بقلم: ولاء الرشيدات
أصابني حنين، إنها الواحدة ليلًا بتوقيت الحنين، ها قد حلَّ الليلُ باكرًا هذا اليوم ولسوءِ حظي أنني أمارسُ الأرق، لِأرسمَ ملامح وجهٍ على سقفِ غرفتي، كما كنتُ أفعلُ دومًا وكما سأفعل، ها أنا جالسٌ أمام النافذة.
استفردَ الظلامُ بي، وزوبعة من الأفكار تُهاجمُني بكل سلبيَّة، تغرزُ سهامُها المُميتة بجراحِ قلبي، وبينما أحاولُ أن أُغلفَ حياتي بغلاف النسيان المكبوت، دقَّ الحزنُ أبواب قلبي، شعرتُ فجأةً وكأنَّ سَهمًا تَخَلَّلَ إلى أعماقِي وَنَثرَ شعُورًا اختبئ في دَاخِلي أعُوامًا عديدة...
إنه شعور الوحدة الذي يُزعج الهدوء بدقِ جرس الغياب بينَ حينٍ وحين، موجٌ من الذكريات يتضاربُ الآن في عقلي هل هو حنينٌ أم حسرة على ما فات؟ لستُ أدري! لستُ أدري! كيف أصبحت الأشياء باهته خالية من أي طعم بمجرد أن رحلتي؟ لستُ أدري! كيف أصبحت الأيام ثقيلة على قلبي مليئة بالألم والاشتياق؟ لستُ أدري! كيف أصبحت الليالي موجعة تقضم أصابعي من الملل بوحشية وتتركني كجَفِيَّة مرمية على هاوية الحياة وتدوسني وتُكمل مسيرها... قد جُرحت وتكّسرت وضعفت بِما يكفي، هل لي أن أعيشَ حياتي هكذا؟ أتذكرُ كل شيء بحرقة وأجهشُ بالبكاء... قد عشتُ صراعًا حادًا بينَ القلبِ والعقل، قد أصِبتُ بألمٍ أشبه برصاصة عابرة أطلقت على قلبي... سئمتُ حياتي... سئمتُ من الصدود والفراق... سئمتُ من كلِّ شيء... حتّى وصلت لمرحلةٍ ليسَ بها ولو بصيص أمل...
قصةٌ مؤلمة ومُبكية لِأقصى درجة عنوانُها " فراق بِلا موعد" بدأت حينَ جَعَلتُ من النَّبضةِ الثانية حبًّا آخر، ففي الحادي عشر من تموز أفقتُ في الصباح على أشعةِ الشمس التي سقطت بكل ألم على عينيَّ بعدَ ليلةٍ لا أعرفُ كيفَ بدأت ولا كيفَ انتهت، اتجهتُ إلى الحمامِ طالبًا من سيلِ المياه الباردة أن تغسلني من النُعاسِ الذي لا زالَ لم يُغادرني، ومن هذيان البارحة لكن ما إن سَقَطَ الماءُ على وجهي المُتعب أخذتُ أمسحَ وجهي بمنديلٍ أبيض وقررتُ أن أخرج من المنزلِ فجأةً... ها أنا أسيرُ حائرًا بينَ أزّقةِ المدينة يبصق الوقت في وجهي حكايا وذكريات مُتفرقة من حياةٍ بائسة عشتُها وأتذكرهُا، أفني جُلَّ وقتي غير الثمين محاولًا نسيانُها...
وبخطواتٍ مُتثاقلة بالكاد تأخذني إلى أقرب مكان وطأته قدماي قُبيل هذا اليوم، لِأعلم إلى أين ستخطى بهذا الجسد، ها قد بقيَ لي بضع أمتار وأصل منزل أخي نذير... آه لا أود الإجابة عن أسئلته اللعينة التي ما إن يرى شحوب جبهتي سيتلوها عليَّ، ماذا سأجيب حينَ يسألني عن " كارمن" وفراقنا، حسنًا سأذهب وأحتسي قدح الشاي معه... فتح لي نذير الباب وقد بدا عليه ملامح وجهي الرمادية قد اختزلت تساؤلاته فاكتفى بسؤاله عن نفسي قائلًا: كيفَ حالُكَ، وكَيفَ سارت أمورُك الفترة الماضية؟
جلسنا في فِناء الدّارِ أمامَ غرفة الاستقبال الطويلة ذات الطراز القديم بنافذتّيها المُطلتين على مَصطبة حجرية تقع أمامها كومة صخرية اصطناعية تناثرت عليها شُجيرات مُزهِرة وامتدت خلفها مساحة عشبية كبيرة، شيءٌ ما أعادني للوراء، أعادني للحنين إلى ذكريات الماضي، شيءٌ دفعني لِأن أسرد لأخي قصة لقائي الفريد ب " كارمن"، قائلًا: إلتقيتُها ذات مرة حينما كنتُ أعمل كبائع زهور في أحد المحال الضخمة، أذكرُ أنَّ عيناي قد غابتا في تقاسيمِ وجهها وحركات جسدها النحيف الحيوي، شعرتُ أنَّ كل الأصوات صمتت بداخلي وأنَّ عينيَّ تجاهلتا كل الحضور لتحدِّقا فيها بإمعان وكأنَّ جسرًا معلقًا يمتد إليَّ من عينيها يمرُّ عليه سحرها وجمالها الطبيعي السالب للنفس، رأيتُها بسيطة فأحببتُها منذ النظرة الأولى، فهي لا تضع مساحيق غامقة اللون، ولا تضع عدسات لاصقة كباقي الفتيات ولا تلهثُ وراء الموضة والعلامات التجارية العالمية، هي مُغرية ببساطتها، أتذكرُ ذلكََ الحديث الذي دارَ بيننا حينَ حدثتُها قائلًا: أراكِ منذ مدة ليست بقصيرة، فأنتِ لا تشترين سوى نوعان من الزهور ما هو رأيكِ بنوعٍ جديد سوف ينالُ إعجابكِ؟!
ردت في تعجب!! ما هو؟
أجبتُها وأنا أسيرُ أمامها ببطء: إن كُنتِ من عشاق الزهور ذات العطور الفّواحة، عليكِ بزهرة الجاردينيا واللافندر، أمّا إن كنتِ تعشقين الزهور ذات المنظر الجميل فعليكِ بزهور الزعفران والأوركيد... ابتسمت وهي تتأملني باهتمامٍ بالغ بعينيها العسليتين ورموشها المحدَّبة وردّت بلطف: شكرًا يا سيد، سوفَ آخذ بنَصيحتك، همّت بالذهاب فجأةً.. بدأ قلبي يخفق بشدة وكأنَّه ينتفض رافضًا أن تُغادر المكان، أوقفتُها مُناديًا : أيتُها السيدة، كانَ شرفًا لي معرفتك، ضحكت في خجل: آسفة نَسيتُ إِخباركَ باسمي: أنا كارمن وأنتَ؟ أجبتُها: أنا إلياس... مرّت الأيام وظلّت الصدفة تجمعنا إلى أن وقعنا في مصيدة الحب...
أحببتُها ولكن... قد وقعت الواقعة وشاءت الظروف أن تفرقنا حتّى محاولتنا العديدة لِإنقاذ حبنا باءت بالفشل، أضحيتُ وحيدًا متروكًا لأنياب الليالي الموحشة وأصوات الشجن الضارّة للسمع، والعتمة طغت حياتي فبتُ كالميت وأنا حيّ، وعواصف الحزن هدمت حلمي وطمأنينة قلبي... أصبحتُ ممثلًا بارعًا في إظهارِ الابتسامة المصطنعة المكمون بداخلها نكسات عِدة... كانت النكسة الأخيرة سببُها فراقُكِ، وأصبحت الهموم تتوالى على صَدري منذ رحيلُكِ...
أتذكرُ ساعة البؤس والألم والفراق، الساعة السادسة وخمس وأربعون دقيقة ، فقد كانت آخر ساعة لي بالسعادة قبل أن أفقد متعة الحياة قبل تلك الصدمة وتلك الخيبة حينَ انقطعت أنفاسي وتسمّرت أرضًا، حينَ توّقف كل عضو في جسدي عن الحركة حتّى جفن عَيّني بات أحمرٌ دمويّ، أحسستُ حينها وكأنَّ أحدًا قامَ بإشعال لهيب حاد داخلي، تلكَ الجملة هزّت كياني بشكلٍ جعلني أشعر وكأنَّني سقطت من أعلى قمة جبل في العالم، حقًّا كانت جملة ثقيلة حينَ أخبرتني " كارمن" بأنَّه لم يبّقى على زواجها إلّا بضعة أشهر... والسبب أنَّ والدها قد أفلس وعليه أن يعوّض ذلك بزواج "كارمن" من أحد رجال الأعمال المعروفين آنذاك...
رحيلُكِ يا عزيزتي كانَ صادمًا إلى حد التعب، رحلتِ ورحلت معكِ البهجة والسرور، كنتِ الرقة التي أبحثُ عنها، منحتني بيد طفلة وهمسة رقيقة، ما كنتُ أبحث عنها طوال سنوات حياتي... أنا مدينٌ لكِ بكل شيء... بالحب... وما فوق الحب... أنا مدينٌ لكِ بالسعادة حينَ عرفتُها، وبالحزن القابع فوق جفوني...
النهاية...
إنه شعور الوحدة الذي يُزعج الهدوء بدقِ جرس الغياب بينَ حينٍ وحين، موجٌ من الذكريات يتضاربُ الآن في عقلي هل هو حنينٌ أم حسرة على ما فات؟ لستُ أدري! لستُ أدري! كيف أصبحت الأشياء باهته خالية من أي طعم بمجرد أن رحلتي؟ لستُ أدري! كيف أصبحت الأيام ثقيلة على قلبي مليئة بالألم والاشتياق؟ لستُ أدري! كيف أصبحت الليالي موجعة تقضم أصابعي من الملل بوحشية وتتركني كجَفِيَّة مرمية على هاوية الحياة وتدوسني وتُكمل مسيرها... قد جُرحت وتكّسرت وضعفت بِما يكفي، هل لي أن أعيشَ حياتي هكذا؟ أتذكرُ كل شيء بحرقة وأجهشُ بالبكاء... قد عشتُ صراعًا حادًا بينَ القلبِ والعقل، قد أصِبتُ بألمٍ أشبه برصاصة عابرة أطلقت على قلبي... سئمتُ حياتي... سئمتُ من الصدود والفراق... سئمتُ من كلِّ شيء... حتّى وصلت لمرحلةٍ ليسَ بها ولو بصيص أمل...
قصةٌ مؤلمة ومُبكية لِأقصى درجة عنوانُها " فراق بِلا موعد" بدأت حينَ جَعَلتُ من النَّبضةِ الثانية حبًّا آخر، ففي الحادي عشر من تموز أفقتُ في الصباح على أشعةِ الشمس التي سقطت بكل ألم على عينيَّ بعدَ ليلةٍ لا أعرفُ كيفَ بدأت ولا كيفَ انتهت، اتجهتُ إلى الحمامِ طالبًا من سيلِ المياه الباردة أن تغسلني من النُعاسِ الذي لا زالَ لم يُغادرني، ومن هذيان البارحة لكن ما إن سَقَطَ الماءُ على وجهي المُتعب أخذتُ أمسحَ وجهي بمنديلٍ أبيض وقررتُ أن أخرج من المنزلِ فجأةً... ها أنا أسيرُ حائرًا بينَ أزّقةِ المدينة يبصق الوقت في وجهي حكايا وذكريات مُتفرقة من حياةٍ بائسة عشتُها وأتذكرهُا، أفني جُلَّ وقتي غير الثمين محاولًا نسيانُها...
وبخطواتٍ مُتثاقلة بالكاد تأخذني إلى أقرب مكان وطأته قدماي قُبيل هذا اليوم، لِأعلم إلى أين ستخطى بهذا الجسد، ها قد بقيَ لي بضع أمتار وأصل منزل أخي نذير... آه لا أود الإجابة عن أسئلته اللعينة التي ما إن يرى شحوب جبهتي سيتلوها عليَّ، ماذا سأجيب حينَ يسألني عن " كارمن" وفراقنا، حسنًا سأذهب وأحتسي قدح الشاي معه... فتح لي نذير الباب وقد بدا عليه ملامح وجهي الرمادية قد اختزلت تساؤلاته فاكتفى بسؤاله عن نفسي قائلًا: كيفَ حالُكَ، وكَيفَ سارت أمورُك الفترة الماضية؟
جلسنا في فِناء الدّارِ أمامَ غرفة الاستقبال الطويلة ذات الطراز القديم بنافذتّيها المُطلتين على مَصطبة حجرية تقع أمامها كومة صخرية اصطناعية تناثرت عليها شُجيرات مُزهِرة وامتدت خلفها مساحة عشبية كبيرة، شيءٌ ما أعادني للوراء، أعادني للحنين إلى ذكريات الماضي، شيءٌ دفعني لِأن أسرد لأخي قصة لقائي الفريد ب " كارمن"، قائلًا: إلتقيتُها ذات مرة حينما كنتُ أعمل كبائع زهور في أحد المحال الضخمة، أذكرُ أنَّ عيناي قد غابتا في تقاسيمِ وجهها وحركات جسدها النحيف الحيوي، شعرتُ أنَّ كل الأصوات صمتت بداخلي وأنَّ عينيَّ تجاهلتا كل الحضور لتحدِّقا فيها بإمعان وكأنَّ جسرًا معلقًا يمتد إليَّ من عينيها يمرُّ عليه سحرها وجمالها الطبيعي السالب للنفس، رأيتُها بسيطة فأحببتُها منذ النظرة الأولى، فهي لا تضع مساحيق غامقة اللون، ولا تضع عدسات لاصقة كباقي الفتيات ولا تلهثُ وراء الموضة والعلامات التجارية العالمية، هي مُغرية ببساطتها، أتذكرُ ذلكََ الحديث الذي دارَ بيننا حينَ حدثتُها قائلًا: أراكِ منذ مدة ليست بقصيرة، فأنتِ لا تشترين سوى نوعان من الزهور ما هو رأيكِ بنوعٍ جديد سوف ينالُ إعجابكِ؟!
ردت في تعجب!! ما هو؟
أجبتُها وأنا أسيرُ أمامها ببطء: إن كُنتِ من عشاق الزهور ذات العطور الفّواحة، عليكِ بزهرة الجاردينيا واللافندر، أمّا إن كنتِ تعشقين الزهور ذات المنظر الجميل فعليكِ بزهور الزعفران والأوركيد... ابتسمت وهي تتأملني باهتمامٍ بالغ بعينيها العسليتين ورموشها المحدَّبة وردّت بلطف: شكرًا يا سيد، سوفَ آخذ بنَصيحتك، همّت بالذهاب فجأةً.. بدأ قلبي يخفق بشدة وكأنَّه ينتفض رافضًا أن تُغادر المكان، أوقفتُها مُناديًا : أيتُها السيدة، كانَ شرفًا لي معرفتك، ضحكت في خجل: آسفة نَسيتُ إِخباركَ باسمي: أنا كارمن وأنتَ؟ أجبتُها: أنا إلياس... مرّت الأيام وظلّت الصدفة تجمعنا إلى أن وقعنا في مصيدة الحب...
أحببتُها ولكن... قد وقعت الواقعة وشاءت الظروف أن تفرقنا حتّى محاولتنا العديدة لِإنقاذ حبنا باءت بالفشل، أضحيتُ وحيدًا متروكًا لأنياب الليالي الموحشة وأصوات الشجن الضارّة للسمع، والعتمة طغت حياتي فبتُ كالميت وأنا حيّ، وعواصف الحزن هدمت حلمي وطمأنينة قلبي... أصبحتُ ممثلًا بارعًا في إظهارِ الابتسامة المصطنعة المكمون بداخلها نكسات عِدة... كانت النكسة الأخيرة سببُها فراقُكِ، وأصبحت الهموم تتوالى على صَدري منذ رحيلُكِ...
أتذكرُ ساعة البؤس والألم والفراق، الساعة السادسة وخمس وأربعون دقيقة ، فقد كانت آخر ساعة لي بالسعادة قبل أن أفقد متعة الحياة قبل تلك الصدمة وتلك الخيبة حينَ انقطعت أنفاسي وتسمّرت أرضًا، حينَ توّقف كل عضو في جسدي عن الحركة حتّى جفن عَيّني بات أحمرٌ دمويّ، أحسستُ حينها وكأنَّ أحدًا قامَ بإشعال لهيب حاد داخلي، تلكَ الجملة هزّت كياني بشكلٍ جعلني أشعر وكأنَّني سقطت من أعلى قمة جبل في العالم، حقًّا كانت جملة ثقيلة حينَ أخبرتني " كارمن" بأنَّه لم يبّقى على زواجها إلّا بضعة أشهر... والسبب أنَّ والدها قد أفلس وعليه أن يعوّض ذلك بزواج "كارمن" من أحد رجال الأعمال المعروفين آنذاك...
رحيلُكِ يا عزيزتي كانَ صادمًا إلى حد التعب، رحلتِ ورحلت معكِ البهجة والسرور، كنتِ الرقة التي أبحثُ عنها، منحتني بيد طفلة وهمسة رقيقة، ما كنتُ أبحث عنها طوال سنوات حياتي... أنا مدينٌ لكِ بكل شيء... بالحب... وما فوق الحب... أنا مدينٌ لكِ بالسعادة حينَ عرفتُها، وبالحزن القابع فوق جفوني...
النهاية...