الأخبار
(حماس): قدمنا رداً إيجابياً وجاهزون للدخول فوراً في مفاوضات حول آلية التنفيذلماذا على حماس أن توافق لا أن تناور؟(أونروا): الناس يسقطون مغشياً عليهم في غزة من شدة الجوعفلسفة المصلحةقناة إسرائيلية: جدال كبير بين نتنياهو وقيادة الجيش حول استمرار العمليات العسكرية في غزةغزة: 138 شهيداً و452 جريحاً غالبيتهم من طالبي المساعدات في آخر 24 ساعة(رويترز): مصرفان عالميان يرفضان فتح حسابات لـ"مؤسسة غزة الإنسانية"كاتس: الجيش الإسرائيلي يعد خطة لضمان ألا تتمكن إيران من العودة لتهديدناترقُّب لرد حماس.. وإعلام إسرائيلي: ترامب قد يعلن الاثنين التوصل لاتفاق بغزة(فتح) ترد على تصريحات وزير الصناعة الإسرائيلي الداعية لتفكيك السلطة الفلسطينية30 عائلة تنزح قسراً من تجمع عرب المليحات شمال أريحا بفعل اعتداءات الاحتلال ومستوطنيهمقتل جنديين إسرائيليين وإصابة اثنين آخرين بجروح خطيرة في معارك قطاع غزة20 شهيداً في غارات للاحتلال على مواصي خانيونس وحي الصبرة بمدينة غزةغوتيريش: آخر شرايين البقاء على قيد الحياة بغزة تكاد تنقطعترامب وبوتين يبحثان الحرب في أوكرانيا والتطورات بالشرق الأوسط
2025/7/5
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

جماليات السرد والتجريب في رواية "قهوة سادة" للكاتب السيد حافظ

تاريخ النشر : 2022-10-16
جماليات السرد والتجريب في رواية "قهوة سادة" للكاتب السيد حافظ

د. أمل درويش

جماليات السرد والتجريب في رواية "قهوة سادة" للكاتب السيد حافظ

بقلم: د. أمل درويش

يقول ميلان كونديرا:
"إن روح الرواية هي روح التعقيد. كل رواية تقول للقارئ: (إن الأشياء أكثر تعقيدًا مما تظن) إنها الحقيقة الأبدية للراوي، لكنها لا تُسمع نفسها إلا بصعوبة في لغط الأجوبة البسيطة والسريعة التي تسبق السؤال وتستبعده."[1]

وإذا ما نظرنا إلى رواية قهوة سادة قهوة زيادة نجد السيد حافظ قد مزج الماضي بالحاضر والمستقبل في لوحة واحدة، مستخدمًا العديد من الأساليب الفنية للكتابة كأساليب الاستباق والاسترجاع متنقلًا بين العصور في سلاسة وانسيابية متخطيًا العوائق الزمكانية، مُستخدمًا جميع الشخصيات كعرائس الماريونيت على المسرح لتؤدي الدور المنوط بها بكل هدوء ودون فقدان روح التشويق والإثارة.

وبالرجوع إلى بنية الرواية نجد أن الكاتب السيد حافظ قد بدأ بالتنويه عن السباعية وذكر أسماء الأجزاء السبعة بالترتيب، مما يؤكد أن الفكرة لم تأتِ بالصدفة، ولم تكن وليدة الظروف والأوضاع السياسية، بل كانت هناك رؤية واضحة وفكرة تجمعت خيوطها الأساسية في عقل وروح الكاتب، وما تبقى سوى نقل هذه الرؤية من حيز خيال المبدع إلى عقل وروح المتلقي.

ثم يعود الكاتب ويذكّر القارئ لافتًا نظره إلى عدة إرشادات لكي يخوض المغامرة بأمان، ويستخلص منها ما طمح إليه الكاتب، فيوضح الكاتب أسلوب السرد الذي اختاره وهو أسلوب المسرواية، ويوضح لنا في لمحة سريعة تعريف المسرواية وأول من استخدم هذا الأسلوب من الكتاب "على استحياء" كان توفيق الحكيم في رواية بنك القلق وكذلك يوسف إدريس في رواية نيويورك 80.

هذا الكاتب "السيد حافظ" الذي أدخل المسرح التجريبي في الوطن العربي وكان رائده، وأبدع منذ مطلع السبعينيات في كتابة أعماله المسرحية، وبالطبع حين يقتحم عالم الرواية فلن يكون ولوجه فيه عاديًا مثل الآخرين.

ويجب أن يضع لمساته المسرحية ليمنح الرواية روحًا وشكلاً جديدًا لم يعهده القارئ من قبل.

ثم يكمل الكاتب ملاحظاته فيخبرنا أن هذا المشروع منفصل متصل، لذا وجب عليك أيها القارئ أن تستعد لرحلة ممتدة فصولها، يكون زادك فيها الوعي والإدراك وفهم لغة الإشارات والإسقاطات، فلن تجد كل الإجابات ولن تكون رحلتك مجرد قطف لباقة أزهار من هذه الروضة، ولكنك ستحتاج إلى الوقوف كثيرًا في عدة محطات لتجيب فيها على ما يطرحه الكاتب من تساؤلات.

ثم يحذرنا السيد حافظ من سلسلة المفاجآت التي تنتظرنا وسيول المعلومات والحقائق التي لم نعرفها من قبل، بل وستقلب كل ما عرفناه من تاريخ قديم موثق رأسًا على عقب.

فكل ما عليك أيها القارئ أن تتخلى عن كل معلوماتك السابقة وأن تتحلى بالصبر والفهم والوعي الكافي لتصحيح كل ما مّر عليك من قبل.

وأما ما أعجبني شخصيًا هو ذلك التنويه البسيط في نهاية قائمة الملاحظات والذي يذكر فيه الكاتب أن هذه هي الطبعة الثانية، وأن الطبعة الأولى قد صدرت منذ خمس سنوات منوهًا أن بعض التغييرات والتعديلات قد طرأت على هذه النسخة.

فالكاتب المبدع بحق ذاك الذي لا يقف سقف طموحه عند حد ولا يكتفي بعلم أو معرفة، ويمتلك الشجاعة على تعديل ما سطرته أنامله حين يزداد علمًا وقراءة..

قسّم الكاتب الرواية إلى جزئين رئيسيين:

الجزء الأول: قهوة سادة

الجزء الثاني: قهوة زيادة

ثم قسم كل جزء إلى عدة فصول اختار عناوينها بدقة وعناية..

ومن هنا كانت العتبة الأولى للنص:

خمسة وعشرون فصلًا متتالية، رغم أن الكاتب قسّم الرواية إلى جزئين رئيسيين إلا إنه اختار تتابع الفصول ومزج عناوينها ما بين الحاضر والماضي؛ فبدأ بعنوان "عشق لا يعرف الانتهاء" وأدرج تحته بدايات الحكاية من الشام بحكاية سهر، وكلمات شهرزاد لها بأن الجمال ربما يكون سر الابتلاء وكاظم وأحلامه الضائعة عن الوطن وأن حبه له سر بلائه.

ويأتي الفصل الثاني ليحكي عن فتحي رضوان تحت عنوان "ليت لي ألف عين" وتتوالى العناوين التي تبوح مرة بأسرار الرواية ومعاناة أبطالها، وأحيانًا تفصح عن مكنونات روح كاتبها ومعاناته الشخصية من أهل الأدب والفكر وتجاهلهم أو مهاجمتهم لإبداعاته كما هو عنوان الفصل الثالث "الكتابة الجميلة جريمة وغريبة"، الفصل السابع "هذا وطن الأحزان"، الفصل الحادي عشر "كنا نحلم بوطن أجمل"، "وطن بلا أجنحة"، وتتوالى العناوين التي تمتلئ بالشجن وإحساس الاغتراب في أحضان الوطن.

ونعود لأحداث الرواية حيث تبدأ بحدثين منفصلين في بلدين بعيدين في المكان ولكنهما متشابهان في الأيديولوجيات والرؤى، في سوريا البطلة سهر سالم، وفي مصر البطل فتحي رضوان خليل "الذي وصفه الكاتب _حبيب سهر في المستقبل_".

يبدأ الفصل الأول على سهر وانطلاقها من مرحلة الطفولة إلى سن البلوغ لتبدأ رحلتها في الحياة بنظرة جديدة وسلة طموحات وأحلام خارج حدود الوطن؛ فلم تعد الأوطان تحمل لنا ما نتمناه ولم تعد حدودها تتسع لتحليق طيور أحلامنا..

وهنا يدخل البطل الرجل من سوريا "أستاذ كاظم" أو كما ستفاجئنا الأحداث التالية النسخة السورية من فتحي رضوان، حيث يقارن بين أوطاننا التي ضاقت بأحلامنا، واسرائيل "أرض الميعاد" التي دعت أبناءها المشتتين في بقاع الأرض بالعودة لتحقيق أحلامهم ومنحهم وطنًا وحضنًا وملجأً..

وفي ذات الوقت في مصر كان فتحي رضوان يتجرع آلام الهزيمة بعد نكسة 1967 مثل الكثير من الشباب في تلك الفترة، الذين تحطمت أحلامهم، وانهار المستقبل في عيونهم وفقدوا الإحساس بالوطن.

ثم تتكشف حكاية فتحي رضوان وارتباطه بالخيبة والهزيمة، دون أدنى ذنب منه، فقد ولد في عام 1948 "نفس يوم استشهاد البطل أحمد عبد العزيز".

وهنا يبدأ الكاتب في سرد أحداث استشهاد البطل أحمد عبد العزيز، ثم ينتقل إلى أحداث الهزيمة في 1967 مرة أخرى.. سلسلة من الهزائم فكيف يتحملها قلب وروح صبي يتلمس طريق الأمل؟

وتجدر الإشارة إلى أمر هام جدًا وهو رصد ردود الفعل لدى الآباء والأسر العربية مهما اختلفت ثقافتها أو مكانها تجاه بلوغ الأبناء، فنجد رد فعل الآباء تجاه بلوغ الأولاد هو الفرحة والشعور بالفخر على عكس ردود فعلهم تجاه بلوغ البنات الذي يُلقي بظلاله غيمة من القلق والتوتر لا تنتهي إلا بزواج البنت والتخلص من هذا العبء، فالبنت دائمًا عند الأسر العربية " ضيفة" يترقب الجميع حلول موعد رحيلها إلى بيت زوجها والتخلص من هذا الضغط النفسي الذي خلقته وجهة النظر الشرقية للأنثى وألصقته بها.

ونعود لأحداث الرواية، فنجد أن الكاتب يتنقل بين حقب زمنية مختلفة؛ فتارة تجده يحكي عن مرحلة صبى فتحي وسهر، ثم ينتقل بالسرد لفترة شباب فتحي، وفجأة تجد الحديث انتقل إلى زمن أبعد.. زمن الغزو العربي لمصر أو الفتح الإسلامي في زمن عمر بن الخطاب ووصف عمرو بن العاصر لمصر، ليعود وينتقل إلى العصر الحديث ووصف جمال حمدان لشخصية مصر..

نعم فالكاتب "السيد حافظ" مغرم ومهموم بمصر وكل ما يتعلق بها وهي بطلة رواياته الحقيقية وجميع الشخصيات والأحداث الأخرى تدور من حولها.

ومن خلال شخصية فتحي رضوان يجسد حكاية كل شباب هذا الجيل.. جيل النكسة والانهزامات، جيل ضاعت أحلامه وتشتتت؛ فلم يعد يدري ماذا يريد.

وحين تنهار أحلام الشباب ويفتقدون المثل والقدوة يتخبطون ما بين الغريزة والثورة..

فالغريزة هنا هي مجرد مجال للتنفيس عن الضغوط والإحساس بالتمرد والقوة، حتى وإن كانت معركة وهمية يتمرد فيها على العادات والتقاليد ولا يشغله كثيرًا فكرة الحلال والحرام؛ فالحرام وجوهه كثيرة أقربها للتفكير وربما أيسرها الجنس والعلاقات الجسدية، ولكن إذا ما فكرنا قليلاً وجدنا أن الجميع انغمسوا في المحرمات ما بين نفاق وكذب وسرقة وخداع وفساد.

وأما سهر فهي مثال للوطن بكل براءته وفطرته الأولى تتفتح له الأزهار وتحلق حوله الطيور وتسكن حضنه العصافير، إنها الأرض البكر التي لم تتلوث بالفساد والضغائن ولم تعرف أرضها المؤامرات والشرور.

ولكن يطمع الجميع فيها ويود اغتصابها.. رغبة التملك التي تعمي العيون، وتقتل البراءة في القلوب وتطمس في الروح النور.

فهل ما زالت الأوطان محتفظة ببراءتها وفطرتها الأولى؟

سؤال سوف تتجلى إجابته في الأجزاء التالية..

مصر أم الدنيا أم أبوها؟

ليس مجرد عنوان للفصل الثاني عشر، وإنما سؤال يطرحه الكاتب على لسان فتحي رضوان، وكأن المعضلة هي تذكير الوطن أو تأنيثه.. فهل هناك فرق؟

نعم.. هكذا يري الكاتب ويفسر لنا الفرق في محاولة لإيجاد ألف عذر لقسوة الوطن على أبنائه وطرده وتشتيته لهم..

ويعود الكاتب إلى المرجعية التاريخية ليبين لنا سبب تسمية مصر بهذا الاسم..

وتظهر في الأحداث بعض الشخصيات الأخرى منها شخصيات عابرة أراد بها الكاتب وصف العلاقات بين طوائف الشعب المختلفة في مصر، وبعضها ممتدة قد تكون مؤثرة أو ضرورية في مواقف محددة.

ولكن التوازن بين قوى الخير والشر موجود بشكل لافت.

فنجد شخصية شهرزاد وتقابلها شخصية الميثاء، وكذلك سالم والد سهر وتقابله شخصية بسام والد وردة.

وشهرزاد ليست مجرد شخصية عابرة، بل هي مفتاح لبوابات تنقلنا لحكايات أخرى وعوالم مختلفة، تحكي فيها لسهر عن أرواحها الممتدة عبر الزمن، وكذلك تنقل وتصحح لنا الكثير من الأحداث التاريخية المغلوطة كما سيظهر في الأجزاء التالية.

تمثل شخصية شهرزاد بُعدًا هامًا في حياة الشخصية العربية، وهو الميل إلى عالم الخيال والخرافة والقصص القديمة التي تحمل من التشويق والإثارة ما يشبع رغبة الكثيرين في تخطي حدود المكان، وهزيمة الزمن وكسر حواجزه التي تعوق الخيال.

فلا يوجد من لم يستمتع بقراءة ألف ليلة وليلة، ومن منا لم يجلس في هدوء ليستمع لحكايا الجدات وقصصهن الخرافية التي ما زالت تعلق بأذهاننا حتى يومنا هذا؟

اختار الكاتب عقيدة تناقل الأرواح عند المذهب الدرزي لتكون بوابة الزمن التي ننفذ من خلالها لعصور ولَّت ونكشف أسرارها.

وهنا ينتهي الجزء الأول "قهوة سادة"

ليبدأ الجزء الثاني من أول رواية " قهوة زيادة" على حكاية أخناتون الذي يعتقد الكثيرون أنه كان نبيًا، وأول من دعا إلى الوحدانية في مصر، ونبذ تعدد الآلهة الذي عرف في ذاك الوقت.

وذلك من خلال حكاية "نفر" روح سهر الأولى وتجري الحكاية على لسان شهر زاد.

وهنا ينقلنا الكاتب لبعد زماني ومكاني بعيد، ونعيش معه في أجواء أسطورية يرسم لنا فيها حياة قدماء المصريين وارتباطها بالنيل، وهيمنة الكهنة على الملوك وتدخلهم في كل أمور الدولة.

وفي تداخل غريب بين الأمس واليوم تتشابه الأحداث وكأن الأيام تدور وتعود، ربما بشكل آخر لكنها تتشابه في الواقع.

وتنتهى الأحداث باختفاء أخناتون بعد تآمر قائد الجيش والكهنة عليه.

في إشارة توحي بتشابه الأحداث مع ثورة 1952 حين انقلب الجيش على الملك، ولم تكن ثورة شعب كما بدت.. وسوف يتجلى ذلك في أحداث الأجزاء التالية.

نعود إلى النمط الروائي وأسلوب التداخل الذي اختاره الكاتب فنجد أنه قد استخدم بعض الأشعار لجبران خليل جبران ونزار قباني وكذلك بعض المقطوعات النثرية على لسان كاظم وفتحي ولكن الحدث الأبرز في الرواية كان مشهدًا مسرحيًا كاملاً تحت عنوان "ليلة اختفاء أخناتون" أنهى به الكاتب الرواية، واستغنى فيه عن دور الراوي وقدم عرضًا متكاملاً شاركت فيه عدة نساء مثل نفرتيتي والملكة تي وميريت .

إضافة رائعة، فلم يكتف الكاتب بالحوار الرائع المتكامل بين أبطال الرواية ليقدم نصًا مسرحيًا داخل الرواية مكملاً للأحداث.

خطوة جريئة ولكنها ليست غريبة من مبدع اعتاد السباحة عكس التيار.

 ثم ينتهي الكتاب بدراسات نقدية تناولت العمل بكل موضوعية لكبار النقاد.

ونعود لروضة النص الروائي في محاولة لتفكيك رموزه واستقراء مكنوناته واستنطاق خفاياه.

وما يلفت النظر اهتمام الكاتب بمناجاة النفس..

هذا الأسلوب الذي يكشف لنا خفايا كل شخصية ويبرز نقاط قوتها وملامح ضعفها، ومن خلاله نتعرف على شخصيات السباعية الرئيسية.

ونبدأ بشخصية كاظم فنجده اعتاد الكتمان وعدم البوح بما يجيش في صدره من مشاعر تجاه سهر..

وها هو يقول:

"آه يا سهر.. لا تتركيني بين ظنوني القاتلة.. أنا قلبي عصفور يطرب كل الطيور، ولكن اللحن من قلبك أنت وروحك أنت وعطرك أنت.. غيابك موت بطيء.. لا تتركي ظنونك تهشم أحلامنا؛ فأحلام العشاق أجنحة الفراشات وجناح الظنون نار تحرق قلوبنا..

سيدتي أنتِ.. أنا أهزم كل الأشياء إلا الظن والشك فهو يبيد كل الفرسان والبشر.. أحبك نعم، وأنا عصفور وأنا قلب عصفور لا أحتمل الظنون."[2]

وتتوالى مناجاة كاظم دون أن يقدر على المواجهة أو البوح لها بما يوشك أن يغرقه من طوفان مشاعر اختزلها لسهر وحدها دون جميع النساء.

فيقول: "آه يا سهر.. لا تبقي بعيدا ففي فؤادي وردة منك، ذبلت عيون الرجال من البكاء في عشقك.."

ثم يقول: "أحبك في الدقيقة بعدد دقات قلوب نساء الأرض؛ فاجمعي واطرحي واقسمي عددهن في بقاع الأرض.."

وها هو يتماهى في العشق فيقول: "آه يا سهر.. ثلاثة حروف نسيتها حين عرفتك (ألف نون ألف)"

وها هو يقول: "آه يا سهر.. ألقيت عليك حرفين من حروفي.. صرتِ حبي.. ألقيت عليكِ ثلاثة أحرف صرتِ عشقي.. ألقيت عليكِ أربعة أحرف صرت هيامي.. ألقيت عليكِ خمسة أحرف صرتِ جنوني.. ألقيت عليكِ ستة أحرف صرتِ وجودي.."[3]

ويعود كاظم مرة أخرى يسائل نفسه باللهجة العامية الشامية حين كان يبحث عن بقايا رائحتها على ثنايا كراستها ويقول:

"معقول أنا أعمل هيك؟ معقول أنا أعشق تلميذتي؟ أنا في مدرسة البنات وهي حدائق الحب المعلقة وبها ورود من كل لون وطعم ورائحة.."

وأما فتحي رضوان فيبدأ ظهوره في الرواية بهذه المناجاة:

"كنت أسكر وأغني حين أسمع كلمة وطني، والآن أبكي عليه كلما قرأت عنه ونبشت في ذاكرة التاريخ.. الخطيئة أن نخاف الحب.. لم يعد موج بحر الإسكندرية يكفي غسل أحزاني.."[4]

فها هو الكاتب هنا يصف لنا البطل فتحي رضوان في لمحة سريعة هذا العاشق للوطن بجنون، وبقدر عشقه للوطن يتألم لخيانته وسوء أحواله..

وفي حين آخر يقول: "وحين أرغب أن أناديك بلادي.. أناديك بلائي.."[5]

ثم يقول: "آه يا ابن رضوان أين تذهب في تلك الدروب؟؟ النكسة يعني هزيمة.. تعني الحقيقة.. لا جيش لدينا نحن العرب.. جيش مصر وسوريا والأردن والعراق كله وهم.. وهم.. وهم.. لا مفر.. أنا من ضيع في الأوهام عمره.. عام 1967 فارق.."[6]

ويقول: " مر قلبي في شوارع الحب لم يجد اسمه ولا عنوانه.. هل الحزن خطف ذاكرة الحب من قلبي؟ أم أنت حبيبتي أخفيت عنوانك وعنواني؟"[7]

 ثم يقول مرة أخرى: "أنا المسئول عن النكسة.. أنا كنت خطيبًا في الجامعة، وأنا رئيس اتحاد الطلبة.. مصر عبد الناصر قوة عظمى وجيشها أعظم الجيوش.. مصر التي في خاطري ليست مصر المهزومة المأزومة الآن.. مصر المنحوسة بالهزائم.. مصر المحروسة بأهل البيت.. مصر المحظوظة لكل من حكمها وسرق مالها..[8]"

إن الكاتب هنا يصف الأزمة التي عاشها جيل الستينيات وهزيمتهم الداخلية التي تولدت بسبب هزيمة الجيش في 67 رغم عشقهم وولعهم بعبد الناصر وتقديسهم له، إلا أنهم عاشوا حالة من التناقض والشتات بين حبهم له وبين إحساس الهزيمة الذي تسبب فيها جيشه كما أحسوا به.

أما سالم والد سهر فنجده مهمومًا بحماية النساء منذ أنقذ زوجته من الجنود الفرنسيين وحماها قبل أن يغتصبها أحدهم بعدما عاثوا في القرى والمدن التي دخلوها، وها هو مهموم ببناته سهر وسوسن يحلم ببوادر الراحة حين تتزوجا..

فيقول: "آه كبرت بناتك.. وأصبحت في ملقى الرجال وطلباتهم لبناتك.. هذا معناه أنك في خطر آخر يجب أن تعمل حسابه، وأن تكون فطنًا، وإلا غاب عنك الأمان.. عيناك على البنات، على الأرض، على السوق، على الغلاء، على القرية، على الماضي والحاضر.."[9]

وأما شهرزاد فنجدها طوال الأحداث روحها متعلقة بسهر، تذكرها بشبابها وبراءة روحها قبل أن تصقلها الحياة بتجاربها القاسية..

فتقول: "آه يا سهر لو تعلمين كم أحب؟ يا بنت روحي يا من أرى نفسي فيها.."[10]

المونولوج الداخلي

هذا الأسلوب الذي تلجأ إليه الشخصيات حين تخشى مواجهة الطرف الآخر أثناء الحوار وتأبى الإفصاح عن كل ما يدور بخاطرها، فتؤثر كتمان البوح وتبقيه في تلابيب روحها.

ونجد في رواية قهوة سادة الكثير من الأمثلة نذكر بعضها..

حيث نجد وردة تعجز عن الإفصاح لوالدتها بما يجيش في صدرها من ولع تجاه كاظم أستاذها، فيقول الكاتب:

"قال قلب وردة: الحب يا أمي كلمة ليست في قاموسك أحيانًا تبيع النساء قلوبهن له بدلا من أن تمنحه للأزواج، لأن الأزواج غالبًا ليسوا عشاقا ولا أحبابا بل أزواجا."[11]

وها نحن نجد كاظم يفصح عن شعوره الداخلي حين تداهمه وردة وتتحرش به أثناء ‘جباره على إعطائها الدرس، فنجده يقول في داخله: "لا أحد ينتظرني في البيت، لا أحد أشتري له زهورًا.. لا أحد يشرب القهوة معي أو يغطيني في المساء وأنا أرفس الغطاء.. لا أحد يبتسم لي في الصباح.. لا أحد يسمع الأغاني معي ويلملم أوراقي وأحلامي وأحشائي وجحيمي وأشجار حناني ويكوي سروالي ويغير مفرش وسادتي ويجهز مصحفي ونسكافيه باللبن وحبري وأوراقي وثيابي.. لا أحد يجمع الحصاة التي يلقيها البلهاء على كتاباتي.. لا أحد.. لا أحد.. ليس لي إلا الواحد الأحد."[12]

كذلك نجد اللقاء الأول بين نفر والمعلم باكا، حين تتعثر قدمها وتسقط على الأرض فيساعدها على النهوض..

ويهمس بيه وبين نفسه قائلًا: "كأنك أيتها الأنثى.. صدى الروح في الحلم.. كأنك أغاني النيل حين يتنهد على صدر النساء، كأنك ومضة تسللت إلى الحشا.."[13]

بينما يجيش في صدر نفر حديث عن باكا حين أحست بذراعي باكا وهي تحملها عن الأرض فتقول لنفسها: "أي ريح في أنفاسك أيها الشاب الاسمر؟ أي لغة في عينيك غير اللغة الهيروغليفية كأنها لغة غير لغات كل البشر.. لقد لمس إصبعك كتفي ونهدي الأيمن وأنت ترفعني لأعلى.. إلى أين ترفعني في أي سماوات وأي أفق؟؟ إلى أين ترفعني وتأخذني عيناك؟"[14]

الاقتباس من القرآن الكريم

وننتقل إلى أسلوب آخر وهو الاقتباس من آيات القرآن التي دعّم بها الكاتب زوايا السرد فصارت جزءًا من نسيجه وأضفت عليه نفحة روحية وعمقًا أكثر.

فقد بدأ الكاتب الرواية بهذه الآية القرآنية من سورة الإسراء: "ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا."[15]

وهي استهلال يشكل في حد ذاته أسلوبًا استباقيًا للأحداث.. سوف نفصل شرحه فيما بعد.

اقتباسات من الشعر

كذلك استخدم الكاتب الاقتباس من الشعر فمثلا استخدم أبيات جبران خليل جبران في بداية الفصل الثاني:

"ليت لي ألف عين

ترى كل ما يعرض على الوجود

من عجائب وطرائف،

وليتني أبقى تائقا إلى مرأى

ما خفي عني

ومكنونات.."[16]  

ثم نجد أبياتًا أخرى للشاعر الكبير نزار قباني نظمها بعد نكسة 67:

أرغمني جندك أن آكل من حذائي

يا سيدي..

يا سيدي السلطان

لقد خسرت الحرب مرتين

لأن نصف شعبنا.. ليس له لسان

ما قيمة الشعب الذي ليس له لسان

لأن نصف شعبنا..

محاصر كالنمل والجرذان..

في داخل الجدران..

لو أحد يمنحني الأمان

من عسكر السلطان..

قلت له: لقد خسرت الحرب مرتين..

لأنك انفصلت عن قضية الإنسان..[17]

ولعل أبلغ مثال استخدمه الكاتب معبرًا عن الحالة السائدة في الشعوب الفقيرة التي يطمح أبناؤها في الثراء عبر بلاد النفط، فنجده يذكر أبياتًا من قصيدة الشاعر نزار قباني  "آخر عصفور يخرج من غرناطة" ويقول فيها الشاعر:

النفط يستلقي سعيدا تحت أشجار النعاس

وبين أثداء الحريم

هذا الذي قد جاءنا

بثياب شيطان رجيم

النفط هذا السائل المنوي

لا القومي

لا العربي

لا الشعبي

هذا الأرنب المهزوم في كل الحروب

النفط مشروب لأباطرة الكبار

وليس مشروب الشعوب..

كيف الدخول إلى القصيدة يا ترى

والنفط يشري ألف منتجع بماربيا

ويشري نصف باريس

ويشري نصف ما في نيس من شمس وأجساد

ويشري ألف يخت في بحار الله

يشري ألف امرأة بإذن الله

يشري ألف غانية لعوب

لكنه..

لا يشتري سيفًا لتحرير الجنوب..[18]       

المفارقات الزمنية.. الاستباق والاسترجاع

وأما عن استخدام الكاتب للأساليب المختلفة للسرد فنجد كما ذكرنا استخدامه أسلوب الاستباق: هذا الأسلوب الذي يذكر فيه الكاتب معلومات أو يلوح بإشارات عما سيرد ذكره في الأحداث التالية كما جاء في ذكر الآية الكريمة من سورة الإسراء التي تتحدث عن الروح، ثم تأتي شهرزاد فيما بعد لتحكي لسهر عن أرواحها السابقة في شكل أسلوب الاسترجاع..

كذلك استهل الكاتب الحديث عن فتحي رضوان بجملة "حبيب سهر في المستقبل" ثم يعود بالتاريخ إلى نكسة 67 ويقفز مرة أخرى إلى عام 73 حين كتب فتحي رضوان خطابًا إلى ناهد حجازي قائلًا: "عذرًا سيدتي.. ماذا أكتب عن حرب أكتوبر 1973؟.. رأيت الوطن يضاجع الفقراء ويقدمهم ضحايا وشهداء في سيناء، وعندما انتصروا ترك لهم سرواله الداخلي ليصنعوا منه أوسمة وشهادات تقدير وأعلام أما الأغنياء جلسوا على عرش مصر وباعوها لكل الغرباء باسم الانفتاح والانفشاخ والخصخصة والمصمصة.."[19]

المسرحية

ثم يغوص الكاتب لأبعد من ذلك فيصل بنا لعصر مصر الفرعونية في زمن إخناتون ولكن بطريقة أخرى في السرد على شكل المسرحية، ليختم الرواية بنص مسرحية "ليلة اختفاء إخناتون"

" إن فن المسرحية من أكثر فنون الأدب استعصاء على كاتبه، وأشدها حاجة إلى مهارة فنية خاصة تستطيع أن تؤلف بين عناصر هذا الفن المتشعبة من قصة وممثل ومسرح وجمهور وحوار، وأن تخضع في غير افتعال لقيود المسرح والتزاماته، وأن تتعاون كل هذه العناصر في غير تضارب أو تنافر حتى يصل الكاتب إلى عمل فني متكامل متناغم."[20]

ونحن هنا لا نتحدث عن روائي مخضرم استخدم أساليب جديدة في السرد الروائي في شكل منمنمات من الشعر والفن والقصة القصيرة والقصيرة جدًا في داخل نسيج روائي متكامل ولكننا لا يمكن أن نغفل أنه رائد من رواد المسرح ومؤسس المسرح التجريبي في مصر والوطن العربي، يكتب ويخرج للمسرح يرسم الشخصيات فتبدو على الورق من لحم ودم تتحرك بيننا وفي داخل أرواحنا، ولهذا فليس من المستغرب أن يستخدم أسلوب المسرواية التي يخشاها الكثير من الروائيين ويتجنبون استخدامها خوفًا من تشتت القارئ أو ضياع فكرة الكاتب نفسه.

ولكننا هنا نجد الكاتب يستخرج من التاريخ بعض الشخصيات واالأحداث التي تشكل علامة فارقة والتي تتناسخ أحداثها مع أحداث في الوقت الحاضر أو في حاضر الرواية الأصلية.

سلسلة من الأحداث المترابطة، وكأن الأرواح تتنساخ عبر التاريخ، ليست فقط أرواح سهر كما تحكي شهرزاد ولكن أرواح بقية الأبطال.


[1] ص 25 فن الرواية للكاتب ميلان كونديرا

[2] ص18 رواية قهوة سادة قهوة زيادة

[3] ص 85 رواية قهوة سادة قهوة زيادة

[4] ص 29 قهوة سادة قهوة زيادة

[5] ص 62 قهوة سادة قهوة زيادة

[6] ص 92 قهوة سادة قهوة زيادة

[7] ص 103 قهوة سادة قهوة زيادة

[8]  ص 75 قهوة سادة قهوة زيادة

[9]  ص 125 قهوة سادة قهوة زيادة

[10]  ص 138 نفس الرواية

[11]  ص 143 نفس الرواية

[12]  ص 157 قهوة سادة قهوة زيادة

[13]  ص 183 نفس الرواية

[14]  ص 184 قهوة سادة قهوة زيادة

[15]  سورة الإسراء آية 85

[16]  ص 28 قهوة سادة قهوة زيادة

[17]  ص 70 قهوة سادة قهوة زيادة

[18]  ص 168 قهوة سادة قهوة زيادة

[19]  ص 29 قهوة سادة قهوة زيادة

[20]  ص41 دراسات في النقد المسرحي والأدب المقارن د. محمد زكي العشماوي
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف