الإيدز
بقلم: بهائي راغب شراب
ما أتعسه الإنسان.. وما أشد تعاسته...
مسلم بن سالم المسلم.. الإنسانية تتهاوى أمامه، الإنسانية الطبيعية التي يتفاخر كل إنسان بتميزه بها دون باقي الكائنات الحية .. ما أفدح الكارثة ، لم يعد للبشرية وجود ولا قيام ، ولم يعد من المجدي أن نصف شخصاً بأنه إنسان تتأصل فيه الفطرة البديهية التي يولد بها البشر.
ما يجري أمامه ومعه يفوق التخيل ، زوجه معرضة للفناء، ووليده القادم قد لا يرى النور أبداً ، وهو قد لا ينعم بأحاسيس الأبوة التي ملأت أحلامه ورسمت لياليه ، وتفجرت في عروقه منذ عرف أن حادثاً سعيداًّ بانتظاره.
ما بالهن أولئك الممرضات قددن من الصخر الصلد الذي لا تؤثر فيه طرقات التكوين الزماني .. أكثر من نصف ساعة مضت من الوقت دون أن يستدل على الميناء ليرسو عنده ... مازال يركض .. يركض بلا نهاية وبلا رؤية بين الغرفة التي تضم زوجه في انتظار أن تضع مولودهما القادم .. تصرخ من شدة الألم .. آلام المخاض والتمزق الذي يقطع ما اتصل يحوله إلى صراخ وإلى دعاء وإلى أمل يتجسد أخيراً في صورة صرخات خوف من المجهول الآتي من الحياة.
رأس المولود توشك على الظهور وبعد لم تكلف خاطرها بالتحرك واحدةٌ ممن يدعين زوراً وبهتاناً بملائكة الرحمة .. وأي رحمة قاتلة يحملن بين جوانحهن ..! إنهن يجلسن خلف الحاجز الخشبي الذي يفصلهن ويستطعن من وراءه مراقبة ما يجري وفيه يمارسن الحديث عن كل شيء إلا أمر القيام بأعباء الاهتمام بالمرضى فهذا آخر ما يفكرن بأدائه ... كأنهن لا يرين الزوج الذي كاد يخبل من مواصلة الصراخ بلا جدوى .. يطلب إسعافاً وإنقاذاً لزوجه ولمولوده ، ومن رجاءه الممجوج الذي لا يجد أذناً صاغية تهب لمساعدته.
مسلم بن سالم المسلم ... الحقيقة تؤلمه .. وصرخة عظيمة تخترق حاجز الصمود والصبر عنده .. يجري مهرولاً .. إنها زوجه تناديه .. إنه يخرج .. إنه يخرج .. لا يعي مسلم ما يحدث .. ودون تفكير يرفع الغطاء عن زوجه .. آه .. ها هي البداية الأولى للحياة تطل برأسها .. إنه يراه .. يراه .. وجه وليده المقبل .. يرتفع صراخ زوجه .. بدى وكأنه صوت زلزال تتقهقر الأرض عنه فينشق وجهها لتخرج النار الحبيسة في أعماقها .. يهرول في اتجاه الممرضات .. يتكلم بكلام كثير .. لا يستطيع الوقوف ليرجوهن .. الحروف تخرج بتلقائية واضحة .. أسرعن بالله عليكن .. رأسه قد خرجت .. يكاد ينزلق بالكامل .. ربما استكمل انزلاقه الآن .. لا أحد معها .. إنها تعاني .. لا تدعوها وحدها في هذه اللحظات الحرجة والحاسمة .. وكأنه يتكلم مع نفسه .. لا أحد يسمع ولا أحد يستجيب .. حتى الرد ولو بطرده لم تتكفل واحدة بالقيام به ..
لماذا هذا الحصار القاتل الذي تواصلنه ضدنا ... صرخ مسلم بعنف .. أجبنني .. زوجي تتألم وعلى إحداكن التواجد معها لتقوم بعمل اللازم في مثل هذه الحالة.
الممرضات ينظرن إليه بلا مبالاة .. بدون أدنى إحساس بالاهتمام بالوالدة وبالمولود .. يتبادلن النظرات فيما بينهن .. تقوم إحداهن وبتكاسل شديد الإصرار والتعمد كأن الأمر لا يحدث أمامها ولا يثير اهتمامها وكأن الولادة معروضة أمامهن من خلال حلقة متلفزة على الهواء لتسليتهن ، تمد الممرضة يدها إلى الهاتف ، تمسك السماعة وترفعها إلى صدرها .. تريحها على نهدها الأيسر المهيأ ليكون قاعدة خاصة للراحة والخمول .. تدير قرص الهاتف .. آه .. الرقم غير صحيح .. تسأل زميلتها .. ذكريني بالرقم لقد نسيته .. تعيد تدوير الرقم وتنتظر.
بعد فترة انتظار يدور حديث شفري .. مريضة الغرفة الخاصة في حالة وضع .. يقول زوجها رأس الوليد قد خرجت وربما يكون ولد بالكامل .. لحظة صمت قاتلة تمضي .. تعود الممرضة لتتكلم : حسناً يمكننا تقديم المساعدة الآن وتضع السماعة .. تنظر إلى زميلتيها : هيا إلى العمل.
يمر الوقت والصرخة يرتفع صداها بشدة .. يصرخ مسلم مع زوجه .. اختلط صراخه مع صراخها .. وقف بجوارها يشد يدها وهو يضغط عليها بكل قوة وخوف وحنان يشجعها ويشد من أزرها ويدعو الله في سره وعلنه أن يكون معهما ويحفظ زوجه من السوء ويجيرها من هوة الآلام التي وقعت بين براثنها الخانقة ..
فجأة تطلق زوجه صرخة هائلة ارتجت لها المستشفى.. وسكنت بعدها الأصوات .. هدوء شامل لا متناهي في الامتداد .. يتطلع مسلم إلى زوجه الغارقة في بحر من العرق الذي اجتاحها كسيل جارف حط عليها ليضفي على وجهها ملامح البريق الأخاذ كشروق الشمس عند حضورها الأبدي الدافئ.
أشارت إلى الغطاء .. مد يده بسرعة ورفعه عنها .. ماذا يرى .. وليده .. لقد حضر .. رغم كل شيء حضر .. إنها القوة وإرادة الحياة .. عنفوان الانطلاق والبداية الحاضرة وعيني مسلم تتفحصان وليده .. لم يسمع صراخه .. بشرته شديدة الزرقة .. لا تبدو عليه علامات الحياة .. أيكون .. لا .. لا .. لأبعد هذا الهاجس الدموي عن عقلي وإلا فإنه سيدمرني .. هذا ما يسمونه الضربة القاضية .. وأي ضربة .. إنها الضربة التي لا قيام بعدها أبداً .. لكن لماذا يبدوا كذلك .. كميت هو لا يتحرك .. لا يتنفس .. يا لهول ما ألاحظه وما أفكر فيه .. ألطف يا الله .. خفف عنا الألم والمعاناة .. أيأتي مولودنا فاقداً للحياة .. ومجرد انتظارنا له أعطانا العزيمة لأن نصمد ونواصل الحياة .. ومنحنا الأمل الذي يمدنا بالقوة المكافئة والدافعة لحركة التواجد والبقاء.
تنكسر دقائق التفكير والافتراض التي تحكم عقل مسلم بن سالم المسلم وتهيمن على أبعاده اللولبية .. يعيده إلى الدنيا انطلاق صوت قاسي من حنجرة متحجرة لإحدى الممرضات تنهر به سيدة مسنة تطوعت لكسر الطوق المحكم المفروض على زوجه ولم ترض بفرضه .. فهبت بتلقائية تحمل خير الإنسانية الحقيقية الغائبة عن قلوب الممرضات ... أُخذت السيدة من تصرف الممرضة المانع فبهت لونها وهي تعود قبل أن تبدأ وقبل تقديمها العون الذي تجيد تقديمه.
ولم يطل الوقت عندما شاهدهن مسلم وهن قادمات في اتجاه غرفة زوجه .. لا يرى من وجوههن إلا أعينهن ، وأصابع أياديهن اختفوا مع الكفوف داخل قفازات بلاستيكية سميكة ، والملابس الواقية تغطي ملابسهن البيضاء .. بَدَوْنَ وكأنهن سيخضن غمار حرب جرثومية ، حركتهن كانت إلى الوراء لا إلى الأمام .. عشرون خطوة للخلف وواحدة فقط نحو الأمام .. وعلى ميقات محدد وصلن مع وصول الطبيبة .. إلى الخارج .. إلى الخارج.. هيا بسرعة .. صرخت إحداهن في وجه مسلم باستفزازية وبقرف .. نظر إليها .. قبضتا يديه مشدودتان .. كم يود لو يهوي بهما على رأس هذه الصورة المزيفة التي تتزين بها تلك الحمقاء المستهترة ببشرية الإنسان وبكونه إنساناً يملك الحق كله في ممارسة إنسانيته الخاصة به ... لكن عيناه تقعان على عيني زوجه الحبيبة فيمسك ثورته .. يحبسها بين دفتي صدره مغادراً الغرفة رافضاً في عقله ما جرى وما يجري ، لا يستطيع تصديق الضياع الذي يعطي الحق بإصدار حكم الموت لمن هو غير مؤهل وغير مالك لهذا الحق الإلهي..
انتاب مسلماً الفرحُ .. ليس لكون مولوده جاء ذكراً .. بل لأنه حي وذلك يعني أنه يمكن أن يعيش ، ولأن الحقيقة التي انتظرها طويلاً تتحقق الآن حيث سيمارس أبوته ويمارس دوره ومسئولياته اليومية تجاه أسرته الصغيرة..
لم يمض الكثير من الوقت عندما خرجت الممرضات تسبقهن الطبيبة من الغرفة كن يسرعن لتغيير ثيابهن تخلصاً مما يمكن قد علق بها من أثار الولادة السريعة والخاطفة.
دلف مسلم إلى الغرفة مسرعا في حالة اشتياق وحب ليطمئن على زوجه وولده اقترب منها .. ابتسمت له محاولة إخفاء الألم الذى تعانيه .. نادته : أنظر إليه .. ولد ، أترى كم هو جميل .. يشبهك كثيراً .. نظر إليها بحنوٍ زائد .. أمسك رأسها بين يديه وانحنى نحو جبينها يقبله ويقول : أحمد الله أنك ما زلت بخير والتفت نحو ابنه .. رغم اللون الأزرق الذي يغلب عليه فقد استطاع أن يلمح جماله..
يلاحظ مسلم أن مولوده لم ينظف من دماء الولادة وآثارها بعد .. نظر إلى زوجه متسائلاً : الدماء لا زالت عالقة بجسده ويحتاج لنظافة كاملة .. ماذا كن يفعلن إذن أولئك الممرضات .. ردت: لست أعرف ما يجري لنا ، لقد كن حذرات جداً في تعاملهن معي وابني ، لم تحاول إحداهن الاقتراب كثيراً مني بل ولم يلمسنني إلا للضرورة القصوى، حملت إحداهن الطفل من قدميه بيديها ووضعته تحت صنبور الماء العادي لتغسله وأعادته كما ترى، حاله تبين أن النظافة لم تطله ، حتى أنا أحتاج للنظافة ، معاملتهن القاسية أوحت لي بأنني غير مرغوب بوجودي .. وشعرت كأن حجْراً فُرِضَ عليَّ داخل الغرفة .. لا يسمحن لأحد بالدخول ولو للسؤال فقط ، وقد رأيت تصرفهن تجاه تلك السيدة المسنة لما أرادت تقديم المساعدة .. أنا خائفة جداً، هل أكون مصابة بمرض لا أعرف كنهه ، مرض خطير ومعد ... لكنني لم أصب في جسدي ومنذ ولادتي بأي مرض أياً كان نوعه ، وليكن أني أحمل مرضاً فهذا لا يجيز لهن أن يعاملنني كمنبوذة ولا يفترض بهن أن يحكمن بالموت عليّ ويقتلن النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق ، فكيف يطالعن وجه الله الذي خلق الداء وخلق معه الدواء، نعم أشك بمعاملتهن فلا بد من وجود خطأ ما .. لست مريضة ولم أعالج من أي مرض لأنني لم أعاني من أي مرض .. اسمع يجب مغادرة المستشفى الملعون بأسرع ما يمكن ، ليس بمقدوري الانتظار أكثر ، أمسك بيدي أشعر بالحاجة للذهاب إلى دورة المياه لأتخلص من الأوساخ من الدماء والأملاح التي تسكن جسدي بسبب ما عانيت ..
مد يده ليسندها..
صوت مسلم جمع العنبر جميعه الذي أغلق لمنع دخول المتطفلين .. ورأى مسلم وجه الطبيبة .. صرخ في وجهها .. ماذا فعلتم بنا من الأذى أنظري هذا هو ملف زوجي .. بلا شك تعرفين القراء .. اقرأي اسمها ماذا يكون .. قرأْتِهِ .. حسناً .. والآن اقرأي الاسم المسجل على البطاقة الحمراء الملعونة المثبتة على الملف .. هل هما نفس الاسم .. هل يتشابهان .. كدتم تقتلوننا مرتين .. مرة عندما أخطأتم بوضع هذه البطاقة في مكانها الصحيح والمرة الثانية عندما جردتمونا من إنسانيتنا ومن حقنا في الحياة في الوقت الذي وجب عليكم تقديم المساعدة والأمل والقوة ... ومسلم يواصل الكلام يلمح زوجه الحبيبة وقد حملت ابنهما استعدادا لمغادرة المكان..
إتجه إليها.. أمسك يدها وسارا معاً نحو الخارج يحملان معهما ابتسامة كادا يفقدانها في لحظة لم يملكانها ، يرافقهما الأمل والحياة.
بقلم: بهائي راغب شراب
ما أتعسه الإنسان.. وما أشد تعاسته...
مسلم بن سالم المسلم.. الإنسانية تتهاوى أمامه، الإنسانية الطبيعية التي يتفاخر كل إنسان بتميزه بها دون باقي الكائنات الحية .. ما أفدح الكارثة ، لم يعد للبشرية وجود ولا قيام ، ولم يعد من المجدي أن نصف شخصاً بأنه إنسان تتأصل فيه الفطرة البديهية التي يولد بها البشر.
ما يجري أمامه ومعه يفوق التخيل ، زوجه معرضة للفناء، ووليده القادم قد لا يرى النور أبداً ، وهو قد لا ينعم بأحاسيس الأبوة التي ملأت أحلامه ورسمت لياليه ، وتفجرت في عروقه منذ عرف أن حادثاً سعيداًّ بانتظاره.
ما بالهن أولئك الممرضات قددن من الصخر الصلد الذي لا تؤثر فيه طرقات التكوين الزماني .. أكثر من نصف ساعة مضت من الوقت دون أن يستدل على الميناء ليرسو عنده ... مازال يركض .. يركض بلا نهاية وبلا رؤية بين الغرفة التي تضم زوجه في انتظار أن تضع مولودهما القادم .. تصرخ من شدة الألم .. آلام المخاض والتمزق الذي يقطع ما اتصل يحوله إلى صراخ وإلى دعاء وإلى أمل يتجسد أخيراً في صورة صرخات خوف من المجهول الآتي من الحياة.
رأس المولود توشك على الظهور وبعد لم تكلف خاطرها بالتحرك واحدةٌ ممن يدعين زوراً وبهتاناً بملائكة الرحمة .. وأي رحمة قاتلة يحملن بين جوانحهن ..! إنهن يجلسن خلف الحاجز الخشبي الذي يفصلهن ويستطعن من وراءه مراقبة ما يجري وفيه يمارسن الحديث عن كل شيء إلا أمر القيام بأعباء الاهتمام بالمرضى فهذا آخر ما يفكرن بأدائه ... كأنهن لا يرين الزوج الذي كاد يخبل من مواصلة الصراخ بلا جدوى .. يطلب إسعافاً وإنقاذاً لزوجه ولمولوده ، ومن رجاءه الممجوج الذي لا يجد أذناً صاغية تهب لمساعدته.
مسلم بن سالم المسلم ... الحقيقة تؤلمه .. وصرخة عظيمة تخترق حاجز الصمود والصبر عنده .. يجري مهرولاً .. إنها زوجه تناديه .. إنه يخرج .. إنه يخرج .. لا يعي مسلم ما يحدث .. ودون تفكير يرفع الغطاء عن زوجه .. آه .. ها هي البداية الأولى للحياة تطل برأسها .. إنه يراه .. يراه .. وجه وليده المقبل .. يرتفع صراخ زوجه .. بدى وكأنه صوت زلزال تتقهقر الأرض عنه فينشق وجهها لتخرج النار الحبيسة في أعماقها .. يهرول في اتجاه الممرضات .. يتكلم بكلام كثير .. لا يستطيع الوقوف ليرجوهن .. الحروف تخرج بتلقائية واضحة .. أسرعن بالله عليكن .. رأسه قد خرجت .. يكاد ينزلق بالكامل .. ربما استكمل انزلاقه الآن .. لا أحد معها .. إنها تعاني .. لا تدعوها وحدها في هذه اللحظات الحرجة والحاسمة .. وكأنه يتكلم مع نفسه .. لا أحد يسمع ولا أحد يستجيب .. حتى الرد ولو بطرده لم تتكفل واحدة بالقيام به ..
لماذا هذا الحصار القاتل الذي تواصلنه ضدنا ... صرخ مسلم بعنف .. أجبنني .. زوجي تتألم وعلى إحداكن التواجد معها لتقوم بعمل اللازم في مثل هذه الحالة.
الممرضات ينظرن إليه بلا مبالاة .. بدون أدنى إحساس بالاهتمام بالوالدة وبالمولود .. يتبادلن النظرات فيما بينهن .. تقوم إحداهن وبتكاسل شديد الإصرار والتعمد كأن الأمر لا يحدث أمامها ولا يثير اهتمامها وكأن الولادة معروضة أمامهن من خلال حلقة متلفزة على الهواء لتسليتهن ، تمد الممرضة يدها إلى الهاتف ، تمسك السماعة وترفعها إلى صدرها .. تريحها على نهدها الأيسر المهيأ ليكون قاعدة خاصة للراحة والخمول .. تدير قرص الهاتف .. آه .. الرقم غير صحيح .. تسأل زميلتها .. ذكريني بالرقم لقد نسيته .. تعيد تدوير الرقم وتنتظر.
بعد فترة انتظار يدور حديث شفري .. مريضة الغرفة الخاصة في حالة وضع .. يقول زوجها رأس الوليد قد خرجت وربما يكون ولد بالكامل .. لحظة صمت قاتلة تمضي .. تعود الممرضة لتتكلم : حسناً يمكننا تقديم المساعدة الآن وتضع السماعة .. تنظر إلى زميلتيها : هيا إلى العمل.
يمر الوقت والصرخة يرتفع صداها بشدة .. يصرخ مسلم مع زوجه .. اختلط صراخه مع صراخها .. وقف بجوارها يشد يدها وهو يضغط عليها بكل قوة وخوف وحنان يشجعها ويشد من أزرها ويدعو الله في سره وعلنه أن يكون معهما ويحفظ زوجه من السوء ويجيرها من هوة الآلام التي وقعت بين براثنها الخانقة ..
فجأة تطلق زوجه صرخة هائلة ارتجت لها المستشفى.. وسكنت بعدها الأصوات .. هدوء شامل لا متناهي في الامتداد .. يتطلع مسلم إلى زوجه الغارقة في بحر من العرق الذي اجتاحها كسيل جارف حط عليها ليضفي على وجهها ملامح البريق الأخاذ كشروق الشمس عند حضورها الأبدي الدافئ.
أشارت إلى الغطاء .. مد يده بسرعة ورفعه عنها .. ماذا يرى .. وليده .. لقد حضر .. رغم كل شيء حضر .. إنها القوة وإرادة الحياة .. عنفوان الانطلاق والبداية الحاضرة وعيني مسلم تتفحصان وليده .. لم يسمع صراخه .. بشرته شديدة الزرقة .. لا تبدو عليه علامات الحياة .. أيكون .. لا .. لا .. لأبعد هذا الهاجس الدموي عن عقلي وإلا فإنه سيدمرني .. هذا ما يسمونه الضربة القاضية .. وأي ضربة .. إنها الضربة التي لا قيام بعدها أبداً .. لكن لماذا يبدوا كذلك .. كميت هو لا يتحرك .. لا يتنفس .. يا لهول ما ألاحظه وما أفكر فيه .. ألطف يا الله .. خفف عنا الألم والمعاناة .. أيأتي مولودنا فاقداً للحياة .. ومجرد انتظارنا له أعطانا العزيمة لأن نصمد ونواصل الحياة .. ومنحنا الأمل الذي يمدنا بالقوة المكافئة والدافعة لحركة التواجد والبقاء.
تنكسر دقائق التفكير والافتراض التي تحكم عقل مسلم بن سالم المسلم وتهيمن على أبعاده اللولبية .. يعيده إلى الدنيا انطلاق صوت قاسي من حنجرة متحجرة لإحدى الممرضات تنهر به سيدة مسنة تطوعت لكسر الطوق المحكم المفروض على زوجه ولم ترض بفرضه .. فهبت بتلقائية تحمل خير الإنسانية الحقيقية الغائبة عن قلوب الممرضات ... أُخذت السيدة من تصرف الممرضة المانع فبهت لونها وهي تعود قبل أن تبدأ وقبل تقديمها العون الذي تجيد تقديمه.
ولم يطل الوقت عندما شاهدهن مسلم وهن قادمات في اتجاه غرفة زوجه .. لا يرى من وجوههن إلا أعينهن ، وأصابع أياديهن اختفوا مع الكفوف داخل قفازات بلاستيكية سميكة ، والملابس الواقية تغطي ملابسهن البيضاء .. بَدَوْنَ وكأنهن سيخضن غمار حرب جرثومية ، حركتهن كانت إلى الوراء لا إلى الأمام .. عشرون خطوة للخلف وواحدة فقط نحو الأمام .. وعلى ميقات محدد وصلن مع وصول الطبيبة .. إلى الخارج .. إلى الخارج.. هيا بسرعة .. صرخت إحداهن في وجه مسلم باستفزازية وبقرف .. نظر إليها .. قبضتا يديه مشدودتان .. كم يود لو يهوي بهما على رأس هذه الصورة المزيفة التي تتزين بها تلك الحمقاء المستهترة ببشرية الإنسان وبكونه إنساناً يملك الحق كله في ممارسة إنسانيته الخاصة به ... لكن عيناه تقعان على عيني زوجه الحبيبة فيمسك ثورته .. يحبسها بين دفتي صدره مغادراً الغرفة رافضاً في عقله ما جرى وما يجري ، لا يستطيع تصديق الضياع الذي يعطي الحق بإصدار حكم الموت لمن هو غير مؤهل وغير مالك لهذا الحق الإلهي..
ورغم ذلك حمد مسلم الله على كل حال .. المهم أنهن تحركن وبدأن أخيراً .. وجئن ليعتنين بزوجه ووليده، وقف الزمن عنده ، عودته إلى حالة الانتظار أعادته إلى الأمل من جديد وأعادت إليه سؤاله الأبوي : أترى المولود حيٌ أم ميت .. أتراه يعيش .. أتراه .... إنهن الممرضات القاتلات .. إنهن من ذبحن الأبوة فيه .. وهن من دفن الحلم الكبير في قلبه قبل تحقيقه .. ما أبشع قسوتهن وما أفدح الخسارة التي تلحق بالجنس البشري من انحدار بشريتهن وكمون إنسانيتهن داخل قواقع الأنانية والنفعية الذاتية .. يا لهن من متكالبات على الدنيا الزائلة ... يعود مسلم إلى الدنيا من جديد .. يعيده النداء المنتظر .. نداء وليده الحاضر الدائم في كيانه الساكن أبداً في كينونته الأبوية .. إلى السماء يرفع يديه وينادي : الحمد لك يا الله والشكر يا رب .. أراد السجود عندما أطل عليه رأس خلال الباب يخبره .. ذكر .. طفلك ذكر..
انتاب مسلماً الفرحُ .. ليس لكون مولوده جاء ذكراً .. بل لأنه حي وذلك يعني أنه يمكن أن يعيش ، ولأن الحقيقة التي انتظرها طويلاً تتحقق الآن حيث سيمارس أبوته ويمارس دوره ومسئولياته اليومية تجاه أسرته الصغيرة..
لم يمض الكثير من الوقت عندما خرجت الممرضات تسبقهن الطبيبة من الغرفة كن يسرعن لتغيير ثيابهن تخلصاً مما يمكن قد علق بها من أثار الولادة السريعة والخاطفة.
دلف مسلم إلى الغرفة مسرعا في حالة اشتياق وحب ليطمئن على زوجه وولده اقترب منها .. ابتسمت له محاولة إخفاء الألم الذى تعانيه .. نادته : أنظر إليه .. ولد ، أترى كم هو جميل .. يشبهك كثيراً .. نظر إليها بحنوٍ زائد .. أمسك رأسها بين يديه وانحنى نحو جبينها يقبله ويقول : أحمد الله أنك ما زلت بخير والتفت نحو ابنه .. رغم اللون الأزرق الذي يغلب عليه فقد استطاع أن يلمح جماله..
حمله بين يديه .. رفعه إلى صدره واقترب مسلم بفمه إلى الأذن اليمنى لمولوده وبدأ الأذان فيها .. سُنَّة الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم أن يُؤَذَن للمولود بُعَيْد ولادته في الأذن اليمنى وأن تُقَام الصلاةُ في الأذن اليسرى كما يفعل الآن تماماً ... اتجه إلى زوجه وقال مداعباً : أنظرى كم هو جميل فعلا ، وهذا الجمال منك ، قد أعْطَيْتِهِ جمالك ومنحتِهِ روحك ، لا عدمناك أبداً أبداً..
ابتسمت له وقالت : إذن سيخطفك مني وعليَّ من الآن وصاعداً الحرص على حبك لي أكثر وإلا لن يتبق لي منه شيء ، ضحك من كلامها وقال : أيمكن ..؟ ... لا تصدقي أبداً أن أحداً باستطاعته الاستحواذ على قلبي الوحيد دونك ولو كان هذا الواحد إبني فحبي له جزء صغير من حبي لك ، أنت الأصل وهو الفرع .
يلاحظ مسلم أن مولوده لم ينظف من دماء الولادة وآثارها بعد .. نظر إلى زوجه متسائلاً : الدماء لا زالت عالقة بجسده ويحتاج لنظافة كاملة .. ماذا كن يفعلن إذن أولئك الممرضات .. ردت: لست أعرف ما يجري لنا ، لقد كن حذرات جداً في تعاملهن معي وابني ، لم تحاول إحداهن الاقتراب كثيراً مني بل ولم يلمسنني إلا للضرورة القصوى، حملت إحداهن الطفل من قدميه بيديها ووضعته تحت صنبور الماء العادي لتغسله وأعادته كما ترى، حاله تبين أن النظافة لم تطله ، حتى أنا أحتاج للنظافة ، معاملتهن القاسية أوحت لي بأنني غير مرغوب بوجودي .. وشعرت كأن حجْراً فُرِضَ عليَّ داخل الغرفة .. لا يسمحن لأحد بالدخول ولو للسؤال فقط ، وقد رأيت تصرفهن تجاه تلك السيدة المسنة لما أرادت تقديم المساعدة .. أنا خائفة جداً، هل أكون مصابة بمرض لا أعرف كنهه ، مرض خطير ومعد ... لكنني لم أصب في جسدي ومنذ ولادتي بأي مرض أياً كان نوعه ، وليكن أني أحمل مرضاً فهذا لا يجيز لهن أن يعاملنني كمنبوذة ولا يفترض بهن أن يحكمن بالموت عليّ ويقتلن النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق ، فكيف يطالعن وجه الله الذي خلق الداء وخلق معه الدواء، نعم أشك بمعاملتهن فلا بد من وجود خطأ ما .. لست مريضة ولم أعالج من أي مرض لأنني لم أعاني من أي مرض .. اسمع يجب مغادرة المستشفى الملعون بأسرع ما يمكن ، ليس بمقدوري الانتظار أكثر ، أمسك بيدي أشعر بالحاجة للذهاب إلى دورة المياه لأتخلص من الأوساخ من الدماء والأملاح التي تسكن جسدي بسبب ما عانيت ..
مد يده ليسندها..
لقد بهت للحظات قصيرة بعدما سمع من قولها ، مشى جوارها بسكون من لا يفقه الحياة حتى أوصلها إلى الحمام .. ولم يستطع الانتظار .. وجد نفسه يسير بتلقائية دون تحديد لطريقه ، وبركان الغضب يتفجر داخل رأسه عندما وصل إلى الحاجز الخشبي الذي بدا كمحطة انتظار ركاب الحافلات ، اتجه بنظراته نحو الممرضات .. استعرض وجوههن وجهاً وجهاً لعله يعثر على جواب الاستفهام المتضاعف في غرابته وفي شرعيته .. ماذا حدث ولماذا وكيف ولم ولأي سبب و و و .. يجري كل ذلك معه ومع زوجه فقط ولم يحدث مع آخرين غيرهما..
أين الحقيقة وسط الأقنعة الزائفة والأشكال المموهة وكيف الوصول إليها وهي تقبع في قاع بئر عميق مظلم من المتاهات الممتدة دون نهاية ، لم يحظ بالجواب الذي يجب انتزاعه عنوة وبأي طريقة كانت ، إقترب مسلم منهن ، نظراتهن فيما بينهن وتغامزهن استهزاء به ونفورهن من إقترابه ثم جفولهن عندما كادت أنفاسه تحرقهن .. كل شيء يحدث يؤكد حدوث أمر غير طبيعي ويردن إخفاءه عنه .. ولم يثنه هذا الإحساس عن تقدمه، فيده قبضت ملف زوجه الذي لاحظ تميزه عن باقي الملفات ببطاقة حمراء كبيرة مسجل عليها بعض الكتابة وكان معزولاً بعيداً في مكان وحده ، رفع مسلم الملف بيده ، إنه يعرفه جيداً ، يقرأ المكتوب على البطاقة .. ويا لهول ما يقرأه ..، هذا هو السر إذن .. لكن أيكون ذلك صحيحاً .. لا .. لا يمكن أن يصح ، يمعن مسلم في الحروف وفجأة صرخ صرخة أفزعت من سمعها .. أريد مدير المستشفى ، أحضروه إلى هنا .. أين أنت أيتها الطبيبة البلهاء ، أينكن أيتها الممرضات النكرات ... أين الجميع ليروا ويسمعوا حقيقة ما يرتكب من جرائم بحق الأبرياء هنا في المستشفى المفترض منه المحافظة على الحياة لا إهدارها كما فعلوا مع زوجي وابني..
صوت مسلم جمع العنبر جميعه الذي أغلق لمنع دخول المتطفلين .. ورأى مسلم وجه الطبيبة .. صرخ في وجهها .. ماذا فعلتم بنا من الأذى أنظري هذا هو ملف زوجي .. بلا شك تعرفين القراء .. اقرأي اسمها ماذا يكون .. قرأْتِهِ .. حسناً .. والآن اقرأي الاسم المسجل على البطاقة الحمراء الملعونة المثبتة على الملف .. هل هما نفس الاسم .. هل يتشابهان .. كدتم تقتلوننا مرتين .. مرة عندما أخطأتم بوضع هذه البطاقة في مكانها الصحيح والمرة الثانية عندما جردتمونا من إنسانيتنا ومن حقنا في الحياة في الوقت الذي وجب عليكم تقديم المساعدة والأمل والقوة ... ومسلم يواصل الكلام يلمح زوجه الحبيبة وقد حملت ابنهما استعدادا لمغادرة المكان..
إتجه إليها.. أمسك يدها وسارا معاً نحو الخارج يحملان معهما ابتسامة كادا يفقدانها في لحظة لم يملكانها ، يرافقهما الأمل والحياة.