الساحرون في الوطن
بقلم: بهائي راغب شراب
أحسا التعب والإرهاق يكبل أقدامهما عن السير وسال العرق بارقاً تحت وهج الشمس حتى وصل إلى فميهما ، شعرا بطعمه المالح ، أخذا بالتلمظ ومسح شفاههما بلسانيهما وكانت الابتسامة التي تملأ وجهيهما تزيدهما حبوراً وسلاسة وبراءة . رأيا عتبة بيت قريب أمامهما مرتفعة قليلة عن الأرض لكنها تسمح بأن يمدا أرجلهما أمامهما لإراحتها من عناء الجري الطويل ومن الكر والفر الذي يمارسانه منذ أيام من خلال المظاهرات والانتفاضات الشعبية والطلابية الثائرة ضد الاحتلال الصهيوني.
بدا الشارع وكأنه امرأة حبلى جاءها المخاض وقبل أن تلد تقذف بالقاذورات من جوفها وهذا القذف ليس إلا تظاهرة وانتفاضة تهيئ للولادة القادمة.
ابتسم محمود وقد هدأ وجهه وكف عرقه عن الجريان والتفت إلى كامل قائلاً : أرأيت ما حدث اليوم ..؟ قد علمناهم درساً كبيراً .. لقد فروا أمامنا كالأغنام .. نعم كالأغنام ونحن نجري خلفهم نقذفهم بالحجارة والطوب وكرات اللهب المطاطية... سلاحنا الوحيد المتوفر في أيادينا الآن ..
انتبه كامل ورد متحمساً والابتسامة تزهر في عينيه : نعم .. نعم .. كل شيء كان رائعاً بالذات عندما حاولوا اقتحام المدرسة والفصول علينا .. لم يحسبوا أن الطلاب جميعهم قد حملوا الحجارة معهم داخل حقائبهم المدرسية بدلاً عن الكتب وخبئوها في أدراج مقاعدهم .. آه .. ما ألذ هذه اللحظات العظيمة وملامح الجبن تكسو وجوههم الفأرية الحقيرة ..
أجاب محمود: آه .. إنهم لم يكملوا رفع هراواتهم حتى انهالت الحجارة عليهم ..ضربوا بعضهم من الخوف وهم يحاولون التخلص من الفخ الذي أوقعوا أنفسهم فيه
كامل: هؤلاء الملاعين .. إن ما حصل اليوم ليؤكد لي .. لا .. لا أعرف والله .. عقلي لا يريد الاقتناع بأن مثل هذا الخوف والهروب والركون إلى الفرار عند أول مواجهه حقيقية بيننا وبينهم، هم يحملون أسلحتهم وهراواتهم ، يحميهم الحديد وجبروت طغيانهم .. ونحن ليس لنا إلا أيادينا وهذه الحصى وإيماننا العميق بصحة ما نفعل .. هؤلاء .. هؤلاء ؟! يهزموننا ! يهزمون أمةً بكاملها في الحروب العديدة التي أثاروها هم ، ونحن أصحاب الحق نمتلك أسباب القتال .. بل كان حرياً بنا نحن أن نبدأ القتال والمعارك
محمود: حتى المعركة الوحيدة التي خضناها ضدهم في رمضان المجيد لم نكملها ولم نواصل .. وتوقفت المعارك عند أول عشرة كيلومترات ..
كامل : لا تذكرني بذلك ، إن الألم ليعتصر فؤادي عصراً ، يؤرقني المصير المجهول الذي لم يقدم بعد ، أنظر لما حدث اليوم.. نحن الآن نعيش تحت الاحتلال بكل صوره وإرهابه وتخويفه، ونسفه للبيوت وتشريده للعائلات .. هؤلاء الذين يملئون حياتنا صباحاً ومساء بالذل والكراهية ، بالاغتصاب والسرقة .. هؤلاء الذين يستعرضون قوتهم الرهيبة أمامنا نحن وفي مواجهتنا نحن الذين وُضِعنا قسراً تحت خانة الاحتلال البغيض.. هؤلاء يا أخي .. ونحن العزل من كل شيء إلا الإيمان والحجارة، هؤلاء من خوفهم اليوم لم ينتظروا ليأخذوا زميلاً لهم عندما سقط بين أيدينا بل لم يحاولوا استنقاذه ونحن نشبعه ركلاً وضرباً ولم نتركه الا وقد أغمي عليه .. أقول لك شيئاً كان بودي لو قتلناه ذاك الخنزير القذر لكن أحذيتنا المطاطة شفعت له هي واكفنا اللدنة الرحيمة التي لا تمتد بغير الخير والمحبة بالرغم من قوتها وشدتها في ضرب الظلم والقهر والاستبداد .. ألم تر ..! لقد تركناه يذهب ويلتحق ببقية الخنازير ..
محمود : أردت أن أطعنه بمديتي لكنكم رفضتم ذلك ، كنت متشوقاً للانتقام ، لماذا لم تدعوني أجهز عليه وأنقله إلى دنيا الجحيم الأبدي..
كامل : لم يكن ممكناً تركك تفعل ذلك في هذا الوضوح .. لو أننا كنا في مكان بعيد وخالٍ لشاركناك جميعاً في ذلك لكن أنسيت ماذا يمكن أن يجر عليك قتل ذلك الخنزير وعلى عائلتك من انتقام مروع.
محمود : لا يهمني انتقامهم فأنا أناضل وأقاتلهم ولست أعبأ بالنتيجة، فأنا عندما أشترك في مقاومتهم إنما أتقدم واضعاً روحي على كفي فهذا أقل شيء يمكنني تقديمه ثمناً للحرية .
كامل : هذا صحيح يا صاحبي لكن نحن أحوج ما نكون لأن نبني وأن نصون ، ستقتل منهم كما تشاء لكن في اللحظة التي نختارها نحن وفي المكان الذي نحدده نحن أيضاً وإلا ما فائدة أن تموت الآن وأنت بعد لم تقدم شيئاً لوطنك ، فلتمت لكن بعد أن تهيئ الظروف لذلك وبعد أن تقتنع أن موتك سيضيف للوطن لا أن يقتطع شيئاً منه.
محمود : فعلاً .. حق ما تقول ، أحتاج لأن أفكر بهدوء وبتعقل ، هذا فعلاً ما أحتاج إليه ، وما يجب أن نفعله جميعاً ، نجلس ونفكر .. نرسم ونضع الخطط ، ثم ننفذ في الوقت الملائم ، لكن .. أتحسبهم يسكتون على ذلك ؟ ، لن يتحملوا الفشل ، سيحاولون بوسائلهم الخاصة النفاذ إلينا .. و..
كامل : لن يستطيعوا ذلك أبداً ، سنقفل الطريق دائما عليهم ، ونصدهم عن المضي فيه ، سنثبت لهم أن كل ما يحاولون معنا عبث عبث .. مجرد لا شيء ، حتى لو كان الثمن أجسادنا الصغيرة هذه ، الملغومة بالغضب وبالاحتقار لما يحدث حولنا من الصمت القاتل والجمود الخانق ..
محمد : لو أن رجلاً... أتعرف .. أفكر أحياناً وأنا أتطلع إلى وضعنا هذا بأننا بحاجة إلى رجل كصلاح الدين .. إيه .. رحمه الله كان عارفاً للطريق الحقيقي الموصل للحرية والاستقلال .
كامل : لا تحلم كثيراً ، الزمن لا يكرر نفسه - صلاح الدين مضى .. تماماً كعمر بن الخطاب .. هذا فاتح وذاك محرر .. عليك أن تفكر برجل آخر من نوع جديد .. لكن لا يحيد أبداً عن طريق أسلافه..
محمود: ماذا تريد أن تكون نوعية هذا الرجل .
كامل : نوعه .. إننا بحاجة إلى ساحر ..! نعم ساحر حقيقي يستمد قوته من الله، من التفافنا حوله .. يشير إلينا فنهب ويأمرنا فنلبي ونقتحم ..
محمود : ماذا يمكن لساحر أن يفعل وسط بحر من السحرة الأشقياء ، يحيطون به من كل اتجاه ، يقفلون عليه منافذه إلى الشمس الرحيبة والفضاء المتسع .. وإلى الآمال المضيئة في الليالي الحالكة السواد ..
كامل : أنظر.. هذه الحجارة التي نقاومهم بها الآن ستكبر غداً ، ستتحول إلى قنابل ومدافع تسلب الأرواح من هياكل أجساد أعدائنا .. هذه الحجارة ستنبت أقداماً تزحف وتتقدم نحو النصر والوطن
محمود : الحجارة ..! الحجارة تتحول إلى أسلحة والى رجال ماذا تعني بألغازك هذه ..!؟
كامل : ليس لغزاً البتة ، نحن الذين سنفعل ذلك ، نحن السحرة ، بتصميمنا وإرادتنا وإيماننا واستمرارنا .. فقط هذه أدوات السحر ، كل ساحر له أدواته .. نعم .. وهذه أدواتنا التي ستحول دمعة الحزن إلى زغرودة فرح تنطلق فوق روابينا وسهولنا ومياهنا وفضائنا ..
محمود : تحلل الأشياء بعمق .. لك حق فيما تقول .. لم يبق إلا نحن وأدوات سحرنا التي نملكها .. ننميها يوماً بعد يوم ..
كامل : حقاً ذلك سيطول فالمشوار ممتد وشاق ، الدماء فيه ستسيل حتى تغوص فيها الركب وستتكون بحار جديدة هائجة تغرق فيها القوارب المعطوبة التي تسير بلا شراع ودون أمل بأن ثمة ميناء ينتظر رسو المركب عنده ..!
محمود: ما حدث اليوم بالذات يؤكد قولك فعلاً بل أن السكوت والجمود الذين يحيطان بنا من كل جانب ليدفعان بنا دفعاً لأن نمارس السحر بكل أنواعه ونبين مهارتنا فيه ، وسيرى الجميع مهارتنا وعندها لا يستطيع أن يوقف امتدادنا نحو الشمس والفضاء الشاسع أحد مهما بلغت قوته وجبروته
كامل: إن أحداً لا يستطيع إيقافنا ، المستقبل لنا .. نعم لنا .. هذا ما أراه ويجول بفكري ..
مر الوقت سريعاً.. لم يدركاه إلا وقد رأيا بعض الأطفال يقبلون مسرعين من بداية الشارع الغربية ، يجرون دون التفات ، من يصل بيته يلجه بسرعة مفترقاً عن رفاقه ، لم يبق إلا سالم الذي استمر في عدْوِهِ حتى وصلهما وكانا ما يزالان يمدان أرجلهما أمامهما من فوق عتبة البيت الذي يجلسان عليها.. استغربا ما رأياه في وجهه من سيماء الحذر والترقب والقلق ..
بادره كامل كي يوقفه : ما بكم تجرون هكذا وما هذه الفورة والسرعة في ولوج الأبواب والاختفاء وراءها.. هل القيامة قامت.. ما الذي حدث يا سالم قل لنا تكلم ..
وقف سالم أمامهما دون أن تسكن حركته وعلى طريقة محلك سر قال لاهثاً: إنهم أصحاب الطواقي الحمر نزلوا المدينة بأعداد مكثفة ، لقد اعتقلوا الكثيرين من الشباب والأطفال وهم يلحقون كل شاب وطفل يرونه ويكيلون لهم الضرب عشوائياً وبين المارين لا يهمهم إن كان امرأة أو شيخاً عجوزاً..
قال سالم: عليكما ترك مكانكما وليتوجه كلاكما إلى بيته حتى تهدأ الأمور .. لقد فاض الكيل عليهم ونالهم منا الكثير من الجحيم .. هيا تحركوا أنا ذاهب الآن.. لن أبادلكما الحديث .. السلام عليكما . تحركا بسرعة ها أنا أحذركما لآخر مرة..
بعد ابتعاد سالم تبادلا النظرات .. أفكارهما واحدة وهما يجب أن يفعلا شيئاً فلا يجوز بقائهما ساكنين دونما حركة ، عليهما الإقدام والابتعاد فمكانهما قريب جداً وقد يبرز أصحاب الطواقي الحمر عليهما في أية لحظة من أحد الأزقة المنتشرة في الشارع.
لم يكادا يقفان إذا ثلة من الجنود لابسي الطواقي الحمر يبرزون تماماً كما توقعا فجأةً من الزقاق الرفيع الذي يصل بين شارعهما والشارع الآخر الموازي له .. لم يكونوا بعيدين سوى بخطوات قليلة عنهما .. تماسك الشابان بأيديهما وكالعمالقة المردة قفزا قفزة هائلة زادت من الفجوة التي تفصلهما عن الجنود الحاملين الهراوات الثقيلة التي تكفي ضربة واحدة من إحداها لتقتل جملاً لا إنساناً فقط..
وبدأت المطاردة عنيفة وسريعة.. كامل ومحمود يعرفان الشارع جيداً .. يعرفان منافذه وأزقته .. اقتربا من أحد الأبواب المفتوحة ودخلا بسرعة ، دخل الجنود ورائهما .. لم يجدوهما لكنهم لا حظوا محمود وهو يقفز من فوق الجدار الخلفي إلى الشارع الآخر ولم يضيع الجنود وقتهم .. بسرعة قفزوا خلفهم وسيماهم تفشي أنهم لم ينالوا أحداً وإلا ما معنى تشوقهم الدموي للحاق بكامل ومحمود .. نظر كامل إلى جانبه قائلاً لمحمود : علينا الإسراع أكثر ، الزقاق القادم يؤدي إلى السوق علينا أن نندس بين الناس، إنها فرصتنا للخلاص من هؤلاء الصهاينة القتلة..
قبل أن يلج كامل الزقاق المؤدي إلى السوق رأى بعضاً من الجنود الصهاينة يجرون داخله باتجاه الشارع وعلى الفور وبلا تفكير غير اتجاهه إلى خط مستقيم متجاوزاً الزقاق..
عجب محمود المتأخر قليلاً عن كامل في الجري .. لقد اتفقا أن يتوجها نحو السوق فما بال كامل يحيد ويستمر في عدوه .. لكن لا بأس سيواصل مثله .... و.. حدث الصدام سريعاً وعنيفاً .. سقط كل واحد في اتجاه مغاير وبعيداً جداً عن صاحبه .. تلقى محمود الصدمة على جانبه الأيسر وكعصفور صغير حط جسده على الجدار الذي أسنده قبل وقوعه . وأما الجندي ذو الطاقية الحمراء الذي يحمل بيده هراوة ضخمة ويتدلى من جانبه مسدس ضخم وسونكي صغير فقد وقع في اتجاه الزقاق الذي خرج منه لحظة اصطدامه بمحمود حيث تلقاه أصحابه فوراً ونظروا إلى محمود الذي أحس بشهوة نظراتهم النارية وبالفرح المجنون البادي على وجوههم المشوهة .. حاول القيام ومواصلة سيره ولم يستطع فقد وقع في الكمين الفظيع.. لقد اجتمعت عليه ثلتي جنود لا ثلة واحدة ولم يمهلوه.. بادروه بهراواتهم ولم تكن إلا أول ضربة حتى خرً صريعا وبالرغم من ذلك لم يتركوه..
تسمرت قدما كامل وتوقفتا عن الجري فهو لم يعد يسمع أنفاس محمود ولا خطواته ، لا جواره ولا خلفه .. ولاحظ خفوت ضوضاء المطاردة خلفه ، انتابه الشك حتى سمع صرخة محمود فجمد مكانه ونظر مسرعاً خلفه. يا لهول ما يراه أمر رهيب ذاك ما يجري أمامه .. محمود في حالة يرثى لها والجنود الكلاب يتقاذفونه بينهم وكأنه كرة آه .. آه .. الكلاب الكلاب لن أدعهم يستمرون في تعذيبه سيقتلونه لا.. لا.. لا .. لن أسمح لهم بقتله..
عاد كامل مسرعاً لم ينتبه الجنود إليه.. مديته صارت أسرع من ضحكاتهم المفترسة وضرباته قاتلة .. بسرعة انتشر الرعب والذعر بينهم وظهر الهلع في عيونهم.. هرب بعضهم ووقف البعض مشدوهون جامدون من الصدمة .. استطاع كامل القضاء على جرثومتين منهم قبل أن يستجمع أحدهم وعيه لما يجري أمامه وبسرعة أطلق النار باتجاه كامل الذي لم يتوقف بل ظل شامخاً في مواجهته للخوف وفي صموده أمام الموت الذي أصبح قاب قوسين أو أدني ، وواصل كامل هجومه وواصلوا إطلاق الرصاص .. وسقط كامل بجوار محمود وقبل أن يفارق قال له : نعم يا صاحبي كان يجب علينا أن ندعك لتقتلهم، إنهم لا يستحقون أن نصبر عليهم..
بقلم: بهائي راغب شراب
أحسا التعب والإرهاق يكبل أقدامهما عن السير وسال العرق بارقاً تحت وهج الشمس حتى وصل إلى فميهما ، شعرا بطعمه المالح ، أخذا بالتلمظ ومسح شفاههما بلسانيهما وكانت الابتسامة التي تملأ وجهيهما تزيدهما حبوراً وسلاسة وبراءة . رأيا عتبة بيت قريب أمامهما مرتفعة قليلة عن الأرض لكنها تسمح بأن يمدا أرجلهما أمامهما لإراحتها من عناء الجري الطويل ومن الكر والفر الذي يمارسانه منذ أيام من خلال المظاهرات والانتفاضات الشعبية والطلابية الثائرة ضد الاحتلال الصهيوني.
بعد أن جلسا بدآ بأخذ أنفاس عميقة قوية في محاولة لاستجماع قواهما الفوارة المتحمسة بسرعة ... الشارع أمامهما رملي مزدحم بالقنوات التي تتسلل من خلال فتحات صغيرة من تحت جدران المنازل .. مياهها آسنة تنبعث منها رائحة كريهة .. أرض الشارع تبدوا كخريطة مرسومة فالقنوات تتقاطع والحفر تنتشر بكثرة والحجارة الكبيرة ملقاة هنا وهناك على شكل تلال صغيرة ... خريطة كاملة لمدينة تفتقد شبكة كاملة لطريق مخلفات البيوت والمياه
بدا الشارع وكأنه امرأة حبلى جاءها المخاض وقبل أن تلد تقذف بالقاذورات من جوفها وهذا القذف ليس إلا تظاهرة وانتفاضة تهيئ للولادة القادمة.
ابتسم محمود وقد هدأ وجهه وكف عرقه عن الجريان والتفت إلى كامل قائلاً : أرأيت ما حدث اليوم ..؟ قد علمناهم درساً كبيراً .. لقد فروا أمامنا كالأغنام .. نعم كالأغنام ونحن نجري خلفهم نقذفهم بالحجارة والطوب وكرات اللهب المطاطية... سلاحنا الوحيد المتوفر في أيادينا الآن ..
انتبه كامل ورد متحمساً والابتسامة تزهر في عينيه : نعم .. نعم .. كل شيء كان رائعاً بالذات عندما حاولوا اقتحام المدرسة والفصول علينا .. لم يحسبوا أن الطلاب جميعهم قد حملوا الحجارة معهم داخل حقائبهم المدرسية بدلاً عن الكتب وخبئوها في أدراج مقاعدهم .. آه .. ما ألذ هذه اللحظات العظيمة وملامح الجبن تكسو وجوههم الفأرية الحقيرة ..
أجاب محمود: آه .. إنهم لم يكملوا رفع هراواتهم حتى انهالت الحجارة عليهم ..ضربوا بعضهم من الخوف وهم يحاولون التخلص من الفخ الذي أوقعوا أنفسهم فيه
كامل: هؤلاء الملاعين .. إن ما حصل اليوم ليؤكد لي .. لا .. لا أعرف والله .. عقلي لا يريد الاقتناع بأن مثل هذا الخوف والهروب والركون إلى الفرار عند أول مواجهه حقيقية بيننا وبينهم، هم يحملون أسلحتهم وهراواتهم ، يحميهم الحديد وجبروت طغيانهم .. ونحن ليس لنا إلا أيادينا وهذه الحصى وإيماننا العميق بصحة ما نفعل .. هؤلاء .. هؤلاء ؟! يهزموننا ! يهزمون أمةً بكاملها في الحروب العديدة التي أثاروها هم ، ونحن أصحاب الحق نمتلك أسباب القتال .. بل كان حرياً بنا نحن أن نبدأ القتال والمعارك
محمود: حتى المعركة الوحيدة التي خضناها ضدهم في رمضان المجيد لم نكملها ولم نواصل .. وتوقفت المعارك عند أول عشرة كيلومترات ..
كامل : لا تذكرني بذلك ، إن الألم ليعتصر فؤادي عصراً ، يؤرقني المصير المجهول الذي لم يقدم بعد ، أنظر لما حدث اليوم.. نحن الآن نعيش تحت الاحتلال بكل صوره وإرهابه وتخويفه، ونسفه للبيوت وتشريده للعائلات .. هؤلاء الذين يملئون حياتنا صباحاً ومساء بالذل والكراهية ، بالاغتصاب والسرقة .. هؤلاء الذين يستعرضون قوتهم الرهيبة أمامنا نحن وفي مواجهتنا نحن الذين وُضِعنا قسراً تحت خانة الاحتلال البغيض.. هؤلاء يا أخي .. ونحن العزل من كل شيء إلا الإيمان والحجارة، هؤلاء من خوفهم اليوم لم ينتظروا ليأخذوا زميلاً لهم عندما سقط بين أيدينا بل لم يحاولوا استنقاذه ونحن نشبعه ركلاً وضرباً ولم نتركه الا وقد أغمي عليه .. أقول لك شيئاً كان بودي لو قتلناه ذاك الخنزير القذر لكن أحذيتنا المطاطة شفعت له هي واكفنا اللدنة الرحيمة التي لا تمتد بغير الخير والمحبة بالرغم من قوتها وشدتها في ضرب الظلم والقهر والاستبداد .. ألم تر ..! لقد تركناه يذهب ويلتحق ببقية الخنازير ..
محمود : أردت أن أطعنه بمديتي لكنكم رفضتم ذلك ، كنت متشوقاً للانتقام ، لماذا لم تدعوني أجهز عليه وأنقله إلى دنيا الجحيم الأبدي..
كامل : لم يكن ممكناً تركك تفعل ذلك في هذا الوضوح .. لو أننا كنا في مكان بعيد وخالٍ لشاركناك جميعاً في ذلك لكن أنسيت ماذا يمكن أن يجر عليك قتل ذلك الخنزير وعلى عائلتك من انتقام مروع.
محمود : لا يهمني انتقامهم فأنا أناضل وأقاتلهم ولست أعبأ بالنتيجة، فأنا عندما أشترك في مقاومتهم إنما أتقدم واضعاً روحي على كفي فهذا أقل شيء يمكنني تقديمه ثمناً للحرية .
كامل : هذا صحيح يا صاحبي لكن نحن أحوج ما نكون لأن نبني وأن نصون ، ستقتل منهم كما تشاء لكن في اللحظة التي نختارها نحن وفي المكان الذي نحدده نحن أيضاً وإلا ما فائدة أن تموت الآن وأنت بعد لم تقدم شيئاً لوطنك ، فلتمت لكن بعد أن تهيئ الظروف لذلك وبعد أن تقتنع أن موتك سيضيف للوطن لا أن يقتطع شيئاً منه.
محمود : فعلاً .. حق ما تقول ، أحتاج لأن أفكر بهدوء وبتعقل ، هذا فعلاً ما أحتاج إليه ، وما يجب أن نفعله جميعاً ، نجلس ونفكر .. نرسم ونضع الخطط ، ثم ننفذ في الوقت الملائم ، لكن .. أتحسبهم يسكتون على ذلك ؟ ، لن يتحملوا الفشل ، سيحاولون بوسائلهم الخاصة النفاذ إلينا .. و..
كامل : لن يستطيعوا ذلك أبداً ، سنقفل الطريق دائما عليهم ، ونصدهم عن المضي فيه ، سنثبت لهم أن كل ما يحاولون معنا عبث عبث .. مجرد لا شيء ، حتى لو كان الثمن أجسادنا الصغيرة هذه ، الملغومة بالغضب وبالاحتقار لما يحدث حولنا من الصمت القاتل والجمود الخانق ..
محمد : لو أن رجلاً... أتعرف .. أفكر أحياناً وأنا أتطلع إلى وضعنا هذا بأننا بحاجة إلى رجل كصلاح الدين .. إيه .. رحمه الله كان عارفاً للطريق الحقيقي الموصل للحرية والاستقلال .
كامل : لا تحلم كثيراً ، الزمن لا يكرر نفسه - صلاح الدين مضى .. تماماً كعمر بن الخطاب .. هذا فاتح وذاك محرر .. عليك أن تفكر برجل آخر من نوع جديد .. لكن لا يحيد أبداً عن طريق أسلافه..
محمود: ماذا تريد أن تكون نوعية هذا الرجل .
كامل : نوعه .. إننا بحاجة إلى ساحر ..! نعم ساحر حقيقي يستمد قوته من الله، من التفافنا حوله .. يشير إلينا فنهب ويأمرنا فنلبي ونقتحم ..
محمود : ماذا يمكن لساحر أن يفعل وسط بحر من السحرة الأشقياء ، يحيطون به من كل اتجاه ، يقفلون عليه منافذه إلى الشمس الرحيبة والفضاء المتسع .. وإلى الآمال المضيئة في الليالي الحالكة السواد ..
كامل : أنظر.. هذه الحجارة التي نقاومهم بها الآن ستكبر غداً ، ستتحول إلى قنابل ومدافع تسلب الأرواح من هياكل أجساد أعدائنا .. هذه الحجارة ستنبت أقداماً تزحف وتتقدم نحو النصر والوطن
محمود : الحجارة ..! الحجارة تتحول إلى أسلحة والى رجال ماذا تعني بألغازك هذه ..!؟
كامل : ليس لغزاً البتة ، نحن الذين سنفعل ذلك ، نحن السحرة ، بتصميمنا وإرادتنا وإيماننا واستمرارنا .. فقط هذه أدوات السحر ، كل ساحر له أدواته .. نعم .. وهذه أدواتنا التي ستحول دمعة الحزن إلى زغرودة فرح تنطلق فوق روابينا وسهولنا ومياهنا وفضائنا ..
محمود : تحلل الأشياء بعمق .. لك حق فيما تقول .. لم يبق إلا نحن وأدوات سحرنا التي نملكها .. ننميها يوماً بعد يوم ..
كامل : حقاً ذلك سيطول فالمشوار ممتد وشاق ، الدماء فيه ستسيل حتى تغوص فيها الركب وستتكون بحار جديدة هائجة تغرق فيها القوارب المعطوبة التي تسير بلا شراع ودون أمل بأن ثمة ميناء ينتظر رسو المركب عنده ..!
محمود: ما حدث اليوم بالذات يؤكد قولك فعلاً بل أن السكوت والجمود الذين يحيطان بنا من كل جانب ليدفعان بنا دفعاً لأن نمارس السحر بكل أنواعه ونبين مهارتنا فيه ، وسيرى الجميع مهارتنا وعندها لا يستطيع أن يوقف امتدادنا نحو الشمس والفضاء الشاسع أحد مهما بلغت قوته وجبروته
كامل: إن أحداً لا يستطيع إيقافنا ، المستقبل لنا .. نعم لنا .. هذا ما أراه ويجول بفكري ..
مر الوقت سريعاً.. لم يدركاه إلا وقد رأيا بعض الأطفال يقبلون مسرعين من بداية الشارع الغربية ، يجرون دون التفات ، من يصل بيته يلجه بسرعة مفترقاً عن رفاقه ، لم يبق إلا سالم الذي استمر في عدْوِهِ حتى وصلهما وكانا ما يزالان يمدان أرجلهما أمامهما من فوق عتبة البيت الذي يجلسان عليها.. استغربا ما رأياه في وجهه من سيماء الحذر والترقب والقلق ..
بادره كامل كي يوقفه : ما بكم تجرون هكذا وما هذه الفورة والسرعة في ولوج الأبواب والاختفاء وراءها.. هل القيامة قامت.. ما الذي حدث يا سالم قل لنا تكلم ..
وقف سالم أمامهما دون أن تسكن حركته وعلى طريقة محلك سر قال لاهثاً: إنهم أصحاب الطواقي الحمر نزلوا المدينة بأعداد مكثفة ، لقد اعتقلوا الكثيرين من الشباب والأطفال وهم يلحقون كل شاب وطفل يرونه ويكيلون لهم الضرب عشوائياً وبين المارين لا يهمهم إن كان امرأة أو شيخاً عجوزاً..
قال سالم: عليكما ترك مكانكما وليتوجه كلاكما إلى بيته حتى تهدأ الأمور .. لقد فاض الكيل عليهم ونالهم منا الكثير من الجحيم .. هيا تحركوا أنا ذاهب الآن.. لن أبادلكما الحديث .. السلام عليكما . تحركا بسرعة ها أنا أحذركما لآخر مرة..
بعد ابتعاد سالم تبادلا النظرات .. أفكارهما واحدة وهما يجب أن يفعلا شيئاً فلا يجوز بقائهما ساكنين دونما حركة ، عليهما الإقدام والابتعاد فمكانهما قريب جداً وقد يبرز أصحاب الطواقي الحمر عليهما في أية لحظة من أحد الأزقة المنتشرة في الشارع.
لم يكادا يقفان إذا ثلة من الجنود لابسي الطواقي الحمر يبرزون تماماً كما توقعا فجأةً من الزقاق الرفيع الذي يصل بين شارعهما والشارع الآخر الموازي له .. لم يكونوا بعيدين سوى بخطوات قليلة عنهما .. تماسك الشابان بأيديهما وكالعمالقة المردة قفزا قفزة هائلة زادت من الفجوة التي تفصلهما عن الجنود الحاملين الهراوات الثقيلة التي تكفي ضربة واحدة من إحداها لتقتل جملاً لا إنساناً فقط..
وبدأت المطاردة عنيفة وسريعة.. كامل ومحمود يعرفان الشارع جيداً .. يعرفان منافذه وأزقته .. اقتربا من أحد الأبواب المفتوحة ودخلا بسرعة ، دخل الجنود ورائهما .. لم يجدوهما لكنهم لا حظوا محمود وهو يقفز من فوق الجدار الخلفي إلى الشارع الآخر ولم يضيع الجنود وقتهم .. بسرعة قفزوا خلفهم وسيماهم تفشي أنهم لم ينالوا أحداً وإلا ما معنى تشوقهم الدموي للحاق بكامل ومحمود .. نظر كامل إلى جانبه قائلاً لمحمود : علينا الإسراع أكثر ، الزقاق القادم يؤدي إلى السوق علينا أن نندس بين الناس، إنها فرصتنا للخلاص من هؤلاء الصهاينة القتلة..
قبل أن يلج كامل الزقاق المؤدي إلى السوق رأى بعضاً من الجنود الصهاينة يجرون داخله باتجاه الشارع وعلى الفور وبلا تفكير غير اتجاهه إلى خط مستقيم متجاوزاً الزقاق..
عجب محمود المتأخر قليلاً عن كامل في الجري .. لقد اتفقا أن يتوجها نحو السوق فما بال كامل يحيد ويستمر في عدوه .. لكن لا بأس سيواصل مثله .... و.. حدث الصدام سريعاً وعنيفاً .. سقط كل واحد في اتجاه مغاير وبعيداً جداً عن صاحبه .. تلقى محمود الصدمة على جانبه الأيسر وكعصفور صغير حط جسده على الجدار الذي أسنده قبل وقوعه . وأما الجندي ذو الطاقية الحمراء الذي يحمل بيده هراوة ضخمة ويتدلى من جانبه مسدس ضخم وسونكي صغير فقد وقع في اتجاه الزقاق الذي خرج منه لحظة اصطدامه بمحمود حيث تلقاه أصحابه فوراً ونظروا إلى محمود الذي أحس بشهوة نظراتهم النارية وبالفرح المجنون البادي على وجوههم المشوهة .. حاول القيام ومواصلة سيره ولم يستطع فقد وقع في الكمين الفظيع.. لقد اجتمعت عليه ثلتي جنود لا ثلة واحدة ولم يمهلوه.. بادروه بهراواتهم ولم تكن إلا أول ضربة حتى خرً صريعا وبالرغم من ذلك لم يتركوه..
تسمرت قدما كامل وتوقفتا عن الجري فهو لم يعد يسمع أنفاس محمود ولا خطواته ، لا جواره ولا خلفه .. ولاحظ خفوت ضوضاء المطاردة خلفه ، انتابه الشك حتى سمع صرخة محمود فجمد مكانه ونظر مسرعاً خلفه. يا لهول ما يراه أمر رهيب ذاك ما يجري أمامه .. محمود في حالة يرثى لها والجنود الكلاب يتقاذفونه بينهم وكأنه كرة آه .. آه .. الكلاب الكلاب لن أدعهم يستمرون في تعذيبه سيقتلونه لا.. لا.. لا .. لن أسمح لهم بقتله..
عاد كامل مسرعاً لم ينتبه الجنود إليه.. مديته صارت أسرع من ضحكاتهم المفترسة وضرباته قاتلة .. بسرعة انتشر الرعب والذعر بينهم وظهر الهلع في عيونهم.. هرب بعضهم ووقف البعض مشدوهون جامدون من الصدمة .. استطاع كامل القضاء على جرثومتين منهم قبل أن يستجمع أحدهم وعيه لما يجري أمامه وبسرعة أطلق النار باتجاه كامل الذي لم يتوقف بل ظل شامخاً في مواجهته للخوف وفي صموده أمام الموت الذي أصبح قاب قوسين أو أدني ، وواصل كامل هجومه وواصلوا إطلاق الرصاص .. وسقط كامل بجوار محمود وقبل أن يفارق قال له : نعم يا صاحبي كان يجب علينا أن ندعك لتقتلهم، إنهم لا يستحقون أن نصبر عليهم..