بقلم: بهائي راغب شراب
..
وكأنها استيقظت من رقاد ممل طويل ، أزاحت سلمى عن قلبها الكابوس ، الذي احتواها بين فكيه الدمويين مسبباً لها الشلل الكلي ، مما جعلها تجلس شاخصة كتمثال مرمري يكاد ينطق من دقة نحته .. انتصبت سلمى وكأنها تجلس على صفيح تشتعل من أسفله النار ، حملت طفلها سالم بين يديها وكأنها تخطفه خطفاً .. ألصقته بصدرها الحنون الذي كساه الارتجاف والبرود الذي حل بها لطول الانتظار المخيف والرعب القاتل الذين غشياها تحيناً للحظة النهاية المؤلمة القادمة ..
ألصقته إلى صدرها وبلا وعي لمسارها أسرعت نحو باب الدار الخارجي ... حيث غابت من خلاله إلى قلب الشارع الرمادي الحزين ..
أبواب كثيرة تملأ جانبي الشارع كأنها نقوش أثرية تزين قبور الموتى الفارين من سطح الأرض طلباً للنجاة من طواعين الأرض الفسفورية اللامعة المزيفة .. الأبواب كلها متشابهة .. في وقت وجيز أكملت سلمي طرق أبواب نصف الشارع . لم تتوقف ولم تنتظر الرد من أحد كأنه يجب أن ينفتح الباب على مصراعيه قبل أن تمتد يدها إليه لتطرقه .. لكنه الصمت يقيدها .. تريد أن تصرخ .. أن تبكي .. أن تحطم الأبواب الموصدة بدون داع .. لكنه الصمت وراء الأبواب يقهرها .. يعتقل إحساسها وخوفها وحبها .. إنها تشعر وكأنها قد صلبت وقسمت إلى قطع مفردة علقت كل منها على مقبض أحد الأبواب الجدرانية الصماء .. تطرق باباً آخر .. تمضي ..
وباباً آخر .. تمضي ..
وباباً آخر .. تمضي ..
اللعنة على هذه الأبواب ..
ألا يوجد أحد خلفها ..
ألا توجد قطط تموء ..
ألا توجد ذئاب تعوي ..
اللعنة .. ليخرج ولو ذئب قذر يلتهم ما تبقى من قطعي فيريحني من أن أوزعها بنفسي ..
اللعنة .. لا أملك فعل شيء ...
أشعر كأنني ثقيلة .. ثقيلة
تنوء بقاياي بكاحلي ..
ألتصق بالأرض ..
الحجارة أيضاً تسومني العذاب ..
متى يزول الخط الأرجواني الذي يحاصرني فيريحني ..
آه .. إنه آخر باب ستطرقه قبل عودتها الى دارها ..
تغلق بابها الأثري الأصم عليها ..
يبدو أن الأمل المشع في عينيها سيخبو شعاعه وينطفئ ..
المنافذ سدت أمامها .. لا ..
ها هو رأس يبرز من وراءه .. الحمد لله .. إنها سعدى ... سعـ .. سعد .. سعدى ...
تسندها سعدى بكل ما أوتيت من قوة وضعها الله فيها تلك اللحظة لتمنع سقوط سالم إلى الأرض.. يا للفظاعة .. سلمى زائغة البصر تلهث بعنف .. أسمع خفقات قلبها وجهها الشاحب يبدو أكثر اصفراراً ولمعاناً من الذهب .. المعدن النسائي المقدس ..! وحبات العرق كاللآلئ تكسو جيدها المكتنز فتكسبه مع قسمات الحزن والخوف واليأس ملامح الجمال والروعة ..
بدأت سلمى الكلام : .. آه .. سعدى .. آه .. سالم يموت .. سيلحق بأخوته ...
سعدى : هدئي سلمى من روعك .. الأعمار بيد الله .. ما كنت لتفعلي شيئاً يردّ قضاء الله .. إنها مشيئته .. أطلبي الرحمة لهم هم الآن عصافير في الجنة يرفرفون بأجنحتهم .. ستجدين هناك من يظلل عليك من حريق الشمس ومن يطلب الرحمة لك ..
سلمى : وسالم أيضاً .. أتريدين له الموت هو الآخر .. سالم .. يا ويلتي إن أحداً لا يريد مدّ يد المساعدة لي يعينني في ردِّ هذا الكرب العظيم . حتى أنت يا سعدى تعزيني بأبنائي تهونين على ما يجري أمامي من صور الموت المعادة .. لن أبقى .. سأنصرف .. فلا مكان لي عندك ..
سعدى : ما الذي تقولينه .. اجلسي .. أأنا أريد لسالم الموت والله إني لأعطيه روحي يعيش بها ولا أن تخرج مثل هذه الكلمات من فمك .. أنا أريد لسالم أن يموت ..!؟ …" تظل سلمى واقفة .. أنظري إنه يموت " تكشف الغطاء عن وجه سالم " انظري هاتين العينين إنهما تغوران شيئاً فشيئاً .. أنظري الى ثغره الجميل .. مفتوح دائماً لا يمكنه إطباقه على حلمة ثديي لأرضعه الحليب .. وجهه أصبح أرضاً محفورةً أباراً .. دون تناسق .. أباراً غائرة ليس بها قطرة ماء واحدة .
تنظر سعدى بجزع الى سالم ثم الى سلمى وقد أدركت فداحة المأساة التي تعانيها سلمى .. وقالت لها : أيتها المجنونة اجلسي أيكون طفلك بهذه الحالة وتحملينه الى الشارع ..
سلمى : لن أجلس .. لن أجلس .. إنها خمسة قروش ما احتاجها لأرد الروح والحياة الى سالم .. خمسة قروش فقط ترجع لي ولدي . تصوري لا أملك منها شيئاً ... سالم يموت .. هكذا والده يقول فلماذا نصرف خمسة قروش عليه .. بالتأكيد هذه خسارة لا لزوم لها .. أبوه نائم الأن يتلذذ مع أحلامه هادئاً معافى .. يضنِّ على ولده بخمسة قروش . ما قيمتها عنده .. لا شيء .. لكنها عندي تساوي حياة ولدي وقرة عيني وروحي . اعتبريها قرضاً .. سأسدده لك فيما بعد ..
سعدى : خمسة قروش إنني أعطيك كل ما أملك من مال ولكن يبقى سالم حياً فقط أخبريني ماذا ستفعلين وكيف ستتصرفين ..؟
سلمى : الدكتور فؤاد قدم من المدينة أمس وعلم بحالة سالم فأرسل يطلبه ليعالجه اليوم وهو في بيت المختار الأن .. إنه يكشف مجاناً على المرضي ولا يتقاضى غير ثمن الدواء ..
سعدى تدخل الى غرفتها وتعود مسرعة : خذي هذا جنيهاً كاملاً قومي لنذهب الى بيت المختار قبل أن ينقضي الأجل ويحل القضاء ..
كالملدوغة تخطف سلمى النقود من يد سعدى وتسبقها دون أن تنظرها لتصحبها .. تريد اللحاق بالطبيب فهي في صراع مع الحياة وكل لحظة لها قيمتها وثمنها ..
تُجِدُّ سعدى السير خلفها . وصورة وجه سلمى المتلهف لقبلة الحياة تنهلها من ابتسامة تشع من وجه طفلها سالم تدفعها دفعاً إلى دار المختار ....
**
من المجموعة القصصية :عندما تولول الرجال للكاتب بهائي راغب شراب
..
وكأنها استيقظت من رقاد ممل طويل ، أزاحت سلمى عن قلبها الكابوس ، الذي احتواها بين فكيه الدمويين مسبباً لها الشلل الكلي ، مما جعلها تجلس شاخصة كتمثال مرمري يكاد ينطق من دقة نحته .. انتصبت سلمى وكأنها تجلس على صفيح تشتعل من أسفله النار ، حملت طفلها سالم بين يديها وكأنها تخطفه خطفاً .. ألصقته بصدرها الحنون الذي كساه الارتجاف والبرود الذي حل بها لطول الانتظار المخيف والرعب القاتل الذين غشياها تحيناً للحظة النهاية المؤلمة القادمة ..
ألصقته إلى صدرها وبلا وعي لمسارها أسرعت نحو باب الدار الخارجي ... حيث غابت من خلاله إلى قلب الشارع الرمادي الحزين ..
أبواب كثيرة تملأ جانبي الشارع كأنها نقوش أثرية تزين قبور الموتى الفارين من سطح الأرض طلباً للنجاة من طواعين الأرض الفسفورية اللامعة المزيفة .. الأبواب كلها متشابهة .. في وقت وجيز أكملت سلمي طرق أبواب نصف الشارع . لم تتوقف ولم تنتظر الرد من أحد كأنه يجب أن ينفتح الباب على مصراعيه قبل أن تمتد يدها إليه لتطرقه .. لكنه الصمت يقيدها .. تريد أن تصرخ .. أن تبكي .. أن تحطم الأبواب الموصدة بدون داع .. لكنه الصمت وراء الأبواب يقهرها .. يعتقل إحساسها وخوفها وحبها .. إنها تشعر وكأنها قد صلبت وقسمت إلى قطع مفردة علقت كل منها على مقبض أحد الأبواب الجدرانية الصماء .. تطرق باباً آخر .. تمضي ..
وباباً آخر .. تمضي ..
وباباً آخر .. تمضي ..
اللعنة على هذه الأبواب ..
ألا يوجد أحد خلفها ..
ألا توجد قطط تموء ..
ألا توجد ذئاب تعوي ..
اللعنة .. ليخرج ولو ذئب قذر يلتهم ما تبقى من قطعي فيريحني من أن أوزعها بنفسي ..
اللعنة .. لا أملك فعل شيء ...
أشعر كأنني ثقيلة .. ثقيلة
تنوء بقاياي بكاحلي ..
ألتصق بالأرض ..
الحجارة أيضاً تسومني العذاب ..
متى يزول الخط الأرجواني الذي يحاصرني فيريحني ..
آه .. إنه آخر باب ستطرقه قبل عودتها الى دارها ..
تغلق بابها الأثري الأصم عليها ..
يبدو أن الأمل المشع في عينيها سيخبو شعاعه وينطفئ ..
المنافذ سدت أمامها .. لا ..
ها هو رأس يبرز من وراءه .. الحمد لله .. إنها سعدى ... سعـ .. سعد .. سعدى ...
تسندها سعدى بكل ما أوتيت من قوة وضعها الله فيها تلك اللحظة لتمنع سقوط سالم إلى الأرض.. يا للفظاعة .. سلمى زائغة البصر تلهث بعنف .. أسمع خفقات قلبها وجهها الشاحب يبدو أكثر اصفراراً ولمعاناً من الذهب .. المعدن النسائي المقدس ..! وحبات العرق كاللآلئ تكسو جيدها المكتنز فتكسبه مع قسمات الحزن والخوف واليأس ملامح الجمال والروعة ..
بدأت سلمى الكلام : .. آه .. سعدى .. آه .. سالم يموت .. سيلحق بأخوته ...
سعدى : هدئي سلمى من روعك .. الأعمار بيد الله .. ما كنت لتفعلي شيئاً يردّ قضاء الله .. إنها مشيئته .. أطلبي الرحمة لهم هم الآن عصافير في الجنة يرفرفون بأجنحتهم .. ستجدين هناك من يظلل عليك من حريق الشمس ومن يطلب الرحمة لك ..
سلمى : وسالم أيضاً .. أتريدين له الموت هو الآخر .. سالم .. يا ويلتي إن أحداً لا يريد مدّ يد المساعدة لي يعينني في ردِّ هذا الكرب العظيم . حتى أنت يا سعدى تعزيني بأبنائي تهونين على ما يجري أمامي من صور الموت المعادة .. لن أبقى .. سأنصرف .. فلا مكان لي عندك ..
سعدى : ما الذي تقولينه .. اجلسي .. أأنا أريد لسالم الموت والله إني لأعطيه روحي يعيش بها ولا أن تخرج مثل هذه الكلمات من فمك .. أنا أريد لسالم أن يموت ..!؟ …" تظل سلمى واقفة .. أنظري إنه يموت " تكشف الغطاء عن وجه سالم " انظري هاتين العينين إنهما تغوران شيئاً فشيئاً .. أنظري الى ثغره الجميل .. مفتوح دائماً لا يمكنه إطباقه على حلمة ثديي لأرضعه الحليب .. وجهه أصبح أرضاً محفورةً أباراً .. دون تناسق .. أباراً غائرة ليس بها قطرة ماء واحدة .
تنظر سعدى بجزع الى سالم ثم الى سلمى وقد أدركت فداحة المأساة التي تعانيها سلمى .. وقالت لها : أيتها المجنونة اجلسي أيكون طفلك بهذه الحالة وتحملينه الى الشارع ..
سلمى : لن أجلس .. لن أجلس .. إنها خمسة قروش ما احتاجها لأرد الروح والحياة الى سالم .. خمسة قروش فقط ترجع لي ولدي . تصوري لا أملك منها شيئاً ... سالم يموت .. هكذا والده يقول فلماذا نصرف خمسة قروش عليه .. بالتأكيد هذه خسارة لا لزوم لها .. أبوه نائم الأن يتلذذ مع أحلامه هادئاً معافى .. يضنِّ على ولده بخمسة قروش . ما قيمتها عنده .. لا شيء .. لكنها عندي تساوي حياة ولدي وقرة عيني وروحي . اعتبريها قرضاً .. سأسدده لك فيما بعد ..
سعدى : خمسة قروش إنني أعطيك كل ما أملك من مال ولكن يبقى سالم حياً فقط أخبريني ماذا ستفعلين وكيف ستتصرفين ..؟
سلمى : الدكتور فؤاد قدم من المدينة أمس وعلم بحالة سالم فأرسل يطلبه ليعالجه اليوم وهو في بيت المختار الأن .. إنه يكشف مجاناً على المرضي ولا يتقاضى غير ثمن الدواء ..
سعدى تدخل الى غرفتها وتعود مسرعة : خذي هذا جنيهاً كاملاً قومي لنذهب الى بيت المختار قبل أن ينقضي الأجل ويحل القضاء ..
كالملدوغة تخطف سلمى النقود من يد سعدى وتسبقها دون أن تنظرها لتصحبها .. تريد اللحاق بالطبيب فهي في صراع مع الحياة وكل لحظة لها قيمتها وثمنها ..
تُجِدُّ سعدى السير خلفها . وصورة وجه سلمى المتلهف لقبلة الحياة تنهلها من ابتسامة تشع من وجه طفلها سالم تدفعها دفعاً إلى دار المختار ....
**
من المجموعة القصصية :عندما تولول الرجال للكاتب بهائي راغب شراب