الأخبار
إعلام إسرائيلي: إسرائيل تستعد لاجتياح رفح "قريباً جداً" وبتنسيق مع واشنطنأبو عبيدة: الاحتلال عالق في غزة ويحاول إيهام العالم بأنه قضى على فصائل المقاومةبعد جنازة السعدني.. نائب مصري يتقدم بتعديل تشريعي لتنظيم تصوير الجنازاتبايدن يعلن استثمار سبعة مليارات دولار في الطاقة الشمسيةوفاة العلامة اليمني الشيخ عبد المجيد الزنداني في تركيامنح الخليجيين تأشيرات شنغن لـ 5 أعوام عند التقديم للمرة الأولىتقرير: إسرائيل تفشل عسكرياً بغزة وتتجه نحو طريق مسدودالخارجية الأمريكية: لا سبيل للقيام بعملية برفح لا تضر بالمدنييننيويورك تايمز: إسرائيل أخفقت وكتائب حماس تحت الأرض وفوقهاحماس تدين تصريحات بلينكن وترفض تحميلها مسؤولية تعطيل الاتفاقمصر تطالب بتحقيق دولي بالمجازر والمقابر الجماعية في قطاع غزةالمراجعة المستقلة للأونروا تخلص إلى أن الوكالة تتبع نهجا حياديا قويامسؤول أممي يدعو للتحقيق باكتشاف مقبرة جماعية في مجمع ناصر الطبي بخانيونسإطلاق مجموعة تنسيق قطاع الإعلام الفلسطينياتفاق على تشكيل هيئة تأسيسية لجمعية الناشرين الفلسطينيين
2024/4/27
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

انتحار

تاريخ النشر : 2022-10-04
انتحار

بقلم: بهائي راغب شراب

عليه أن يسرع .. ويهرب بعيداً عن المدينة .. بعيداً عن الصخب الصارخ القاتل وبعيداً عن الفوضى التي تجمح بالإنسانية القابلة للخير، عليه ان يذهب بعيداً عن روائح المدينة العاهرة التي تفجرت أحشاؤها فأخرجت أجنة مشوهة تبث الرعب والدمار لكل الأيدي التي قد تمتد اليها حتى تأتي الولادة الطبيعية كالفطرة البريئة في شفافيتها الشاعرة .. عليه أن يهرب من المدينة التي تخنق الرياح والحدائق وتغتال المشاعر في غياب الحقيقة التي يخشى أهل المدينة الإفصاح بها. ليدفع نفسه بعيداً عن هذا الوحش الذي يؤرقه ولا يدعه يهنأ بلحظات يستسلم فيها للاسترخاء ليجدد حيويته ونشاطه الذي يتبدد هراء ولأجل ماذا .. لأجل لا شيء .. غير الجري نحو الأبواب المؤصدة أمام القلوب، وغير الاندفاع المجنون حيث تصطدم الأشياء ببعضها وتتساقط الأوراق الخضراء القليلة الباقية.

إنه يتذكر الأيام الخوالي والسنين الجميلة التي عاشها في بلدته الهادئة الحالمة الخضراء، البسيطة في أحاديثها ، ولياليها الملتفة المتدثرة بقصص القرآن وحكايات الأبطال الخارقين الذين بنوا كرامتهم بسواعدهم وحافظوا على أسمائهم نظيفة طاهرة بسيوفهم التي لم تقبل يوماً الضيم أياً كان شكله.. لقد كانوا يفرزون الخطأ مهما كان بسيطاً، لقد كانت فطرتهم الحقيقة التي لا تحتمل الزيف جوارها.

بلدته الجميلة التي ارتمت بين ذراعي البحر ولتعلن معه زواجاً أبدياً لا ينسلخ عقده أو تتفكك عراه.. لقد كان صديقاً خاصاً ودائماً للبحر، اتخذ من شاطئه سريره الذي يلقي عليه بجثته المرهقة فتأتي الأمواج تحتضنه بالحب تجتث من جسده الإرهاق ومن نفسه الملل. لقد طعم الحرية باتساع البحر وبخضرة الأرض منذ ولد تحت جذع النخلة العجوز التي ظلت شاهدة على الوفاء الصادق بين النبات والأرض وظلت المثال الحي على القدرة على البقاء والمقاومة لكل عوامل الموت والخريف.

عندما كان يذهب الى البحر كان يحادثه، يبثه همومه وأمانيه، كشف له عن سره الذي يدفنه داخل صدره.. لكم يحب المدينة ويشتاق اليها ، لكم يود لو يسافر إليها، قد سمع عنها الكثير.. اتساعها ومبانيها.. عن أسواقها وحدائقها، عن فتياتها الحسان اللواتي يزغللن العيون بجمالهن الفتان، لقد وعدته جدته أنه بإمكانه الذهاب الى المدينة كما يشتهي لكن ذلك لن يتم إلا إذا نجح وحصل على الشهادة الثانوية وليلتحق بكلية الطب ليمكنه العودة وخدمة أهل بلدته الذين يقدرونه ويحبونه..

وقد كان.. بذل جهده كاملاً في استيعاب دروسه حيث أنهى دراسته الثانوية بنجاح باهر أهله للالتحاق بكلية الطب كما اشتهت جدته تماماً بل كما اشتهاها هو أيضاً، فلقد كانت أمنيته العزيزة التي حلم دائماً بتحقيقها.

ودخل المدينة دخول الظافرين.. أكاليل النصر تغزلها نظراته المتوقدة المتحفزة للانطلاق المجنون.. سيقود المدينة وسيصبح ربانها الوحيد يملك الأمر والنهي فيها دون منازعة من أحد ولا مشاركة، الدفة ستكون بيده ولن يدع غيره يديرها..

اختلط بالزملاء والزميلات رفاق دراسته وبسرعة غريبة اندمج معهم فما عاد أحد ليميزه عن أبناء المدينة وهو الساذج البريء ابن البلدة القروية. اتخذ له سكناً صغيراً يتألف من غرفة وصالة صغيرتين، أراد العيش بمفره، يخطط لهجومه الكبير الي سيشنه على قلب المدينة حيث سيمسك زمام القيادة في يده وحده.. خطط ورسم كما لم يخطط أحد من قبله وكما لن يخطط أحد من بعده
وفي لحظة النشوة والاستعداد للانطلاق في هجومه الكبير يطرق باب بيته الصغير لتدلف منه بملامحها البشعة وعطرها النفاذ يتسلل كالأفعى.. تدله بجنون.. ولم يعد قادراً على التنفس المنتظم.. غاب عن وعيه..

لقد نسي الأشياء كلها حتى نفسه ، أصبح بحاراً من الدرجة المائة لا أحد يذكره ولا أحد يهتم به .. فقط تلك النقود التي تصله من جدته العجوز التي تنتظر عودته وقد أصبح طبيباً كبيراً.. حيث سيفتتح عيادة لعلاج أهل بلدته ليخلصهم من الأمراض والأوبئة التي يعانون من آلامها القاتلة في عزلتهم البعيدة عن المدينة ..
آمال جدته سقطت مع آماله عند أقدام أول امرأة تقابله .. كان لها أسلوبها الذي لا يفشل مع أمثاله الحالمين بالصعود، لقد درسته وعلمت كنهه وشخصيته الشاعرة وسذاجته البريئة، وكشفت بكارته الأثرية التي خرقتها بهجومها عليه قبل أن يبدأ هجومه، عرفت سريرته وعرفت أنه يخطط لهجوم من نوع آخر ولهدف آخر، كانت تراقبه باستمرار من خلال نافذته المفتوحة على الدوام وعرفت كل شيء عنه. حركاته. سكناته.. رشقاته.. كانت تراه وهو يعصر نفسه يدبر للهجوم وكانت تستلذ وهي تراه يعذب نفسه وقررت أن تبدأ هي وأن تستغل لحظات ضعفه الهادرة والاندفاع نحوه تجني ثمرته التي نضجت ولتنتقم منه حيث لم يكن يهتم بها من قبل ولم يكن ليعيرها أدنى أهمية..

لا يزال يجري مبتعداً عن المدينة لا يريد أن يتذكر أضوائها التي جذبته نحوها بزينتها ، والتي شلت عيناه فلم يعد قادراً على رؤية الطبيعة ذات الفطرة الجميلة الوردية... لم يعتقد لحظة أنه الظلام يشده نحو الهاوية القاع حيث تختفي الأنوار نهائياً وحيث انسحبت من حوله الأيدي التي كانت ممتدة نحوه تدفعه للوقوع حتى إذا وقع تركته في حفرته وعادت سليمة تبحث عن حالم آخر يخطط ليحكم الشمس والقمر، تتركه ليقع حيث أذناب الأفاعي ذات الأجراس تنتظره.. تقرع داخل رأسه بعيداً عن الوعي الذي سحبوه منه وهو في أوج يقظته..

كم كان يحبها، لم يكتشف ذلك إلا بعد وقوعه الذنيم.. اكتشف أنها حياته.. غناءه وبراءته التي تركها خلفه عندما توجه للمدينة .. أحبها بعنف.. وبادلته حبه العنيف.. لكنها بريئة طاهرة . تساءلت كثيراً عن غيابه المتكرر.. استفسرت عنه من أصدقاءه .. أخبروها أنهم لم يروه منذ أيام ولعله يكون مريضاً.. لم تحتمل فكرة مرضه وهي بعيدة عنه لا تقف بجواره... أخذت عنوانه وتوجهت اليه متجاوزة المحاضرتين الأخيرتين لها..

لم يكن يعتقد أبداً أن أحداً سيقوم بزيارته في هذا الوقت فلم يحكم إغلاق الباب عليهما وهما يتقلبان فوق حصيره الذي اهترأ محترقاً من جحيمه المجنون.. كان الباب مفتوحاً عندما وصلت.. اعتقدت أنه مريض وقد تعمد تركه مفتوحاً كي يمكن لزواره الدخول مباشرة .. ودخلت بهدوء، لم يدر بخلدها أنها ستصعق وستتمنى لو لم تفكر بالمجيء إليه.. كانا ينهنهان أمامها من فرط التعب والإرهاق الذي شدهما من ساعات النهار الأولى .. لم تحتمل المنظر . كادت تصرخ لكنها الصورة المشينة شلّت قدرتها على الصراخ فخرجت مسرعة لا تلوي على شيء .. وانتبه اليها .. كان عاريا تماماً وكانت بجواره ترقد كالبقرة المسلوخة تجتر بفمها ما تبقى من لعابه الدنس، قفز كالمصعوق وراء حبيبته.. وعاد سريعاً لم يعده الا إحساسه بالعري الكامل أمامها لجسده ولنفسه.. بعد ذلك لم يستطع مواجهتها لقد كشفت زيفه وعلمت أنه لم يكن أبداً ليلبس شيئاً يخفي عريه.

سيعود إلى الشاطئ .. لا يحتمل نظرات الاحتقار والقرف تجاهه، إنه ليذوب أمامها كالبصقة التي تتسرب داخل التراب القذر.. سيعود إلى البحر يرد إليه حقيقته التي غابت عنه .. سيتحرر من القيود والسلاسل المحيطة بعنقه كالعبد الذليل الذي رقه سيده فلا يتركه إلا ليبيعه إلى سيد جديد.

هيهات .. هيهات له الهرب ، مازال الطريق فارغاً أمام عينيه وما تزال الأضواء تتشبث به تنهشه بمخالبها التي لا تشبع من الدماء . إنه البحر.. ليقترب منه بسرعة .. ليقتحمه ويغسل أدرانه الهمجية التي أفسدت براءة لعبته القديمة عندما كان يتحدى الأمواج أنها لن تسقطه وتقبل هي التحدي ويمارسان معاً لعبة شد الحبل .. لكم كانت تتساهل معه الأمواج فتزحف اليه زحفاً متوددة متذللة اليه وعندما يتمادى بتحديه تأتيه فجأةً صاخبة وتطيح به نحو الشاطئ لكنها في كل مرة لم تفكر بأخذه الى أعماق البحر حيث الولادة الجديدة المستمرة لحياتها..

هو الآن يطلب التحدي، يلعب لعبته القديمة، إن انتصر فيها فهي الإشارة له أن البحر قد اجتث أدرانه كلها وسامحه على تفريطه المهول بذكرياته الأليفة التي لا تنتهي أبداً..

يسير إلى الأمام بثبات لا يستمر طويلاً كما كان في السابق ولكنه يتحدى ويستمر في اقتحامه الجريء .. الأمواج تزحف نحوه متخاذلة لا تريد أن تتذكر الخيانة التي ارتكبها صاحبها بحقها .. لكنه يتقدم نحوها .. الماء يغمره حتى سرته ويظل ماضياً في اقتحامه .. الماء يغمره حتى كتفيه فليستمر .. الماء اقترب من ذقنه فليستمر .. الأمواج تعلن غضبها المدمر ... تتحد ثورة الأمواج مع المغيب الذي يتوارى وراء الأمواج .. يتسع الأفق الوردي .. يهبط قرص الشمس شيئاً فشيئاً يعانق البحر .. يقبله .. تغوص الشمس إلى أعماق البحر في بياتها اليومي في أحضان زوجها الذي لا يمل منها أبداً ..

إنها اللحظة المنتظرة.. ليغص هو الآخر.. تلك فرصته الوحيدة ليلتقي بالشمس.. فرصته ليقبلها القبلة الأبدية والأخيرة.



 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف