
سَنَوَات اَلشِّتَاءِ اَلطَّوِيلَةِ
قِصَّة قَصِيرَة
بِقَلَمَ: أ . خَالِدْ اَلزَّبُونِ - كَاتِبٌ فِلَسْطِينِيٌّ
صَوْتُ أَزِيزِ اَلرَّصَاصِ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَلَا مَجَالَ إِلَّا
لِلْبَحْثِ عَنْ مَكَانٍ لِلْخُرُوجِ مِنْ اَلْقَرْيَةِ، لَا يَعْلَمُ كَمُّ
من اَلْألم يَمْلَأُ قَلْبهُ وَالْقهر يَسْتَوْلِي عَلَى وِجْدَانِهِ
عِنْدَمَا يشاهد اِبْنهُ اَلصَّغِير يَبْكِي، فَقَدْ رَحلَتْ وَالِدَتهُ
قَبْلَ عَامَيْنِ وَهُوَ ثَمَرَة اَلذِّكْرَى معها ، يَبْلُغَ اِبْنهُ عَايِدْ
ثَمَانِيَ سَنَوَاتٍ مِنْ اَلْعُمْرِ ، وَيُحَاوِلَ وَالِدُهُ أَنْ يُوَفِّرَ
له كُلُّ مَا يَحْتَاجُهُ مِنْ اَلْحُبِّ وَالْحَنَانِ وَالرَّاحَةِ ، لَكِنْ
مَعَ هَذَا اَلْهُجُومِ اَلْمُفَاجِئ عَلَى قَرْيَتِهِمْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ
يُوَفِّرَ لَهُ اَلْٱمَانْ إِلَّا بِالْخُرُوجِ وَمُغَادَرَةِ اَلْقَرْيَةِ
تَحْتَ جُنْحِ اَلظَّلَامِ وَالصُّرَاخِ وَالْقَصْفِ اَلَّذِي حَوْل
قَرْيَتهمْ إِلَى حُطَامِ فَمَلَامِحهَا اَلْبَرِيئَةُ وَالْخَجُولَةُ
بَدَأَتْ تَخْتَفِي وَيَحلُّ مَكَانهَا دَمَار لَمْ يَتْرُكْ سَاحَةً إِلَّا
وَجَعَلَهَا خَرَابًا ، فَالْمَوْتُ يَقْتَرِبُ رُوَيْدًا رُوَيْدًا وَلَا
مَجَالَ لِمُوَاجَهَتِهِ إِلَّا بِالْخُرُوجِ ظُلْمًا وَتَحْتَ وَطْأَةِ
اَلْقَصْفِ اَلَّذِي حَوْلِ اَللَّيْلِ إِلَى نَهَارٍ، اِسْتَجْمَعَ قُوَاهُ
وَخَرَجَ مَعَ اِبْنِهِ هَائِمًا عَلَى وَجْهِهِ، كُلّ شَيْءٍ فِي اَللَّيْلِ
يَزِيدُ اَلرُّعْب وَيَزْرَعُ اَلْخَوْف عَلَى اِبْنِهِ اَلصَّغِيرِ،
فَيَسْأَلُ اَلطِّفْلُ أَبَاهُ لِمَاذَا نَتْرُكُ اَلْمَنْزِلُ يَا وَالِدِي؟
سَنغَادِرُ لِفَتْرَةٍ قَصِيرَةٍ وَسَنَعُودُ
مِنْ هَؤُلَاءِ؟
وَلِمَاذَا يُهَاجِمُونَنَا ؟
لَقَدْ جَاؤُوا مِنْ بَعِيدٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَأْخُذُوا أَرْضُنَا
بِالْقُوَّةِ
وَمَاذَا سَتَفْعَلُ يَا أَبِي ؟
سَنَذْهَبُ إِلَى مَكَانٍ ٱمِنْ وَنُفَكِّر كَيْفَ سَنَعُودُ ، فَقَدْ
أَحْضَرَتْ مِفْتَاحَ اَلْمَنْزِلِ مَعِي ، فَهُوَ مَلِكُ لَكَ ففِيهِ
رَائِحَةُ وَالِدَتِكَ وَجَدِّكَ اَلَّذِي مَا زَالَتْ عَبَاءَتهُ فِي
اَلْمَنْزِلِ وَعِقَاله وَقَبْره اَلشَّاهِدِ عَلَى حُبِّهِ لِأَرْضِهِ فَقَدْ
كَانَتْ وَصِيَّتُهُ أَنْ يُدْفَنَ بِقُرْبِ شَجَرَةِ اَلزَّيْتُونِ
اَلْكَبِيرَةِ اَلَّتِي كَانَ يعتني بِهَا كَإبنَا لَهُ .
وَأَيْنَ نَسْكُن يَا وَالِدِي ؟
فِي أَيِّ مَكَانٍ يَتَوَاجَدُ بِهِ مِنْ خَرَجُوا لَيْلاً وَسَارُوا مَعَ
اَلرِّيحِ عَبْرَ اَلنَّهْرِ أَوْ اَلسَّهْلِ حَامِلِينَ مَعَهُمْ ٱلَامَهُمْ
وَأَحْزَانِهِمْ ، لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ إِلَى مِنْ يُخَفِّفُ عَنْهُمْ
هَذَا اَلْعَنَاءِ اَلَّذِي أَخَذَ مِنْ أَجْسَادِهِمْ ، لِتَبْقَى يَا بُنَي
عَلَى جَذْوَةٍ فِي اَلْقَلْبِ فَفِي كُلِّ مَكَانٍ فِي طَرِيقِنَا شَهَادَة
عَلَى رَحِيلِ اَلْغُزَاةِ وَعَوْدَةِ خُيُوطِ اَلشَّمْسِ لِتُشْرِقَ عَلَى
اَلْٱفَاقَ ، وَتمُرّ ليالي الشتاء الطويلة ويدور اَلْخَرِيفُ وَالرَّبِيعُ
وَيَكْبُرُ عَايِدْ وَتَتَدَحْرَجُ سَنَوَاتُ اَلْعُمْرِ وَيَنْظُرُ إِلَى
قَبْرِ أَبِيهِ وَإِلَى مِفْتَاحٍ مَنْقُوشٍ عَلَيْهِ اِسْمُ جَدِّهِ
وَوَالِدِهِ ، وَذِكْرَى وَالِدَتهُ تَقْرَعُ فِي قَلْبِهِ جُدْرَانَ
اَلْخَزَّانِ وَتَارِيخًا مِنْ سَفَرِ اَلْعَائِدِينَ مُكَلَّلاً بِالْغَارِ
مِنْ زَمَنِ اَلْفَاتِحِين..
قِصَّة قَصِيرَة
بِقَلَمَ: أ . خَالِدْ اَلزَّبُونِ - كَاتِبٌ فِلَسْطِينِيٌّ
صَوْتُ أَزِيزِ اَلرَّصَاصِ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَلَا مَجَالَ إِلَّا
لِلْبَحْثِ عَنْ مَكَانٍ لِلْخُرُوجِ مِنْ اَلْقَرْيَةِ، لَا يَعْلَمُ كَمُّ
من اَلْألم يَمْلَأُ قَلْبهُ وَالْقهر يَسْتَوْلِي عَلَى وِجْدَانِهِ
عِنْدَمَا يشاهد اِبْنهُ اَلصَّغِير يَبْكِي، فَقَدْ رَحلَتْ وَالِدَتهُ
قَبْلَ عَامَيْنِ وَهُوَ ثَمَرَة اَلذِّكْرَى معها ، يَبْلُغَ اِبْنهُ عَايِدْ
ثَمَانِيَ سَنَوَاتٍ مِنْ اَلْعُمْرِ ، وَيُحَاوِلَ وَالِدُهُ أَنْ يُوَفِّرَ
له كُلُّ مَا يَحْتَاجُهُ مِنْ اَلْحُبِّ وَالْحَنَانِ وَالرَّاحَةِ ، لَكِنْ
مَعَ هَذَا اَلْهُجُومِ اَلْمُفَاجِئ عَلَى قَرْيَتِهِمْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ
يُوَفِّرَ لَهُ اَلْٱمَانْ إِلَّا بِالْخُرُوجِ وَمُغَادَرَةِ اَلْقَرْيَةِ
تَحْتَ جُنْحِ اَلظَّلَامِ وَالصُّرَاخِ وَالْقَصْفِ اَلَّذِي حَوْل
قَرْيَتهمْ إِلَى حُطَامِ فَمَلَامِحهَا اَلْبَرِيئَةُ وَالْخَجُولَةُ
بَدَأَتْ تَخْتَفِي وَيَحلُّ مَكَانهَا دَمَار لَمْ يَتْرُكْ سَاحَةً إِلَّا
وَجَعَلَهَا خَرَابًا ، فَالْمَوْتُ يَقْتَرِبُ رُوَيْدًا رُوَيْدًا وَلَا
مَجَالَ لِمُوَاجَهَتِهِ إِلَّا بِالْخُرُوجِ ظُلْمًا وَتَحْتَ وَطْأَةِ
اَلْقَصْفِ اَلَّذِي حَوْلِ اَللَّيْلِ إِلَى نَهَارٍ، اِسْتَجْمَعَ قُوَاهُ
وَخَرَجَ مَعَ اِبْنِهِ هَائِمًا عَلَى وَجْهِهِ، كُلّ شَيْءٍ فِي اَللَّيْلِ
يَزِيدُ اَلرُّعْب وَيَزْرَعُ اَلْخَوْف عَلَى اِبْنِهِ اَلصَّغِيرِ،
فَيَسْأَلُ اَلطِّفْلُ أَبَاهُ لِمَاذَا نَتْرُكُ اَلْمَنْزِلُ يَا وَالِدِي؟
سَنغَادِرُ لِفَتْرَةٍ قَصِيرَةٍ وَسَنَعُودُ
مِنْ هَؤُلَاءِ؟
وَلِمَاذَا يُهَاجِمُونَنَا ؟
لَقَدْ جَاؤُوا مِنْ بَعِيدٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَأْخُذُوا أَرْضُنَا
بِالْقُوَّةِ
وَمَاذَا سَتَفْعَلُ يَا أَبِي ؟
سَنَذْهَبُ إِلَى مَكَانٍ ٱمِنْ وَنُفَكِّر كَيْفَ سَنَعُودُ ، فَقَدْ
أَحْضَرَتْ مِفْتَاحَ اَلْمَنْزِلِ مَعِي ، فَهُوَ مَلِكُ لَكَ ففِيهِ
رَائِحَةُ وَالِدَتِكَ وَجَدِّكَ اَلَّذِي مَا زَالَتْ عَبَاءَتهُ فِي
اَلْمَنْزِلِ وَعِقَاله وَقَبْره اَلشَّاهِدِ عَلَى حُبِّهِ لِأَرْضِهِ فَقَدْ
كَانَتْ وَصِيَّتُهُ أَنْ يُدْفَنَ بِقُرْبِ شَجَرَةِ اَلزَّيْتُونِ
اَلْكَبِيرَةِ اَلَّتِي كَانَ يعتني بِهَا كَإبنَا لَهُ .
وَأَيْنَ نَسْكُن يَا وَالِدِي ؟
فِي أَيِّ مَكَانٍ يَتَوَاجَدُ بِهِ مِنْ خَرَجُوا لَيْلاً وَسَارُوا مَعَ
اَلرِّيحِ عَبْرَ اَلنَّهْرِ أَوْ اَلسَّهْلِ حَامِلِينَ مَعَهُمْ ٱلَامَهُمْ
وَأَحْزَانِهِمْ ، لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ إِلَى مِنْ يُخَفِّفُ عَنْهُمْ
هَذَا اَلْعَنَاءِ اَلَّذِي أَخَذَ مِنْ أَجْسَادِهِمْ ، لِتَبْقَى يَا بُنَي
عَلَى جَذْوَةٍ فِي اَلْقَلْبِ فَفِي كُلِّ مَكَانٍ فِي طَرِيقِنَا شَهَادَة
عَلَى رَحِيلِ اَلْغُزَاةِ وَعَوْدَةِ خُيُوطِ اَلشَّمْسِ لِتُشْرِقَ عَلَى
اَلْٱفَاقَ ، وَتمُرّ ليالي الشتاء الطويلة ويدور اَلْخَرِيفُ وَالرَّبِيعُ
وَيَكْبُرُ عَايِدْ وَتَتَدَحْرَجُ سَنَوَاتُ اَلْعُمْرِ وَيَنْظُرُ إِلَى
قَبْرِ أَبِيهِ وَإِلَى مِفْتَاحٍ مَنْقُوشٍ عَلَيْهِ اِسْمُ جَدِّهِ
وَوَالِدِهِ ، وَذِكْرَى وَالِدَتهُ تَقْرَعُ فِي قَلْبِهِ جُدْرَانَ
اَلْخَزَّانِ وَتَارِيخًا مِنْ سَفَرِ اَلْعَائِدِينَ مُكَلَّلاً بِالْغَارِ
مِنْ زَمَنِ اَلْفَاتِحِين..