الأخبار
"عملية بطيئة وتدريجية".. تفاصيل اجتماع أميركي إسرائيلي بشأن اجتياح رفحالولايات المتحدة تستخدم الفيتو ضد عضوية فلسطين الكاملة بالأمم المتحدةقطر تُعيد تقييم دورها كوسيط في محادثات وقف إطلاق النار بغزة.. لهذا السببالمتطرف بن غفير يدعو لإعدام الأسرى الفلسطينيين لحل أزمة اكتظاظ السجوننتنياهو: هدفنا القضاء على حماس والتأكد أن غزة لن تشكل خطراً على إسرائيلالصفدي: نتنياهو يحاول صرف الأنظار عن غزة بتصعيد الأوضاع مع إيرانمؤسسة أممية: إسرائيل تواصل فرض قيود غير قانونية على دخول المساعدات الإنسانية لغزةوزير الخارجية السعودي: هناك كيل بمكياليين بمأساة غزةتعرف على أفضل خدمات موقع حلم العربغالانت: إسرائيل ليس أمامها خيار سوى الرد على الهجوم الإيراني غير المسبوقلماذا أخرت إسرائيل إجراءات العملية العسكرية في رفح؟شاهد: الاحتلال يمنع عودة النازحين إلى شمال غزة ويطلق النار على الآلاف بشارع الرشيدجيش الاحتلال يستدعي لواءين احتياطيين للقتال في غزةالكشف عن تفاصيل رد حماس على المقترح الأخير بشأن وقف إطلاق النار وتبادل الأسرىإيران: إذا واصلت إسرائيل عملياتها فستتلقى ردّاً أقوى بعشرات المرّات
2024/4/19
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

محمد أحمد خلف الله.. في دائرة الضوء

تاريخ النشر : 2022-10-02
محمد أحمد خلف الله.. في دائرة الضوء

بقلم: د. سامي عطا حسن

عرفت لحياة الثقافية المصرية أديبا كبيرا هو: الأستاذ الدكتور محمد خلف الله أحمد ( 1904م- 1983م )، ويعتبر الاستاذ الثالث للأدب العربي وتاريخه في الجامعات المصرية بعد طه حسين ؟؟ وأحمد أمين، وهو ثاني من نال جائزة الدولة التقديرية ( عام 1970م ) في اللآداب من بين الأساتذة الأكاديميين بعد طه حسين؟؟ وهو على وجه العموم من أبرز الأكاديميين في جيله ..

تخرج في مدرسة دار العلوم العليا 1928، ثم درس الفلسفة وعلم النفس بإحدى جامعات لندن. وعاد إلى مصر ليشتغل بالتعليم، وتدرج في المناصب الجامعية حتى صار رئيساً لقسم اللغة العربية بكلية الآداب بجامعة الإسكندرية 1947، فعميداً للكلية 1951 ثم وكيلاً لجامعة عين شمس 1916. وبعد بلوغه سن التقاعد عين مديراً لمعهد البحوث والدراسات العربية التابع لجامعة الدول العربية. وكان عضواً بمجمع اللغة العربية بالقاهرة، ومجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، والمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية. عرف في شبابه بنظم الشعر الجيد، والبراعة في الخطابة. وله مؤلفات وبحوث عديدة. نال جائزة الدولة التقديرية في الآداب 1970.

• من أهم كتبه :
• من الوجهة النفسية في دراسة الأدب ونقده 1947،
• دراسات في الأدب الإسلامي .
• معالم التطور الحديث في اللغة العربية وآدابها 1961
ومن أهم بحوثه:
• الثقافة العربية بين الثقافات العالمية الكبرى
• نصيب العرب في تطوير دراسات البلاغة
• وثائق من الأدب الإسلامي السياسي
• وظيفة الشعر عند شوقي
• رحلة طه حسين مع الشعر العربي .
وقد تمكن من علوم اللغة والأدب ، ومن علوم النفس والتربية ، على مستوى لم يجتمع لأحد من معاصريه ، وربما من تلاميذه ولاحقيه ، كان علمه بالتربية وعلم النفس لا يدع مجالا للتصور أنه أستاذ أدب في الأساس وهو أحد المجمعيين الذين عنوا بوضع : المعجم الوجيز .. وقد شاركه في هذا العمل كل من الأساتذة : أبراهيم أنيس ، وعلي التجدي ناصف ، وأحمد الحوفي .. منح الاستاذ محمد خلف الله جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 1970م ... وكان المصريون يلقبونه بخلف الأحمر ..؟؟ وخلف الأحمر هو : أبو محرز خلف بن حيان ، من علماء البصرة في اللغة والنحو .. وذلك للتفريق بينه وبين شخصية أخرى تحمل اسما مشابها لاسمه وهو : محمد أحمد خلف الله ؟؟( 1916م – 1997م ) وكانت بشرته تميل للسواد فأطلقوا عليه لقب ( خلف الأسود ؟؟) الذي بدأ حياته الثقافية بإثارة العديد من المعارك الفكرية ، وكان منها : أزمة رسالة الدكتوراة المقدمة من ( محمد أحمد خلف الله ) تحت عنوان : ) ( الفن القصصي في القرآن الكريم ) في كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول في سنة 1947م ، فما الذي جرى ؟؟ في ( 31 أكتوبر 1947م ) أصدرت جامعة فؤاد الأول التي أصبح اسمها : جامعة القاهرة .. قرارا برفض رسالة الدكتوراة التي تقدم بها محمد أحمد خلف الله تحت عنوان : الفن القصصي في القرآن الكريم .. وتحويل صاحبها إلى عمل إداري ، وحرمان الشيخ أمين الخولي المشرف على الرسالة من تدريس علوم القرآن الكريم ، أو الإشراف على رسائل تتصل بالقرآن الكريم !!

وقد أثارت رسالته ردود فعل عديدة رافضة لما جاء فيها ، وصلت حدّ التكفير، إذ اعتبرت ما أتى به خلف الله تقويضًا لقداسة النص القرآني ، ونزعًا لصبغته الإلهيّة، وقد بلغ الأمر إلى درجة تكوين لجنة خاصة أعادت النظر في محتوى الرسالة وانتهت برفضها ومطالبة صاحبها بإعداد رسالة أخرى. ومن مؤلّفات محمّد أحمد خلف الله نذكر: "القرآن ومشكلات حياتنا المعاصرة"، و"القرآن والدولة"، و"القرآن والثورة الثقافيّة"، و"محمّد والقوى المضادة" وهو في الأصل نصّ رسالته لنيل درجة الماجستير، وكان عنوانها الأصلي "جدل القرآن"، و"مفاهيم قرآنيّة"، وغيرها . شغل محمّد أحمد خلف الله وظائف التدريس بكليّة الآداب، ومعهد الدراسات العربيّة التابع لجامعة الدول العربيّة، وعمل وكيلاً لوزارة الثقافة المصريّة.

وقد ابتدأت الضجة حول محمد أحمد خلف الله عندما أصدر أطروحته للدكتوراه عام 1947م عن "القصص الفني في القرآن" التي ادعى فيها أن قصص القرآن إنما جاءت للموعظة لا لتقرير الحقائق !! أي أنها قد تكون أساطير وخرافات !! وقال : ) رسول الله للقرآن قول بشر ) ( [1] ) وكان قد قال قبل ذلك : ( إن النص القرآني إن لم يكن قادرًا على تحقيق المصلحة تركناه، ولجأنا إلى الفكر البشري؛ فإن مدار النصوص على المصالح، فهي أصل والنصوص فرع ) ( [2] ) كما وصف قصص القرآن بالخرافة، وزعم أن القرآن نفسه لا ينفي أنه يحوي أساطير؟!! وهذا البحث لقي اتفاق وإجماع أهل العلم في مصر وغيرها على ضلال وجرأة صاحبه، "كما لقي دعم وإعجاب كثير من المشبوهين ومن المستشرقين الذين انبروا للدفاع عنه وتقريظه، حتى إن ( ج. بالجون، وج. جومييه - من القساوسة الدومينيكان- ) وصفاه بأنه البحث الوحيد الذي يمثل الاستنارة الحقيقية في الفكر الإسلامي عن حركة المجتمع العربي المعاصر، وقصر القرآن على العبادات والمساجد، كضرورة حتمية لتقدم المجتمع العربي " ( [3] ) وقد وصفه الكاتب اليساري ( طلعت رضوان ) بالقول : (محمد أحمد خلف الله باحث جاد وأصدر العديد من الكتب عن الدين الإسلامي ، ومع ذلك صنـّـفته الثقافة المصرية السائدة (والعروبية) على أنه (أحد رموز الفكر العلمانى) و (من المُنظرين الأساسيين للفكر التوفيقى بين الماركسية والقومية العربية ، ولعل هذا التوفيق ( والأدق : التلفيق ) بين نقيضين ( الماركسية بمنهجها العلمى والعروبة بأيديولوجيتها العنصرية ) ( [4] ) وقد أحدث هذا الكذب والتدليس ، والاستهتار ، موجة من الاستهجان والاستنكار من العلماء والكتاب.

1- قال الأستاذ محمد أحمد الغمراوي: ( هذه الرسالة تقيس القصص القرآني بمقاييس ليست وثيقة ولا مقررة؛ فإن خالف القرآن تلك المقاييس كان عند أصحابها كذبًا وافتراءً على التاريخ، أو كان نوعًا من ذلك الفن الأدبي الذي لا يلتزم الواقع التاريخي، ولا الصدق العقلي، وإنما يخضع في تآليفه لهذه الحرية الفنية التي يخضع لها كل فنان موهوب، وتطبيقًا لهذه القاعدة صار القرآن -في رأي صاحب الرسالة- "يتقوّل على اليهود وينطقهم بما لم ينطقوا به، ويتقوّل أمورًا لن تحدث ويقرر أمرًا خرافيًا أو أسطوريًا ثم يعود فيقرر نقيضه ويغيرّ الواقع ويبدل ويزيد وينقص بحكم هذه الحرية الفنية".... ومن مفاسد هذه الرسالة اعتبارها أن مصادر القصص القرآني هي التوراة والإنجيل والأقاصيص الشعبية، وما امتزج بها من عناصر فارسية وإسرائيلية، وأنه جرى في ذلك خلف قساوسة المستشرقين أمثال ردويل ومرجليوث حتى بلغ به الأمر أنه لم يدرك ما هنالك من تناقض بين نسبة القرآن إلى الحق سبحانه، والحكم على قصص القرآن بأن أكثره غير صحيح. "ومما يذكر أن محمد أحمد خلف الله قد خاض بعد ذلك في ميدان آخر يهاجم فيه الإسلام، وهو موضوع الشريعة الإسلامية" ) ( [5] )

2 - قال الاستاذ الكبير أحمد الشايب : في دراسة عن حياته العلمية (1913 - 1970): أشير في إيجاز إلى هذه المعركة العلمية التي دارت في كلية الآداب، عام 1947 م حول مشروع رسالة "الفن القصصي في القرآن الكريم" تقدم به طالب يدعى محمد أحمد خلف الله، بإشراف الأستاذ الشيخ أمين الخولي، وتأييده والدفاع عنه.
وقد قام هذا المشروع على أساس أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - مؤلف القرآن، وأن القرآن في قصصه لم يتحر الصدق، وأنه كان يغير ويبدل في القصص نزولاً على ظروفه الخاصة التي كانت تحيط بالدعوة الإسلامية، وأن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - في القصص القرآني الكريم كان يخلق من الحوادث ما لم يقع، ويصوره على أنه الواقع التاريخي إلى نحو ذلك مما لم يستند إلى برهان علمي؛ وإنما كان مجاراة للمبشرين. وقد شغلت هذه المسألة الجهات الجامعية والأزهرية والبرلمانية، والصحافة ومجلس الدولة،؟! وقد رفض أحمد الشايب هذا المشروع إذ كان معينًا لفحصه، وبرأيه أخذت كل الهيئات المذكورة وقد أبعد أصحابه عن الجامعة. - هذا هو ملخص كتاب "الفن القصصي في القرآن" الذي يقول كاتبه بالنص في الرسالة، والتي تمثل الخطوط العامة لرسالته : إن القصص القرآني لم يراع الحقيقة التاريخية" وأن المقصود منه عرض فني، فلسنا ملزمين بتصديق حقائق هذا القصص؛ وإنما تقدر فيه "الغاية الفنية" ؟؟ وأن القصص مستمدة من مصادر أخرى غير عربية، كالتوراة والأدب اليوناني والأدب الفارسي، وأن فيه أساطير لا أساس لها.؟؟ ( [6] )

3- يقول تقرير الفاحصين للرسالة من أساتذة الجامعة والأزهر (الشيخ عبد الوهاب خلاف، والدكتور زكي حسن، والدكتور الشرقاوي(: :
إن أساس هذه الرسالة أن القصص في القرآن عمل فني، خاضع لما يخضع له الفن من خلق وابتكار، من غير التزام الصدق التاريخي والواقعي، وهذا صريح وواضح من جملة مواضع في الرسالة، وقد أيده الكاتب بما استشهد به من الأمثلة:
ففي (ص 26 سطر 10) قرر: أن القرآن أنطق اليهود بما لم ينطقوا به، وذلك في قوله تعالى في سورة النساء: { إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى} [النساء: 157]: و (ص 26) قرر كاتب الرسالة عن قوله تعالى في سورة المائدة: { وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ } [المائدة: 116]، أن هذا القول وهذا الحوار تصوير لموقف لم يحدث بعد، بل لعله لن يحدث، وفي (ص 89) قرر الكاتب أن قصة موسى -عليه السلام- في سورة الكهف لم تعتمد على أصل في واقع الحياة وفي هذا مخالفة ظاهرة لقوله تعالى: { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ } [ الكهف: 13]، ولقوله سبحانه وتعالى: { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى } [ يوسف: 111]، وقد واجه هذه الشبهات سبعة من العلماء بالكشف عن زيفها وفسادها. ( [7] )

4- بين الأستاذ أحمد أمين : عيوب هذه الرسالة وانحرافاته الواضحة ثم قال : هذه الرسالة ليست عادية بل رسالة خطيرة، أساسها: أن القصص القرآني عمل فني خاضع لما يخضع له الفن من خلق وابتكار، من غير التزام لصدق التاريخ والواقع، وأن محمد - صلى الله عليه وسلم - فنان، وبهذا المعنى يرى المؤلف أن القصة في القرآن لا تلتزم الصدق التاريخي، وأنها تتجه كما يتجه الأدب في تصوير الحادثة تصويرًا فنيًا، بدليل التناقض في رواية الخبر الواحد. ( [8] )

5- ومما قاله الشيخ عبد المتعال الصعيدي :
صاحب هذه الرسالة لم يكن له أن يظفر إلى الكتابة عن موضوع القرآن، وهو يجهل تعريف التناقض في المنطق، ويبني على جهله به حكمًا خطيرًا في قصة إبراهيم - عليه السلام، وهو يدل على مستوى صاحب الرسالة في العلم، وعلى أنه جرى في رسالته على هذا المنوال فقذف نفسه في بحر لا يحسن السباحة فيه، ولم يخض فيه فحول العلماء وأكابر الحكماء، من الطبري إلى الزمخشري إلى الرازي، وإلى أمثالهم فى علمهم وحكمتهم. ( [9])

6- قال الأستاذ محمد أحمد الغمراوي :
كل من تعود البحث العلمي وعرف ما في القرآن الكريم واطلع على كتاب "الفن القصصي" لا يشك في أنه بعيد كل البعد عن التفكير العلمي، لما فيه من خبط وخلط كثير، جرى فيه صاحبه خلف قساوسة المستشرقين أمثال روديل ومرجليوث حتى بلغ به الأمر أنه لم يدرك ما هنالك من تناقض، بين نسبة القرآن إلى الحق تبارك وتعالى، والحكم على قصص القرآن الكريم أن أكثره غير صحيح.
وإذا كان البعض لا يرى في هذا الحكم كفرًا ولا شبه كفر ، فلعله يرى على الأقل أنه تفكير يؤدي إلى جواز الجهل والكذب على الله جل شأنه!! وهو تفكير لا يمكن بوجه من الوجوه أن يمت إلى التفكير الصحيح، إنه تفكير لا يستقيم إلا على فرض أن القرآن من عند محمد - صلى الله عليه وسلم - لا من عند الله كما يقول قساوسة المستشرقين. ( [10] )

7 - قال السيد محب الدين الخطيب:
فيما ذهب إليه المؤلف في هذه الرسالة تلميح بتكذيب النبي - صلى الله عليه وسلم - في أن القرآن موحى به إليه من الله عز وجل، وزعم أنه من تأليف محمد - صلى الله عليه وسلم - وأن ما فيه من القصص عمل فني خاضع لما يخضع له الفن من خلق وابتكار، من غير التزام بصدق التاريخ.
والواقع أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - فنان بهذا المعنى وأن الأنبياء أبطال ولدوا في البيئة وتأدبوا بأدبها، وخالطوا الأهل والعشيرة وقلدوهم في كل ما يقال ويفعل، وآمنوا بما تؤمن به البيئة من عقيدة ودانوا بما تدين به من رأي وعبدوا ما تعبد من إله، هذا ما ذهب إليه المؤلف وهو كذب.
كما زعم أن القرآن متناقض، فكان يقرر أولاً أن الجن تعلم بعض الشيء ثم لما تقدم الزمن قرر أنهم لا يعلمون شيئًا، وأن قصة موسى في سورة الكهف لم تعتمد على أصل من واقع الحياة، بل ابتدعت على غير أساس من التاريخ.
ويمن محمد أحمد خلف الله على الإسلام، بأنه دافع عنه بقوله: إن ما تمسك به الباحثون من المستشرقين ليس سببه جهل محمد - صلى الله عليه وسلم - بالتاريخ، بل قد يكون ذلك من عمل الفنان الذي لا يعنيه الواقع التاريخي ولا الحرص على الصدق العقلي، والواقع أن هذا الكلام فرية لا تقل عن خلط المستشرقين.

8. - قال الدكتور ” حسن محمود برعي غنايم ”: نستطيعُ أن نقولَ : أنَّ المؤلفَ ضلَّ الطريقَ ، وأساء الفهـمَ والتفسيرَ ، وخلط الأمورَ، وهذا الخلطُ أدَّى به إلى التخبطِ في المنهجِ والهلاكِ فيه ، وقد توقف عنده أهلُ التقوى من علماءِ المسلمين بالردِ المطولِ والرفضِ التامِ ، بينما تلقاه كثيرٌ من المستشرقين بالإعجابِ الشـديدِ والتقـديرِ العظـيمِ ، ولا أعرضُ هنا لتفصيلاتِ القبولِ والرفضِ ، وإنما أوجزُ الإشارةَ هنا إلى جهـودِ المسلمين في ذلك ، فقد رأوا في هذا الموقفِ طعناً على الحقيقةِ التاريخيةِ في القرآنِ الكريمِ ، وتشبيهًا لكلامِ اللهِ بكلامِ البشرِ، مع أنَّ اللهَ تعالى يصفُ كتابَه وقصصَه فيه بأنَّه الحـقُ ، قـال تعـالى : ( إن هـذا لهـو القصـص الحـق ) [آل عمران/٦٢] ، وقال تعالى : ( نحن نقصُّ عليك نبأهم بالحق ) [الكهف/۱۳]، وقال تعالى: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق) [الفتح/۲۸]، فهـو قصـصٌ يجلُّ عن المعاني المخترعةِ التي لا تتصلُ بالواقعِ ، ولا تصـفُ مـا أظلـه الوجود، شأنُ الفنِ القصصي في أدبِ الناسِ ، وليس أبعدَ من كتابِ ” خلـف الله ” عن البصيرةِ والرشدِ ، ولا أبعدَ منه عن الحقِ والصدقِ ، ولا أبعدَ منـه عـن الدعوةِ إلى اللهِ سبحانه الذي يقولُ الحقَ وهو يهدي السبيل .. وقد تلقَّف بعضُ المستشرقين هذه الرسالةِ بالإعجابِ العظيمِ ، ورأوا فيها محاولةً جديدةً للنهضةِ بالتفسيرِ في مصرَ، وجهدًا جادًا لتخليصِ القصـصِ القرآني من العنصرِ التاريخي ، وتأثرًا مؤكداً بالنظرياتِ الغربيةِ فـي علـمِ النفسِ والاجتماعِ ، وساق بعضُهم من نصوصِها ما يريدُ أن يستدلَ به علـى أنَّها الدراسةُ الأدبيةُ الوحيدةُ في التفسيرِ الحديثِ ، وأنَّ ما قوبلـت بـه مـن معارضةٍ يدلُ في زعمِهم على تحكمِ الرجعيةِ الدينيةِ فـي حركـةِ التفسيرِ الحديثةِ .

أما في مصرَ، فقد صادفت هذه الرسالةُ ما تستحقُ مـن نقـدٍ وتفنيـدٍ وصارت مثلاً على ضلالِ المنهجِ الذي يتبعُه التخبطُ في نتائجٍ غيرِ مسددةٍ ، فالمؤلفُ عندما استولت عليه فكرةُ فنيةِ القصصِ القرآني وانتشى بها ، ودفع بهذا القصصِ إلى ساحةِ الفنِ ، وأخذ يحكمُ فيها بمقاييسه وأحكامِه ، أدى بـه ذلك أن ينزعَ عنه صفةَ الصدقِ ، لأنَّه فنٌ وليس كتابَ تـاريخٍ أو علـمٍ ، ولا يُطلبُ منه أن يعني بالحقائقِ التاريخيةِ والعلميةِ ، وحسبه أن يلتـزمَ أصـولَ الفنِ ، ولا ضيرَ عليـه إذنْ أن يلحقَـه القصـصُ الأسطوري والتمثيلُي والتخيلي . في ضوءِ ذلك، فإنَّنا نقررُ بوضوحٍ أنَّ رسالةَ ” خلـف الله ” زلت قـدمُ صاحبِها، فانزلق تحتَ تأثيرِ الدراسةِ الفنيةِ للأدبِ – كما دعا إليها الخولي – إلى مزالقَ خطيرةٍ ، ويؤكدُ المؤلفُ أنَّ تأثرَه بأستاذِه كان الـدافعَ وراءَ هـذه الرسالةِ – كما ذكر في تمهيده لدراسته – وذكر أنَّ دروسَ ” الخولي ” هي الدافعُ الأساسي لمنهجِه ( [11] ) ولا أريدُ أن أستطردَ في ذكرِ آراءِ المعارضـين حـتـى لا يمتـدُّ بنـا الجدلُ مع المؤلفِ ، وحتى لا يطولُ بنا المقامُ ممَّا لا يحتملُـه هـذا البحـثُ .( [12] )

9- فضيلة الشيخ محمود شلتوت – رحمه الله - :
هذه الرسالة تقيس القصص القرآني بمقاييس ليست دقيقة ولا مقررة، فإن خالف القرآن تلك المقاييس كان عند صاحبها كذبًا وافتراء على التاريخ، أو كان نوعًا من ذلك الفن الأدبي الذي لا يلتزم الواقع التاريخي ولا الصدق العقلي، وإنما يخضع في تأليفه لهذه الحرية الفنية التي يخضع لها كل فنان موهوب، وطبقًا لهذه القاعدة، صار القرآن في هذه الرسالة يتقول على اليهود وينطقهم بما لم ينطقوا به، ويتقول أمورًا لن تحدث، ويقرر أمرًا خرافيًا أو أسطوريًا ثم يعود فيقرر نقيضه ويغير الواقع ويبدل ويزيد وينقص بحكم هذه الحرية الفنية.

وهكذا كانت قصة موسى في سورة الكهف ليس لها أساس تاريخي، ولا أسطوري، والإجابة عن الأسئلة التي يوجهها المشركون للنبي - صلى الله عليه وسلم - ليست تاريخية ولا واقعية.

وقصة إبليس مع آدم من الخلق الفني الذي لم يتشبث فيه القرآن بالواقع، ومصادر القصص القرآني هي التوراة والإنجيل والأقاصيص الشعبية، وما امتزح بها من عناصر فارسية وإسرائيلية، وإن ما تمسك به المستشرقون على أنه من أخطاء محمد الناتجة عن جهله بالتاريخ ليس بذي بال، والادعاء على الزمخشري والفخر الرازي ومحمد عبده، أنهم قالوا بما يؤيد هذا الهراء ؟! ( [13] )

انحرافات محمد أحمد خلف الله:
يعتبر ( خلف الأسود ) "من أركان الفكر القومي المتطرف، الذي يعتمد المعايير الماركسية أسساً وضوابط له" ( [14] )
ويقول محمد إبراهيم مبروك عنه: " ( يهدف الدكتور خلف الله من كتاباته على نحو ما هو مطروح فيها إلى إقامة نهضة إصلاحية ماركسية لتطبيق الاشتراكية العلمية (الشيوعية الماركسية)، وعلى ذلك يجب تطويع بعض المفاهيم الإسلامية التي قد تتقارب في بعض أوجهها مع المفاهيم الماركسية في سبيل إقامة ذلك المشروع، أما المفاهيم الإسلامية الأخرى التي تتناقض تناقضاً بيناً مع المفاهيم الماركسية فإنها يجب تأويلها أياً كان شكل هذا التأويل أو تزيينها في صورة جديدة، أو اختزالها إلى مفاهيم أخرى بالطريقة التي يمكن بها إزاحتها من أمام مواصلة المضي في إقامة ذلك المشروع، فإذا لم ينفع معها أي مما سبق، فإنه يجب نقضها وهدمها تماماً"! ) ( [15] )
 
أباطيله وأسماره وانحرافاته : - من أهم وأوائل انحرافاته المشينة:
1- زعمه في رسالته للدكتوراه بأن الصدق التاريخي لم يكن من مقاصد القرآن الكريم فيما عرض من وقائع وقصص تاريخية !! يقول خلف الله ": إن الصنيع البلاغي للقرآن الذي يقوم على تخليص العناصر القصصية من أحداث وأشخاص وأخبار من معانيها التاريخية، وجعلها صالحة كل الصلاحية لاستثارة العواطف والانفعالات حتى تكون العظة والعبرة، وتكون البشارة والإنذار، وتكون الهداية والإرشاد، ويكون الدفاع عن الدعوة الإسلامية والتمكين لها حتى في نفوس المعارضة –إن هذا كله لهو الدليل القوي على أن القرآن الكريم لا يطلب الإيمان برأي معين في هذه المسائل التاريخية" ( [16] ) ثم يقول : "ومن هنا يصبح من حقنا، أو من حق القرآن علينا، أن نفسح المجال أمام العقل البشري ليبحث ويدقق، وليس عليه من بأس في أن ينتهي من هذه البحوث إلى ما يخالف هذه المسائل –أي ما ذكر في القصص القرآني!-، ولن تكون مخالفة لما أراده الله أو لما قصد إليه القرآن، لأن الله لم يرد تعليمنا التاريخ، ولأن القصص القرآني لم يقصد إلا إلى الموعظة والعبرة وما شابههما من مقاصد وأغراض. إن المخالفة هنا لن تكون إلا مخالفة لما تتصوره البيئة ولما تعرفه عن التاريخ. ولم يقل قائل بأن ما تعرفه البيئة العربية عن التاريخ هو الحق والصدق. ولم يقل بأن المخالفة لما في أدمغة العرب من صور عن التاريخ هي الكفر والإلحاد. بل لعل هذه المخالفة واجبة حتى يكون تصحيح التاريخ وخلوه من الخيالات والأوهام"!!( [17] )

وهذا قول كفري –لاشك فيه- ؛ حيث نسب الكذب إلى القرآن الكريم –والعياذ بالله-. ولهذا فقد استهجن واستنكر المسلمون صنيعه هذا –على مختلف مشاربهم- فرد عليه منهم : أحمد أمين وعبد المتعال الصعيدي وعبد الفتاح بدوي ومحمد الغمراوي ومحب الدين الخطيب، أما الشيخ شلتوت فقد حُولت له الرسالة لفحصها وإبداء رأيه فيها، فذكر في تقريره بأن هذه الرسالة: "قامت على أسس فاسدة، لأنها غارقة في تكذيب القرآن، ولأن كاتبها جاهل لا يفهم النصوص" وختم تقريره بأن تُطهر الجامعة من هذه الدراسة. كما أفتى أكثر من مائة عالم من الأزهر بأن هذه الرسالة "مفكرة يخرج بها صاحبها عن الدين الإسلامي . ( [18] ) ومن أواخر من فنَّد ما جاء في هذه الأطروحة الكفرية –فقرة فقرة- الدكتور محمد بلتاجي في مقالته الطويلة حولها بعنوان ( "التفسير البياني للقصص القرآني بين الحق والمذهب الفني، دراسة وتقويم لمنهج باطل في التفسير ) ( [19] )

يقول الدكتور بلتاجي تعليقاً على مقولة خلف الله السابقة : ( إذن فنظرية خلف الله التي ستحل –كما قال- مشكلات التفسير واعتراضات المستشرقين والمبشرين: هي أن القرآن الكريم استخدم الأساطير والأكاذيب التي كانت في أذهان العرب عن الوقائع التاريخية، فنـزل بها، ولم يصححها أو ينص على كذبها، خدمة لأغراضه في العظة والاعتبار، ومجاراة لعقائد القوم الذين نزل فيهم"!! ( [20] ) وهذا القول من خلف الله –كما سبق- قول كفري، يكفر به إن لم يتب إلى ربه، ويعتقد أن كلامه سبحانه وتعالى منـزه عن الكذب. -
2- ومن انحرافاته : أنه يذهب إلى "أن الإسلام دين عربي لا يعدو جنساً معيناً من البشر، ولا يجوز اعتباره رسالة للعالمين"( [21] )
3- ومن انحرافاته: أنه يرى أن المعايير الإسلامية قاصرة لا تصلح لهذا الزمان، يقول: "لقد فعل الزمان فعلته في المعايير القديمة فعلاها الصدأ وتآكلت منها الجوانب، وخفت موازينها إلى الحد الذي أصبحت فيه عاجزة عن أن تكون أداة من أدوات الحق والعدل" . ولذا يتعجب هذا (المستنير) ممن لا زالوا يتبعون النصوص الشرعية!، يقول: "ومن الغريب أن المسلمين اليوم لا يعنيهم أمر من هذه الأمور، بقدر ما يعنيهم الاستمساك بهذه القيم، ويكون استمساكهم أشد عندما يكون المعيار القديم نصاً من النصوص" !! ( [22] ) ويردد هذه الأقوال المأفونة كل الحداثيين والعلمانيين .
4 - ومن انحرافاته : أنه يذهب إلى "أن الإسلام دين عربي لا يعدو جنساً معيناً من البشر، ولا يجوز اعتباره رسالة للعالمين" .
ويرى أن المعايير الإسلامية قاصرة لا تصلح لهذا الزمان، فيقول: "لقد فعل الزمان فعلته في المعايير القديمة فعلاها الصدأ وتآكلت منها الجوانب، وخفت موازينها إلى الحد الذي أصبحت فيه عاجزة عن أن تكون أداة من أدوات الحق والعدل" .

ولذا يتعجب هذا (المستنير) ممن لا زالوا يتبعون النصوص الشرعية!، يقول: "ومن الغريب أن المسلمين اليوم لا يعنيهم أمر من هذه الأمور، بقدر ما يعنيهم الاستمساك بهذه القيم، ويكون استمساكهم أشد عندما يكون المعيار القديم نصاً من النصوص" !! ويقول : "إن خروج المعاملات من نطاق الشرع إلى نطاق القانون، قد حقق لها ألوانا من الحرية والانطلاق لم يكن لها بهم عهد من قبل" !! . ( [23] ).

5 - ويقول هذا المأفون : "القرآن لكل العصور ولكل الأزمنة فيما يخص المعتقدات الدينية والعبادات، وليس فيما يخص المعاملات" !!
وأن "شرع المتقدمين علينا حضارياً شرع لنا" !! ( [24] )
6 - ومن انحرافاته الخطيرة - والتي يرددها من سبقه ومن لحقه من قطيع الحداثيين والعلمانيين - : ادعاؤه "أن هناك أشياء وردت في القرآن الكريم ولا نستطيع أن نعمل بها الآن؛ لأن العمل بها ضار بمصلحة المسلمين" !! ومن هذه الأشياء –في زعم الدكتور-:
تقسيم الغنائم، وحد الزنا، وحد السرقة، وحد شرب الخمر! ( [25] ) ويقول هذا الزائغ: "موقف القرآن الكريم من المرأة كان موقفاً في عصر معين ووضعت تلك القواعد لعصر معين، ومن الممكن جداً أن مثل هذه الأشياء قد لا يسمح العصر الذي نعيش فيه بتطبيقها. وأعطيك مثلاً: حد الزنا الذي يطالب البعض بتطبيقه، له شروط ولابد من أربعة شهود على واقعة الزنا.. اليوم في العصر الحديث توجد مبان ، ولا توجد خيام كما كان الحال وقت نزول الآية.. ( نفس مبررات الجابري في مطالبته بإلغاء حذ السرقة ؟!) ، وبالتالي أصبح من المستحيل تحقيق الشروط، فالمساكن الحديثة في العمارات والشقق تجعل توافر الشروط مستحيلاً. كذلك لم يعد أحد يجرؤ على اقتحام بيوت الناس، والعلاقات الاجتماعية أصبحت مختلفة تماماً. فهل نترك الزنا بلا عقاب أم نفكر في عقاب جديد وفي شروط جديدة تتفق مع العصر!!

صحيح أننا سنبتعد عن التطبيق الحرفي للنص القرآني الواضح، ولكننا نفعل ذلك إحياء للإسلام وليس العكس" !! . وكذلك ادعاؤه "أنه لا مانع من تزويج المسلمة بالنصراني واليهودي! إذ لا يوجد نص قرآني مانع من ذلك –في رأيه-" !!

ومن انحرافاته : غلوه في العقل وتقديمه على النقل. يقول خلف الله :"إن البشرية لم تعد في حاجة إلى من يتولى قيادتها في الأرض باسم السماء، فلقد بلغت سن الرشد، وآن لها أن تباشر شئونها بنفسها" . ويقول هذا العقلاني التافه : "لقد حرر الإسلام العقل البشري من سلطان النبوة، من حيث إعلان انتهائها كلية وتخليص البشرية منها" !! ومن انحرافات هذا السفيه : قوله بأن :" الإسلام حرر الإنسان من سلطان الرسل والأنبياء" !! ( [26] )
7 - نظم مركز دراسات الوحدة العربية ندوة فكرية نشرت أبحاثها في كتاب باسم "القومية العربية الإسلام" والمنشور 1981. وفي هذه البحوث يرد الدكتور "محمد خلف الله" على المفكرين الذي يربطون بين الإسلام والقومية العربية فيقول: يطلب للربط بين الإسلام والقومية العربية التنازل عن العلمانية، وهو ما لا يمكن أن تتخلى عنه القومية العربية ؛ لأن ممارسة الحياة على أساس من العلمانية يمنح المجتمع حرية وانطلاقاً في تحقيق المصلحة العامة، على أساس من الحضارة العلمية أكثر مما يمنحه الإسلام([27]). ؟! وهذا ليس غريبا على من قال في كتابه : ( الأسس القرآنية للتقدم ) : (تبقى بعد ذلك عملية تحرير العقل البشري من السلطة الدينية المتمثلة في نظام النبوة)([28]) وكان قد قال قبل ذلك: (أرجو أن يطمئن القارئ إلى الأساس الذي بني عليه التوحيد وكيف كان تحرير العقل البشري من سلطان الآلهة بما فيهم سلطان الله)([29]).؟! 8 - قال الشيخ العلامة محمد الخضر حسين- شيخ الأزهر الأسبق - : ([30] ) قدَّم أحد طلاب الجامعة المصرية( محمد أحمد خلف الله ) رسالةً موضوعها: "الفن القصصي في القرآن"؛ لينال بها لقب "دكتور"، وقد تناولت الصحف الحديث عن هذه الرسالة، ودارت مناقشات حادَّة، هذا يعدُّها من قبيل الإلحاد في آيات الله، وذاك يقف بجانبها، ويناضل عنها مناضلة الراضي عن آرائها، ووقف بعض الشُّبَّان بين هؤلاء يتعرَّفون وجه الحق فيما يتناظر فيه الفريقان؛ وكنا ننتظر أن تقع الرسالة في أيدينا، لنلقي عليها نظرة فاحصة، حتى اطلعنا في مجلة "الرسالة" على نص التقرير الذي بَعث به إلى عميد كلية الآداب أحدُ أعضاء اللجنة التي ألِّفت لفحص الرسالة، وهو الأستاذ أحمد أمين،

صدَّر الأستاذ أحمد أمين تقريره بالعبارة الآتية:
"وقد وجدتُها رسالة ليست عادية؛ بل هي رسالة خطيرة، أساسها أنَّ القَصَص في القرآن عمل فني خاضع لما يخضع له الفن من خلق وابتكار، من غير التزام لصدق التاريخ، والواقع أنَّ محمدًا فنَّان بِهذا المعنى"، ثم قال: "وعلى هذا الأساس كتب كل الرسالة من أولها إلى آخرها، وإني أرى من الواجب أن أسوق بعض أمثلة توضح مرامي كاتب هذه الرسالة، وكيفية بنائها"، ثم أورد الأستاذ أحمد أمين أمثلة منتزعة من الرسالة، تشهد بما وصفها به في هذه العبارة المجملة.

جاء في التقرير ما يأتي:
"يرى ( يعني كاتب الرسالة) أن القصة في القرآن لا تلتزم الصدق التاريخي، وإنما تتجه كما يتجه الأديب في تصوير الحادثة تصويرًا فنيًّا؛ بدليل التناقض في رواية الخبر الواحد، مثل : أن البشرى بالغلام كانت لإبراهيم أو لامرأته؛ بل تكون القصة مخلوقة: ( وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ ) [المائدة: 116]... إلخ" ( [31] ) . ما يرد في القرآن على وجه الإخبار لا يكون إلا موافقًا للواقع، هذا ما يقتضيه الإيمان بأنه تنزيل من عليم حكيم، ولو أجزنا أن يكون فيه أقوال غير مطابقة للواقع لكان معنى ذلك أن من أقواله ما يكون كذبًا، وليس الكذب سوى عدم مطابقة الكلام للواقع، وإذا كان الفضلاء من الناس يتبرأون من أن يقولوا زورًا، ويعدونه في أقبح الرذائل المزرية بالإنسانية، فما كان لنا أن نلصقه بكلام ذي العزة والجلال، ناظرين إلى مقام الربوبية كما ننظر إلى شاعر أو كاتب قد يعجز عن أن يظهر براعته الفنية في الحوادث الواقعة تاريخيًّا....يصف كاتب الرسالة الكتابَ الحكيم بالتَّناقُض في رواية الخبر الواحد، مستدلاً بذلك على أنَّه لا يلتزم الصدق التاريخي، ويقول: "بدليل التناقض في رواية الخبر الواحد مثل أنَّ البشرى بالغلام كانت لإبراهيم أو لامرأته".

التناقض في الأخبار: أن يختلف الخبران بالإيجاب والسلب، مع اتِّحادِهِما فيما عدا ذلك، ويلزم من صدق أحدِهِما كذبُ الآخر؛ كأن تقول: بشرت زيدًا بقدوم ابنه، ثم تقول: لم أبشر زيدًا بقدوم ابنه، ومثل هذا الضرب من الكلام لم يقع في الآية الكريمة، وإنما ورد أن الله بشر عن طريق الملائكة إبراهيم - عليه السلام - بغلام، كما قال تعالى: ( فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ ) ( الصافات :101 ) ، ( وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) ( الصافات : 112 ) وفي آية أخرى: ( إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ) ( الحجر : 53. (، وورد في آية أخرى: ( وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ) ( هود : 71. ( ، ومن المعقول أن يبشر الملائكة إبراهيم - عليه السلام - ثم يبشروا امرأته بغلام هو إسحاق، فيذكر في آية أنَّهم بشَّروا به إبراهيم، ويذكر في آية أخرى أنهم بشروا به امرأته، ومن ذا الذي يتوهم أنَّ في مثل هاتين البشارتين شيئًا من التناقض أو ما يشبه التناقض؟! .يزعم كاتب الرسالة أنَّ القرآن يَختلقُ بعض القصص، فقال: "بل تكون القصة مخلوقة: ( وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ...) إلخ.

ولا ندري ما هو الدليل الذي ينهض أمام هذه الآية، ويدل على أنَّ القصة المشار إليها مخلوقة غير واقعة، والأدلَّة في مثل هذا إمَّا نصوص تاريخية ثابتة الرواية، وإمَّا أن يشعر المتكلم مخاطبه بأنه يريد تصوير حادثة تصويرًا فنيًّا، وإما أن يبدو للمخاطب من طبيعة الحادثة ما يجعلها مستحيلة الوقوع، ولم يرد نص تاريخي ينفي ما اشتملت عليه القصة من خطاب الله تعالى لعيسى، وجواب عيسى- عليه السلام-، ولم يقل الله تعالى - لا صراحة ولا تلويحًا - إن هذه القصة مخلوقة غير واقعة، وإنما أريد تصوير حادثة تصويرًا فنيًّا، وليس في القصة معنى يحكم العقل المنطقي باستحالته.

وقال كاتب الرسالة، على ما جاء في التقرير: "إن الإجابة عن الأسئلة التي كان يوجهها المشركون للنَّبِيِّ ليست تاريخيَّة ولا واقعة، وإنَّما هي تصوير نفسي عن أحداث مضت أو أغرقت في القدم، سواء كان ذلك الواقع متَّفقًا مع الحقِّ والواقع، أو مخالفًا له" ( [32])... نتحدَّثُ مع صاحب الرسالة في هذا الموضوع الدِّيني بِصفته مسلمًا، فنقول: قد قام الدليل القاطع على أن القرآن كلام الله، وأنَّ رسوله مُحمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - قد بلغ ما أنزل إليه من ربه، فكل ما جاء في القرآن من خبر فهو صادق، وإنما الصدق مطابقة الكلام للواقع، ونستند في الجزم بصدق أخبار القرآن إلى الدليل القائم على صدق الرسول في دعوى الرسالة، والدليل القائم على أن القرآن وحي من الله جل شأنه، ولو كان القائل: "إن النبي - عليه الصلاة والسلام - إنَّما يصور واقعًا في نفسه، سواء كان ذلك الواقع متفقًا مع الحق والواقع، أم مخالفًا" لا ينتمي إلى الإسلام؛ لقلنا: نحن معنا أدلة لا تحوم حولها شبهة على أن القرآن لا يقول إلا حقًّا، فإن أبَيْتَ أن تصغي إليها بأذن واعية، فاعمد إلى قصة من قصص القرآن، وأقم على أنَّها مُخالِفَةٌ لِلحَقِّ دليلاً يقرُّه المنطق، ويتقبله العقل.

قال كاتب الرسالة:
"والقرآن يقرِّرُ أنَّ الجِنَّ تعلَمُ بعضَ الشيءِ، ثُمَّ لمَّا تقدَّم الزمن قرَّر القرآنُ أنَّهم لا يعلمون شيئًا ( [33])، والمُفَسِّرُون مُخطِئُونَ حين يأخذون الأمر مأخَذَ الجد" ( [34]).
لم يقرر القرآن أن الجن لا يعلمون شيئًا، وإنما قال في قصة وفاة سليمان - عليه السلام -: ( مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ ) ( سبأ: 14) . فالآية إنما نفت عن الجن علم الغيب، وهو ما يحصل للعالِم لذاته، ومن هنا كان مختصًّا بالخالق جل شأنه، قال تعالى: ( قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ ) ( النمل : 65 ) ، فدلت الآية على أن علم الغيب خاص به تعالى، وأما غيره فلا يعلم الأشياء الغائبة عنه لذاته، وإنما يعلم منها ما يعلمه الله، كما قال تعالى: ( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ ) ( الجن – الآيتان 26 و 27. )، ومن هنا نفهم كيف ينفي النبي - عليه الصلاة والسلام - عن نفسه علم الغيب، مع أن الله تعالى قد أظهره على أشياء كثيرة كانت غائبة عنه، فقال: ( وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ) ( الأعراف: 188 )، فنفي علم الغيب عن الجن لا ينافي أنهم يعلمون بعض الأشياء بطريق من طرق العلم الخفية. فكاتب الرسالة مخطئ في فهمه أنَّ بين الآية التي تثبت للجن العلم ببعض الشيء، والآية التي تنفي عنها علم الغيب - تناقضًا.
 
قال كاتب الرسالة:
"الأنبياء أبطال وُلِدُوا في البيئة، وتأدَّبوا بآدابِها، وخالطوا الأهل والعشيرة وقلَّدوهم في كل ما يقال ويفعل، وآمنوا بما تؤمن به البيئة من عقيدة، ودانوا بما تَدين به من رأي، وعبدوا ما يعبد من إله" ؟؟ ( [35]). أجْمع المسلمون على عصمة الأنبياء من الكفر قبل النبوة وبعدها، ومِمَّن حكى الإجماع على هذا الإمام عضد الدين في كتاب "المواقف"، والقاضي عياض في كتاب "الشفاء".
ولكن كاتب الرسالة يقول: إنَّهم قلَّدوا الأهل والعشيرة في كل ما يقال ويفعل، وآمنوا بما تؤمن به البيئة من عقيدة، وعبدوا ما يعبد من إله.
وإنما يقول هذا، ويخرج عن إجماع المسلمين مَنِ استطاع أن يملأ يده من روايات تاريخية صحيحة، أو استطاع أن يُقيم دليلاً نظريًّا يسَعُه المنطق السليم، وليس بيد الكاتب نقل مقبول، ولا دليل معقول، وإنَّما هي دعوى عارية من كل شاهد، فلندع بسط الحديث عنها حتى نعرف الشبهة التي دفعتِ الكاتب إليها، حتَّى عبَّر عنها بجمل يؤكد بعضها بعضًا، وأسرف في تسويتهم بالمشركين، إلى أنْ قال لك: "وقلَّدوهم في كل ما يقال ويفعل"!

قال كاتب الرسالة:
"القصة هي العمل الأدبي الذي يكون نتيجة تخيل القاص لحوادث وقعت من بطلٍ لا وجودَ له، أو لبطلٍ له وجود، ولكن الحوادث التي ألَمَّت به لم تقع أصلاً، أو وقعت ولكنها نظمت على أساس فني، إذ قدم بعضها وأخر بعضها، أو حذف بعضها وأضيف إلى الباقي بعض آخر، أو بولغ في تصويرها إلى حد يخرج بالشخصية التاريخية عن أن تكون حقيقيَّة إلى ما يجعلها في عداد الأشخاص الخيالية، وهذا قصدنا في هذا البحث من الدراسة القرآنية" ( [36] ). هذا الذي يقوله الكاتب إنَّما ينطبق على القصص التي يقصد من تصنيفها إظهار البراعة في صناعة الإنشاء، أو في إجالة الخيال، أو بعث الارتياح والمتعة في نفوس القارئين؛ مثل مقامات بديع الزمان، أو مقامات الحريري، أو القصص التي تنشر اليوم في بعض الصحف السائرة، أما قصص القرآن فهي من كلام رب العزة، أوحى به إلى الرسول الأكرم؛ ليكون مأخذ عبرة، أو موضع قدوة، أو مَجلاة حكمة، وإيمان الناس بأنه صادر من ذلك المقام الأسنى يجعل له في قلوبهم مكانة محفوفة بالإجلال، ويمنعهم من أن يدرسوه كما تدرس تلك القصص الصادرة من نفوس بشرية تجعل أمامها أهدافًا خاصَّة، ثُمَّ لا تبالي أن تستمد ما تقوله من خيال غير صادق، أو تخرج من جِدٍّ إلى هزل، وتضع بجانب الحق باطلاً.

وأشار الأستاذ أحمد أمين في تقريره إلى أن كاتب الرسالة يسمي القصة في القرآن أسطورة، فقال عازيًا إلى تلك الرسالة: "وجود القصة الأسطورية في القرآن" ([37] )، ثم اطَّلعنا على مقال لكاتب الرسالة نشره في مجلة "الرسالة"، يقول فيه: "وأرجو أن لا يزعجنا هذا اللفظ (أسطورة)، ونقع في أخطاء وقع فيها غيرُنا حين ظنَّ أنَّ معنى الأسطورة الكذب والمين، أو الخرافات والأوهام، فذلك ما لم يقصد إليه القرآن الكريم"، وقال: "ليستِ الأسطورة في حس القرآن الكريم إلا ما سطره الأقدمون من أخبارهم وأقاصيصهم، بذلك تنطق آياته، وإلى ذلك فطِنَ المفسرون"، ثم نقل عن الطبري تفسيره للأسطورة بِما: "سطرَهُ الأوَّلون وكتبوه من أخبار الأمم"، ونقل عن "الكشاف" أنَّه فسَّرها: "بما سطره المتقدمون من نحو الحديث عن رستم، واسفنديار"، ثم نقل عن "المنار" للشيخ رشيد رضا أنَّه فسر الأساطير في قوله تعالى: ( إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ) ( الأنعام: 25) : "بقصص الأولين وأحاديثهم التي سطرت في الكتب على علاتِها، وما هي بوحي من الله". من المفسرين من يفسر الأسطورة بما سطره الأولون، وكتبوه من أخبار الأمم، وهذا لا ينافي ما قاله آخرون من أنَّها الأباطيل والخرافات، قال صاحب "الكشاف" عند تفسير قوله تعالى : ( إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ) ( سورة الأنعام: 25)"فيجعلون كلام الله وأصدق الحديث خرافات وأكاذيب، وهو الغاية في التكذيب"، قال الآلوسي في تفسير ( أساطير الأولين ) من هذه الآية: "أي أحاديثهم المسطورة التي لا يعوَّل عليها"، ونقل عن قتادة أنه قال في تفسيرها: "كذبهم وأباطيلهم". وإذا رجعنا إلى كتب اللغة نَجِدُ صاحب "المصباح" يقول: "والأساطير: الأباطيل"، وصاحب "لسان العرب" يقول: "الأساطير: الأباطيل"، ويقول أيضًا كما قال صاحب "القاموس": "والأساطير: أحاديث لا نظام لها"، وفي "اللسان" أيضًا: "يقال: سطر فلان علينا، إذا أتى بأحاديث تشبه الباطل"... وهذه النصوص وحدها كافية لأن تمنع كاتب الرسالة من أن يسمي القصة في القرآن أسطورة. قال كاتب الرسالة: "ولعلَّ قصة موسى في الكهف لم تعتمد على أصل من واقع الحياة ( [38])؛ بل ابتدعت على غير أساس من التاريخ".

وضع الكاتب أمامه قصص القرآن، وأخذ يُصْدِرُ فيها أحكامًا تُمليها عليه محاكاتُه لقوم يَجحدون، فعمد إلى قصة موسى في سورة الكهف، ونفى عنها أن تكون قد اعتمدت على أصل من واقع الحياة، ووصفها بأنَّها ابتُدِعَتْ على غير أساس من التاريخ، مظهرًا عدم الجزم بذلك، إذ صدَّر حكمه بحرف "لعل"؛ فقال: "لعل قصة موسى... إلخ"... والذي يتصدَّى لأن يحكم على قصة نبي في القرآن بأنَّها لم تعتمد على أصل من واقع الحياة، شأنه أن يعرف تاريخ ذلك النبي من طريق غير القرآن، ويملأ يده من روايات بالغة في الصحة درجة تكسبه الجزم بأنَّ ما حكاه القرآن غير واقع، فله أن يقول حينئذ: إن هذه القصة مبتدعة على غير أساس من التاريخ، فهل دخل الكاتب إلى هذا الحكم المصدَّر بلعلَّ من طريق هو أرجح دلالة على الواقع من نصوص القرآن المجيد؟!

قال كاتب الرسالة:
"والقرآن عمد إلى بعض التاريخ الشعبي للعرب وأبطال الكتاب ونشره نشرًا يدعم غرضه (ص 93)؛ كقصة ذي القرنين".
إذا قص القرآن حوادث كان حديثها يدور بين العرب أو أهل الكتاب، فإنَّما يقصها لقصد يعود على دعوته الشاملة بتأكيد، وهو بعد هذا لا يقص من تلك الحوادث إلا الواقع، وليس من المعقول أن يجاري القرآنُ العربَ أو أهلَ الكتاب فيما يتسامرون به في مجالسهم، فيعرض منها ما ليس بواقع، وهو تنزيل من علام الغيوب.

أمَّا قصَّة ذي القرنين، فقد ذكر القرآن أنَّ الكفَّار وجَّهوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - سؤالاً عن ذي القرنين، فقال تعالى: ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ )( الكهف : 83 ) ، ولا يخطر على بال أحدٍ، فَهِم مساق القصة، وعرَف ما يقصده أولئك المتعنِّتون من أسئلتهم - أن يكون قصدُهم من هذا السؤال : أن تصوَّر لَهُم قِصَّة ذي القَرْنَيْنِ في صورةٍ فنِّيَّة، وإن كانتْ غَيْرَ مُطابقةٍ للواقِعِ التَّاريخي، فيكون غرضهم إذًا اختبار حال المسئول من جهة حسن البيان، وذلك ما لا يحتمله لفظ الآية، ولا يساعد عليه مساقها. نزل الوحي بالجواب عن هذا السؤال، قال تعالى: ( قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ )( الكهف : 83 ، 84 ) إلخ القصة، وقد اختلف الكاتبون فيمن هو ذو القرنين الذي تحدَّث عنه القرآن في هذه القصة، وأخذوا يتحدَّثون عن الإسكندر الرومي، والإسكندر اليوناني وغيره، ونحن نطرح كل حديث عن شخصٍ لا ينطبق عليه ما وصف به القرآنُ ذا القرنين، ونقطع ببطلان أن يكون ذلك الشخص هو المسمَّى في هذه القصة ذا القرنين، ونقول إن القصة الواردة في القرآن موافقة للواقع التاريخي، ما دام المؤرخون لا يستطيعون أن يُقِيموا دليلاً مقبولاً على أنَّه لم يوجدْ في العصور الخالية شخص صدرت منه الأعمال التي نسبت في القصة إلى ذي القرنين، وإذا لم يذكر القرآن العصر الذي ظهر فيه ذو القرنين، ولا البلد الذي نشأ فيه، ولا الشعب الذي ينتسب إليه، كان من المتعذِّر على المؤرِّخ أن ينكر صدق قصته إنكارًا يقيم له العارفون بآداب البحث وزنًا.

قال كاتب الرسالة:
"وما تَمسَّك به الباحثون مِنَ المستَشْرِقِينَ ليس سببه جهلَ مُحمَّدٍ بِالتَّاريخ؛ بل قد يَكونُ من عَمَلِ الفنَّان الَّذِي لا يَعْنِيهِ الواقع التاريخيُّ، ولا الحرص على الصدق العقليِّ، وإنَّما ينتج عمله ويبرُزُ صوره بما ملك من الموهبة الفنية، والقدرة على الابتكار والاختراع والتغيير والتبديل" ( [39]).

ادَّعى المُستَشْرِقُون أنَّ في القرآن قَصَصًا غَيْرَ مُوافق لِلواقِع التَّاريخي، وكذلك زَعَمَ كاتب الرسالة أنَّ القَصَص في القرآن لوحظ فيه التصوير الفني دون الواقع التاريخي والصدق العقلي، فكاتبُ الرِّسالة يوافِقُ المستشرقين في أنَّ بين قصص القرآن ما لا يوافِقُ الواقع التاريخي، غير أن المستشرقين يعللون هذه المخالفة بعدم معرفة محمد للتاريخ، وكاتب الرسالة يعلِّلها بأنه - عليه الصلاة والسلام - يسوق القصة غير معنيٍّ بالواقع التاريخي، ولا حريص على صدقها العقلي، وإنما كانت وجهته التصوير الفني، والابتكار والاختراع، والتغيير والتبديل! وانظر ماذا ترى في قوله: "ليس سببه جهل محمد بالتاريخ؛ بل قد يكون من عمل الفنان الذي لا يعنيه الواقع التاريخي"، فهل كاتب الرسالة أطلق اسم الفنان على محمد - صلوات الله عليه - فيكون قد حاكى المستشرقين في زَعْمِهم أنَّ القرآن من صنع النبي محمد؟! أو أطلقه – بصفته مسلمًا – على منزل القرآن، ووصفه بأنه لا يعنيه الواقع التاريخي ولا الصدق العقلي؟! وفي كلا الأمرين زهدٌ في الاحتفاظ بالعقيدة السليمة! والمسلم الحقُّ مَن يؤمن بأن القرآن منزل من عند الله، لا من صنع محمد - عليه الصلاة والسلام - ، وينزه القرآن عن ذلك التصوير الفني، الذي لا يعنى فيه بالواقع التاريخي، وليس قصص القرآن إلا الحقائق التاريخية تُصاغ في صور بديعة من الألفاظ المنتقاة والأساليب الرائعة .
________________________________________
[1] - اليسار الاسلامي : ص 40 .
[2] - اليسار الاسلامي : ص 34 .
[3] - اليسار الاسلامي : ص 34-35 .
[4] - طلعت رضوان : مثقفون مع الأصولية الإسلامية : الحوار المتمدن ، ( العدد 4342، 22/ 1 / 2014م )
[5] - أنور الجندي : محاولة لبناء منهج إسلامي متكامل (المجلد الرابع) - "اللغة والأدب والثقافة" (ص 535 - 536)
[6] - أنور الجندي : محاولة لبناء منهج إسلامي متكامل (المجلد الرابع) - "اللغة والأدب والثقافة ج 1/ 420 .
[7] - أنور الجندي : محاولة لبناء منهج إسلامي متكامل (المجلد الرابع) - "اللغة والأدب والثقافة ج1/ ص 431.
[8] - أنور الجندي : محاولة لبناء منهج إسلامي متكامل (المجلد الرابع) - "اللغة والأدب والثقافةج1/ ص 424.
[9] - المرجع السابق : ج1: ص 421 .
[10] - المرجع السابق : ج1: ص 431 .
[11] - مجلة مركز البحوث والدراسات الإسلامية (العدد34)
[12] - ة حسن محمود برعي غنايم ” ” القصة القرآنية بين الفن والتاريخ في تفسير المحدثين .. محمد أحمد خلف الله نموذجا ” ( مجلة مركز البحوث والدراسات الاسلامية العدد 34 ص58-59 )
[13] - أنور الجندي : أصالة الفكر الإسلامي في مواجهة التغريب" ص 364- 378. كان شيخا للأزهر الشريف ، وهو أول من تلقب بالإمام الأكبر ، وقد توفي الشيخ محمود شلتوت في 13 ديسمبر من العام 1963، وذلك في القاهرة مساء الجمعة، وكانت حينها ليلة الإسراء والمعراج، حيث شيعت جنازته في السابع والعشرين من شهر رجِب سنة 1383هـ، وكانت جنازة مشهودة كنت حاضرا فيها ، وشاركت في دفنها مع ولده ، ، كنت لا أرى آخر المشيعين في الجنازة ، ولم أر جنازة تشبهها إلا جنازة عباس محمود العقاد .. - رحمهما الله -
[14] - عبد السلام بسيوني : العقلانية هداية أم غواية؟ ص 134
[15] - محمد إبراهيم مبروك : تزييف الإسلام وأكذوبة المفكر الإسلامي المستنير، ص 105-106 .

[16] - محمد أحمد خلف الله :الفن القصصي، ص254
[17] - محمد أحمد خلف الله :الفن القصصي، ص 254-255
[18] - انظر: مؤلفات في الميزان لأنور الجندي ص72، والعقلانية هداية أم غواية لعبد السلام البسيوني، ص 135
[19] - نشر في مجلة (أضواء الشريعة، مجلة تصدرها كلية الشريعة بالرياض، العدد السادس، جمادى الثانية، سنة 1395هـ الصفحات 99-182 ) .
[20] - المرجع السابق ص 112.
[21] - انظر : العقلانية هداية أم غواية، ص 134
[22] - انظر : مجلة الطليعة المصرية الماركسية، نوفمبر، 1975عن: غزو من الداخل، لجمال سلطان، ص 35
[23] - انظر : العقلانية هداية أم غواية، ص 134. مجلة الطليعة المصرية الماركسية، نوفمبر، 1975عن: غزو من الداخل، لجمال سلطان، ص 35 ، مجلة الطليعة الماركسية، فبراير 1976
[24] - حوار حول قضايا إسلامية، إقبال بركة، ص 102 . و مجلة الطليعة المصرية ، مايو، 1976 .
[25] - انظر مقابلته مع مجلة روز اليوسف، عدد 3177 . وقد رد عليه تخاريفه هذه الأستاذ مصطفى علي محمود في المجلة العربية، العدد 159 .
[26] - انظر : حوار حول قضايا إسلامية، إقبال بركة، ص102، و مجلة المسلمون، فبراير1991 ، والعقلانية هداية أم غواية، ص 134 . و مجلة الطليعة، نوفمبر 1975م ، والأسس القرآنية للتقدم، ص 44، و مشكلات الحياة في القرآن الكريم، ص 114 ، ونظرة شرعية في فكر(محمد أحمد خلف الله : سليمان بن صالح الخراشي
[27] - انظر : كتاب القومية العربية والإسلام ص 55.
([28]) الأسس القرآنية للتقدم ص 41.
([29]) المصدر السابق ص 36.
[30] - انظر : الشيخ العلامة محمد الخضر حسين – رحمه الله - : مجلة: "الهداية الإسلامية" الجزآن السابع والثامن من المجلد العشرين، محرم وصفر عام 1367، والجزآن الأول والثاني من المجلد الحادي والعشرين، رجب وشعبان عام 1367هـ باختصار
[31] - محمد أحمد خالف الله : الفن القصصي في القرآن : ص 14 وما بعدها
[32] - المرجع السابق : ص 28
[33] - المرجع السابق : ص 29
[34] - المرجع السابق : ص 30
[35] - المرجع السابق : ص27
[36] - المرجع السابق : ص81
[37] - المرجع السابق : ص89
[38] - المرجع السابق : ص89
[39] - المرجع السابق : ص136

 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف