ناهض زقوت
تجليات الذاكرة عند الأنا الساردة في كتاب "رسائل من القدس وإليها"
يعد فن كتابة الرسائل هو أحد الفنون النثرية التقليدية في تراثنا العربيالأدبي إلى جانب الفنون النثرية الأخرى، كالخطابة والمقامات المناظرات. ازدهر فيالقرنين الثالث والرابع الهجريين، أواسط العصر العباسي, وأواخر العصر الأموي. وقدحفلت الكتب التراثية ودواوين الأدب العربي بضروب من الرسائل الإخوانية والعلميةوالأدبية, مثل: رسائل ابن زيدون وولادة بنت المستكفي, ورسائل الجاحظ, ورسائل أخوانالصفا, ورسائل بديع الزمان الهمذاني, ورسائل أبي بكر الخوارزمي.
والرسالة الأدبية نص أدبي مكتوب نثراً، واتفق الباحثون على أنه "فننثري جميل يظهر مقدرة الكاتب وموهبته الكتابية وروعة أساليبه البيانيةالقوية"، يبعث به صاحبه إلى شخص ما، يسمى المرسل إليه. تعتبر الرسالة الأدبيةأحد أهم فنون السرديات القائمة على الإنشاء والمحادثة، حيث تخاطب الغائب (المرسلإليه) وتستدرجه عبر فنيتها ببلاغة الكلمة وقوتها.
كتب العديد من الكتاب والأدباء في القرن العشرين الرسائل الأدبية وتبادلوهامع كتاب وأدباء أخرين سواء في البلدان العربية أو الأجنبية، وثمة ما نشر، وثمة مالم ينشر خوفاً من إثارة البلبلة والزوابع لذلك بقيت حبيسة الأدراج (غادة السمانتضع رسائلها في بنك سويسري). ولم يكن الأدب الفلسطيني بعيداً عن هذه التجربة، فقدعرف الأدب الفلسطيني فن الرسائل سواء بالطريقة التقليدية، وأقصد المخاطبة الورقية،أو المخاطبة الالكترونية، أي توظيف التكنولوجيا في خدمة الكتابة، وتطوير أدوات أدبالرسائل، ومن الرسائل الأدبية الفلسطينية: رسائل المعداوي وفدوى طوقان (الرياض1976)، ورسائل محمود درويش وسميح القاسم (بيروت 1990)، ورسائل غسان كنفاني إلىغادة السمان (بيروت 1992)، ورسائل محمود شقير وشيراز عناب (وقت آخر للفرح، حيفا2020)، ورسائل محمود شقير وحزامة حبايب (أكثر من حب، بيروت 2021)، ورسائل ناصرعطاالله ونور الشمس النعيمي (شيليا وجبل الجرمق، حيفا 2022)، ورسائل عمر صبريكتمتو وروز اليوسف شعبان (وطن على شراع الذاكرة، عكا 2022).
في هذا الكتاب الذي بين أيدينا "رسائل من القدس وإليها" للكاتبينجميل السلحوت وصباح بشير يأتي معبراً عن رؤى ثقافية واجتماعية وسياسية من خلالرسائل تبادلاها الكاتبان على فترات طويلة متقطعة أحياناً. كانت البداية هي تعارفوسؤال، انطلاقاً من القاعدة التي يؤمن بها جميل السلحوت "أزعم أنني أشجعالكتاب الجدد حتى وإن كنت لا أعرفهم"، ثم تطورت إلى رسائل متبادلة، وذلك بعدأن شاركت الكاتبة صباح بشير في لقاءات ندوة اليوم السابع، وكانت غير معروفةللحضور، وخاصة مؤسسها الكاتب جميل السلحوت، فأثارت بحضورها هالة فضولية للكاتبللتعرف عليها، فكان هذا الكتاب ثمرة هذا التعارف، وقد صدر الكتاب عن مكتبة كل شيءفي حيفا عام 2022، ويقع في 182 صفحة.
حينما يفكر إنسان ما في كتابة رسالة إلى إنسان آخر يكون لديه رؤية وهدف حولالدوافع التي دفعته لكتابة هذه الرسالة، فليس ثمة رسالة دون هدف يسعى إليه كاتبها.
سواء في طرحه للمتلقي الخاص أوالمتلقي العام. رسائل القدس كتبت عن وعي وبصيرة، وادراك للأهداف من ورائها، فهذهالرسائل في عمقها البسيط هي لمتلقي خاص، ولكن في عمقها المعرفي هي لمتلقي عام، لأنهدفها توصيل رسالة للقارئ من خلال القضايا التي تم طرحها بين المرسل والمتلقي، لذاكان نشرها لاستكمال الفائدة في تعميق الرسالة، وتعميق قيمتها الأدبية والتاريخيةبوصفها وثيقة مهمة لاستكناه ملابسات زمانها ومكانها.
ولم تكن هذه الرسائل غاية كتابية، بقدر ما كانت رؤية للواقع السياسيوالاجتماعي والثقافي في القدس خاصة وفلسطين عامة، وتساهم في دفع القارئ لاستبان مااستجد في هذا الواقع من ظواهر جديدة، وما يحمله هذا العمل من بعد إنساني، فإنهينفتح على رؤى غير محدودة بقدر القراءات وبقدر المتلقين.
العنوان وبناء الرسائل
منذ غلاف الكتاب جنس الكاتبان كتابهما بأنه رسائل متبادلة بينهما (رسائل منالقدس وإليها)، أي أن هذه الرسائل تنطلق من القدس وتعود إلى القدس، ورغم تعددأماكن الكتابة، حيث نجد أن رسائل جميل السلحوت تكتب في القدس، ما عدا رسالة واحدةكتبها في أمريكا، أما الكاتبة صباح بشير فقد كتبت من أماكن متعددة؛ من القدس ودبيولندن وتونس وجورجيا وحيفا. ولكن جميعها ترد إلى القدس، فالقدس تبقى هي المركزبحكم وجود منشئ الرسائل جميل السلحوت، نجده بعد عودته من زيارة أمريكا يصف"الوطن المحتل بالسجن الكبير"، ورغم شعوره بالغربة في الوطن إلا أنهم"محظوظين بالعيش في هذا الوطن المقدس، فهو عبارة عن متحف كبير، وفيه تنوعثقافي"، ويشرح طبيعة التنوع في الوطن خاصة في الفصول الأربعة وجمال الوطن,ويؤكد أنهما مهما تغربا لن يستطيعا العيش بعيداً عن القدس.
إن جمالية القدس تنبع من قداستها وأبعادها الثقافية والحضارية، لذلك تبقىالثقافة هي حصن الدفاع الأخير أمام هزيمة الحاضر ومجهولية المستقبل. لذا يركز جميلالسلحوت على مسألة الثقافة ودورها التفاعلي في المجتمع وقدرتها على التغير اذاأحسنا استخدامها في إعادة رواية الحكاية الفلسطينية، لذا يعتب وينتقد موقف وزاراتالثقافة في الدول الاسلامية والعربية، وتسمية القدس عاصمة الثقافة العربية،والقرار بتسميتها العاصمة الدائمة للثقافة الإسلامية .. والمخجل هنا أن أيا من هذهالدول لم تقدم شيئاً للقدس .. بينما أثرياء اليهود تبرعوا بمليارات الدولاراتلتهويدها.
وكانت القدس بالنسبة لصباح بشير هي الوطن الذي لا يمكن الاستغناء عنه مهماتغرب الإنسان وشاهد أماكن كثيرة، تبقى القدس هي مكان الميلاد والنشأة والتعليموالعمل والزواج، ودون القدس/ الوطن يشعر الإنسان دائماً بالنقص بعيداً عن العائلةوالأحبة والاصدقاء.
لقد كان التركيز على القدس كثيراً في الرسائل، وهذا ما يجعل العنوان متسقاًمع السرد ومعبراً عن دلالاته، فالقدس هي المكان وهي الرمز الجمالي والتاريخي، الذييسعى الكاتبان إلى التشبث به عن طريق اثبات وجوده الماضوي والمستقبلي، من خلالإبراز هويته المادية والمعنوية، فهو مكان عيش آبائهم وأجدادهم، ومكان ميلادهمونشأتهم. لذا كانت القدس حاضرة بكل تجلياتها الروحية والحضارية والثقافيةوالسياسية في الرسائل.
وقد تواصل الكاتبان في كتابة رسائلهما طوال أحد عشرة سنة، إلكترونيا عبرالإميل، وكانت البداية في 11 ابريل 2010، والنهاية في 31 ديسمبر 2021، بواقعأربعين رسالة. ولكن لم تكن منتظمة بل ثمة فترات انقطاع، لا يشعر بها القارئ، إلاإذا نظر لتاريخ كتابة الرسالة. وراعى الكاتبان المنظور العام للرسالة من حيث ذكراسم المرسل إليه في بداية الرسالة، بتوصيف (الأخ، والأخت)، واسم المرسل في تذييلالرسالة وتاريخ كتابتها.
حينما يشعر الإنسان أن ثمة ما يهدد وجوده وكيانه، يتوسل كل أسلوب وطريقةلكي يثبت هويته وتأكيدها، لذا يتخذ من ضمير الأنا المتكلم الأداة التي يسعى منخلالها للتعبير عن هويته، فهذا الضمير هو العقل الشعوري الذي يتكون من المدركاتالحسية والذكريات والأفكار والوجدانيات، وينمو من خلال تفاعل الفرد مع المجتمع،فالرسائل الأدبية بما تحمله من انفعالات الأديب، وانعكاسها عن جميع الظروفوالملابسات الخارجية المحيطة به، تجعلهيؤثر تأثيراً فاعلاً وكبيراً في توجيه الحياة العامة وتصويرها سواء أكانت سياسيةأم اجتماعية أم ثقافية. وهذا ما نجده واضحاً في رسائل القدس في استخدام هذا الضميرفي عملية التخاطب، وفي القدرة على تكوين صورة عن نفسهما، وعن رؤيتهما كل للآخر،وتقديم رؤية للمجتمع وقضاياه.
اعتمد بناء الرسائل على الحوار غير المباشر بينهما، فهذا الحوار أعطىالرسائل حيوية وديناميكية في التشويق والإخبار بنفس الوقت, وكان دافعاً لزيادةالتشويق في النص، ويعطي القارئ إدراكاً سريعاً لمحتوي النص الموازي من قِبَلالمتلقي لإيصال الحدث إليه بيسر واكتفاء. فقد تشكل البناء الحواري من خلال قيامأحدهما بطرح سؤالاً وينتظر من الآخر الإجابة عليه أو التعقيب على القضية التيطرحها، نجد منذ الرسالة الأولى التي أرسلها جميل السلحوت يطرح مجموعة من الاسئلةعلى صباح بشير لكي يفتح مجالاً للحوار فيما يتعلق بالغموض في شخصيتها، وفي طبيعةالكتابة لديها، ودفعها لكتابة رواية، مما يدفعها للرد على ما طرحه من أسئلة، وهيبالتالي تترك المجال مفتوحاً لمداومة المراسلة فتطرح عدة قضايا للنقاش أبرزهامشاكل المرأة في المجتمع والاعلام، وهكذا يتداخل الكاتبان في طرح قضايا للحواروالنقاش حولها.
لقد طرحت رسائل القدس العديد من القضايا في رؤى متبادلة بين الكاتبين:التعريف بندوة اليوم السابع ودورها في تعزيز الثقافة، وفي التعارف بين الكتابوالأدباء والمهتمين بالشأن الثقافي، والحديث عن مركزية جبل المكبر بالقدس ونبوغأكثر من عشرين كاتباً من بين سكانه، أبرزهم الكاتب محمود شقير، و(جميل السلحوتوصباح بشير من جبل المكبر)، وتناول دور العادات والتقاليد وأثرها على المرأةالكاتبة التي تدفعها أحياناً إلى الكتابة باسم مستعار (حليمة جوهر نموذجاً فيالرسائل)، وتقديم ملامح من السيرة الذاتية والتجربة الابداعية، والخوض في قضاياالمرأة في المجتمع والاعلام، وانتقاد المؤسسات النسوية (الممولة أجنبياً وخدمتهاللجهات الممولة)، وسلوك هذه المؤسسات تجاه المرأة، وسيطرة الفكر الذكوري علىالمجتمع سواء عند الرجل أو المرأة، والتأكيد على دور الثقافة والمكتبة (والمكتبةالمنزلية) وتأثير المطالعة والكتابة في صقل الشخصية، وتناول موضوع الغربة أوالاغتراب عن الوطن، وانتقاد المؤسسات الثقافية الرسمية في عدم دعم القدس وأدبائهاومؤسساتها، وطرح فكرة التعصب الديني وأثرها على المجتمع، وانتشار ثقافة الجهلوالهبل ودور وسائل الاعلام في انتشارها، والهوة الثقافية بين المجتمع العربيوالغربي، وحديث عن السفر والرحلات ووصف الأماكن وفوائد السفر في التعرف علىمجتمعات وشعوب جديدة، وتبقى القدس محور النقاش من حيث جماليات المكان وأثر تغيراتالاحتلال للمكان بالتهويد والاستيطان ومصادرة الاراضي، والتطرق إلى ملامح منالتاريخ الفلسطيني، والتعرض للظواهر الاجتماعية السلبية (حمل السلاح، وتعاطيالمخدرات، وقتل النساء)، والتعرض أيضاً للظواهر السلبية في مجالي الثقافة والتربيةوالتعليم وأثرهما على المجتمع.
هذا العمل فيه دعوة لتلمس معالم الجمال والأخلاق والفضيلة والمعرفة في كلما يحيط بالإنسان، ودعوة لقبول الآخر/ الإنسان وتقديره واحترامه على النحو الذييليق به مهما كانت الاختلافات الشكلية والفكرية والطبائع، بما لا يتنافى مع تقديرواحترام الذات. لذلك أكد الكاتبان على أن الثقافة وحدها القادرة على تقريبالمسافات، وأن الحوار هو الوسيلة الوحيدة القادرة على سبر الأغوار وردم الفجواتبين المتحاورين، وأن الإنسان قادر على العيش في أي مكان رغم تعدد الثقافات وتنوعها.
الأنا .. ورؤى الذات
ليس من السهولة الحديث عن كل القضايا التي طرحتها الرسائل، فكل قضية تحتاجإلى مقالة مستقلة لعمق الطرح والرؤية، لذا سأحاول التركيز على نقطة لم يتناولهاالذين كتبوا عن رسائل القدس بشكل موسع، وهي مسألة الذاتية في الرسائل التي تقاربالسيرة الذاتية لدى الكاتبين. تلك الذاتية لا نجدها في قالب منفرد بل تأتي فيبعدها الجماعي.
تحمل رسائل القدس رؤى للذات بشكل بارز حتى يشعر القارئ أن هذه الرسائل هيسيرة ذاتية للكاتبين تعبر عن حياتهما وتجربتهما وأفكارهما ورؤيتها للحياةوالمجتمع، لذا كانت دوافع الاستمرارية بينهما رغم الفارق الزمني في العمر بينهما،هو الشعور بأن ثمة ما هو مشترك بينهما من قضايا وهموم مشتركة يتفاعل بهما المجتمعولكن مسكوت عنها من طرف المسؤولين، فأخذا في مناقشتها بصوت عالي ليس فقط للتعبيرعن الذات في رؤيتها، بل لنقل الهموم والقضايا إلى القارئ والتأكيد على رؤيتهماوموقفهما منها، وهذا ما دفعهما لنشر الرسائل. لذا سنحاول الخوض في أغوار الذاتيةوسبر رؤاها في الرسائل، فنكتشف أن تلك السيرة الذاتية لم تأتي مباشرة في الرسائلبل في سياق موضوعات مطروحة للنقاش.
يستعيد جميل السلحوت في تعريف الأنا لذاتها الماضي بكل جمالياته وآلامهوتعقيداته المجتمعية، ليرسم لوحة فنية عن عائلته، دون أن يتجاوز الحاضر في سيرتهومؤلفاته ورحلاته. ففي سياق الحديث عن ذكورية المجتمع يتذكر عمته نوارة التي لقيتحتفها في جوف بئر (بير السوق)، التي غادرت الدنيا قبل ميلاده بأربعين عاماً، تلكالفتاة التي عاشت اليتم والحرمان والفقر. ثم يتحدث عن معاناة والدته وبنات جيلها،وما كان يفرضه المجتمع عليهن من الزواج في سن صغيرة، وليس لها حق الرفض أو القبول،ويتذكر زواج شقيقته وكانت في الرابعة عشرة من عمرها، وموقف والده الذي وافق علىتزويجها دون أن يسألها رأيها، وتأثير المعاناة التي عاشها وقسوة الأب وحرمانشقيقاته من التعليم.
لقد تجاوز الكاتب أفكار عائلته ورؤاها المجتمعية، بعد أن تركت هذه المواقفالمجتمعية في عائلته والعائلات الأخرى أثرها السلبي عليه، مما شكل لديه موقفاًمغايرا ومتجاوزا لكل هذه العادات، فعندما تزوج دفع زوجته لإكمال تعليمها الجامعي،رغم معارضة عائلته، وكذلك دفع ابنته للتعليم الجامعي.
وفي سياق الحديث عن العائلة نجده في كل رسالة من رسائله يشي بجزء من سيرته،فنجده يخبرنا/ أو يخبرها أن زوجته (الكاتبة حليمة جوهر) تعمل مدرسة، وكذلك ابنتهالكبرى (أمينة) متزوجة وتعمل مدرسة أيضاً، ويعبر عن فرحته بأنه أصبح جدّاً للمرةالأولى بعد أن أنجبت ابنته أمينة ابنها البكر كنان. ثم يتحدث عن زواج ابنه قيس منفتاة تونسية. ويشير أيضاً إلى زواج ابنته لمى، وبعد عامين أنجبت ابنها البكر باسل،وبعد ساعة من فرحتهم توفيت والدته عن عمر ناهز 88 سنة.
وعن دور الأسرة وتأثيرها في صقل الشخصية، يشير السلحوت إلى عائلته التي لميكن لها دور في مسيرته الكتابية بل كان اعتماده على ذاته أكبر من الاعتماد علىالعائلة. فوالداه أميان، وأخيه الأكبر أنهى الثانوية وسافر للعمل في السعودية،والتحق لاحقاً بجامعة بريطانية لإكمال دراسته في إدارة الأعمال. أما هو فقد كانشغوفاً بالمطالعة، ومنذ الصف الرابع بدأ في شراء الكتب من مكتبة الأندلس في بابالزيت بالقدس لصاحبها المرحوم فوزي يوسف، ويذهب مشيا ويعود مشيا لأنه وفر مصروفهلشراء الكتاب.
ويتخذ من العودة الى عالم الطفولة مادة ينسج منها رؤيته للواقع وتغيراته،وذلك من خلال مناقشة دور المؤسسة التعليمية والخلل القائم فيها، مما يدفع الطلابإلى التسرب من المدارس، رغم كل الامكانيات المتوفرة لهم، والتي لم تتوفر إلى أبناءجيله، مما شكل له دافعاً للكتابة عن طفولته في كتابين (طفولتي ـــ أشواك البراري)و(طفولتي ـــ سيرة ذاتية). ويشير أنه عند اندلاع حرب حزيران عام 1967 كان علىمقاعد التوجيهية، ولديه رغبة في اكمال دراسته الجامعية، ولم يكن آنذاك أية جامعةفي الأراضي المحتلة، فكان أمام خيارين إما ترك الوطن أو الصمود على أرضه، فآثرالخيار الثاني، وقد دفع ثمن الانتماء للوطن بمعاناة تجربة الاعتقال إذ اعتقل فيمارس 1969 بسجن الدامون على جبل الكرمل في حيفا، ويسرد ذكرياته عن المعتقلوتاريخه، وبعد تحرره، وما تعرض له من تعذيب قاس أورثه انزلاقاً في غضروف الرقبةوأسفل العمود الفقري، وتقرحات في المعدة والقولون، وقد تحرر في ابريل 1970، ورغمذلك لم يفقد حلمه بالدراسة الجامعية، فانتسب إلى جامعة بيروت العربية لدراسة اللغةالعربية.
يذهب الكاتب بعيدا في رحلة الذاكرة لاستعادة ماضي الذات في تفاصيل مكانوزمان الغائبين/ الحاضرين، ليروي الحكاية الفلسطينية من خلال رواية حكاياتالآخرين، فنجده دليلا سياحيا، كما يقول عن نفسه، في رحلة في ربوع براري بلدتهالسواحرة، التي كان والده فيها من كبار الملاكين، ويسرد ذكريات المكان برسمالخارطة التي يسعى لتأكيد وجودها لدى الأجيال القادمة: مررنا بمناطق مثل أم الرتم،وجوفة السوق، والدمنة، ووادي الدكاكين، وأم دسيس، ثم يقف على قمة جبل المنطار ليرىأبو ديس والعيزرية وجبل الزيتون، والقدس الشريف، ومنطقة الخان الاحمر، ومنطقةالزراعة، ومن بعيد يشاهد سلسلة جبال شرق النهر ومرتفعات السلط، ومنطقة ناعور،والبحر الميت، ويعود إلى منطقة جنجس التي يفصلها وادي قدرون عن بلدة العبيدية، ومنتلك المنطقة تطل على مدن بيت ساحور وبيت لحم وصور باهر والشيخ سعد، وصولاً إلى جبلالمكبر الذي يعد أشهر جبال القدس، وقد ارتبط اسمع بالخليفة عمر بن الخطاب الذي حينرأى القدس هلل وكبر وخر ساجداً، فأطلقوا عليه هذا الاسم. وأثناء جولته يصف جمالالطبيعة الخضراء ومزروعاتها.
ان هذا المشهد الذي يطل عليه القارئ ليس ماضيا خالصا بل هو معجون بعناصرالحاضر وشروطه وجروحه وتمزقاته. فخارطة المكان منذ عام 1967 والاحتلال يجرى عليهاتغيرات كبيرة بمصادرة الأراضي وإقامة المستعمرات، فنجد منطقة (الخلايل) من بلدةالسواحرة امتدت عليها مستوطنة "معاليه أدوميم" وابتلعتها، ومنطقة(الصرارات) تقوم عليها مستوطنة "نيؤوت أدوميم"، ومنطقة الخان الأحمرالتابعة لبلدة سلوان صادرها المحتلون وأقاموا عليها منطقة صناعية "ميشورأدوميم"، وكذلك سحب مياه البحر الميت للمصانع الاسرائيلية في منطقة سدوم.ويشير إلى الأراضي التي كان يمتلكها مع اخوته وراثة أبا عن جد، والتي صادرتهاسلطات الاحتلال وأغلقتها تحت ذريعة "استعمالات الجيش"، وامتدادالمستوطنات على الأراضي وابتلاع آلاف الدونمات، وتهجير عرب الجهالين.
وتأخذ الرحلة أبعادها في تشكيل ملامح من السيرة الذاتية، فهو يخبر صباحبشير أنه بصدد زيارة أمريكا لمدة ثلاثة شهور، وهي زيارة سنوية يقوم بها للالتقاءمع ابنه قيس الذي يدرس في إحدى الجامعات الأمريكية، واخوته (داوود، وراتب، وأحمد)،و(وحسين ابن أخيه، ومحمد موسى ابن عمه) المتواجدين هناك، ويشير إلى أنها ليستالمرة الأولى، فقد زارها حوالي خمسة عشر مرة منذ عام 1984.
ولشده اهتمامه بالثقافة، والعمل على تعزيزها في القدس في ظل الهجمة الشرسةالتي تواجهها القدس من اجراءات احتلالية تحاول أن تنزع عنها صفتها العربيةالاسلامية، سعى لتأسيس ندوة اليوم السابع في عام 1991، مع عدد من الكتاب والأدباء،ويتحدث عن نشاطاتها واهتمامها بمناقشة الكتابات الجديدة والتعريف بكتابها،واستضافتها لكبار الكتاب ليتحدثوا عن تجربتهم الأدبية، ودورها في رعاية المواهبالشابة، وكان لها الدور الكبير في ابراز عدد من الكتاب.
يؤكد أنه من أشد المناصرين والمدافعين عن المرأة، وأنه في أغلب كتاباتهيتطرق إلى المرأة وقضاياها، فيشير إلى أول اصدار له بعنوان (الصراع الطبقي فيالحكاية الشعبية – القدس 1978)، وفيه يتحدث فيه عن رؤية المجتمع والتراث للمرأة.نكتشف في حديثه عن مشروعه الروائي والأدبي، أنه غزير الانتاج، وصاحب ثقافةموسوعية، ولديه اطلاع كامل على المشهد الثقافي والاجتماعي. يبدأ برواية (ظلامالنهار) التي تعتبر واحدة من سداسية روائية يعمل على كتابتها بعنوان (درب الآلامالفلسطيني)، وفي أمريكا يكتب الجزء الثاني من سداسيته رواية (جنة الجحيم)، وفيالقدس ينتهي من الجزء الثالث رواية (هوان النعيم)، وأنه بصدد الانتهاء من الجزءالرابع (برد الصيف)، ويؤكد أنه خلال أربع سنوات صدرت له روايتان في عام 2014 وهما(العسف) وهي تحكي عن تجربة الاعتقال، و(أميرة) التي تحكي عن النكبة الأولى، وفيعام 2015 صدرت له رواية (زمن وضحة)، وفي العام 2016 رواية (رولا) وهي الجزء السادسمن مسلسله الروائي، وفي عام 2017 صدرت روايته (عذاري في وجه العاصفة) التي تتحدثعن المآسي التي لحقت بآلاف النساء زمن النكبة. وفي عام 2018 صدرت روايته (نسيمالشوق) والتي يطرح فيها قضية الزواج المختلط بين اتباع الديانات السماوية. وفي عام2019 صدرت روايته (عند بوابة السماء) وهي عن القدس وعن المصير المشترك للشعوبالعربية والتحامها مع القضية الفلسطينية. وفي عام 2020 يؤكد صدور روايتين هما(الخاصرة الرخوة) والتي تتحدث عن معاناة المرأة وموقف الاسلام من المرأة،و(المطلقة) والتي تتحدث أيضا عن المرأة. وفي عام 2021 صدرت روايته (اليتيمة).
وفي مشروعه في الكتابة للفتيان والأطفال صدر له في عام 2014 روايتانللفتيان (الحصاد) و(البلاد العجيبة)، وقبلهما رواية (عش الدبابير)، وبعدهما رواية(لنوش) لليافعين كتبها لحفيدته لينا ابنة قيس. ثم ثلاث قصص للأطفال (زغرودة ودماء)و(النمل والبقرة)، و(ميرا تحب الطيور). وفي سياق انتقاده للثقافة التي تسوقهاالفضائيات، يكتب كتاباً بعنوان (ثقافة الهبل وتقديس الجهل) في محاولة للتصدي لهذاالجهل ومحاربته. وفي أدب الرحلات يشير إلى صدور كتابه (كنت هناك) والذي تحدث فيهعن البلدان العربية والأجنبية التي زارها. وكتابه (في بلاد العم سام) الذي سجل فيهمشاهداته عن زياراته المتكررة للولايات المتحدة.
إن المكانة الأدبية والثقافية التي وصلها كانت حافزا لوزارة الثقافةالفلسطينية؛ كي تكرمه بشخصية القدس الثقافية للعام 2012، وإلى جانب الاحتفال صدرله كتاب حول أدب الرحلات عن الوزارة بعنوان (كنت هناك). ويتحدث عن زيارته ضمن وفدوزارة الثقافة إلى الجزائر عام 2015، وتكريمه مع الأديبة ديمة جمعة السمان فيجامعة الأمير عبد القادر الجزائري.
****
نجد صباح بشير في حديثها عن ذاتها لم تكن بالجرأة وقوة الكلمة والمشاهدةوالثقافة كما جميل السلحوت، ولكنها تمتلك أسلوباً راقياً في الكتابة والخبرةالمجتمعية، والثروة المعرفية واللغوية، ولديها القدرة الكتابية على إبراز الصراعالاجتماعي المتفاعل داخل المجتمع، ولديها عين ثاقبة في وصف الأماكن التي زارتها،ولكنها لم تتحدث عن سيرتها الذاتية إلا قليلاً بما يبرز جزءاً من حياتها، فقد كانتركيزها على قضايا المرأة والقضايا المجتمعية أكثر من الحديث عن سيرتها، فقد يكونلبعض قيود المجتمع دور في تقييدها عن البوح الذاتي، أو هي لم تكن مستعدة للكشف عنذاتها للقارئ بشكل موسع، ولكن من خلال حديثها في الرسائل نستطيع تكوين ملامح منحياتها وتجربتها.
تعرف الكاتبة عن ذاتها بشكل مباشر قائلة: "صباح بشير مقدسية الجذور،أتشرف بك (تقصد جميل السلحوت) وبأديبنا الكبير محمود شقير، فثلاثتنا من أبناءجبلنا الشامخ الأشم "جبل المكبر" الذي يطل ويشرف على مدينتنا المقدسة،تلك التي ولدت بين أحضانها وتنامت محبتها في روحي حتى غدت مبعث الالهام بالنسبةلي". فهي من مواليد القدس وتسكن في حي واد الجوز المقدسي، وتعمل مديرةتنفيذية لمؤسسة المنار المقدسية، المختصة بقضايا المرأة الفلسطينية، وتصدر عنهامجلة المنارة التي تكتب فيها مقالات عن المرأة، بالإضافة إلى الكتابة في بعضالمواقع الالكترونية الثقافية مثل: وكالة أخبار المرأة، ومجلة فرح، ومجلة أمجاد،كما تكتب أحيانا في جريدة القدس، وكل كتاباتها تتمحور حول الدفاع عن حقوق المرأةومناقشة قضاياها الاجتماعية والإنسانية.
لقد قدمت الكاتبة بطاقة تعريف دون الغوص في التفاصيل، أمّا عن اهتماماتهاالأدبية التي كانت دافعها لحضور ندوة اليوم السابع، تذكر أنها بدأت الكتابة فيالمرحلة الثانوية ونشرت حينها في صحيفة القدس، باسمها الحقيقي لأن والدها كان مشجعالها على الكتابة.
تشير إلى دور الأسرة والمكتبة المنزلية في صقل شخصيتها وتعزيز الثقافةلديها، فقد عاشت في بيت محافظ جميل، وتربت على الثقافة والأدب والمفاهيم الإنسانية،وترجع الفضل في ذلك إلى والدها والمكتبة التي كونها والدها - الذي يعمل معلماً -في زاوية المنزل، والتي تحوى كتب متنوعة وفي شتى المعارف، وكان ثمة اهتمام كبير منالأب والأم بالمكتبة، وفي تعزيز الثقافة لدى أبنائهم، لذلك خصصوا قسماً من المكتبةلكتب الأطفال وقصصهم، وقد حولتها هذه المكتبة إلى قارئة نهمة، وغرست فيها حبالمعرفة، وساعدتها على تكوين فكر مستقل.
لقد كانت بحكم عملها في مؤسسة مختصة بقضايا المرأة أن تشارك في مؤتمراتخارجية، فقد شاركت في مؤتمر إعلامي يناقش تأثيرات الإعلام التقليدي على الرأيالعام، وكان هذا المؤتمر في مدينة انطاليا التركية. وبعد عودتها نشعر من حديثهاأنها تواجه مشاكل في عملها، وشعورها بالاغتراب وعدم قدرتها على التفاعل معالآخرين، لذلك استقالت من عملها، وبدأت في ترتب نفسها للسفر والعيش في دبي/الامارات، وتصف نفسها قائلة: "أنا صلبة، أعشق الحياة وأعمل بجد واجتهاد، أتوقإلى المستقبل وأتطلع إليه بتفاؤل". وفي دبي تعمل في صحيفة الكترونية، وفيكتابة المحتوى لبعض المواقع الالكترونية، وفي التسويق الإعلامي على مواقع التواصلالاجتماعي. ونكتشف في حديثها عن دبي أن ثمة ابنة لها (لارين) تعيش معها وتدرسالهندسة الالكترونية في إحدى الجامعات الأمريكية في دبي، دون أن تشير إلى مسألةزواجها أو حياتها الخاصة، وهو ما تؤكد عليه في إحدى رسائلها" لم أعتد الحديثعما يدور في نفسي ومكنوناتي المخبأة، تلك التي لا أفصح عنها، أتركها غير آبهة بهاوبتأثيرها."
إن تغير طبيعة المكان يقود بالتالي إلى تغيير في أحاسيس الإنسان ومشاعره،فليس المكان في هذه الحالة مساحة فقط بل إنه حالة نفسية، لذا تنعكس رؤية الذات علىالأمكنة التي تواجد فيها، وحينذاك تفقد الأمكنة دلالاتها الحقيقية لتصبح لهادلالات جديدة معبرة ومرتبطة بحقيقة الواقع النفسي الفكري للذات. انطلاقاً من هذهالرؤية كانت تجربة السفر والرحلة عند صباح بشير صناعة للذات والقدرة على الاعتمادعلى النفس، لذا شكلت رحلاتها بعض ملامح من سيرتها وشخصيتها، فقد أغناها السفر برؤىوأفكار جديدة ساهمت في تشكيل شخصيتها، وتغيير أفكارها، وجعلها أكثر تقبلاً للأخربمفاهيمه المختلفة، وادراكها للهوة الثقافية التي تفصل المجتمعات الغربية عنالمجتمعات العربية، ورغم ذلك تؤكد على اعتزازها بالوطن، فالمكان/ الوطن بالنسبةلها "ليس حيزا جغرافيا فقط، بل هو شعور حي يعيش في الوجدان ويسكن شغاف القلب،وكلما تضاعفت المسافات وفصلتنا عنه، شعرنا بإحساس الفقد والخسران."
حينما يغادر الإنسان الوطن يشعر بعدم الاستقرار، ويصبح دائم التنقل من مكانإلى آخر، بحثاً عن بيت يشعره بالدفء والأمان، فقد زارت أماكن كثيرة دون شعورهابأنها تنتمي إلى أيا منها، فقد كان انتماؤها الحقيقي للقدس. كانت بدايتها في دبيورحلاتها السياحية واستكشافاتها لمعالم هذه البلدان: أبو ظبي، والشارقة، وعجمان،وأم القوين، وراس الخيمة. وفي عام 2013 تترك الامارات وتتوجه إلى لندن لتعمل فيصحيفة رأي اليوم اللندنية التي يرأس تحريرها الصحفي عبد الباري عطوان. كما تزورتونس، والسعودية، والأردن، وتركيا، ودول المغرب العربي، ودول أوروبية، وقد تسلحتبكل فوائد السفر من معرفة ورؤى وأفكار، كما جمعت مخزوناً في الذاكرة من ذكرياتوقصص وحكايات وأحداث من كل مدينة زارتها. بعد عشر سنوات من التنقل والترحال تعودإلى الوطن لتستقر في حيفا، وتواصل كتابتها والعمل على مشروعها الأدبي حيث تتحدث عنشروعها في كتابة رواية، بالإضافة إلى مجموعة قصصية للأطفال.
بعد الانتهاء من قراءة رسائل القدس يشعر القارئ بأن ثمةانسجاما كاملا بين الكاتبين في الرؤى والأهداف والأفكار، وثمة الكثير مما هو مشتركبينهما. لقد اتسمت رسائل القدس بالموضوعية والواقعية، وتحقيق التكامل بين الرسائلرغم طول فترة الكتابة، وجاءت الفاظها اللغوية شديدة الوضوح معتمدة على دقة العبارةوالتعبير، وجاءت الألفاظ سهلة مألوفة, تم صياغتها في تراكيب وجمل تراوحت بينالقصيرة والمتوسطة.
20 آب-اغسطس--2022
تجليات الذاكرة عند الأنا الساردة في كتاب "رسائل من القدس وإليها"
يعد فن كتابة الرسائل هو أحد الفنون النثرية التقليدية في تراثنا العربيالأدبي إلى جانب الفنون النثرية الأخرى، كالخطابة والمقامات المناظرات. ازدهر فيالقرنين الثالث والرابع الهجريين، أواسط العصر العباسي, وأواخر العصر الأموي. وقدحفلت الكتب التراثية ودواوين الأدب العربي بضروب من الرسائل الإخوانية والعلميةوالأدبية, مثل: رسائل ابن زيدون وولادة بنت المستكفي, ورسائل الجاحظ, ورسائل أخوانالصفا, ورسائل بديع الزمان الهمذاني, ورسائل أبي بكر الخوارزمي.
والرسالة الأدبية نص أدبي مكتوب نثراً، واتفق الباحثون على أنه "فننثري جميل يظهر مقدرة الكاتب وموهبته الكتابية وروعة أساليبه البيانيةالقوية"، يبعث به صاحبه إلى شخص ما، يسمى المرسل إليه. تعتبر الرسالة الأدبيةأحد أهم فنون السرديات القائمة على الإنشاء والمحادثة، حيث تخاطب الغائب (المرسلإليه) وتستدرجه عبر فنيتها ببلاغة الكلمة وقوتها.
كتب العديد من الكتاب والأدباء في القرن العشرين الرسائل الأدبية وتبادلوهامع كتاب وأدباء أخرين سواء في البلدان العربية أو الأجنبية، وثمة ما نشر، وثمة مالم ينشر خوفاً من إثارة البلبلة والزوابع لذلك بقيت حبيسة الأدراج (غادة السمانتضع رسائلها في بنك سويسري). ولم يكن الأدب الفلسطيني بعيداً عن هذه التجربة، فقدعرف الأدب الفلسطيني فن الرسائل سواء بالطريقة التقليدية، وأقصد المخاطبة الورقية،أو المخاطبة الالكترونية، أي توظيف التكنولوجيا في خدمة الكتابة، وتطوير أدوات أدبالرسائل، ومن الرسائل الأدبية الفلسطينية: رسائل المعداوي وفدوى طوقان (الرياض1976)، ورسائل محمود درويش وسميح القاسم (بيروت 1990)، ورسائل غسان كنفاني إلىغادة السمان (بيروت 1992)، ورسائل محمود شقير وشيراز عناب (وقت آخر للفرح، حيفا2020)، ورسائل محمود شقير وحزامة حبايب (أكثر من حب، بيروت 2021)، ورسائل ناصرعطاالله ونور الشمس النعيمي (شيليا وجبل الجرمق، حيفا 2022)، ورسائل عمر صبريكتمتو وروز اليوسف شعبان (وطن على شراع الذاكرة، عكا 2022).
في هذا الكتاب الذي بين أيدينا "رسائل من القدس وإليها" للكاتبينجميل السلحوت وصباح بشير يأتي معبراً عن رؤى ثقافية واجتماعية وسياسية من خلالرسائل تبادلاها الكاتبان على فترات طويلة متقطعة أحياناً. كانت البداية هي تعارفوسؤال، انطلاقاً من القاعدة التي يؤمن بها جميل السلحوت "أزعم أنني أشجعالكتاب الجدد حتى وإن كنت لا أعرفهم"، ثم تطورت إلى رسائل متبادلة، وذلك بعدأن شاركت الكاتبة صباح بشير في لقاءات ندوة اليوم السابع، وكانت غير معروفةللحضور، وخاصة مؤسسها الكاتب جميل السلحوت، فأثارت بحضورها هالة فضولية للكاتبللتعرف عليها، فكان هذا الكتاب ثمرة هذا التعارف، وقد صدر الكتاب عن مكتبة كل شيءفي حيفا عام 2022، ويقع في 182 صفحة.
حينما يفكر إنسان ما في كتابة رسالة إلى إنسان آخر يكون لديه رؤية وهدف حولالدوافع التي دفعته لكتابة هذه الرسالة، فليس ثمة رسالة دون هدف يسعى إليه كاتبها.
سواء في طرحه للمتلقي الخاص أوالمتلقي العام. رسائل القدس كتبت عن وعي وبصيرة، وادراك للأهداف من ورائها، فهذهالرسائل في عمقها البسيط هي لمتلقي خاص، ولكن في عمقها المعرفي هي لمتلقي عام، لأنهدفها توصيل رسالة للقارئ من خلال القضايا التي تم طرحها بين المرسل والمتلقي، لذاكان نشرها لاستكمال الفائدة في تعميق الرسالة، وتعميق قيمتها الأدبية والتاريخيةبوصفها وثيقة مهمة لاستكناه ملابسات زمانها ومكانها.
ولم تكن هذه الرسائل غاية كتابية، بقدر ما كانت رؤية للواقع السياسيوالاجتماعي والثقافي في القدس خاصة وفلسطين عامة، وتساهم في دفع القارئ لاستبان مااستجد في هذا الواقع من ظواهر جديدة، وما يحمله هذا العمل من بعد إنساني، فإنهينفتح على رؤى غير محدودة بقدر القراءات وبقدر المتلقين.
العنوان وبناء الرسائل
منذ غلاف الكتاب جنس الكاتبان كتابهما بأنه رسائل متبادلة بينهما (رسائل منالقدس وإليها)، أي أن هذه الرسائل تنطلق من القدس وتعود إلى القدس، ورغم تعددأماكن الكتابة، حيث نجد أن رسائل جميل السلحوت تكتب في القدس، ما عدا رسالة واحدةكتبها في أمريكا، أما الكاتبة صباح بشير فقد كتبت من أماكن متعددة؛ من القدس ودبيولندن وتونس وجورجيا وحيفا. ولكن جميعها ترد إلى القدس، فالقدس تبقى هي المركزبحكم وجود منشئ الرسائل جميل السلحوت، نجده بعد عودته من زيارة أمريكا يصف"الوطن المحتل بالسجن الكبير"، ورغم شعوره بالغربة في الوطن إلا أنهم"محظوظين بالعيش في هذا الوطن المقدس، فهو عبارة عن متحف كبير، وفيه تنوعثقافي"، ويشرح طبيعة التنوع في الوطن خاصة في الفصول الأربعة وجمال الوطن,ويؤكد أنهما مهما تغربا لن يستطيعا العيش بعيداً عن القدس.
إن جمالية القدس تنبع من قداستها وأبعادها الثقافية والحضارية، لذلك تبقىالثقافة هي حصن الدفاع الأخير أمام هزيمة الحاضر ومجهولية المستقبل. لذا يركز جميلالسلحوت على مسألة الثقافة ودورها التفاعلي في المجتمع وقدرتها على التغير اذاأحسنا استخدامها في إعادة رواية الحكاية الفلسطينية، لذا يعتب وينتقد موقف وزاراتالثقافة في الدول الاسلامية والعربية، وتسمية القدس عاصمة الثقافة العربية،والقرار بتسميتها العاصمة الدائمة للثقافة الإسلامية .. والمخجل هنا أن أيا من هذهالدول لم تقدم شيئاً للقدس .. بينما أثرياء اليهود تبرعوا بمليارات الدولاراتلتهويدها.
وكانت القدس بالنسبة لصباح بشير هي الوطن الذي لا يمكن الاستغناء عنه مهماتغرب الإنسان وشاهد أماكن كثيرة، تبقى القدس هي مكان الميلاد والنشأة والتعليموالعمل والزواج، ودون القدس/ الوطن يشعر الإنسان دائماً بالنقص بعيداً عن العائلةوالأحبة والاصدقاء.
لقد كان التركيز على القدس كثيراً في الرسائل، وهذا ما يجعل العنوان متسقاًمع السرد ومعبراً عن دلالاته، فالقدس هي المكان وهي الرمز الجمالي والتاريخي، الذييسعى الكاتبان إلى التشبث به عن طريق اثبات وجوده الماضوي والمستقبلي، من خلالإبراز هويته المادية والمعنوية، فهو مكان عيش آبائهم وأجدادهم، ومكان ميلادهمونشأتهم. لذا كانت القدس حاضرة بكل تجلياتها الروحية والحضارية والثقافيةوالسياسية في الرسائل.
وقد تواصل الكاتبان في كتابة رسائلهما طوال أحد عشرة سنة، إلكترونيا عبرالإميل، وكانت البداية في 11 ابريل 2010، والنهاية في 31 ديسمبر 2021، بواقعأربعين رسالة. ولكن لم تكن منتظمة بل ثمة فترات انقطاع، لا يشعر بها القارئ، إلاإذا نظر لتاريخ كتابة الرسالة. وراعى الكاتبان المنظور العام للرسالة من حيث ذكراسم المرسل إليه في بداية الرسالة، بتوصيف (الأخ، والأخت)، واسم المرسل في تذييلالرسالة وتاريخ كتابتها.
حينما يشعر الإنسان أن ثمة ما يهدد وجوده وكيانه، يتوسل كل أسلوب وطريقةلكي يثبت هويته وتأكيدها، لذا يتخذ من ضمير الأنا المتكلم الأداة التي يسعى منخلالها للتعبير عن هويته، فهذا الضمير هو العقل الشعوري الذي يتكون من المدركاتالحسية والذكريات والأفكار والوجدانيات، وينمو من خلال تفاعل الفرد مع المجتمع،فالرسائل الأدبية بما تحمله من انفعالات الأديب، وانعكاسها عن جميع الظروفوالملابسات الخارجية المحيطة به، تجعلهيؤثر تأثيراً فاعلاً وكبيراً في توجيه الحياة العامة وتصويرها سواء أكانت سياسيةأم اجتماعية أم ثقافية. وهذا ما نجده واضحاً في رسائل القدس في استخدام هذا الضميرفي عملية التخاطب، وفي القدرة على تكوين صورة عن نفسهما، وعن رؤيتهما كل للآخر،وتقديم رؤية للمجتمع وقضاياه.
اعتمد بناء الرسائل على الحوار غير المباشر بينهما، فهذا الحوار أعطىالرسائل حيوية وديناميكية في التشويق والإخبار بنفس الوقت, وكان دافعاً لزيادةالتشويق في النص، ويعطي القارئ إدراكاً سريعاً لمحتوي النص الموازي من قِبَلالمتلقي لإيصال الحدث إليه بيسر واكتفاء. فقد تشكل البناء الحواري من خلال قيامأحدهما بطرح سؤالاً وينتظر من الآخر الإجابة عليه أو التعقيب على القضية التيطرحها، نجد منذ الرسالة الأولى التي أرسلها جميل السلحوت يطرح مجموعة من الاسئلةعلى صباح بشير لكي يفتح مجالاً للحوار فيما يتعلق بالغموض في شخصيتها، وفي طبيعةالكتابة لديها، ودفعها لكتابة رواية، مما يدفعها للرد على ما طرحه من أسئلة، وهيبالتالي تترك المجال مفتوحاً لمداومة المراسلة فتطرح عدة قضايا للنقاش أبرزهامشاكل المرأة في المجتمع والاعلام، وهكذا يتداخل الكاتبان في طرح قضايا للحواروالنقاش حولها.
لقد طرحت رسائل القدس العديد من القضايا في رؤى متبادلة بين الكاتبين:التعريف بندوة اليوم السابع ودورها في تعزيز الثقافة، وفي التعارف بين الكتابوالأدباء والمهتمين بالشأن الثقافي، والحديث عن مركزية جبل المكبر بالقدس ونبوغأكثر من عشرين كاتباً من بين سكانه، أبرزهم الكاتب محمود شقير، و(جميل السلحوتوصباح بشير من جبل المكبر)، وتناول دور العادات والتقاليد وأثرها على المرأةالكاتبة التي تدفعها أحياناً إلى الكتابة باسم مستعار (حليمة جوهر نموذجاً فيالرسائل)، وتقديم ملامح من السيرة الذاتية والتجربة الابداعية، والخوض في قضاياالمرأة في المجتمع والاعلام، وانتقاد المؤسسات النسوية (الممولة أجنبياً وخدمتهاللجهات الممولة)، وسلوك هذه المؤسسات تجاه المرأة، وسيطرة الفكر الذكوري علىالمجتمع سواء عند الرجل أو المرأة، والتأكيد على دور الثقافة والمكتبة (والمكتبةالمنزلية) وتأثير المطالعة والكتابة في صقل الشخصية، وتناول موضوع الغربة أوالاغتراب عن الوطن، وانتقاد المؤسسات الثقافية الرسمية في عدم دعم القدس وأدبائهاومؤسساتها، وطرح فكرة التعصب الديني وأثرها على المجتمع، وانتشار ثقافة الجهلوالهبل ودور وسائل الاعلام في انتشارها، والهوة الثقافية بين المجتمع العربيوالغربي، وحديث عن السفر والرحلات ووصف الأماكن وفوائد السفر في التعرف علىمجتمعات وشعوب جديدة، وتبقى القدس محور النقاش من حيث جماليات المكان وأثر تغيراتالاحتلال للمكان بالتهويد والاستيطان ومصادرة الاراضي، والتطرق إلى ملامح منالتاريخ الفلسطيني، والتعرض للظواهر الاجتماعية السلبية (حمل السلاح، وتعاطيالمخدرات، وقتل النساء)، والتعرض أيضاً للظواهر السلبية في مجالي الثقافة والتربيةوالتعليم وأثرهما على المجتمع.
هذا العمل فيه دعوة لتلمس معالم الجمال والأخلاق والفضيلة والمعرفة في كلما يحيط بالإنسان، ودعوة لقبول الآخر/ الإنسان وتقديره واحترامه على النحو الذييليق به مهما كانت الاختلافات الشكلية والفكرية والطبائع، بما لا يتنافى مع تقديرواحترام الذات. لذلك أكد الكاتبان على أن الثقافة وحدها القادرة على تقريبالمسافات، وأن الحوار هو الوسيلة الوحيدة القادرة على سبر الأغوار وردم الفجواتبين المتحاورين، وأن الإنسان قادر على العيش في أي مكان رغم تعدد الثقافات وتنوعها.
الأنا .. ورؤى الذات
ليس من السهولة الحديث عن كل القضايا التي طرحتها الرسائل، فكل قضية تحتاجإلى مقالة مستقلة لعمق الطرح والرؤية، لذا سأحاول التركيز على نقطة لم يتناولهاالذين كتبوا عن رسائل القدس بشكل موسع، وهي مسألة الذاتية في الرسائل التي تقاربالسيرة الذاتية لدى الكاتبين. تلك الذاتية لا نجدها في قالب منفرد بل تأتي فيبعدها الجماعي.
تحمل رسائل القدس رؤى للذات بشكل بارز حتى يشعر القارئ أن هذه الرسائل هيسيرة ذاتية للكاتبين تعبر عن حياتهما وتجربتهما وأفكارهما ورؤيتها للحياةوالمجتمع، لذا كانت دوافع الاستمرارية بينهما رغم الفارق الزمني في العمر بينهما،هو الشعور بأن ثمة ما هو مشترك بينهما من قضايا وهموم مشتركة يتفاعل بهما المجتمعولكن مسكوت عنها من طرف المسؤولين، فأخذا في مناقشتها بصوت عالي ليس فقط للتعبيرعن الذات في رؤيتها، بل لنقل الهموم والقضايا إلى القارئ والتأكيد على رؤيتهماوموقفهما منها، وهذا ما دفعهما لنشر الرسائل. لذا سنحاول الخوض في أغوار الذاتيةوسبر رؤاها في الرسائل، فنكتشف أن تلك السيرة الذاتية لم تأتي مباشرة في الرسائلبل في سياق موضوعات مطروحة للنقاش.
يستعيد جميل السلحوت في تعريف الأنا لذاتها الماضي بكل جمالياته وآلامهوتعقيداته المجتمعية، ليرسم لوحة فنية عن عائلته، دون أن يتجاوز الحاضر في سيرتهومؤلفاته ورحلاته. ففي سياق الحديث عن ذكورية المجتمع يتذكر عمته نوارة التي لقيتحتفها في جوف بئر (بير السوق)، التي غادرت الدنيا قبل ميلاده بأربعين عاماً، تلكالفتاة التي عاشت اليتم والحرمان والفقر. ثم يتحدث عن معاناة والدته وبنات جيلها،وما كان يفرضه المجتمع عليهن من الزواج في سن صغيرة، وليس لها حق الرفض أو القبول،ويتذكر زواج شقيقته وكانت في الرابعة عشرة من عمرها، وموقف والده الذي وافق علىتزويجها دون أن يسألها رأيها، وتأثير المعاناة التي عاشها وقسوة الأب وحرمانشقيقاته من التعليم.
لقد تجاوز الكاتب أفكار عائلته ورؤاها المجتمعية، بعد أن تركت هذه المواقفالمجتمعية في عائلته والعائلات الأخرى أثرها السلبي عليه، مما شكل لديه موقفاًمغايرا ومتجاوزا لكل هذه العادات، فعندما تزوج دفع زوجته لإكمال تعليمها الجامعي،رغم معارضة عائلته، وكذلك دفع ابنته للتعليم الجامعي.
وفي سياق الحديث عن العائلة نجده في كل رسالة من رسائله يشي بجزء من سيرته،فنجده يخبرنا/ أو يخبرها أن زوجته (الكاتبة حليمة جوهر) تعمل مدرسة، وكذلك ابنتهالكبرى (أمينة) متزوجة وتعمل مدرسة أيضاً، ويعبر عن فرحته بأنه أصبح جدّاً للمرةالأولى بعد أن أنجبت ابنته أمينة ابنها البكر كنان. ثم يتحدث عن زواج ابنه قيس منفتاة تونسية. ويشير أيضاً إلى زواج ابنته لمى، وبعد عامين أنجبت ابنها البكر باسل،وبعد ساعة من فرحتهم توفيت والدته عن عمر ناهز 88 سنة.
وعن دور الأسرة وتأثيرها في صقل الشخصية، يشير السلحوت إلى عائلته التي لميكن لها دور في مسيرته الكتابية بل كان اعتماده على ذاته أكبر من الاعتماد علىالعائلة. فوالداه أميان، وأخيه الأكبر أنهى الثانوية وسافر للعمل في السعودية،والتحق لاحقاً بجامعة بريطانية لإكمال دراسته في إدارة الأعمال. أما هو فقد كانشغوفاً بالمطالعة، ومنذ الصف الرابع بدأ في شراء الكتب من مكتبة الأندلس في بابالزيت بالقدس لصاحبها المرحوم فوزي يوسف، ويذهب مشيا ويعود مشيا لأنه وفر مصروفهلشراء الكتاب.
ويتخذ من العودة الى عالم الطفولة مادة ينسج منها رؤيته للواقع وتغيراته،وذلك من خلال مناقشة دور المؤسسة التعليمية والخلل القائم فيها، مما يدفع الطلابإلى التسرب من المدارس، رغم كل الامكانيات المتوفرة لهم، والتي لم تتوفر إلى أبناءجيله، مما شكل له دافعاً للكتابة عن طفولته في كتابين (طفولتي ـــ أشواك البراري)و(طفولتي ـــ سيرة ذاتية). ويشير أنه عند اندلاع حرب حزيران عام 1967 كان علىمقاعد التوجيهية، ولديه رغبة في اكمال دراسته الجامعية، ولم يكن آنذاك أية جامعةفي الأراضي المحتلة، فكان أمام خيارين إما ترك الوطن أو الصمود على أرضه، فآثرالخيار الثاني، وقد دفع ثمن الانتماء للوطن بمعاناة تجربة الاعتقال إذ اعتقل فيمارس 1969 بسجن الدامون على جبل الكرمل في حيفا، ويسرد ذكرياته عن المعتقلوتاريخه، وبعد تحرره، وما تعرض له من تعذيب قاس أورثه انزلاقاً في غضروف الرقبةوأسفل العمود الفقري، وتقرحات في المعدة والقولون، وقد تحرر في ابريل 1970، ورغمذلك لم يفقد حلمه بالدراسة الجامعية، فانتسب إلى جامعة بيروت العربية لدراسة اللغةالعربية.
يذهب الكاتب بعيدا في رحلة الذاكرة لاستعادة ماضي الذات في تفاصيل مكانوزمان الغائبين/ الحاضرين، ليروي الحكاية الفلسطينية من خلال رواية حكاياتالآخرين، فنجده دليلا سياحيا، كما يقول عن نفسه، في رحلة في ربوع براري بلدتهالسواحرة، التي كان والده فيها من كبار الملاكين، ويسرد ذكريات المكان برسمالخارطة التي يسعى لتأكيد وجودها لدى الأجيال القادمة: مررنا بمناطق مثل أم الرتم،وجوفة السوق، والدمنة، ووادي الدكاكين، وأم دسيس، ثم يقف على قمة جبل المنطار ليرىأبو ديس والعيزرية وجبل الزيتون، والقدس الشريف، ومنطقة الخان الاحمر، ومنطقةالزراعة، ومن بعيد يشاهد سلسلة جبال شرق النهر ومرتفعات السلط، ومنطقة ناعور،والبحر الميت، ويعود إلى منطقة جنجس التي يفصلها وادي قدرون عن بلدة العبيدية، ومنتلك المنطقة تطل على مدن بيت ساحور وبيت لحم وصور باهر والشيخ سعد، وصولاً إلى جبلالمكبر الذي يعد أشهر جبال القدس، وقد ارتبط اسمع بالخليفة عمر بن الخطاب الذي حينرأى القدس هلل وكبر وخر ساجداً، فأطلقوا عليه هذا الاسم. وأثناء جولته يصف جمالالطبيعة الخضراء ومزروعاتها.
ان هذا المشهد الذي يطل عليه القارئ ليس ماضيا خالصا بل هو معجون بعناصرالحاضر وشروطه وجروحه وتمزقاته. فخارطة المكان منذ عام 1967 والاحتلال يجرى عليهاتغيرات كبيرة بمصادرة الأراضي وإقامة المستعمرات، فنجد منطقة (الخلايل) من بلدةالسواحرة امتدت عليها مستوطنة "معاليه أدوميم" وابتلعتها، ومنطقة(الصرارات) تقوم عليها مستوطنة "نيؤوت أدوميم"، ومنطقة الخان الأحمرالتابعة لبلدة سلوان صادرها المحتلون وأقاموا عليها منطقة صناعية "ميشورأدوميم"، وكذلك سحب مياه البحر الميت للمصانع الاسرائيلية في منطقة سدوم.ويشير إلى الأراضي التي كان يمتلكها مع اخوته وراثة أبا عن جد، والتي صادرتهاسلطات الاحتلال وأغلقتها تحت ذريعة "استعمالات الجيش"، وامتدادالمستوطنات على الأراضي وابتلاع آلاف الدونمات، وتهجير عرب الجهالين.
وتأخذ الرحلة أبعادها في تشكيل ملامح من السيرة الذاتية، فهو يخبر صباحبشير أنه بصدد زيارة أمريكا لمدة ثلاثة شهور، وهي زيارة سنوية يقوم بها للالتقاءمع ابنه قيس الذي يدرس في إحدى الجامعات الأمريكية، واخوته (داوود، وراتب، وأحمد)،و(وحسين ابن أخيه، ومحمد موسى ابن عمه) المتواجدين هناك، ويشير إلى أنها ليستالمرة الأولى، فقد زارها حوالي خمسة عشر مرة منذ عام 1984.
ولشده اهتمامه بالثقافة، والعمل على تعزيزها في القدس في ظل الهجمة الشرسةالتي تواجهها القدس من اجراءات احتلالية تحاول أن تنزع عنها صفتها العربيةالاسلامية، سعى لتأسيس ندوة اليوم السابع في عام 1991، مع عدد من الكتاب والأدباء،ويتحدث عن نشاطاتها واهتمامها بمناقشة الكتابات الجديدة والتعريف بكتابها،واستضافتها لكبار الكتاب ليتحدثوا عن تجربتهم الأدبية، ودورها في رعاية المواهبالشابة، وكان لها الدور الكبير في ابراز عدد من الكتاب.
يؤكد أنه من أشد المناصرين والمدافعين عن المرأة، وأنه في أغلب كتاباتهيتطرق إلى المرأة وقضاياها، فيشير إلى أول اصدار له بعنوان (الصراع الطبقي فيالحكاية الشعبية – القدس 1978)، وفيه يتحدث فيه عن رؤية المجتمع والتراث للمرأة.نكتشف في حديثه عن مشروعه الروائي والأدبي، أنه غزير الانتاج، وصاحب ثقافةموسوعية، ولديه اطلاع كامل على المشهد الثقافي والاجتماعي. يبدأ برواية (ظلامالنهار) التي تعتبر واحدة من سداسية روائية يعمل على كتابتها بعنوان (درب الآلامالفلسطيني)، وفي أمريكا يكتب الجزء الثاني من سداسيته رواية (جنة الجحيم)، وفيالقدس ينتهي من الجزء الثالث رواية (هوان النعيم)، وأنه بصدد الانتهاء من الجزءالرابع (برد الصيف)، ويؤكد أنه خلال أربع سنوات صدرت له روايتان في عام 2014 وهما(العسف) وهي تحكي عن تجربة الاعتقال، و(أميرة) التي تحكي عن النكبة الأولى، وفيعام 2015 صدرت له رواية (زمن وضحة)، وفي العام 2016 رواية (رولا) وهي الجزء السادسمن مسلسله الروائي، وفي عام 2017 صدرت روايته (عذاري في وجه العاصفة) التي تتحدثعن المآسي التي لحقت بآلاف النساء زمن النكبة. وفي عام 2018 صدرت روايته (نسيمالشوق) والتي يطرح فيها قضية الزواج المختلط بين اتباع الديانات السماوية. وفي عام2019 صدرت روايته (عند بوابة السماء) وهي عن القدس وعن المصير المشترك للشعوبالعربية والتحامها مع القضية الفلسطينية. وفي عام 2020 يؤكد صدور روايتين هما(الخاصرة الرخوة) والتي تتحدث عن معاناة المرأة وموقف الاسلام من المرأة،و(المطلقة) والتي تتحدث أيضا عن المرأة. وفي عام 2021 صدرت روايته (اليتيمة).
وفي مشروعه في الكتابة للفتيان والأطفال صدر له في عام 2014 روايتانللفتيان (الحصاد) و(البلاد العجيبة)، وقبلهما رواية (عش الدبابير)، وبعدهما رواية(لنوش) لليافعين كتبها لحفيدته لينا ابنة قيس. ثم ثلاث قصص للأطفال (زغرودة ودماء)و(النمل والبقرة)، و(ميرا تحب الطيور). وفي سياق انتقاده للثقافة التي تسوقهاالفضائيات، يكتب كتاباً بعنوان (ثقافة الهبل وتقديس الجهل) في محاولة للتصدي لهذاالجهل ومحاربته. وفي أدب الرحلات يشير إلى صدور كتابه (كنت هناك) والذي تحدث فيهعن البلدان العربية والأجنبية التي زارها. وكتابه (في بلاد العم سام) الذي سجل فيهمشاهداته عن زياراته المتكررة للولايات المتحدة.
إن المكانة الأدبية والثقافية التي وصلها كانت حافزا لوزارة الثقافةالفلسطينية؛ كي تكرمه بشخصية القدس الثقافية للعام 2012، وإلى جانب الاحتفال صدرله كتاب حول أدب الرحلات عن الوزارة بعنوان (كنت هناك). ويتحدث عن زيارته ضمن وفدوزارة الثقافة إلى الجزائر عام 2015، وتكريمه مع الأديبة ديمة جمعة السمان فيجامعة الأمير عبد القادر الجزائري.
****
نجد صباح بشير في حديثها عن ذاتها لم تكن بالجرأة وقوة الكلمة والمشاهدةوالثقافة كما جميل السلحوت، ولكنها تمتلك أسلوباً راقياً في الكتابة والخبرةالمجتمعية، والثروة المعرفية واللغوية، ولديها القدرة الكتابية على إبراز الصراعالاجتماعي المتفاعل داخل المجتمع، ولديها عين ثاقبة في وصف الأماكن التي زارتها،ولكنها لم تتحدث عن سيرتها الذاتية إلا قليلاً بما يبرز جزءاً من حياتها، فقد كانتركيزها على قضايا المرأة والقضايا المجتمعية أكثر من الحديث عن سيرتها، فقد يكونلبعض قيود المجتمع دور في تقييدها عن البوح الذاتي، أو هي لم تكن مستعدة للكشف عنذاتها للقارئ بشكل موسع، ولكن من خلال حديثها في الرسائل نستطيع تكوين ملامح منحياتها وتجربتها.
تعرف الكاتبة عن ذاتها بشكل مباشر قائلة: "صباح بشير مقدسية الجذور،أتشرف بك (تقصد جميل السلحوت) وبأديبنا الكبير محمود شقير، فثلاثتنا من أبناءجبلنا الشامخ الأشم "جبل المكبر" الذي يطل ويشرف على مدينتنا المقدسة،تلك التي ولدت بين أحضانها وتنامت محبتها في روحي حتى غدت مبعث الالهام بالنسبةلي". فهي من مواليد القدس وتسكن في حي واد الجوز المقدسي، وتعمل مديرةتنفيذية لمؤسسة المنار المقدسية، المختصة بقضايا المرأة الفلسطينية، وتصدر عنهامجلة المنارة التي تكتب فيها مقالات عن المرأة، بالإضافة إلى الكتابة في بعضالمواقع الالكترونية الثقافية مثل: وكالة أخبار المرأة، ومجلة فرح، ومجلة أمجاد،كما تكتب أحيانا في جريدة القدس، وكل كتاباتها تتمحور حول الدفاع عن حقوق المرأةومناقشة قضاياها الاجتماعية والإنسانية.
لقد قدمت الكاتبة بطاقة تعريف دون الغوص في التفاصيل، أمّا عن اهتماماتهاالأدبية التي كانت دافعها لحضور ندوة اليوم السابع، تذكر أنها بدأت الكتابة فيالمرحلة الثانوية ونشرت حينها في صحيفة القدس، باسمها الحقيقي لأن والدها كان مشجعالها على الكتابة.
تشير إلى دور الأسرة والمكتبة المنزلية في صقل شخصيتها وتعزيز الثقافةلديها، فقد عاشت في بيت محافظ جميل، وتربت على الثقافة والأدب والمفاهيم الإنسانية،وترجع الفضل في ذلك إلى والدها والمكتبة التي كونها والدها - الذي يعمل معلماً -في زاوية المنزل، والتي تحوى كتب متنوعة وفي شتى المعارف، وكان ثمة اهتمام كبير منالأب والأم بالمكتبة، وفي تعزيز الثقافة لدى أبنائهم، لذلك خصصوا قسماً من المكتبةلكتب الأطفال وقصصهم، وقد حولتها هذه المكتبة إلى قارئة نهمة، وغرست فيها حبالمعرفة، وساعدتها على تكوين فكر مستقل.
لقد كانت بحكم عملها في مؤسسة مختصة بقضايا المرأة أن تشارك في مؤتمراتخارجية، فقد شاركت في مؤتمر إعلامي يناقش تأثيرات الإعلام التقليدي على الرأيالعام، وكان هذا المؤتمر في مدينة انطاليا التركية. وبعد عودتها نشعر من حديثهاأنها تواجه مشاكل في عملها، وشعورها بالاغتراب وعدم قدرتها على التفاعل معالآخرين، لذلك استقالت من عملها، وبدأت في ترتب نفسها للسفر والعيش في دبي/الامارات، وتصف نفسها قائلة: "أنا صلبة، أعشق الحياة وأعمل بجد واجتهاد، أتوقإلى المستقبل وأتطلع إليه بتفاؤل". وفي دبي تعمل في صحيفة الكترونية، وفيكتابة المحتوى لبعض المواقع الالكترونية، وفي التسويق الإعلامي على مواقع التواصلالاجتماعي. ونكتشف في حديثها عن دبي أن ثمة ابنة لها (لارين) تعيش معها وتدرسالهندسة الالكترونية في إحدى الجامعات الأمريكية في دبي، دون أن تشير إلى مسألةزواجها أو حياتها الخاصة، وهو ما تؤكد عليه في إحدى رسائلها" لم أعتد الحديثعما يدور في نفسي ومكنوناتي المخبأة، تلك التي لا أفصح عنها، أتركها غير آبهة بهاوبتأثيرها."
إن تغير طبيعة المكان يقود بالتالي إلى تغيير في أحاسيس الإنسان ومشاعره،فليس المكان في هذه الحالة مساحة فقط بل إنه حالة نفسية، لذا تنعكس رؤية الذات علىالأمكنة التي تواجد فيها، وحينذاك تفقد الأمكنة دلالاتها الحقيقية لتصبح لهادلالات جديدة معبرة ومرتبطة بحقيقة الواقع النفسي الفكري للذات. انطلاقاً من هذهالرؤية كانت تجربة السفر والرحلة عند صباح بشير صناعة للذات والقدرة على الاعتمادعلى النفس، لذا شكلت رحلاتها بعض ملامح من سيرتها وشخصيتها، فقد أغناها السفر برؤىوأفكار جديدة ساهمت في تشكيل شخصيتها، وتغيير أفكارها، وجعلها أكثر تقبلاً للأخربمفاهيمه المختلفة، وادراكها للهوة الثقافية التي تفصل المجتمعات الغربية عنالمجتمعات العربية، ورغم ذلك تؤكد على اعتزازها بالوطن، فالمكان/ الوطن بالنسبةلها "ليس حيزا جغرافيا فقط، بل هو شعور حي يعيش في الوجدان ويسكن شغاف القلب،وكلما تضاعفت المسافات وفصلتنا عنه، شعرنا بإحساس الفقد والخسران."
حينما يغادر الإنسان الوطن يشعر بعدم الاستقرار، ويصبح دائم التنقل من مكانإلى آخر، بحثاً عن بيت يشعره بالدفء والأمان، فقد زارت أماكن كثيرة دون شعورهابأنها تنتمي إلى أيا منها، فقد كان انتماؤها الحقيقي للقدس. كانت بدايتها في دبيورحلاتها السياحية واستكشافاتها لمعالم هذه البلدان: أبو ظبي، والشارقة، وعجمان،وأم القوين، وراس الخيمة. وفي عام 2013 تترك الامارات وتتوجه إلى لندن لتعمل فيصحيفة رأي اليوم اللندنية التي يرأس تحريرها الصحفي عبد الباري عطوان. كما تزورتونس، والسعودية، والأردن، وتركيا، ودول المغرب العربي، ودول أوروبية، وقد تسلحتبكل فوائد السفر من معرفة ورؤى وأفكار، كما جمعت مخزوناً في الذاكرة من ذكرياتوقصص وحكايات وأحداث من كل مدينة زارتها. بعد عشر سنوات من التنقل والترحال تعودإلى الوطن لتستقر في حيفا، وتواصل كتابتها والعمل على مشروعها الأدبي حيث تتحدث عنشروعها في كتابة رواية، بالإضافة إلى مجموعة قصصية للأطفال.
بعد الانتهاء من قراءة رسائل القدس يشعر القارئ بأن ثمةانسجاما كاملا بين الكاتبين في الرؤى والأهداف والأفكار، وثمة الكثير مما هو مشتركبينهما. لقد اتسمت رسائل القدس بالموضوعية والواقعية، وتحقيق التكامل بين الرسائلرغم طول فترة الكتابة، وجاءت الفاظها اللغوية شديدة الوضوح معتمدة على دقة العبارةوالتعبير، وجاءت الألفاظ سهلة مألوفة, تم صياغتها في تراكيب وجمل تراوحت بينالقصيرة والمتوسطة.
20 آب-اغسطس--2022