
تحليل شخصيّات رواية "حارس الفنار" للكاتب الفلسطيني نافذ الرفاعي من النّاحية النّفسيّة
بقلم: نزهة أبو غوش
حارس الفنار تلك الشّخصيّة الّتي أرهقتني عند قراءتها، فأحياناً أفرحتني، وأحياناً أخرى أحزنتني، ومرّات كثيرة خذلتني، ما ألطف ذلك الطّفل الرِّاعي الّذي كان يغنّي منتشياً مع الطّبيعة، يغنّي للقطيع الأغاني الثّوريّة الحماسيّة، يرقص يقفز فرحاً؛ يساعد الثّوار، يبني في قلبه تمثالاً ذهبيّاً لباجس الثّائر، والمناضلين معه.
هنا أودّ أن أن أخوض في هذه الشّخصيّة محاولة تحليلها، قال عن حكاياته الّتي وصفها أنّها مركونة هناك في نفق مظلم يتخلّله النّور متعلّقا في بعض أركانه.
لقد رأى الحارس أن النّفق مظلم، لكن ما يحيّرني أنّه أيضاً يرى أنّ هناك ضوءاً منبثقاً في أركانه؛ إِذا كان الأمر كذلك، فلماذا حمل الشّعلة عازما على حرق جمجمته ؟ أتفهّمه جيّداً؛ هذا لأنه أُصيب بخيبة أمل لمّا جرى للشّعب المقهور؛ نتيجة سياسة وإِدارة الحكومة تجاه هذا الوطن المعلّق ما بين السّماء والأر ض. لقد نقّب طوال حياته عن حفنة من الحريّة والأمان، ولم يجدهما؛ لكن، لماذا فعل ذلك بنفسه، ما دام يرى أنّ هناك شعاعاً من النّور داخل النّفق، ألم يكفي هذا الشعاع لأن يزرع بذرة من الأمل في قلبه؟ والمحيّر أيضاً في شخصيّة الرّفيق ذلك الرّجل المنتمي للجبهات الشّيوعيّة؛ لماذا حرّضه على أن يحرق نفسه، يل شجّعه على أن يحضر الإِعلام ليشهر الحدث، الّذي ربّما يفوق حادثة التونسيّ التعيس البوعزيزي.
أرى بأنّ الرّفيق عاش نفس ظروف الحارس، تألّم، وسجن، وتعذّب وحمل القضيّة فوق أكتافه؛ لكنه أراد أن يشفي غليله من خلال جثّة محترقة تتلوّح في الفضاء تقلق العالم المسترسل في أحلامه من كثرة سباته؛ وتقول لهذا العالم، انتبهوا لنا ها نحن موجودون على هذه الأرض، نريد أن نعيش كسائر الأمم بحريّة وأمان وسلام.
لقد خاب ظنّ هذا الرّفيق تماما مثل الحارس، فمن شدّة يأسه راح يتنقّل من حانة لأخرى، ويعاقر الخمر، وفشل في حياته الأسريّة، وفي حبّه للمناضلة غادة؛ ترى لماذا خسر حبّه الوحيد؟ هو ذو اتجاه جبهوي، وهي رديكاليّة.
أمّا شخصيّة رجل الكهف، فهي الشخصيّة الايجابيّة الثّانية بعد شخصيّة غادة؛ حيث عاش في كهف في الخلاء؛ كي يحرس الأرض ويحافظ على الأشجار من أيّ اعتداء، يقلّمها، يهذّبها، يناغشها، ويروي لها حكاياته. كان كهفه مقرّا للأحباب والعائلة.
أمّا شخصيّة الأبّ، فقد طمسها الكاتب، ولم تساهم في تطوّر الأحداث، كان غيابه غامضاً، وفراقه عن زوجته أيضاً، حتّى أنّ موته كان غامضاً جدّاً، من ناحية المكان والزّمان والظروف.
اللغة التّعبيريّة في الرّواية
استخدم لكاتب الرّفاعي أدواته الفنيّة والأدبيّة لتوضيح نفسيّات شخصيّاته، استخدم التشبيهات الجميلة، والاستعارات الّتي أضافت جمالا تعبيريّا للفنّ الرّوائي.
يقول عند وصفه للزمن الماضي "حيث البلاد تعج بالتاريخ والقلاع والأنفاق السريّة"، أمّا دقّته بالوصف فكانت تحمل المعاني المجازيّة الّتي تنقش ذهن القارئ.
قال في وصفه للفنار قديماً: "فنار يعانق قلب السماء ويرسل ضوءا خافتا، وميضا لامعا مطلا على نواحي الوادي "، أمّا عن الشعور النّفسي الّذي عبّر عنه؛ من أجل كشف نفسيّة الشخصيّة المتعبة:
"تبدى له ذاك اليوم مثل ثقب مخزوق في جدار الأحلام".
هناك تشبيه غريب لمعنى القوميّة: "إِن القومية عهن منفوش"
أمّا عن السّلوك الّذي سلكته غادة، كي تبتعد عن حبيبها فقد شبّهه تشبيهاً لطيفاً: "أدرك تملصها الحريري".
وصف نزول المطر في وضع نفسيّة الشخصيّة الّتي تعيش تحت ظروف السّجن: "وكأن احتفالية المطر عملة فريدة للحرية تدقّ وتزخ وتطبل على الزينكو"، أمّا التّعبير عن الحريّة والخروج من السجن "انبلاج بوابة السجن وصرير مفاصلها الصدئة المزعجة".
وعن فرحته عندما وصل البيت، كان التّعبير صادقاً يعبّر عن النفسيّة الفرحة، وليست اليائسة:"قذف جسده كما الزنبرك على فرشته"، وتعبير آخر عن فرحة الجدّ بعودة ابنه، وضّحت نفسيّته المرتاحة:"يقرع كؤوس فرحه بعودة الابن".
في النّهاية يمكننا أن نستخلص أنّ الكاتب نافذ الرّفاعي قد أسقط جزءاً من ذاته على شخصيّاته الّتي اختارها بدقّة من حياته السّياسيّة والاجتماعيّة، وبيئته الفلسطينيّة الماضية والحاضرة.
بقلم: نزهة أبو غوش
حارس الفنار تلك الشّخصيّة الّتي أرهقتني عند قراءتها، فأحياناً أفرحتني، وأحياناً أخرى أحزنتني، ومرّات كثيرة خذلتني، ما ألطف ذلك الطّفل الرِّاعي الّذي كان يغنّي منتشياً مع الطّبيعة، يغنّي للقطيع الأغاني الثّوريّة الحماسيّة، يرقص يقفز فرحاً؛ يساعد الثّوار، يبني في قلبه تمثالاً ذهبيّاً لباجس الثّائر، والمناضلين معه.
كبر وكبرت أحلامه وآماله، عاش عذابات السّجون، وعذابات الحياة وانتصاراته الزّائفة في الحروب الأهليّة في لبنان، تمرغ بالطّين وروث الحيوانات، أحبّ بصدق وفقد حبّه؛ بسبب بعده وانشغاله بالقضيّة، دخل الكهوف والمغر، صادق ذلك الرّجل العجوز الّذي حمل نبوءة عجيبة عن الضّياع والانكسار والهزيمة في فلسطين ومصر وبلاد الشّام والأردن، وتسلّط اليهود.
والغريب أن بعض هذه النّبوءة قد نحقّق جزء منها، تنقّل مع القضيّة في كلّ مكان، آمن بها كما آمن بالانتصار؛ وكان كالملهوف يبحث عن قطرة ماء وسط صحراء قاحلة؛ من أجل حريّة الوطن، ناولوه لقمة جافّة أسموها معاهدة السّلام الّذي كان رافضا لها بقوّة؛ بسبب حدسه وبعده النظري ومنطقه.،أسكنوه في فندق راق، ثمّ في شقّة لا يملك أجرتها؛ وأخيرا حمل أغراضه المتواضعة واستوطن الفنار، وراح يحكي حكاياه للغادي والقادم.
هنا أودّ أن أن أخوض في هذه الشّخصيّة محاولة تحليلها، قال عن حكاياته الّتي وصفها أنّها مركونة هناك في نفق مظلم يتخلّله النّور متعلّقا في بعض أركانه.
لقد رأى الحارس أن النّفق مظلم، لكن ما يحيّرني أنّه أيضاً يرى أنّ هناك ضوءاً منبثقاً في أركانه؛ إِذا كان الأمر كذلك، فلماذا حمل الشّعلة عازما على حرق جمجمته ؟ أتفهّمه جيّداً؛ هذا لأنه أُصيب بخيبة أمل لمّا جرى للشّعب المقهور؛ نتيجة سياسة وإِدارة الحكومة تجاه هذا الوطن المعلّق ما بين السّماء والأر ض. لقد نقّب طوال حياته عن حفنة من الحريّة والأمان، ولم يجدهما؛ لكن، لماذا فعل ذلك بنفسه، ما دام يرى أنّ هناك شعاعاً من النّور داخل النّفق، ألم يكفي هذا الشعاع لأن يزرع بذرة من الأمل في قلبه؟ والمحيّر أيضاً في شخصيّة الرّفيق ذلك الرّجل المنتمي للجبهات الشّيوعيّة؛ لماذا حرّضه على أن يحرق نفسه، يل شجّعه على أن يحضر الإِعلام ليشهر الحدث، الّذي ربّما يفوق حادثة التونسيّ التعيس البوعزيزي.
أرى بأنّ الرّفيق عاش نفس ظروف الحارس، تألّم، وسجن، وتعذّب وحمل القضيّة فوق أكتافه؛ لكنه أراد أن يشفي غليله من خلال جثّة محترقة تتلوّح في الفضاء تقلق العالم المسترسل في أحلامه من كثرة سباته؛ وتقول لهذا العالم، انتبهوا لنا ها نحن موجودون على هذه الأرض، نريد أن نعيش كسائر الأمم بحريّة وأمان وسلام.
لقد خاب ظنّ هذا الرّفيق تماما مثل الحارس، فمن شدّة يأسه راح يتنقّل من حانة لأخرى، ويعاقر الخمر، وفشل في حياته الأسريّة، وفي حبّه للمناضلة غادة؛ ترى لماذا خسر حبّه الوحيد؟ هو ذو اتجاه جبهوي، وهي رديكاليّة.
فكّر مرة في داخله: " يا ليت هذه النزقة كانت من حزبه السياسي، ليتها وسطية وليست راديكالية " وهل تفرّق الاتّجاهات السّياسيّة بين المحبّين؟ أم هو تخطيط من الكاتب بأن يجعل شخوصه متألّمين مقهورين مبعثرين ما بعد السّلام المزعوم كما سمّاه؟ كذلك حصل لشخصيّة غادة، فقد أصبحت إِنسانة معذّبة مقهورة طيلة أربعين عاما، تلاحق الثّوار أمثالها؛ كي يمنحوها فرمان الخلاص والبراءة، بعد أن سبغوها ظلما بصفة العمالة مع الاحتلال؛ لكنّ غادة كانت أكثر ايجابيّة من باقي الشخصيّات، حيث عملت ممرّضة تركض لاهثة وراء الشّباب والفتيان المصابين من سلاح العدوّ.
إِذا ما تمعّنا قليلاً بحياة، غادة الّتي خاب ظنّها سياسيّا، نجد أن نفسيّتها كانت معذّبة لأسباب أخرى جعلتها تحمل نفسيّة مرهقة مهزوزة متأرجحة ما بين الواقع والخيال والحرمان العاطفي الّذي فقدته من والديها بعد أن ابتعدوا عن الوطن وتشتّتوا وعاشوا غرباء طيلة أربعين عاما. الأرجح أن كلا السّببين كانا العامل الأساسي في تكوين شخصيّتا، لا أستطيع أن أرجّح واحدا على آخر.
كذلك كان الأمر مع شخصيّة المناضل صلاح التعمري الّذي سمّاه الكاتب الرّفاعي بزوج الملكة؛ بعد كلّ ما قضاه من معاناة من قبل الاحتلال: السّجن وغربة السّجن، وظلم الاحتلال، صار كسائر الشّخصيّات السّلبيّة في الرّواية، هارباً مع ملكة سابقة خارج البلاد؛ خوفاً على حياته من مخابرات أردنيّة تراقبه.
كذلك كان الأمر مع شخصيّة المناضل صلاح التعمري الّذي سمّاه الكاتب الرّفاعي بزوج الملكة؛ بعد كلّ ما قضاه من معاناة من قبل الاحتلال: السّجن وغربة السّجن، وظلم الاحتلال، صار كسائر الشّخصيّات السّلبيّة في الرّواية، هارباً مع ملكة سابقة خارج البلاد؛ خوفاً على حياته من مخابرات أردنيّة تراقبه.
أمّا شخصيّة رجل الكهف، فهي الشخصيّة الايجابيّة الثّانية بعد شخصيّة غادة؛ حيث عاش في كهف في الخلاء؛ كي يحرس الأرض ويحافظ على الأشجار من أيّ اعتداء، يقلّمها، يهذّبها، يناغشها، ويروي لها حكاياته. كان كهفه مقرّا للأحباب والعائلة.
أنعشت طبخاته المطهوّة على النّار كلّ من ذاقها. شعر بشيء من السّعادة، رغم كلّ ما يحاصره، هو عنوان للتّحدّي، كما أنّه عنيد في قراراته، نفسيّته ليّنة متأثّرة ومؤثّرة. مات مقهورا بعد أن قضوا على أحلامه؛ فكان مؤثّرا بالآخرين مدى الحياة.
أمّا شخصيّة الأبّ، فقد طمسها الكاتب، ولم تساهم في تطوّر الأحداث، كان غيابه غامضاً، وفراقه عن زوجته أيضاً، حتّى أنّ موته كان غامضاً جدّاً، من ناحية المكان والزّمان والظروف.
اللغة التّعبيريّة في الرّواية
استخدم لكاتب الرّفاعي أدواته الفنيّة والأدبيّة لتوضيح نفسيّات شخصيّاته، استخدم التشبيهات الجميلة، والاستعارات الّتي أضافت جمالا تعبيريّا للفنّ الرّوائي.
يقول عند وصفه للزمن الماضي "حيث البلاد تعج بالتاريخ والقلاع والأنفاق السريّة"، أمّا دقّته بالوصف فكانت تحمل المعاني المجازيّة الّتي تنقش ذهن القارئ.
قال في وصفه للفنار قديماً: "فنار يعانق قلب السماء ويرسل ضوءا خافتا، وميضا لامعا مطلا على نواحي الوادي "، أمّا عن الشعور النّفسي الّذي عبّر عنه؛ من أجل كشف نفسيّة الشخصيّة المتعبة:
"تبدى له ذاك اليوم مثل ثقب مخزوق في جدار الأحلام".
هناك تشبيه غريب لمعنى القوميّة: "إِن القومية عهن منفوش"
أمّا عن السّلوك الّذي سلكته غادة، كي تبتعد عن حبيبها فقد شبّهه تشبيهاً لطيفاً: "أدرك تملصها الحريري".
وصف نزول المطر في وضع نفسيّة الشخصيّة الّتي تعيش تحت ظروف السّجن: "وكأن احتفالية المطر عملة فريدة للحرية تدقّ وتزخ وتطبل على الزينكو"، أمّا التّعبير عن الحريّة والخروج من السجن "انبلاج بوابة السجن وصرير مفاصلها الصدئة المزعجة".
وعن فرحته عندما وصل البيت، كان التّعبير صادقاً يعبّر عن النفسيّة الفرحة، وليست اليائسة:"قذف جسده كما الزنبرك على فرشته"، وتعبير آخر عن فرحة الجدّ بعودة ابنه، وضّحت نفسيّته المرتاحة:"يقرع كؤوس فرحه بعودة الابن".
في النّهاية يمكننا أن نستخلص أنّ الكاتب نافذ الرّفاعي قد أسقط جزءاً من ذاته على شخصيّاته الّتي اختارها بدقّة من حياته السّياسيّة والاجتماعيّة، وبيئته الفلسطينيّة الماضية والحاضرة.