حادث إنسانية
بقلم: الكاتب عادل الشرار
"تعال يا محمد لنكمل ما قرأته لك بالأمس"
نادى الأب ولده وبالفعل أجاب النداء وقد أحضر معه قطعة قماش ليجلس عليها وفي يده اليمنى يحمل كتاباً لم يكن كبقية الكتب.
" لنكمل يا أبي فأنا متشوق لسماع درس اليوم..."
جلس محمد على قطعة القماش مقابل والده الذي فتح الكتاب بإسم الله وقال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ".
ثم وضع الكتاب جانباً ونظر إلى إبنه قائلاً:
" يا بني أن الحب من الإيمان والكراهية من الشيطان، فلا تدع للشيطان مكاناً في قلبك.."
في صباح يوم الثلاثاء ذهب محمد كعادته إلى المدرسة بعد مسيرة استغرقت ربع ساعة بالحافلة، لكن كان هناك أمر لم يعتد عليه محمد وهو غياب صديقه الألماني بوكي الذي كان رفيقه الوحيد منذ السنوات الثلاث الماضية في المدرسة الواقعة في مدينة ليمبورغ، حيث لجئت إليها عائلته العراقية هربا من تنظيم داعش.
وصل محمد إلى المدرسة وقد تفاجئ وفرح برؤية صديقه بوكي، لكنه تساءل في نفسه عن كيفية وصوله للمدرسة حيث إنه لم يكن معه في الحافلة، وبينما محمد يسرع في خياله... "أبتعد عن الطريق أيها الصبي.. هيا أبتعد.." دفعه رجل ببدلة رسمية وبجواره آخر يشبهه ويتوسطهما بوكي الذي يبدوا أنه تجاهل صديقه محمد الذي شعر بخيبة كبيرة وهو ينظر إلى بوكي يدخل من الباب الخاص بالمعلمين.
"ماذا بك يا محمد؟ هل سببت مشكلة في المدرسة؟ أم حصلت على درجة منخفضة في الرياضيات؟ لا بأس يا بني ستعوض ذلك فقط لا تحزن.."
دخل محمد إلى المنزل بعدما دفع الباب بقوة وهو يجر حقيبته التي وسختها الأرض، دخل إلى غرفته وكأنه لم يسمع حديث والده فقد كان محبطاً ويشعر بغربة كبيرة لأنه لم يعد لديه أصدقاء وبوكي تغير ونسي ما كان بينهما خلال يوم!
"هونها وتهون يا بني، قل يا هم لي رب كبير، بعد أن تنتهي من تناول العشاء ستخبرني بما حدث معك، لأنك أمانة أمك ولن يرضى لها أن تنام منزعجاً هكذا، هيا تناول طعامك يا محمد.."
بعدما نهض محمد من فراشه بتثاقل، وانتهى من تناول طعامه، أخبر والده بما حدث في المدرسة وأن والد صديقه بوكي أصبح مديراً لأحدى الشركات، ولم يسمح له بالتواصل معه لأنه لاجئ وقد تعرض للإهانة من قبل حمايته، وكذلك الطلاب أصبحوا ينادونه بالإرهابي بعد وقوع جريمة يقال أن مرتكبها كان لاجئاً.
- يا محمد هؤلاء يتحدثون بالإنسانية ولا يعملون بها، الإرهاب ليس حكراً على أحد أو خاص بدين، فمن قال لك هذا الكلام هو الإرهابي لأنه يحمل في داخله كراهية الشيطان، ويجب علينا أن نثبت لهم أننا لسنا كذلك وسأذهب معك غداً للمدرسة للتحدث مع مدير المدرسة حول ما جرى.
في الحافلة كان محمد وبجانبه والده هذه المرة وهذا أفضل من أي صديق، وفجأة أخذت الحافلة لليمين بعدما ظهرت سيارة بجانبها، الأمر الذي دفع سائق الحافلة للأسراع أكثر، وهكذا أصبح الأمر مناورة بين الحافلة والسيارة السوداء التي أندفع سائقها متجاوزاً السيارات لعبور الحافلة وهو يقود بغضب وسرعة.. فجأة ظهرت سيارة أمامه كان سائقها أيضاً متهور وحدث تصادم كبير أدى إلى تحطم كلا السيارتين وسط زحام كبير، حينها أمر والد محمد السائق بالتوقف، ليتوجه نحو الحادث للمساعدة لأنه كان طبيباً في العراق.
أخرج والد محمد طفلاً بعمر ولده من السيارة المحطمة وكان ينزف بشدة وعمل له بعض الإسعافات وحمله للمستشفى مع سائق تكسي، وصلا إلى ردهة الطوارئ وكان الجميع دخل حالة انذار إضافة إلى حضور رجال ببدلات سوداء، جلس الطبيب العراقي ينتظر ويقف أمامه مجموعة رجال بينهم شخص يبدوا مهماً وقلِقاً في نفس الوقت، ثم خرجت الطبيبة بعد ثلث ساعة وتوجهت إلى الطبيب العراقي الجالس وتجاهلت الشخص المهم ورجاله ثم سألت: "هل أنت والد الطفل المصاب؟ لا تقلق هو بخير لأنك فعلت الصواب بإيقاف النزيف قبل قدومكم للمستشفى.." قاطعها الرجل الآخر قائلاً وقد سحبها من يدها" هذا ابني يا دكتورة! أخبريني كيف هو؟ هل لا زال حياً؟.. هيا أخبريني.."
أخبرته أنه بخير وأن الفضل يعود إلى هذا الرجل الجالس لأنه عمل له الإسعافات الأولية، أخشى أنه كان سيموت لولا هذا العربي".
شعر الرجل بالانكسار وهو يتحاور مع ذاته وكبريائه وهو ينظر إلى الرجل بطرف عينه ثم أخيراً قال له: " أنا ممتن لك، لقد أنقذت أبني لن انسى لك هذا المعروف، أعطني رقمك وسأتصل بك..".
بعدما ناوله الورقه والقلم، قام والد محمد بالكتابه ثم ذهب بعدما اطمئن على الطفل.
عاد الرجل إلى منزله وهو يحمل طفله بين يديه الذي تكسرت أغلب عظامه، وضعه في فراشه وجلس بجنابه مصدوماً خائباً وهو يضرب رأسه بيده، ثم تذكر الرجل العربي وأخرج البطاقة ليشكره على ما قدمه من معروف لكنه تفاجئ بما كان مكتوباً فيها باللغة الألمانية: "لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى".
بقلم: الكاتب عادل الشرار
"تعال يا محمد لنكمل ما قرأته لك بالأمس"
نادى الأب ولده وبالفعل أجاب النداء وقد أحضر معه قطعة قماش ليجلس عليها وفي يده اليمنى يحمل كتاباً لم يكن كبقية الكتب.
" لنكمل يا أبي فأنا متشوق لسماع درس اليوم..."
جلس محمد على قطعة القماش مقابل والده الذي فتح الكتاب بإسم الله وقال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ".
ثم وضع الكتاب جانباً ونظر إلى إبنه قائلاً:
" يا بني أن الحب من الإيمان والكراهية من الشيطان، فلا تدع للشيطان مكاناً في قلبك.."
في صباح يوم الثلاثاء ذهب محمد كعادته إلى المدرسة بعد مسيرة استغرقت ربع ساعة بالحافلة، لكن كان هناك أمر لم يعتد عليه محمد وهو غياب صديقه الألماني بوكي الذي كان رفيقه الوحيد منذ السنوات الثلاث الماضية في المدرسة الواقعة في مدينة ليمبورغ، حيث لجئت إليها عائلته العراقية هربا من تنظيم داعش.
وصل محمد إلى المدرسة وقد تفاجئ وفرح برؤية صديقه بوكي، لكنه تساءل في نفسه عن كيفية وصوله للمدرسة حيث إنه لم يكن معه في الحافلة، وبينما محمد يسرع في خياله... "أبتعد عن الطريق أيها الصبي.. هيا أبتعد.." دفعه رجل ببدلة رسمية وبجواره آخر يشبهه ويتوسطهما بوكي الذي يبدوا أنه تجاهل صديقه محمد الذي شعر بخيبة كبيرة وهو ينظر إلى بوكي يدخل من الباب الخاص بالمعلمين.
"ماذا بك يا محمد؟ هل سببت مشكلة في المدرسة؟ أم حصلت على درجة منخفضة في الرياضيات؟ لا بأس يا بني ستعوض ذلك فقط لا تحزن.."
دخل محمد إلى المنزل بعدما دفع الباب بقوة وهو يجر حقيبته التي وسختها الأرض، دخل إلى غرفته وكأنه لم يسمع حديث والده فقد كان محبطاً ويشعر بغربة كبيرة لأنه لم يعد لديه أصدقاء وبوكي تغير ونسي ما كان بينهما خلال يوم!
"هونها وتهون يا بني، قل يا هم لي رب كبير، بعد أن تنتهي من تناول العشاء ستخبرني بما حدث معك، لأنك أمانة أمك ولن يرضى لها أن تنام منزعجاً هكذا، هيا تناول طعامك يا محمد.."
بعدما نهض محمد من فراشه بتثاقل، وانتهى من تناول طعامه، أخبر والده بما حدث في المدرسة وأن والد صديقه بوكي أصبح مديراً لأحدى الشركات، ولم يسمح له بالتواصل معه لأنه لاجئ وقد تعرض للإهانة من قبل حمايته، وكذلك الطلاب أصبحوا ينادونه بالإرهابي بعد وقوع جريمة يقال أن مرتكبها كان لاجئاً.
- يا محمد هؤلاء يتحدثون بالإنسانية ولا يعملون بها، الإرهاب ليس حكراً على أحد أو خاص بدين، فمن قال لك هذا الكلام هو الإرهابي لأنه يحمل في داخله كراهية الشيطان، ويجب علينا أن نثبت لهم أننا لسنا كذلك وسأذهب معك غداً للمدرسة للتحدث مع مدير المدرسة حول ما جرى.
في الحافلة كان محمد وبجانبه والده هذه المرة وهذا أفضل من أي صديق، وفجأة أخذت الحافلة لليمين بعدما ظهرت سيارة بجانبها، الأمر الذي دفع سائق الحافلة للأسراع أكثر، وهكذا أصبح الأمر مناورة بين الحافلة والسيارة السوداء التي أندفع سائقها متجاوزاً السيارات لعبور الحافلة وهو يقود بغضب وسرعة.. فجأة ظهرت سيارة أمامه كان سائقها أيضاً متهور وحدث تصادم كبير أدى إلى تحطم كلا السيارتين وسط زحام كبير، حينها أمر والد محمد السائق بالتوقف، ليتوجه نحو الحادث للمساعدة لأنه كان طبيباً في العراق.
أخرج والد محمد طفلاً بعمر ولده من السيارة المحطمة وكان ينزف بشدة وعمل له بعض الإسعافات وحمله للمستشفى مع سائق تكسي، وصلا إلى ردهة الطوارئ وكان الجميع دخل حالة انذار إضافة إلى حضور رجال ببدلات سوداء، جلس الطبيب العراقي ينتظر ويقف أمامه مجموعة رجال بينهم شخص يبدوا مهماً وقلِقاً في نفس الوقت، ثم خرجت الطبيبة بعد ثلث ساعة وتوجهت إلى الطبيب العراقي الجالس وتجاهلت الشخص المهم ورجاله ثم سألت: "هل أنت والد الطفل المصاب؟ لا تقلق هو بخير لأنك فعلت الصواب بإيقاف النزيف قبل قدومكم للمستشفى.." قاطعها الرجل الآخر قائلاً وقد سحبها من يدها" هذا ابني يا دكتورة! أخبريني كيف هو؟ هل لا زال حياً؟.. هيا أخبريني.."
أخبرته أنه بخير وأن الفضل يعود إلى هذا الرجل الجالس لأنه عمل له الإسعافات الأولية، أخشى أنه كان سيموت لولا هذا العربي".
شعر الرجل بالانكسار وهو يتحاور مع ذاته وكبريائه وهو ينظر إلى الرجل بطرف عينه ثم أخيراً قال له: " أنا ممتن لك، لقد أنقذت أبني لن انسى لك هذا المعروف، أعطني رقمك وسأتصل بك..".
بعدما ناوله الورقه والقلم، قام والد محمد بالكتابه ثم ذهب بعدما اطمئن على الطفل.
عاد الرجل إلى منزله وهو يحمل طفله بين يديه الذي تكسرت أغلب عظامه، وضعه في فراشه وجلس بجنابه مصدوماً خائباً وهو يضرب رأسه بيده، ثم تذكر الرجل العربي وأخرج البطاقة ليشكره على ما قدمه من معروف لكنه تفاجئ بما كان مكتوباً فيها باللغة الألمانية: "لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى".