد والمقالات الغربية مما لا يمكن أن يكون مرجعه إلى توارد الخاطر. وقد آلمت هذه الملاحظات المازنى وردّ عليها فى جريدة "النظام" وفى مقدمة الجزء الثانى من ديوانه، لكن شكرى عاد فطرق الموضوع كرة أخرى فى مجلة "المقتطف"، كما نقد شعر المازنى والعقاد فى "عكاظ" فى عامى 1919م و 1920م بتوقيع "ناقد"، وكان صاحب هذه المجلة يعقِّب على ما يكتبه شكرى تعقيبات جارحة لزميليه، فما كان من المازنى إلا أن اهتبل فرصة ظهور كتاب "الديوان" له وللعقاد وعَقَد فصلا فى الجزء الأول منه فَوَّقَ فيه سهامة السامة إلى شكرى ملقبا إياه بـــــــ "صنم الألاعيب"، ثم أضاف إليه فى الجزء الثانى فصلاً آخر اتهمه فيه بالجنون أو على الأقل بأن فيه استعداداً للجنون، مع الزراية الشديدة على شعره وعقله وذوقه الفنى متناسيا ما كان قد ضَفَره له قبلا من عقود المديح الولهان.

وقد ذكر عبد الحى دياب أن المازنى قد فعل ذلك من وراء ظهر العقاد، الذى كان حريصا على ألا ينفرط عِقْد جماعتهم، إذ استغل فرصة سفر العقاد إلى أسوان بعد الدفع بالجزء الأول من الكتاب إلى المطبعة وألحق به الفصل المسمَّى "صنم الألاعيب"[1]. إلا أن من الصعب الاقتناع بمثل هذا التفسير، وإلا فكيف سمح العقاد له بأن يوالى الهجوم على صديقهما فى الجزء الثانى؟ أم تراه قد سافر هذه المرة أيضاً إلى أسوان وترك الإشراف على طباعة الكتاب كرة أخرى للمازنى؟ أم إن المقالات العنيفة التى رد بها شكرى على المازنى ونال فيها منه ومن العقاد نيلا جارحاً قد أنست العقاد ما كان يدعو إليه رفيقه من ضبط النفس حفاظاً على تماسك الجماعة وعدم إيلام شكرى، الذى كان مريضا بالنورستانيا كما يقول د. دياب؟ الواقع إنها لمسألة محيِّرة.

كذلك من الصعب موافقة د. دياب على أن شكرى هو الذى بدأ بالعدوان عندما أشار إلى ما أخذه المازنى من الشعراء والكتاب الغربيين، وبخاصة أن الأستاذ الدكتور لا ينكر هذا الأخذ، لأن المسألة ليست أن شكرى قد قال فى المازنى ما قال، ومن ثم فمن حقّ المازنى أن يرد العدوان بمثله، إذ ما دام المازنى قد سرق بعض قصائده وفصوله من الآداب الغربية فمن الظلم اتهام شكرى بالعدوان، لأن قول الحق ليس عدوانا، ومن ثم فإن الهجوم القاسى الذى شنَّه عليه المازنى ليس من باب ردّ العدوان. صحيح أنه يمكن القول بأن شكرى كان يعلم منذ وقت مبكّر بأمر هذه السرقة، لكنه آثر غَضَّ البصر عنها إلى أن يفرغ المازنى مما كان يغدقه عليه وعلى إبداعه الشعرى من ثناء، ومن الممكن أن يؤخذ هذا على شكرى من الوجهة الأخلاقية، بَيْد أن من الممكن أيضاً الجواب بأن شكرى لم يمنعه ثناء المازنى الجمّ عليه وعلى شعره أن يجهر بكلمة الحق، وإن تأخرت بعض الشىء عن موعدها. وبالمثل يؤخذ على شكرى أنه، رغم انتقاده للمازنى لأَخْذ بعض معانيه من الشعراء والكتاب الغربيين، قد فعل الشىء ذاته على نحو أو على آخر باعترافه هو نفسه[2]، وهذا مما يزيد المسألة تعقيدا. وقد اتهمه المازنى بنفس التهمة فى الغارة التى شنها عليه فى "الديوان"، وإن لم يفصّل القول، لكنه قد رجع بعد عدة سنوات عن كل ما قاله فى حق صديقه معتذراً بأنها فورة شباب، وكتب فى "السياسة" ثلاثة مقالات يترضاه فيها مقرّا بتلمذته له ومؤكدا أن الزمان مُنْصِفُه دون أدنى شك[3]، لكن بعد أن كان شكرى قد انفصل عن صديقيه وترك لهما الميدان يحملان وحدهما عبء الدعوة الأدبية التى كان يشاركهما فيها قبل أن يقع بينه وبين المازنى ما وقع.

قلتُ إن العقاد قد اختصّ بنقد شوقى، على حين أن المازنى قد تكفّل بالمنفلوطى وقصصه، ثم أضاف إليه الهجوم على شكرى. ونبدأ بالعقاد، ولكن تنبغى الإشارة إلى أنه كان قد مسَّ شوقى بنقده قبل ذلك بسنوات، إذ تناول فى كتابه "خلاصة اليومية"، الذى نشره سنة 1912م، بعض أبيات مرثيته فى بطرس غالى، وهى القصيدة التى سيتناولها بالتفصيل بعد ذلك فى كتاب "الديوان"[4]. بل بدأ قبل ذلك بسنوات. كما أنه فى "خلاصة اليومية" أيضاً قد أكد أن الأديب الحقيقى هو الذى تتجلى روحه واضحة فى كتاباته، وأنه لا بد فى الشعر من الإحساس الصادق، وهو ما نسميه بالتجربة الشعرية الحقيقية. وقد كرر هذا الكلام فى مقدمته التى كتبها للجزء الأول من ديوان المازنى بعد ذلك بسنتين، حيث عاب على الشعراء لجوءهم إلى تقليد القدماء والاستغراق فى الماضى، وهذه أيضاً إحدى الأفكار التى دعا إليها بمنتهى القوة فى كتاب "الديوان". وحَدَثَ أن بعض الصحف الموالية لشوقى أخذت تهاجم العقاد والمازنى وتغضّ من شأنهما وتُشِيد بشوقى وشعره إشادة هائلة (وذلك عند رجوعه من منفاه فى إسبانيا، التى أبعدته إليها هو وأسرتَه سلطاتُ الاحتلال البريطانى أثناء الحرب العالمية الأولى)، وهو ما استفز كاتبينا ودفعهما إلى تأليف "الديوان فى الأدب والنقد" للردّ على هذا الهجوم بهجوم مثله وربما أعنف منه[5]، وإن لم يقتصر الهجوم على شعر شوقى بل تعاده إلى المنفلوطى وشكرى كما سلف القول.

والآن مع الفصول التى كتبها العقاد عن شوقى فى كتاب "الديوان", وقد مهَّد كاتبنا لهذه الفصول بتوطئة عن شخصية شوقى اتهمه فيها بالحرص المذلّ على الشهرة واتباع الوسائل غير الشريفة فى بلوغها مستغلا وظيفته فى البلاط الخديوى وصِلَته بالصحف المرتبطة بذلك البلاط حتى إنها، رغم امتلائها بالمقالات التى تنقد الأدباء المشهورين، لَتخلو تماماً من نقد شوقى فى الوقت الذى تخلع عليه الألقاب الطنانة وتسرف فى تقريظ شعره إسرافاً غير كريم. كذلك عاب العقاد ذوق طائفة الكتَّاب الواغلين على دنيا النقد والذين يقوّمون الشعراء على حسب مناصبهم وألقابهم: فالشاعر "الباشا" عندهم أفضل من الشاعر الملقب بـــــ "البك"، وهذا يتفوق على من لم يكن له من الألقاب إلا لقب "الأفندى"... وهلُمّ جَرّا. ومثل هؤلاء لا يُنْتَظَر منهم إنصاف فى النقد والتقدير الأدبى لأنهم لا يستعملون مقاييس أدبية بل مقاييس أخرى لا علاقة لها بالأدب والإبداع من قريب أو بعيد. وواضح أن مثل هؤلاء الكتاب لا يكمن أن يكون لهم رأى طيب فى العقاد وأشباهه ممن لا ألقاب لهم. كذلك تحدث العقاد فى هذه التوطئة عن جهل شوقى ومشايعيه من الكتّاب بأطوار النفوس، إذ إن الإلحاح المستمر على تقريظه وحده والإشادة الطنانة بشعره دون سائر الشعراء كفيلٌ، مع الأيام، بإملال القراء وصَرْفهم عنه إلى غيره، لأن السأم من اللون الواحد الذى لا يتغير أبدا هو جزء من الطبيعة البشرية. ثم يختم العقاد توطئته معلنا أنه، بهذه الفصول، إنما يعمل على إرساء المعيار الصحيح فى تذوق الشعر وتقديره، وهذا المعيار (كما يقول) كفيل بهداية الأمة إلى المعيار الصحيح فى كل شىء، لأن الأمة إذا توفرت لها صحة الذوق والشعور فقد توفر لها الأساس السليم لكل تقدم ورقىّ.

ثم ينتقل العقاد بعد ذلك إلى رثاء شوقى فى محمد فريد. وهو لا يُنْكِر على أمير الشعراء تمتُّع شعره بما كان ينقص شعر العصور المنحطة فى الأدب العربى من إحكام الرَّصْف وسلاسة الأسلوب، لكنه يسارع قائلاً إن هذه الأشياء قد أصبحت أمرا عادياً الآن بحيث لم يعد القراء يتوقفون عندها طويلا بعد أن دبت الحياة فى الآداب العربية بنشر الدواوين والكتب التى ألفها كبار الشعراء والأدباء من العرب القدماء أو من الإفرنج واطّلاع الناس عليها وتنبههم إلى أن مرونة الأسلوب وحلاوة الكلام ليست أمراً إدّاً، فضلاً عن أن تكون هى كل شىء فى الأدب. ويمضى العقاد قائلا إن شوقى قد أحسَّ بتغير الأذواق من حوله، إلا أنه كان أعجز من أن يقدّم ما هو أفضل، وذلك لضحالة ثقافته وجمود موهبته على وضع لا تستطيع أن تحيد عنه.

وتكمن مآخذ العقاد على هذه المرثية فى أن المعانى التى دار عليها ما سمّاه شوقى بــــــــ "فلسفة الموت" هى معانٍ جِدّ عادية بل أقلّ من العادية كقوله مثلا فى مطلعها:

كلّ حىّ على المنيّة غادى تتوالى الرَّكَابُ، والموتُ حادى

ذهب الأولون قَرْناً فقَــــــــــــــــــــــــــــرْنَاً لم يَدُمْ حاضرٌ ولم يَبْقَ بادى

هل ترى منهمو وتمسع عنهم غير باقــــــــى مآثــــــرٍ وأيــــــــــــادى؟

إذ هو كلام لا يزيد عما يردده الشحاذون فى الطرقات حين يصيحون تحنينا لقلوب الناس عليهم: "دنيا غرور! كلّه فانى! الذى عند الله باقى! يا ما داست جبابرة تحت التراب! من قدَّم شيئا التقاه!... إلخ"[6].

كما يسخر كاتبنا من قول شوقى:

سِرْ العمر حيث شئت تُؤَبَّن وافقد العمر لا تَؤُبْ من رُقادِ

ذلك الحقُّ لا الذى زعموهُ فى قديم من الحديث معــــــــــــــــــــادِ

لأنه يدافع عن قضية لا وجود لها، إذ مَنْ مِنَ البشر قديما أو حديثاً يعتقد أن الموتى يعودون إلى الدنيا رجعة أخرى حتى يهبّ شوقى مسفِّها عقيدتهم ومؤكدا أنه لا رجعه إلى الحياة الدنيا ثانيةً بعد الممات؟ وفضلاً عن ذلك فإن فى البيتين خشونة، إذ يَجْبَه شوقى قارئه قائلاً: "وافقد العمر لا تؤب من رقاد"، وكان يجب أن يتلطف فى إيراد هذا المعنى بطريقة تخلو من هذه الخشونة.

أما فى قوله:

تَطْلُع الشمس حيث تلطع صُبْحاً وتنحَّى لمنجــــــــــلٍ حصَّـــــــــــــــــــــــــــــــــــادِ

تلك حمراء فى السماء، وهــــــــــــــــــــذا أعوج النصل من مِرَاس الجلاد

فإنه، حسبما يقول العقاد، يُسِفّ إلى المستحيل من المعانى، إذ معنى كلامه أن الموت لا يصيب الإنسان إلا صبحا حين تبزغ الشمس من أفقها الشرقى حمراء، وإلا فى الليالى التى يكون فيها العمر منجلاً حصَّاداً، أى هلالا، أما فيما عدا هذه الأوقات فلا خشية على الناس من بغتة الأجل. وليس من شك فى أن العقاد على صواب فيما قال.

وإذا كان شوقى قد عارض المعّرى فى داليته التى يرثى بها صديقه أبا حمزة الفقيه فإن العقاد يؤكد أن مرثية شوقى لا تستطيع أن تصمد للمقارنة مع قصيدة المعرى، التى يرى أنها بلغت مرتقى سامقا فى دينا الفن والفكر حيث تغلغلت إلى أعمق أسرار الموت وربطت بين جميع مظاهر الوجود، وهو ما يدل على أن الموت عنصر أصيل من عناصر الحياة، فإن الكائنات كلها من أحياء وجمادات مصيرها إلى انحلال وفساد مهما طال بها الأمد ومهما تباعدت مواقعها فى أرجاء الكون، أما قصيدة شوقى فهى ضحلة الأغوار الفنية والفكرية[7]. ولقد سبق أن نظرتُ فى نوينة شوقى التى نظمها فى إسبانيا يعارض بها ابن زيدون فى "أضحى التنائى بديلا من تدانينا" فأَلْفَيْت الفرق بين الشاعرين كبيرا، إذ كانت نونية ابن زيدون فى رأيى ولا تزال إبداعاً لا يمكن لأحدٍ الاقتراب منه[8].

ومما أخذه العقاد على خصمه فى هذه المرثية أيضاً اتهامه بأنه، فى تشبيهاته واستعاراته، إنما يجعل وُكْدَه تشبيه شكل بشكل أو لون بلون، مع أن الصور البلاغية إنما جُعِلت للترجمة عن مشاعرنا تجاه الأشكال والألوان. لقد قال شوقى فى تلك المرثية عن الهلال إنه منجلٌ حصادٌ اعْوّجَّ نصله من طول ممارسة الِجلاد، فرأى العقاد أن شوقى لم يفعل أكثر من تشبيه شكل الهلال بشكل المنجل، يقصد أن كلا منهما له هيئة القوس، وإلا فما علاقة الهلال، فيما عدا ذلك، بالمنجل أو الجِلاد؟ ومثل هذا الشعر يسميه كاتبنا "شعر القشور والطلاء"، أما الشعر الذى يريده فهو "شعر الطبع القوى والحقيقة الجوهرية".

فهذا ما أخذه العقاد على شوقى فى مرثيته لمحمد فريد، لكن هذا ليس كلَّ ما عابه على شعر خصمه، إذ تهكم به أيضا تهكما لاهبا عند تناوله لرثائه فى عثمان غالب العالم الجليل الذى تحولت مرثية شوقى فيه إلى هزل مضحك، وهو ما يدل على سقم الذوق، وإلا فأى شىء تثيره فينا هذه الأبيات منها غير الضحك؟ لنسمع:

ضجَّت لمصرع غالــــبٍ فى الأرض مملكةُ النبـــــــات

أمستُ بتيجان عليـــــــــــــ ـــــــــــــه من الحداد منكِّسات

قامت على ساقٍ لغيــــــــ ــــــــــبته وأقعـــــــدت الجهات

فى مأتم تَلْقَى الطبيــــــــــــ ـــــــــــــــعة فيه بين النائحات

وترى نجوم الأرض من جزعٍ موائـــــــــــــــدَ كاسفـــــات

والزهر فى أكمامه يبكى بدمع الغانيـــــــــــات

حبست أقاحىّ الربى والعهد فيها مومضـــــــات

وشقائق النعمان آ بت بالخـــــدود مُخَمَّشات

وكما ترى فإن المعانى والصور التى تتضمنها هذه الأبيات لا أساس لها غير الوهم والاعتساف. وبحقٍّ تساءل العقاد ساخراً: "ماذا كان من شأن القطن بأصنافه؟ وماذا صنع القمح والشعير؟ بل ماذا صنع البصل والكرات والملوخية والقثاء فى ذلك المأتم العميم...؟ ... وماذا كان يمنعه أن يقول...:

طرِبَتْ لمصرع غالبُ فى الأرض رسل الحُمِّيَات

قد مات غالبُ جُنْدِها فتمردت بعد الممــــــــــــــــــــات

أمست جراثيم الملاريا من ســــــــــــــرورٍ ظاهــــــــــــــــرات

وتفرَّقَ التيفوس والتيـــــ ــــــفود فى كل الجهــــــــــــــــات

وتألب المكروب والبكـــــ ــــــــتيِريا بعد الشتــــــــــــــــــــــات

وبكت قوارير الصيــــــــ ـــادل بالدموع السائلات

كذلك يأخذ العقاد على شوقى الإحالة، أى الإتيان بالمبالغات السخيفة غير المقبولة أو المستحيلات التى تناقض نظام الكون، وذلك فى قوله يخاطب العاِلم الفقيد:

عثمانُ، قم تَرَ أيةً اللهُ أحيا الموميات

إذ كيف يطالبه بالقيام من الأموات (وهذه لو وقعت لكانت آية الآيات) ليشهد إحياء الموميات، وهو لا يزيد عن آية عودته إلى الحياة؟ والعقاد محق فى هذا أيضاً، بل إن "إحياء الموميات" بالمعنى الذى قصده شوقى لا يدخل فى باب المعجزات، فلا وجه للمقارنة بين عودة غالب إلى الحياة وبين ذلك الاكتشاف العلمى الذى لا يوصف بأنه آية إلا من باب التصوير الخيالى ليس إلا.

ومن الإحالة أيضاً فى شعر شوقى قوله فى رثاء مصطفى كامل من قصيدته النونية:

السكة الكبرى حيال رُبَاهما منكوسة الأعلام والقضبانِ

إذ إن "قضبان السكك الحديدية لا تنكَّس لأنها لا تقام على أرجل، وإنما تُطْرَح على الأرض كما يعلم شوقى، اللهم إلا إذا ظن أنها أعمدة تلغراف. على أنها لو كانت مما يقف أو ينكَّس لما كان فى المعنى طائل، إذ ما غَناء قول القائل فى رثاء أحد العظماء: إن الجدران أو العُمُد مثلا نكست رؤوسها لأجله؟". ومنها أيضاً قوله من نفس القصيدة:

فاصبر على نُعْمَى الحياة وبؤسها نُعْمَى الحياة وبؤسها سيَّانِ

الذى يعلق عليه العقاد متهكما بأن "الصبر على بؤس الحياة معروف، أما الصبر على نعمائها فماذا هو؟ ولكن وَيْحنا، فقد نسينا أن المصائب والخيرات سيان، فلا غرابة فى أن يصبر الإنسان على النعمة وأن تبطره المحنة. هكذا يقول شوقى، وما أصدقه، فإننا لا نرى منحةً هى أشبه بالمحنة من هذا الشعر الذى أنعم الله به عليه! ولله فى خلقه شؤون!".

وبالإضافة إلى ما سبق يذكر العقاد عيبا آخر فى شعر شوقى هو التقليد، إذ يؤكد أن شوقى لم يكن ينظم من وحى نفسه وظروفه بل كان يتابع القدماء متنكرا لشخصيته وللواقع من حوله. لنأخذ مثلا مطلع بائيته التى استقبل بها عودة الوفد المصرى من أوربا عقب الحرب العالمية الأولى:

اِثْنِ عنان القلب واسْلَمْ به مِنْ ربرب الرمل ومن سِرِبْه

حيث يجرى شوقى على سُنّة الأقدمين من افتتاح قصيدته بالغزل رغم ما بين الغزل وموضوع القصيدة من تنافر، إذ ما علاقة النساء والتحذير من الوقوع فى هواهنّ بمثل هذا الموضوع السياسى الذى يتصل بحاضر الأمة كلها ومستقبلها فى واحد من أخطر شؤونها، ألا وهو المفاوضات حول الاستقلال والجلاء؟ ليس ذلك فحسب، بل إن شوقى ليجرى فى ركاب الأقدمين إلى الحد الذى يجعل فيه النساء ظباءً، وشوارع مصر وميادينها رملا. وليس هناك من سبب لذلك كله سوى امّحاء شخصية الشاعر لحرصه على تقليد الشعراء الغابرين رغم اختلاف ظروفه عن ظروفهم. لقد كانت ظروف الشاعر الجاهلى تقتضيه الترحال المستمر حيث يتصادف كثيرا أن يمرَّ بالديار التى كانت يوماً مرتعا لحبيبته وقبيلتها فينازعه قلبه إلى الوقوف بها قليلاً وتنثال عليه الذكريات الجميلة، أما شوقى فهو إنسان حَضَرِىٌّ يظل يسكن فى نفس الحى والشارع والبيت لا يغادره إلا فى الشاذ النادر. بل إن من الشعراء القدماء كأبى تمام والمتنبى والشريف الرضى مثلا من كانوا يبدأون قصائدهم الحماسية بالدخول فى موضوعهم مباشرة دون التلكؤ عند الأطلال أو فى التغزل بالنساء.

على أن شوقى، حسبما يرى العقاد، لا يقف فى تقليده للقدماء عند هذا بل يضيف إليه سرقة معانيهم وصورهم كقوله فى مرثيته فى مصطفى كامل:

فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها فالذِّكْر للإنسان عمرٌ ثانِ

إذ هو، كما يقول، مأخوذ من بيت المتنبى:

ذِكْرُ الفتى عُمْرُه الثانى، وحاجته ما فاته، وفُضُول العيش أشغالُ

وكقوله من القصيدة نفسها:

أو كان للذكر الحكيم بقية لم تَأتِ بَعْدُ رُثِيتَ فى القرآنِ

الذى نظر فيه، كما يقول العقاد، إلى بيت المعرى التالى:

ولو تَقَدَّمَ فى عصر مضى نزلتْ فى وصفه معجزات الآى والسُّوَرِ

وكقوله: "لـــمّا نُعِيتَ إلى الحجاز مَشَى الأسى"، فهو نفسه قول الشريف الرضى: "لما نعاك الناعيان مَشَى الجَوَى"، وكقوله: "إن المنية غاية الإنسان"، وقوله:

من دنا أو نَأَى فإن المنايا غاية القرب أو قُصَارَى البعادِ

اللذين سرقهما من الشطر التالى للشريف الرضى: "إن المنية غاية الإبعاد"... وهكذا.

ونصل إلى آخر مأخذ رئيسى عابه العقاد على شعر شوقى، ألا وهو التفكك. ويقصد به "أن تكون القصيدة مجموعا مبدَّدا من أبيات متفرقة لا تؤلف بينها وحدة غير الوزن والقافية". وعنده "أن القصيدة ينبغى أن تكون عملا فنيا تاما يكمل فيها تصوير خاطر أو خواطر متجانسة كما يكمل التمثالُ بأعضائه، والصورةُ بأجزائها، واللحنُ الموسيقى بأنغامه، بحيث إذا اختلف الوضع أو تغيرت النسبة أَخَلَّ ذلك بوحدة الصنعة وأفسدها. فالقصيدة الشعرية كالجسم الحى، يقوم كل قسم منها مقام جهاز من أجهزته، ولا يُغْنى عنه غيره فى موضعه إلا كما تُغْنى الأذنُ عن العين، أو القدمُ عن الكف، أو القلبُ عن المعدة، أو هى كالبيت المقسَّم لكل حجرة منه مكانها وفائدتها وهندستها. ولا قِوام لفنٍّ بغير ذلك حتى فنون الهمج المتأبدين، فإنك تراهم يلائمون بين الخَرَز وأقداره فى تنسيق عقودهم وحليّهم ولا ينظمونه جزافا إلا حيث تنزل بهم عَماية الوحشية إلى حضيضها الأدنى". والشعر، من دون هذه الوحدة العضوية، هو "كأمشاج الجنين المخدّج بعضها شبيه ببعض، أو كأجزاء الخلايا الحيوية الدنيئة لا يتميز لها عضو ولا تنقسم فيها وظائف وأجهزة. وكلما استقل الشىء فى مرتبة الخلق صَعُبَ التمييز بين أجزائه: فالجماد كلُّ ذرةٍ منه شبيهةٌ بأخواتها فى اللون والتركيب، صالحة لأن تحل فى أى مكان من البنية التى هى فيها. فإذا ارتقينا إلى النبات أَلْفَيْتَ للورق شكلا خلاف شكل الجذوع، وللألياف وظيفة غير وظيفة النوّار... وهكذا حتى يبلغ التباين أتمه فى أشرف المخلوقات وأحسنها تركيبا وتقويما"[9].

كذلك تناول كاتبنا قصيدة شوقى فى رثاء مصطفى كامل فأعاد ترتيب أبياتها على نحو آخر فلم يضرها ذلك بشىء، إذ هى "كالرمل المهيل لا يغير منه أن تجعل عاليه سافله أو وسطه فى قمته، لا كالبناء المقسم الذى ينبئك النظر إليه عن هندسته وسكانه ومزاياه"[10]. ولم يكتف بذلك بل أكّد أن القصيدة تقبل ترتيبات أخرى، وبخاصة إذا أحدثنا بعض التغييرات الطفيفة فى ضميرٍ هنا أو حرف عطفٍ هناك مثلا.

هذا هو نقد العقاد لشوقى فى خطوطه الرئيسية، وقد أشار مؤرخو الأدب ونقده إلى ما فى ذلك النقد من قسوة، وإن أقرّوا فى ذات الوقت بصحة المقاييس التى أخذ صاحبه على عاتقه مهمة إرسائها[11]. بل لقد ذهب د. عيسى الناعورى أبعد من هذا، فرأى أن مدرسة الديوان كلها (وليس نقد العقاد لشوقى فقط) لم تقدم شيئا البتة فى مجال تجديد الأدب العربى الحديث، إذ هى مجرد "حركة مريضة قامت على الصراع للهدم والتحطيم، وأن كتاب "الديوان" بجزأيه إنما كان قاموسا للسخائم والشتائم وليس كتابا فى النقد الأدبى". وهو لا يقف عند هذا المدى، وإنما يمضى مؤكدا أنه قرأ كل النتاج الشعرى لشكرى والمازنى والعقاد (الذى يراه "أقل الثلاثة حظا من الشاعرية") فلم يجد فى شعر أى منهم نفخة تجديدية: لا فى العبارة ولا فى اللفظة ولا فى الصورة ولا فى الخيال، ولا فى الروح ولا فى المعانى[12].

فأما أن العقاد كان عنيفا قاسيا فى نقده لشوقى فلا أظن أحدا يكابر فى هذا، ومِثْلُه المازنى فيما كتبه فى بعض فصول "الديوان" عن المنفلوطى وشكرى. وقد ذكرا هما أنفسهما فى الصفحات الأولى من الكتاب أنهما أرادا بما كتباه تحطيم الأصنام المعبودة، كما أكد العقاد أنه سيكون حرباً لشوقى وبلاء عليه، وأنه سيُغْلظ له البلاغ ويصخّه صخاً شديدا ولن يعرف فى نقده له ليناً ولا مداراة. إذن فناقدانا لا ينكران أنهما قد وضعا نصب أعينهما تحطيم شوقى وما يمثله فى ساحة الأدب العربى. والسؤال الآن: هل فى هذا ما يعابان بسببه؟ أحسب أنهما كان يمكن انتقادهما لو أنهما كانا يتغييان التأريخ للأدب العربى ورسم صورة دقيقة لأوضاعه فى زمنهما، لكنهما لم يكونا يهدفان إلى هذا بل كان هدفهما هو إزالة البناء القديم وإحلال آخر جديد محلَّه. مهمتهما إذن ليست مهمة القاضى الذى يدرس الموضوع من كل جوانبه ليضع حكماً محايدا يذكر الحسنات والعيوب، بل مهمة المحامى الذى يدخل القضية وقد اتخذ موقفه وانتهى الأمر، فهو "مع" موكِّله، و "ضد" خصم ذلك الموكل، وإلا فليس شعر شوقى كله بهذا الضَّعف والتفكُّك والتصنُّع، ففيه لوحات وصفية جميلة، وفيه قصائد وطنية قوية، وأشعار دينية تثير مشاعر المسلمين وتستنهض هممهم وحماستهم. وحتى التشبيهات الشكلية ليست كلها مما يعاب، إذ قد تُبْرِز الواقع فى ثوب جديد يخلب الألباب. ولنأخذ تشبيه شوقى للهلال بأنه "مِنْجَلٌ حصّاد"، فهو فى حد ذاته خيال عجيب، إذ يرينا الهلال بعين غير العين التى ننظره بها، فإذا به لا علامةٌ نقيس بها الوقت المنصرم من عمر الكون بل منجلاً يهوى على رقاب الناس فتتصرم حياتهم إلى غير رجعة. وهل انصرام الوقت إلا تصرّم حياة البشر؟ ومثله تخيُّل ابن المعتز للهلال على أنه "قلامة ظفر" وللبدر على أنه درهم على بساطٍ أزرق، إذ ليس كل إنسان يستطيع أن يتخيل وجود قلامة ظفر أو درهم من فضة على أديم السماء. إن مثل هذه الصور لهى صور مدهشة من شأنها أن توقظ الخيال وتنعشه، وليس هذا فى حد ذاته بالشىء القليل. لقد ركز العقاد على أسوإ ما عند شوقى بغية التنفير من فنه وأسلوبه، شأن المحامى البارع الذى ليس له من هم إلا أن يكسب قضيته. وسنرى أن المازنى هو أيضاً لم ينتهج مع المنفلوطى سوى هذه الخطة. بل إنه لولا هذا العنف الذى لم يَرُقْ للدكتور الناعورى لما كان للحملة التى جرّداها على شوقى ومدرسته أن تؤتى ثمارها المبتغاة. وقد تنبه العقاد نفسه إلى هذا، إذ كتب فى كتابه "الفصول"، الذى صدر بعد ظهور الجزء الثانى من "الديوان" بسنة واحدة، معبِّرا عن ارتيابه فى أن يكون حب الأدب لدى القراء هو الباعث على لفت الأنظار إليه، بل الباعث، فى رأيه، هو الحملة الشديدة التى شنها هو وزميله على أهم ممثلى الاتجاه القديم فى الأدب[13].

وهذا الارتياب فى محله، بيد أن قسوة النقد ليست هى السبب الوحيد فى رواج كتاب "الديوان" وإيتائه الثمار التى رجاها مؤلفاه من ورائه، بل لا بد أن نضيف إلى ذلك ظهور هذا النقد فى كتاب (وفى كتاب مفصَّل) لا فى صحيفة، إذ الصحيفة تُقْرأَ ثم تُهْمَل عادة، أما الكتاب فقارئه يحتفظ به فى الغالب ولا يفرّط فيه. كما أن العقاد والمازنى عندما ألفا كتابهما هذا لم يكونا بالكاتبين المغمورين بل كانا شاعرين ومؤلفين يكتبان فى الصحف والمجلات المختلفة المقالات والدراسات الرصينة، ويصدران الكتب ودواوين الشعر ويكتبان مقدماتها. وينبغى كذلك ألا ننسى ما يتمتع به كل منهما من ثقافة واسعة وأسلوب يجمع بين القوة والجمال والدقة والحرارة حتى إنهما ليأتيان على رأس أصحاب الأساليب الممتازة والمتميزة فى الأدب العربى على اختلاف عصوره. ثم هناك الثقة التامة التى تطالعنا بقوة شديدة فيما كتباه عن شوقى والمنفلوطى مما يُكْسِبه تأثيرا ونفوذا. وفوق ذلك فقد جعل العقاد والمازنى من نقدهما هذا قضية حياتهما لا مجرد نقد أدبى كغيرة من النقد، وإلا فما من قضية دَعَوَا إليها فى كتابهما هذا إلا وهناك من سبقهما من الكتّاب إلى تناولها فى الصحف والمجلات من قبل، إلا أنهم لم يكن عندهم هذا الثقل الذى توفر لكتاب "الديوان": فعلى سبيل التمثيل نجد حافظاً فى كتابه "ليالى سطيح" قد لمز شوقى من طَرْفٍ خفى بأن شهرته ترجع فى الأساس إلى أنه كان "حظيظا" عند الصحف، حتى إنه إذا صدر له أى عمل هَبَّتْ تقرّظه بصنوف المديح والإطراء رغم أن شعره يخلو مما يستحق المحاباة، "اللهم إلا ما يتباصر به علينا من تلك المعانى الغربية التى ما سكنت فى مَغْنىً عربى إلا ذهبت بروائه"، كما رمى أسلوبه بالتعقيد الــمُخلِق للديباجة[14]. وممن انتقدوا شوقى أيضاً قبل العقاد محمد المويلحى، الذى تناول ديوان الشاعر عند صدروه فى 1898م وعاب على لغته أشياء غير قليلة، فضلا عن تخطئته لعدد من الأفكار التى أثبتها شوقى فى مقدمة ديوانه[15]. كما كتب مصطفى الدرس سنة 1905م مؤكدا أن "شوقى بك هو شاعر الأمير... ولو تأملت لا تجد له غيرها"، وأن فى شعره سرقات كثيرة واختراعات سخيفة، وفى تراكيبه خلل وتعقيد مزعج، وغير ذلك مما قاله فى نقده لديوان الشاعر[16]. وفى مقال بجريدة "الثريا" (يناير 1905م) عنوانه "شعراء العصر" يضع الرافعى شوقى فى الطبقة الثانية رغم كونه "شاعر الحضرة الفخيمة الخديوية" قائلا إن "الشوقيات انقلبت إلى شوكيات".

وإذا كان العقاد قد عاب على شوقى تقليده لقدامى الشعراء فها هو ذا أسعد داغر قبل ظهور "الديوان" بسنوات طوال يعيب على الشعر العربى المعاصر كله ميله إلى تقليد الشعر العربى القديم وترديد عباراته التى استهلكتها كثرة الاستعمال، مع الحرص على إيراد النكات البيانية والمحسنات البديعية وتجاهل الشاعر لمشاعره الحقيقية[17]. كذلك عاب المنفلوطى ابتداءَ قصائد التهنئة مثلا بالبكاء على الأطلال، وانتهاء المرثيات بالنكات الهزلية، واستخدامَ العبارات الغزلية فى المدح متهماً الشعراء الذين يفعلون ذلك بأن أذواقهم مريضة[18]، وهو ما يذكرنا بما وسم به العقاد أحمد شوقى من فساد الذوق لنفس السبب أو لسبب مشابه. ومع ذلك كله فلم يكن لأى من هؤلاء النقاد ذلك التأثير الذى أحدثه العقاد والمازنى بكتاب "الديوان"، أو فلنقل إن هؤلاء الكاتب قد مهّدوا الطريق لصاحبى "الديوان"، حتى إذا ظهر ذلك الكتاب كان ظهوره كالعاصفة التى اقتلعت كل شىء، إذ لا يمكن أن ينفى إلا مكابر أن الشعر العربى قد اتخذ مسارا جديدا بعد هذه العاصفة. أما ادعاء د. الناعورى بأن مدرسة "الديوان" لم تترك وراءها أى أثر فى الحركة الشعرية فهو مجرد صيحة فى الهواء لا تقدم ولا تؤخر. إننا معه فى أن نقد العقاد والمازنى لشعر شوقى قد اتسم بالعنف والقسوة، لكننا لا يمكننا مع ذلك مرافأته على ما زعمه من أن مدرسة "الديوان" قد فشلت فى أن يكون لها أثر فى دينا الشعر[19].

كذلك من الممكن الاختلاف مع العقاد حول نقده لهذا البيت أو تلك الصورة أو العبارة من شعر شوقى، لكنى أعتقد أن معظم ما قاله عن القصائد التى قام بتحليلها ونَقْدها فى "الديوان" هو نقد صحيح. وأغلب الظن أن ذلك راجع إلى أن شوقى قد نظم تلك القصائد رغبة فى النهوض بالواجب السياسى أو الاجتماعى لا انطلاقاً من تجربة شعورية قوية، فجاءت فى كثير من الأحيان أقرب إلى النظم المتخشب منها إلى الشعر المتضرم. بَيْد أن مسألة "التفكُّك" تحتاج إلى بعض التلبث.

لقد ناقش د. محمد مندور رأى العقاد فى هذه المسألة والمقياس الذى اصطنعه للتدليل على تفكك قصيدة شوقى فى رثاء مصطفى كامل، ألا وهو إعادة ترتيب أبياتها دون أن يلحقها أى أذى، وتساءل قائلا: "هل من الممكن أن يستقيم هذا المقياس فى أى شعر غنائى ينظم مشاعر وخواطر متناثرة حتى لو كان هذا الشعر هو شعر العقاد نفسه صاحب هذا المقياس المتعسف؟"، ثم حكى لنا كيف أتى أحد طلبته إلى مرثية العقاد فى صديقة حسين الحكيم وصنع بها مثل ما صنعه العقاد بقصيدة شوقى دون أن تضارّ المرثية بأى ضرر، ثم عقب بأنه لا يريد أن يتعسف فيرمى قصيدة العقاد بالتفكك وانعدام الوحدة العضوية لأن "المطالبة بالوحدة العضوية لا تكون إلا فى فنون الأدب الموضوعى كفن المسرحية وفن القصة والأقصوصة... وأما الشعر الغنائى الخالص، أى شعر الوجدان، فمن أكبر التعسف مطالبة الشاعر بمثل تلك الوحدة التى لا تقبل تقديما أو تأخيرا فى نسق أبياتها"[20]. ويكفى، فى رأيه، أن يتحقق للقصيدة الغنائية وحدة الغرض، وهو ما يصدق على كثير من الشعر العربى حتى القديم منه، بخلاف شعر المديح الذى تتعدد فيه الأغراض عادة بما فيه شعر شوقى.

وفى هذا الكلام شىء من الحق غير قليل، وإن كنا نرى أن من القصائد غير القصصية أو المسرحية ما يمكن أن تتحقق فيه الوحدة العضوية على النحو الذى دعا إليه العقاد. بل إن فى شعر العقاد نفسه لَقصائدَ إلى حد كبير بهذا اللون من الوحدة مثل "سلع الدكاكين فى يوم البطالة" و "الشاعر الأعمى" و "فى رثاء طفلة". كذلك ينبغى أن نضيف أنه لا بد، إلى جانب وحدة الغرض، من أن يسود القصيدة جو نفسى واحد.

ولقد حاول د. عبد الحى دياب أن يردّ على د. مندور بأن فى قصيدة العقاد المذكورة آنفا وحدة عضوية. وتقوم محاولته على قراءة أشياء بين السطور رأى أن العقاد قد قصدها بحيث لا يمكن تغيير ترتيب الأبيات فى القصيدة إلا على حسابها[21]. لكن من الممكن المجادلة فى ذلك بأن هذه مجرد وجهة نظر منه لا يمكن إلزام القراء الآخرين بها مثلما أنّ رأى العقاد فى تفكك قصيدة شوقى هو مجرد وجهة نظر ربما لا يوافقه عليها غيره من النقاد. أقول هذا رغم إعجابى بشعر العقاد بعامة إعجابا شديداً يشهد له تحليلى، فهى كتابى "فى الشعر العربى الحديث- تحليل وتذوق"، لثلاث من قصائده دون غيره من الشعراء الذين لم أختر لأى منهم إلا قصيدة واحدة، وردّى فى ذلك الكتاب أيضاً على من يزعمون، نكايةً فى ذلك العملاق، أن شعره يخلو فى غالبه من الماء والرُّواء، وعلى رأسهم د. مندور، ورغم ما كتبتُه عن هذا الأخير فى كتابى "د. محمد مندور بين أوهام الادعاء العريضة وحقائق الواقع الصُّلبة" مما أثبتُّ به أن أنصاره قد أعطَوْه حجما أكبر من حجمه وتجاهلوا سَطْوَه على كتابات الآخرين... إلخ. لكن الحق فى هذه القضية التى بين أيدينا أحق أن يُتَّبع.

أما محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس، اللذان ادعيا أن العقاد لم يفهم الوحدة العضوية فهمها الصحيح وأن الذى كان فى ذهنه هو وحدة الموضوع ووحدة العنوان لا أكثر، فليس لكلامهما فى هذه المسألة أى وزن[22]، إذ إن العقاد، على الأقل فى نقده لمرثية شوقى فى مصطفى كامل، قد بسط القول فى الوحدة العضوية بسطا يدل على فهمه لها الفهم الصحيح، وإن كنا نرى أنه ليس من السهل تحقق مثل هذه الوحدة دائماً كما قلنا.

* * *

هذا ما يتعلق بنصيب العقاد من كتاب "الديوان"، أما المازنى فقد اختص بنقد كتابات المنفلوطى بادئا بترجمته لنفسه التى صدَّر بها الجزء الأول من كتابه "النظرات" فأخذ عليه أنه لم يصنع فيها أكثر من إتحاف القراء ببعض المعلومات الخاصة بنسبه الشريف وصفاته النفسية دون اهتمام بإلقاء الضوء على العوامل التى كانت وراء هذه الصفات، على عكس جوته، الذى كتب (كما يقول) ترجمة لنفسه فى أكثر من ستمائة صفحة لم يهتم فيها بشىء من ذلك بل جعل وُكْدَه تصوير تطوره العقلى والخلقى والنفسى والسلوكى. إلا أن المازنى قد عاد فذكر أن فيما كتبه المنفلوطى ما يعين على الكشف عن آرائه وأخلاقه وأسرار نفسه وعاداته وميوله[23].

وفى الفصل الذى يلى ذلك نرى المازنى يمطر المنفلوطى بصواعق نقده متهما كتاباته بالنعومة بل الأنوثة لما فيها من ضعف وبكاءٍ ورحمة متصنَّعة: فأبطاله كلهم فقراء أشقياء مَرْضَى لا حيلة لهم أمام ظروفهم، ودائما ما يموتون فى نهاية القصة، وهو دائم البكاء لهم والعويل على عجزهم ومعاناتهم حتى ليصفه المازنى بأنه "ندَّابة". وقد أقام اتهامه له بالتصنع فى عواطفه على ما ذكره المنفلوطى ذاته من أنه قد "مات له طفلان فى أسبوع واحد فسكن لهذا الحادث سكونا لا تخالطه زفرة ولا تمازجه دمعة على شدة تهالكه وَجْداً عليهما"، وأن فى خُلُقه نفرة من الناس وعجزاً عن احتمالهم ومجاراتهم على عيوبهم، إذ يتساءل قائلا: كيف يجمع فى شخصيته بين هذا النفور من الناس والجمود فى المشاعر حتى أمام موت ابنيه فى أسبوع واحد وبين الرقة المفرطة والحنان المسرف مع أبطال قصصه؟

وهذا الضعف عند المفلوطى هو، فى رأى كاتبنا، ضعفٌ مشين مُزْرٍ لأن "وظيفة المرء فى الحياة ليست أن يكون ندابة، فما لهذا خُلِق، بل وظيفته أن يغالب قوى الطبيعة ويصارعها، لأن الأصل فى الحياة هو الصراع وتلك المغالبة، وهى قائمة على ذلك، ولا سبيل إليها بدونه، بل هى تنتفى إذا امتنع وبطل"، وكل الأديان تتحدث عن الصراع بين الخير والشر، وهذا أمر تفهمه الدودة نفسها، إذ تجول باحثة عن رزقها فى جوف الثرى ولا تقعد تلطم خديها وتملأ الدينا عويلاً. ثم إن من شأن الأدب الحقيقى نَفْث الحياة والحرارة والقوة فى روح الأمة واستحثاثها إلى المساعى الجليلة لا تحبيب العجز المخنَّث إليها. وهنا يستشهد المازنى مرة أخرى بجوته الأديب الألمانى مشيرا إلى رواية "أحزان فرتر"، التى ألفها وهو لا يزال شابا صغيرا فى التاسعة عشرة من عمره وتُرْجِمَتْ إلى جميع اللغات الحية فكانت سببا فى شهرته التى طبقت الآفاق، لكنه عاد فخَجلَ منها أشد الخجل ولم يحاول أن يكتب أخرى على منوالها لتنبُّهه إلى أن الانتحار الذى وضع به فرتر بطلُها حد لحياته بسبب فشله فى ميدان الغرام هو أمر لا يليق برجولة الرجال، أما المنفلوطى فلا يعرف كيف يَحْفِز الأشقياءَ إلى مغالبة ظروفهم التعيسة بل يكتفى بندب سوء مصيرهم والولولة عليهم، مع أنهم كانوا يستطيعون بشىء من الجهد أن يكسروا طوق التعاسة وينالوا السعادة التى يريدون بدلاً أن يعيشوا مشلولى الهمة غارقين فى شقاء ينتهى بهم دائما إلى المرض العضال فالموت.

ولا تقف حملة المازنى على المنفلوطى عند مضمون قصصه بل تتجاوزه إلى الأسلوب. وقد بدأ فأكّد أنه لا فرق بين أى لفظ وأخر من حيث هما لفظان، وإنما يقع التفاوت فى تأليف الألفاظ بعضها إلى بعض بحيث تنقل ما فى نفس الكاتب دون زيادة أو حشو، وإلا تحوَّلَ الكلام إلى هذيان، إذ كل كلمة يمكن إسقاطها دون أن تترتب عليها خسارة فى المعنى أو صعوبة فى نقل الشعور؛ تكون قاتلة للكاتب. ثم تطرق من ذلك إلى الهجوم على ما يقول إنه قد لاحظه فى أسلوب المنفلوطى من استخدامه المفرط للمفعول المطلق رغبةً منه "فى تأكيد الغلوّ الذى يتطلبه من يحمل نفسه على التلفيق والتصنع". ثم ضرب سبعة وعشرين مثالاً من 572 شاهداً يقول إنه وجدها فى قصة "اليتيم" وحدها دون استقصاء، وهو ما لم يفعله العرب جميعاً.

وبالمثل نراه يعيبه بكثرة النعوت والأحوال فى جُمَلة مثل: "خرجتُ منه (أى من المنزل) شريدا طريدا حائرا ملتاعا" و "تركنى فقيرا معدما لا أملك من متاع الدينا شيئا"... إلخ، فهذه الكثرة هى (حسبما يؤكد المازنى) دليل على الضعف وفقر الذهن، إذ إن المنفلوطى، بدلاً من أن يبذل جهده لتحديد الصفة أو الحال التى تطايق ما يريد قوله، يكتفى برصّ النعوت والأحوال رصاً، آملا أن يوافق أحدهما المعنى الذى يريد، ثم هو يظن أن هذه الألفاظ التى يرصّها بعضها وراء بعض إنما تؤدى نفس المعنى، على حين أنه لا يوجد فى أية لغة لفظان متطابقان، بل لا بد أن يكون هناك فرق بينهما قلّ أو كَثُر.

ومما يأخذه على أسلوبه أيضاً أنه لا يفتأ يكرر عبارات وتراكيب بعينها رغم اختلاف المواقف التى يعبّر عنها مثل: "وما على الأرض أحدٌ أذَلّ منى ولا أشقى" أو "ما رُئِىَ مثل يومها يومٌ كان أكثر باكيةً وباكيا" أو "ما هو إلا كذا حتى حدث كيت وكيت". كذلك يعيبهُ بأنه يكثر من إيراد التفاصيل الحسية التى يستطيعها كل إنسان، كالقول بأن فلانا طويل أو قصير، ونحيل أو بدين، وفى يده عصا أو كتاب، ونائم هو أو جالس... إلخ، على حين أن المهم هو تصوير حركات الحياة والعاطفة المعقدة والخوالج الذهنية لا ظواهر الأشياء وقشورها، وبخاصة أن المنفلوطى كثيرا ما يبالغ فى هذه التفاصيل إلى درجة الدخول فى نطاق المستحيل كما فعل حين أخذ يصف بطل قصته الذى كان جالساً فى غرفة يفصلها عن مسكن المنفلوطى شارع، فزعم أنه رآه يبكى ورأى دموعه وهى تتساقط على ما كان يكتبه فتمحوه وتمشى ببعض سطوره إلى بعض، وأنه عندما ذهب إليه لمعاونته أمرَّ نظره على جسمه "فإذا خيال سارٍ لا يكاد يتبينه رائية، وإذا قميصٌ فصفاضٌ من الجلد يموج فيه بدنه موجا"، وأنه بعد أن أحضر طبيبا لعلاجه قضى الليل بجوار سريره يناوله دواء الحُمَّى مرة ويبكى عليه مرة أخرى، مع أن مثل هذا الدواء، كما لاحظ المازنى بحق، لا يُعْطّى للمريض بهذه الكثرة، وإلا لساءت حالته، وهو ما حدث فى تلك الزيارة التى لم يرحم فيها المنفلوطى بطلة بل أخذ يمطره، وهو يُحْتَضَر، بالأسئلة تلو الأسئلة عن بلده وأهله والأسباب التى ساقته إلى ذلك المكان، والمريض يجيب عن هذه الأسئلة بتفصيل عجيب استغرق إحدى عشرة صفحة من صفحات القصة التسع عشرة، وهو ما لا يمكن أن يكون، إذ أين للمريض الذى يجود بأنفاسه الأخيرة كل هذا الجَلَد على الكلام؟

وكما قلنا عن العقاد أنه، حين هاجم شوقى، إنما كان يقوم بدور المحامى لا القاضى، كذلك نقول عن المازنى، فمن الواضح أن المنفلوطى ليس بهذا السوء الذى صوّره به، إذ ليس كل ما كتبه كقصة "اليتيم"، فللرجل مقالات بالعشرات فى كتابه "النظرات" ذى الأجزاء الثلاثة تعالج عددا من قضايا الأدب والنقد وأدواء المجتمع فى أسلوب قوىّ ناصع مملوء بالحرارة والتحليل العقلى المقنع دون أية مبالغات. ولقد سبق الرجل عصره بوقوفه فى صف المرأة والعطف على ضعفها، كما بشَّع الإقدام على الانتحار وأهاب بالناس ألا يفرّوا من معركة الحياة مهما كانت الأسباب. ولا ريب أن المنفلوطى بما كتبه عن الانتحار يَفْضُل جوته، الذى أغرت روايته "أحزان فرتر" كثيراً من قرائها الشبان بالانتحار تقليداً لما أقدم عليه بطلها الفاشل فى ميدان الغرام مِنْ بَخْع نفسه. كذلك وقف كاتبنا بالمرصاد لأعداء الإسلام الذين يدَّعون عليه فى تآليفهم الأكاذيب، وهاجم فوضى الإحسان ودعا إلى ترشيده ووَضْعه فى الموضع الذى ينتفع به المستحقون بدلاً من الجرى وراء المظاهر أو إنفاقه فيما لا يعود على الفقراء والمساكين بأى جدوى، فضلا عن حملته العنيفة على البدع والخرافات التى شوّهت جمال وجه الإسلام العظيم... إلخ.

وإذا كان قد اكتفى فى ترجمته لنفسه بإعطاء بعض المعلومات المجردة عن حياته وأسرته وما إلى ذلك، فقد يمكن النظر إلى هذا على أساس أنه أراد أن يخلّى بين القارىء وتلك المعلومات لينظر فيها بنفسه ويرى رأيه دون أية محاولة منه للتأثير عليه. على أنه قد قدم أثناء ذلك تحليلاً لشخصيته، وهو ما عاد المازنى فأقرَّ به. أما مقارنته بجوته فظلمٌ بيِّن له، إذ أين المنفلوطى والأدب المصرى الذى كان فى بدايات نهضته من جوته والأدب الألمانى الذى كان قد بلغ ذروته آنذاك؟

لكن الذى لستُ أفهمه هو قول المازنى إن المنفلوطى قد مات له ولدان فى أسبوع واحد فظل جامد المشاعر. ذلك أن فى "النظرات" مقالاً بعنوان "الدفين الصغير" يرثى به المنفلوطى أحد أبنائه الذين فقدهم صغارا وتهبّ منه على وجه قارئه لهيب لواعج الألم التى بلغ من طغيانها على المنفلوطى أن كاد يتزعزع عقله لولا استعصامه بالله ولطف الله به[24]. ربما قصد المنفلوطى أن يقول إنه لا يستطيع التعبير عن آلامه هذه أمام الناس. وفى الناس من يَبْدُون أمام الآخرين متجلّدين كأنهم لا يبالون، حتى إذا خَلَوْا إلى أنفسهم انحلت عزائمهم وانهاروا أمام أحزانهم. وعلى أية حال فلم أكن أحب للمازنى، الذى أُغَالِى بشعره وأدبه وأسلوبه، أن يتخذ من هذا الموضوع باباً ينفذ منه للزراية على المنفلوطى، فالإنسان الكريم يتعفف عن أن يسبّب لغريمه ألماً فى أمر كهذا. ولا أدرى كيف ذُهِب بحنكة المازنى ولياقته أمام مثل هذه المأساة الإنسانية التى كان ينبغى أن تعطف قلبه على خصمه لا العكس. ولعل هذا كان أحد العوامل التى جعلته يرجع عما قاله فى الرجل ويعدّه حماقة شباب. ولقد مرَّ المازنى بمثل هذه التجربة الفظيعة عندما فقد ابنته الصغيرة فرثاها بمقالٍ تتقاصر دون ما فيه من عبقرية ألم وروعة تعبير كل أشعار الدنيا[25]، ذكر فيه أنه، رغم إطباق الأحزان على قلبه، كان إذا دخل عليه أحد، وهو فى غمرة ألمه، أعطاه وجها "كالدرهم المسيح" (وهذه عبارته فيما أذكر بعد كل تلك السنين الطوال) ضناً بهذه الأحزان النبيلة أن تُبْتَذَل بالأخذ والردّ مع كل من يطرق عليه بابه! ترى هل من الصعب على البشر أن يقدّروا آلام الآخرين إلا إذا تجرعوها؟ الحق أنى لم أكن أحب أن يتورط المازنى فى هذا الذى تورّط فيه عند حديثه عن فقد المنفلوطى لابنيه!

ورغم هذا فأنا مع المازنى فى أن الأديب ينبغى أن يتماسك أمام ريب الدهر ولا ينفث فى قرائه روح الضعف بل يلهمهم قوة العزيمة وشدة التحمل. إلا أن الأديب هو، فى نهاية المطاف، بشر لا حجر، ومن ثم فهو عرضة للانكسار إذا بهظه ثقل الألم. وقد التمس عمر الدسوقى العذر للمنفلوطى فى هذه الأحزان التى أغرق فيها فى بعض قصصه بأن مصر كانت حديثه عهد بهزيمة فادحة على يد الاحتلال البريطانى تجرعت من جرائها المذلة حتى الثمالة فخيم عليها وقتئذ جوّ من الحزن والتشاؤم يشبه ما كان سائدا فى فرنسا عقب سقوط نابليون (مع الفارق بين الحالتين رغم ذلك كما لا بد أن نقول)، فضلاً عن أن الرجل كان ذا طبع رقيق رحيم[26]. ولعمرى لَكَاتِبٌ يرقّ للضعفاء والمسحوقين حتى لو أفلت الزمام من يده خيرٌ من آخر جاسى القلب متحجر المشاعر لا يبالى بآلام الآخرين بالةً ما دام يعيش هو وأولاده فى أمن وعافية وغنى، ولا تزال كلمات المنفلوطى، رحمه الله، فى الدعوة إلى الرحمة بالحيوان والطير ترنّ فى آذاننا وعقولنا وقلوبنا بما فيها من نبل الشعور وحرارته وجمال الأسلوب ونصاعته ومتانته. وقد سلف منى القول إن كتابات المنفلوطى فى غير "العبرات" تخلو من هذا الذى أخذه المازنى عليه. كذلك لا أملك إلا أن أوافق المازنى فى انتقاده الشديد لمبالغات المنفلوطى عند وصفه لأبطاله الأشقياء، إذ ليس من الحكمة أن يخاصم الأديبُ المنطقَ على هذا النحو الذى من شأنه أن يذهب بأسباب المتعة من كتاباته. وفى هذا السياق نرى المازنى يأخذ على المنفلوطى كثرة استخدامه للمفعول المطلق بوصفها مظهرا من مظاهر المبالغة المسرفة، لكن هذا إذا صحَّ فإنما يصدق على المفعول المطلق المؤكد لعامله حين لا يكون هناك ما يدعو من الناحية البلاغية إلى ذلك[27]. ومعظم الشواهد التى أوردها المازنى للمنفلوطى فى هذا الصدد هى من المفعول المطلق المبين للنوع لا المؤكد لعامله، والأمثلة التى تدل منها على المبالغة لا تأتى مبالغتها من المفعول المطلق نفسه بل من المشبَّه به الذى يُضْرَب به المثل عادةً على بلوغ الغاية فى ميدانه كقوله: "فيتهافت لها تهافُتَ الخباء المقوَّض" أو "يئن أنين الوالهة الثكلى" أو "وهكذا فارقتُ المنزل فراق آدم جنته"... إلخ. ولقد رجع المازنى بعد ذلك عما قاله حيث أكد أن "المفعول المطلق يمثل فى تاريخ النشوء اللغوى خطوة انتقال اتّسع بعدها الأفق ورَحُبَ على أثرها المجال وتفتحت أبواب التعبير المغلقة"، ثم مضى قائلا إنه إذا شاء أحد "أن يقدّر فضل المفعول المطلق على اللغة وعلى العقل الإنسانى أيضاً فلْيتصوَّرْها مجردة منه ولْيَنْظُر إليها كيف تعود، أو إلى أى حدّ تضيق"[28].

أما زراية المازنى على المنفلوطى لتكراره بعض عبارات وتراكيب بعينها فلا أظنه أَصْمَى الصواب فيها، إذ بمثل هذا التكرار وغيره تتميز الأساليب بعضها عن بعض، وما من شاعر أو كاتب إلا ويكرِّر طائفة من الألفاظ والصيغ والعبارات والتراكيب لا فَكاك له من ذلك. وللمازنى نفسه لوازم أسلوبية يكررها، وهذه اللوازم هى أحد العناصر التى تُكْسِب أسلوبَ المازنى مذاقه المعروف، ولولا هذه التكرارات لكان من الصعوبة بمكان فرز أسلوب عن أسلوب.

على أنه لا بد من القول إن المازنى، بكلامه عن كثرة استخدام المنفلوطى للمفعول المطلق، يمكن أن يُعَدّ من رواد النقاد العرب المحدثين الذين انتهجوا النهج الأسلوبى فى نقد الأدب واستعانوا بالعمليات الإحصائية فيه وحاولوا الربط بين أسلوب الأديب وشخصيته. وكذلك فإن كلامه العلمى الدقيق عن الترادف، الذى أكد فيه أنه لا يوجد فى أية لغة لفظان متطابقان فى المعنى، هو من الأمور التى تحسب له، وإن كنت أرى أنه قد ظلم المنفلوطى هنا، بل أرى أيضاً أنه هو نفسه ممن تَبْرُز فى أسلوبهم ظاهرة الترادف بروزاً واضحا كقوله فى هجومه على شكرى: "هنا ثَبَجٌ مُزْبِد، وأبد لا يُحَدّ، وموج لا يكاد يقبل حتى يرتد، وحياة متجددة، وأواذىّ متوثبة متولدة. وها هنا نفسٌ خامدة، وقوة راكدة، وجبلّة باردة جامدة" و "قد يكون هذا غير راجع إلى علة أصلية فيه بل إلى ما يجشم نفسه من المتاعب ويحمل عليها ويرهقها به"، وكقوله فى انتقاد المنفلوطى: "نريد أن نلقى على هذه القِرَدة درسا فيما يفيده صحة النظر واعتدال ميزان العقل وسعة أقف التفكير" و "إنك تضعه فى ميزان لم ينصبه لنفسه ولا كان فى باله ولا جرى له هو وأمثاله فى خاطر"... إلخ. وعلى أية حال فقد عاد المازنى عن هجومه على المنفلوطى كما قلنا.

هذا، ولن أعرض لنقده لشكرى لسببين: الأول أن شكرى ينزع نفس المنزع الأدبى الذى ينزعه المازنى والعقاد، بل إن العقاد ومؤرخى الأدب يعدونه أحد أعضاء مدرسة "الديوان". والثانى أن المازنى إنما نَقَدَه بعد أن أشار إلى ما أخذه من بعض الشعراء والكتاب الأوربيين، مما يجعل نقده له نوعاً من الانتقام لا تعبيراً عن التناقض بين مدرسة أدبية وأخرى.

وبعد، فقد درج من يكتبون عن مدرسة "الديوان" على إبراز تأثيرات النقد الأوروبى، وبخاصة الإنجليزى، على كتابات العقاد والمازنى مما لا أشاحّ فيه، إذ أن هذين الكاتبين قد اقرّا هما أنفسُهما بذلك بل افتخرا به، بَيْد أنى أوثر أن أبرز ما للنقد العربى القديم من تأثير على كتاباتهما كما تتمثل فى فصول "الديوان"، وذلك خشية أن يرسخ فى ذهن أحد أنهما وزميلهما لم يرضعوا إلا لَبان النقد الأوربى، الأمر الذى يخالف الحقيقة مخالفة تامة، فقد كان أولئك النقاد الثلاثة على اطلاع واسع فى التراث النقدى العربى القديم، وكانت شخصياتهم من القوة والتماسك بحيث لا يمكن أن تذوب فى غمار النقد الغربى مهما كان إعجابهم بطائفة من نقاده ومفاهيمه.

فمن ذلك كلام العقاد على ما أخذه شوقى من هذا الشاعر العربى القديم أو ذاك، إذ يشكل موضوع السرقات الشعرية بابا واسعاً فى تراثنا النقدى دارت حوله بحوث ونشأت بسببه معارك طالت طائفة من كبار الشعراء. ولست أجد ما يدعونى إلى التلبث طويلا عند هذه النقطة لأنها من الشهرة والوضوح بمكانٍ مكين.

ثم هناك الموازنة التى عقدها العقاد بين دالية شوقى فى رثاء محمد فريد ودالية المعرى فى رثاء أبى حمزة الفقيه والتى انتصر فيها لشاعر المعرّة. ومن المعروف أن الموازنة بين الشعراء كانت أيضاً من المسائل النقدية التى شغلت عددا من كبار نقادنا القدماء.

ومن ذلك أيضاً "الوحدة العضوية" التى نادى بها العقاد فى "الديوان" وعابَ شوقى لخلوّ قصائده منها، فقد سبق أن تحدث الحاتمى عما ينبغى أن تتحلى به القصيدة من ترابط بين أجزائها كترابط أعضاء الجسم الإنسانى بعضها ببعض. وكلامه فى هذا الصدد يقرب جدا مما قاله العقاد، وهذا نصه: "إن القصيدة مَثَلُها مَثَلُ خَلْق الإنسان فى اتصال بعض أعضائه ببعض، فمتى انفصل الواحد عن الآخر وباينه فى صحة التركيب غادر بالجسم عاهة تتخوَّن محاسنة وتعفّى معالم جماله"[29]. إلا أن الحاتمى، رغم ذلك، لا يقصد بالضبط ما قصده العقاد، الذى يوجب أن يكون مدار القصيدة كلها على خاطر واحد أو عدة خواطر متجانسة على أكثر تقدير، على حين يقصد الحاتمى أن يكون انتقال الشاعر من غرض إلى غرض فى القصيدة الواحدة من البراعة بحيث لا يشعر الإنسان به، وهو ما يسمَّى فى البلاغة العربية بـــــ "حسن التخلص" وما أشبه. ولا شك أن العقاد لم يردّد ما قاله الحاتمى كما هو بل طوَّره كما نرى وزاد ففلسفة حين تحدث عن الفرق بين الجنين قبل اكتماله وبين الطفل بعد ولادته، والفرق بين ملامح الهمج التى يصعب على أساسها تمييز بعضهم عن بعض وبين ملامح المتحضرين المتميزة الفارقة، والفرق بين الجماد والنبات، ثم بين هذا والإنسان... إلخ.

ولا ننس أخيراً قول المازنى إن "اللفظ من حيث هو لفظ مفرد لا شىء فى ذاته ولا معنى له فى نفسه، ولكن يكون المعنى وتَحْصُل الفائدة بالتأليف وبضمّ الألفاظ بعضها إلى بعض... فلا كتابة حتى يكون معنىً هو المزجى لها والمقدّم والمؤخّر والمرتّب فيها وفى جعلها موافقة أو مخالفة، ومصيبة أو مخطئة، وحسنة أو قبيحة سخيفة، وإلا فإن أحدنا لا يعجزه أن يعمد إلى معجمٍ أو كتابِ ترادفٍ فيأخذ منه ويسرد. وليست كثرة الألفاظ المستعملة المسوقة من شأنها أن تدل على كثرة الاطلاع وسعة الحظيرة وطول الباع، وإنما التأليف والتركيب والافتتان بهما والقدرة عليهما هى آية هذه السعة والطول والكثرة. فلا تجعل بالك إلى الألفاظ إذا شئت أن تعرف مكان الرجل من العلم وحظّه من العرفان، ولكن اجعله إلى طريقة تأليفه الكلام... إلخ". وهو ما يذكرنا بكل قوة بمفهوم "النظم" عند ناقدنا الكبير عبد القاهر الجرجانى فى كتابه "دلائل الإعجاز" كقولة مثلاً إن "الألفاظ المفردة التى هى أوضاع اللغة لم توضع لتُعْرَف معانيها فى أنفسها، ولكن لأن يُضَمّ بعضها إلى بعض فيُعْرَف فيما بينها فوائد، وهذا عِلْمٌ شريفٌ وأصلٌ عظيم"[30]، وقوله: "إن الألفاظ إذا كانت أوعية للمعانى فإنها لا محالة تتبع المعانى فى مواقعها، فإذا وجب لمعنى أن يكون أوّلاً فى النفس وجب لِلَّفظ الدال عليه أن يكون مثله أولاً فى النطق... إلخ".



الهوامش:

1- د. عبد الحى دياب/ عباس العقاد ناقدا/ الدار القومية للطباعة والنشر/ القاهرة/ 1385هــ ـــ 1966م/ 126-127.

2- انظر د. أحمد عبد الحميد غراب/ عبد الرحمن شكرى/ الهيئة المصرية العامة للكتاب/ سلسلة "الأعلام"/ العدد 11/ 224 وما بعدها.

3- كما رجع أيضاً عن هجومه على حافظ واصفا إياه بأنه حماقة شباب. انظر المازنى/ حصاد الهشيم/ دار الشعب/ 180/ هـ1.

4- انظر "خلاصة اليومية"/ مطبعة الهلال/ 1912م/ 91 وما بعدها.

5- انظر عز الدين الأمين/ نشأة النقد الأدبى الحديث فى مصر/ ط2/ دار المعارف/ 1390هــ ـــ 1970م/ 165.

6- الديوان/ 14. بل إنه فى موضع آخر من الكتاب (ص 118 وما بعدها)، يَنْعَى عليه ابتذاله لفن الشعر واتخاذه وسيلة للإعلانات التجارية، إذ نظم أبياتا للترويج لـــ "ريشة صادق" وتبيان محاسنها. وهنا يقارن بينه وبين كبلنج الشاعر البريطانى الذى أقام دعوى قضائية ضد شركة من الشركات لاستعانتها ببعض أبياته فى الدعاية لمنتوجاتها.

7- السابق/ 20-26، وإن كنتُ لا أُبْرِىء داليّة المعرى من الضعف فى بعض أبياتها بخلاف العقاد، الذى لا يرى فيها إلا كل حسن باهر.

8- انظر تحليلى لنونية شوقى فى كتابى "فى الشعر العربى الحديث- تحليل وتذوق"/ مكتبة زهراء الشرق/ 1418هـــ ـــ 1997م/ 37، 57.

9- الديوان/ 130-131. وفكرة "الوحدة العضوية" هى من الأفكار النقدية الأصلية عند العقاد. ويجد القارىء بذورها فى بعض كتاباته عام 1908م. انظر محمد خليفة التونسى/ فصول من النقد عند العقاد/ مكتبة الخانجى/ 38.

10- الديوان فى الأدب والنقد/ 132.

11- انظر مثلا ميخائيل نعيمة/ الغربال/ دار المعارف/ 1951م/ 183، وعز الدين الأمين/ نشأة النقد الأدبى الحديث فى مصر/ 167، ود. عبد العزيز الدسوقى/ تطور النقد العربى الحديث فى مصر/ 362.

12- انظر د. عيسى الناعورى/ نحو نقد أدبى معاصر/ الدار العربية للكتاب/ ليبيا وتونس/ 1981م/ 86-87.

13- انظر العقاد/ الفصول/ المكتبة التجارية/ 1922م/ 147.

14- حافظ إبراهيم/ ليالى سطيح/ الدار القومية للطباعة والنشر/ 1384هــ ـــ 1964م/ 33-34.

15- ظهرت مقالات المويلحى فى صحيفة "مصباح الشرق" فى ذلك التاريخ، ويجدها القارىء فى "مختارات المنفلوطى"/ المكتبة التجارية/ 139 وما بعدها.

16- انظر مقاله فى مجلة "الثريا"/ سبتمبر 1905م/ 103 وما بعدها.

17- انظر ص 995 من المجلد السادس والعشرين من جريدة "المقتطف" لسنة 1901م.

18- انظر كتابه "النظرات"/ المكتبة التجارية/ 1/ 133.

19- انظر د. عيسى الناعورى/ نحو نقد أدبى معاصر/ 88-90. وقد كتبتُ هذا الكلام قبل عدة أسابيع ثم وقع فى يدى بالمصادفة كتاب د. طه حسين "خصام ونقد"، الذى كنتُ قرأته وأنا لا أزال طالبا بآداب القاهرة، فأخذتُ أقلّبه وأعيد قراءة بعض الفصول متنسِّما عبق أيام الشباب وفى قلبى من اللَّذْع البهيج ما فيه، فإذا بى أقرأ هذه السطور التى يبدو فيها الدكتور طه وكأنه كتبها خِصِّصىَ للرد على د. الناعورى. قال: "أحَقًّا أن الخصومة بين العقاد والمازنى وشوقى لم تكن إلا تجريحاً وهدما؟ أم الحق أن هذه الخصومة قد فتحت للمعاصرين من الأدباء المصريين أبوابا جديدة فى الفن وآفاقا جديدة فى النقد وعلَّمتهم أن الشعر لا ينبغى أن يكون تقليداً للقدماء ومحاكاة لهم فى رصانة اللفظ وجزالة الأسلوب وروعة النظم مهما تكن مكانة هؤلاء الأدباء ومهما يعظم حظهم فى التفوق والنبوغ؟". ثم مضى مضيفا: "قلت إن الشعراء يستطيعون أن يرفعوا لواء الشعر إلى العقاد بعد أن مات حافظ وشوقى، فهو يستطيع أن يحمل هذا اللواء مرفوعاً منشورا وأن يحتفظ لمصر بمكانتها فى الشعر الحديث. ولم أغير ولن أغير مما قلت شيئا إلا أن يظهر شاعر جديد يتفوق على العقاد، فللعقاد شعر رائع بارع رصين متين لا يخدع ببهرج اللفظ ولا يسحر بروعة الأسلوب، وإنما يُعْجِب باللفظ والأسلوب والمعنى جميعاً" (طه حسين/ خصام ونقد/ ط11/ دار العلم للملايين/ 1982م/ 144-145.

20- د. محمد مندور/ النقد والنقاد المعاصرون/ 111-118.

21- انظر كتابه "عباس العقاد ناقدا"/ 693-696.

22- انظر كتابهما "فى الثقافة المصرية"/ دار الفكر الجديد/ بيروت/ 1955م/ 57 وما بعدها.

23- انظر "الديوان فى الأدب والنقد"/ 80-83.

24- المنفلوطى/ النظرات/ دار الكتاب العربى/ دمشق/ 1/ 52-56.

25- أحس، وأنا أكتب ذلك، بدموعى تغالبنى لولا أنى أمسكها إمساكا.

26- انظر عمر الدسوقى/ نشأة النثر الحديث وتطوره/ دار الفكر العربى/ 1976م/ 232-233.

27- سبق أن انتقد المازنى أيضاً حافظ إبراهيم لاستخدامه المفعول المطلق، وإن لم يفصل القول هناك كما فصَّله هنا. انظر كتابه "شعر حافظ"/ مطبعة السفور/ القاهرة/ 1915م/ 55.

28- المازنى/ قبض الريح/ ط2/ المطبعة العصرية/ 1948م/ 156.

29- عن "العمدة" لابن رشيق/ القاهرة/ 1915م/ 3/ 94.

30- عبد القاهر الجرجانى/ دلائل الإعجاز/ تحقيق د. محمد عبد المنعم خفاجى/ مكتبة القاهرة/ 1400هـــ ـــ 1980م/ 495.

 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف