بهائي راغب شراب
كان الزمن يتراجع عندما انقطع العناق بين العصافير ، وكانت الهاوية تمتد الى أعماق غاضبة لا قرار لها عندما سقطت الأشجار واصفرت الأرض بؤساً وموتاً وعواءً .. وعندما اغتالوا ابتسامة الجنين الذي انتظر الولادة ، انحلت أصابعهما ، وإنتثرت بقاياهما كشظايا القنابل بين الطرقات المشوهة بروائح الجثث المتعفنة ، حيث الذئاب تراكمت عليها ، تلتهم بقاياها القديمة ...
قال لها عندما أحس بالساعة تقترب الى نهايتها ، وشعر بطعنات راقصها الذي يعلن فرحه الأبدي لقدرته على السير في مقدمة الجنازات المتوالية في طوابير لا تنتهي أبداً .. قال لها : ما أبشع أن نغلق عيوننا ونفتحها فلا يرى أحدنا الآخر ، وما أفظع أن نئد أحلامنا التي أعطتنا القوة على البقاء ، رغم سموم الأفاعي التي تحيطنا من كل جانب تتحين فرصتها لابتلاعنا في جوفها الحلزوني المعتم ..
أننا لم نكد نتفارق ونضع تواقيع نظراتنا .. ودماءنا على صفحة السماء ، لتظل وثيقة ثابتة تشهد على أصالة حبنا الذي كان دائماً أقوى من كل ريح تعصف بنا كراهية وحقداً .. أشعر بالرعب يشلني عندما أفكر بأن فراقنا سيتم الآن .. لا يرعبني أننا سنفترق ، ولكن رعبي ينتمي الى عجزي عن قطع هذا الفراق في اللحظة التي أحددها أنا .. لا أعرف إذا كنت سألتقي بك مرةً أخرى ..
إن وجه الأرض ليعبس لي ، إذ أكون الوحيد العاجز عن تحديد ميعاد للقاء متجدد متواصل مع عناصر الحياة والحب والفرح ... تماسَكَتْ أمامه .. ولم تستسلم للدموع التي برزت لكي تنزل مطراً مدراراً .. إنها تعرف نهايتها وأن الشجرة الأخيرة قد قاربت السقوط ، فقد جفت أغصانها ، وها هي الشرارة تمسك بها لتأتي عليها نهائياً فلا يبقى منها شيء أبداً ...
تظاهرت أمامه بالأمل ، أعطته ابتسامتها التي كانت من نزعها الأخير ، لكنها أبت أن تثنيه عن طريقه ، عليه المواصلة في مكان آخر .. قد ينجح وحينئذٍ سيعود ... قالت له لا تيأس ، عندما عرفتك عرفت أننا لن نفترق .. قد تسافر في إتجاه لا يلتقي مع إتجاهي ، لكنني أعرف أن اللقاء سيأتي على غير ما نتوقع من نهايات ربيعية ..
عندما تبدأ الأوراق في الذبول ، وعندما ينتابها الذهول قبل أن تستسلم نهائياً وتسقط تحت صفعات الشيخوخة المبكرة ، حيث يعود الربيع كل عام في ثوب حياة متجدد .. نفس ما سنفعله نحن ، ستنتهي السنوات العجاف التي تلاحقنا بالجوع والعري وسنلبس حلةً جديدة تفرز أمالنا وأحلامنا من جديد .
انطفأ الأفق الوردي نهائياً ، واندثرت الأرضُ تحت أستار الليل السوداء العامرة بالكوابيس وبالانفجارات ، التي تفتك بالأقمار عند محاولتها الهبوط الى الأرض .. ليس ثمة أصوات سوى زمجرة الحيوانات وهي تصادم بعضها بعضاً ، بحثاً عن بعض العفن المنسي على الطرقات ، وقد امتزجته وحوش النهار المقفل بالفضاءات الوقتية التي لا تكشف الرؤية بل تعدمها ..
ومن بعيد بدى البحر الملك ، الذي يبتلع في جوفه الزغاريد والصرخات .. لم يُبْق على شيء فوق الشاطئ إلا قبراً سقط شاهده الوحيد الأبيض .. نسي البنّاء أو تعمد ألا ينحت اسم الميت على لوحه ، وكأنه ليس من حق هذه الجيفة أن تمتلك بيتاً صغيراً فوق الشاطئ ، تتدلى عليه جريدات نخلة عجوز ، آلمتها الوحدة الطويلة ، وقهرها الخوف أن يقتلعها البحر من جذرها رامياً بها الى جوفه المغلق الخانق المجهول ..
في الليل يُعَقِدَ البحرُ الرؤية ، إذ يغشي عينيه الغضبُ لهذي القاذورات التي لا تنتهي أبداً ، فتندفع أمواجه نحو البيوت يطيح بها على الأرض حجارة ممسوخة .. ولكن ثمة قلعة جميلة بناها الأطفال على الشاطئ أثناء أحلامهم الوردية البيضاء الرقيقة ، بقيت صامدة لم تستطع الأمواج الهادرة من حولها أن تقتلع ابتسامة الحلم الطفولي الرائعة المنقوشة على سورها .
على مدى العواء والصهيل كانت السفينة تقف ساكنة براكبها المشعوذ الذي يلوح بيديه نحو الشاطئ .. لقد رحل هذا الصباح بعيداً ، وفي طريق إبحاره تذكر أنه نسي كل شيء أعطاه معناه وحقيقته .. حقيقته التي خلفها وراءه تنتظر عودته المظفرة .. لقد فقد كل شيء عندما ترك حقيقته على الشاطئ .. تودعه وتدير له ظهرها .. حتى لا يرى الدموع التي انحدرت بغزارة على وجنتيها الربيعيتين ..
من بعيد نظر المبحرُ ضوءاً نافذاً دقيقاً خلف الشاطئ ... أحس بالرعشة تخترقه ، فاندفع سريعاً وبكل ما أوتي من قوة محاولاً أن يجعل من السفينة صاروخاً ينطلق باتجاه الضوء .... لكنها اللعنة تلاحقه .. قد ارتطمت السفينة بجسم صلب كبير لا يعرف كيف وجد الآن .. بالتأكيد لم يكن موجوداً في رحلة الخروج ، اندفعت المياه متدفقة الى قلب السفينة التي بدأت تخور وتهوي الى القاع ، حيث السكون والرهبة والتحفز ... وكان وحيداً وسط الأمواج ، ووسط الليل ، ووسط الخوف ... ساعات بطول الدهر انقضت عليه وهو يجدف بيديه ورجليه ، متجهاً الى الشاطئ .. في إحدى اللحظات كاد أن يستسلم للمياه ، وأن يخلد لأحضانها العميقة ... لكنها كانت أمامه تناديه .. تلوح له تحثه أن يسرع لينجدها ... وأخيراً وصل .. لم تكن بانتظاره .. تداخلت في رأسه الصور .. كاد أن يقفل راجعا الى السفينة التي اختفت الا عمود الصاري الذي ظل منتصباً محتفظاً بعلوه الشاهق وكأنه شاهد قبر ... قاوم نفسه وخوفه .. تغلب على الإرهاق والحمى التي بدأت تسري في عروقه النازفة تشوقاً ولهفةً .. ومضى بعيداً عن الشاطئ في اتجاه الضوء الصغير ، بحث عنه طويلاً ، وعندما اقترب منه إذا بالديك يصيح ومع صياحه فرّ الضوء الصغير ليحل مكانه ضوء مسموم أصفر كالموت .. دب اليأسُ الى قلبه .. لقد نفذ عرقُه وكدُّه وتورمت قدماه الحافيتان .. لقد فقد حذاءه في البحر .. ساعات طويلة وهو يدوس دون وعي على بقايا عظام مسننة .. اقترب من الحائط .. فهو بحاجة الى قليل من الراحة حتى يسترد بعض أنفاسه ، ... عليه أن يفكر في عملية إنقاذ ضخمة يستخلص فيها حبيبته .. صوتها ما زال يناديه ويستحثه .. لقد أدار ظهره بالأمس لها وأعلن انه الفراق الذي لا بد منه ... كيف عاد ثانية ..؟! عليه الإسراع ليبشرها بعودته .. حاول القيام والمضي الى نافذتها فلا بد أنها في انتظاره .. استند على الحائط بكل قوته وثقله فإذا به ينهار حصىً صغيرة ، أُخِذَ لما يرى ولم يدرِ بنفسه الا وقد سقط هو الآخر مستغرقاً في النوم ككومة تراب أسود لا يتميز عن الجدار المنهار بجواره
عندما استيقظ كانت خطوات الليل الثقيلة تدب أمامه من جديد ، فرك عينيه بأصابعه بسرعة ليتم استيقاظه البطيء ويعجله حتى يمكنه تدبر امره ... رأى أكداساً من خيالات مجهولة تتعارك فيما بينها .. خيالات تسقط دون حركة .. وخيالات اخرى كانت تفر من نير الضربات القوية التي اطاحت بها ... اقترب منها ببطء متفادياً أن تصيبه إحدى الضربات الطائشة التي كانت تتناثر دون هدف في كل اتجاه ... عندما وصل إليها .. حرص ألا ينتبه إليه أحد وبسرعة مدّ يديه بين الخيالات المتعاركة بعصا غليظة وجدها تحت قدميه ... اغتاظ .. إذ لم تصب عصاه أياً من تلك الخيالات التي تلاشت أمامه فجأة لتبدو له من بعيد وقد بدأت معركة جديدة فيما بينها .. نظر حواليه .. تكشفت له الحقيقة المخيفة .. إنه الكمين وقع فيه ... الحيوانات تملأ الشارع وقد استلقت على ظهورها ببطونها المنتفخة التي تصدر عن ملامسة الريح لها أصوات كقرع الطبل .. تجذب أفواجاً أخرى من الحيوانات التي تتقدم الى وسط الشارع ملتهمة في طريقها كل شيء حتى الحجارة والرمال .. انتابه الفزع لما يراه ، وعندما قاربوه تطلعوا نحوه بشراهة حمراء .. لم يتحمل رؤية لون أنيابهم الحمراء .. جرى مسرعاً وفي طريقه لم يهتم لأي شيء سوى الهرب .. لقد تعود الهرب .. أسباب هروبه تنوعت حتى صارت متناقضة ، فما هرب منه بالأمس هو نفسه ما يعود لأجله الآن ، وهو الان يفر ممن فرّوا منه بالأمس .
رأى نافذة تطل عليه وقد فتحت ضلفتاها ذات الزجاج المحطم ، اتجه إليها .. إن نجاته ترتبط بسرعة الوصول إليها والقفز منها الى الداخل ... سيظل داخلها الى الأبد ، عندما وصل إليها توارد الى أذنيه أصوات نهش ومضغ لأكل .. قفز بسرعة قبل ان يستجمع تفكيره فقد التصقت ملابسه بالأنياب المنطلقة وراءه .. كان سقوطه عظيماً .. ثمة وليمة دموية بانتظاره في الداخل .. دقق النظر .. إنها عروسه المنتظرة عودته المظفرة .. لم يبق منها إلا خصلات من شعرها الذهبي .. التصقت بالأرض .. الألسن من حولها تلغ في دمها المعجزة .. لم تكن تقاوم .. ردائها الأزرق السماوي ما يزال نظيفاً .. لقد خلعته قبل أن تتفتق الى قطع مزمجرة داخل البطون الجائعة النهمة .. أبقت ثوبها نقياً صافياً مترجمةً نقاءها وحبها الأبدي وانها أبداً لم تعرف ولم تمارس الخيانة .. حاول الاقتراب من خصلاتها الملتصقة بالأرض لينتزعها ويشدها حول رقبته الآثمة التي طأطأت عندما استسلمت للرحيل ..
أحاطت به صرخات الأشباح وتفتحت لتلتهمه الأنياب المكشرة .. وانطلقت النظرات تهزه من أعماقه .. ملأه الذعر وقبل أن يقفزوا نحوه تمهلهم قليلاً : دعوني أزيل عن جسدي المترهل عباءتي الوحيدة ثم إفعلوا بي ما تشاءون .. نظروا الى جسده العاري .. لم يرَوْا فيه ما يشجع على الإيلاغ في دمه وتقطيع جسده وتقسيمه فيما بينهم ... أنفوا من الاقتراب باتجاهه .. تركوه وقفزوا من النافذة الى شارع اللانهائي .. جن جنونه .. لماذا تركوه وحيداً مع هذا الثوب السماوي وبجانب الخصلات الذهبية .. مدّ يده الى ثوبها الأزرق .. أراد تقبيله ... لكن دوياً كالرعد وقهقهة عظيمة شلت يديه .. عاد الى مكانه قرب النافذة .. كانت الأشباح والحيوانات تبتعد حتى تكاد تختفي .. صرخ بها .. انتظروني .. بلحظة البرق كان خارج النافذة يعدو وراء الحيوانات .. لم يعد له وجود في الشارع .. اختفى نهائياً .. دون أن يترك أثراً .....
***
نشرت في صحيفة الوحدة الاماراتية عام 1981
كان الزمن يتراجع عندما انقطع العناق بين العصافير ، وكانت الهاوية تمتد الى أعماق غاضبة لا قرار لها عندما سقطت الأشجار واصفرت الأرض بؤساً وموتاً وعواءً .. وعندما اغتالوا ابتسامة الجنين الذي انتظر الولادة ، انحلت أصابعهما ، وإنتثرت بقاياهما كشظايا القنابل بين الطرقات المشوهة بروائح الجثث المتعفنة ، حيث الذئاب تراكمت عليها ، تلتهم بقاياها القديمة ...
قال لها عندما أحس بالساعة تقترب الى نهايتها ، وشعر بطعنات راقصها الذي يعلن فرحه الأبدي لقدرته على السير في مقدمة الجنازات المتوالية في طوابير لا تنتهي أبداً .. قال لها : ما أبشع أن نغلق عيوننا ونفتحها فلا يرى أحدنا الآخر ، وما أفظع أن نئد أحلامنا التي أعطتنا القوة على البقاء ، رغم سموم الأفاعي التي تحيطنا من كل جانب تتحين فرصتها لابتلاعنا في جوفها الحلزوني المعتم ..
أننا لم نكد نتفارق ونضع تواقيع نظراتنا .. ودماءنا على صفحة السماء ، لتظل وثيقة ثابتة تشهد على أصالة حبنا الذي كان دائماً أقوى من كل ريح تعصف بنا كراهية وحقداً .. أشعر بالرعب يشلني عندما أفكر بأن فراقنا سيتم الآن .. لا يرعبني أننا سنفترق ، ولكن رعبي ينتمي الى عجزي عن قطع هذا الفراق في اللحظة التي أحددها أنا .. لا أعرف إذا كنت سألتقي بك مرةً أخرى ..
إن وجه الأرض ليعبس لي ، إذ أكون الوحيد العاجز عن تحديد ميعاد للقاء متجدد متواصل مع عناصر الحياة والحب والفرح ... تماسَكَتْ أمامه .. ولم تستسلم للدموع التي برزت لكي تنزل مطراً مدراراً .. إنها تعرف نهايتها وأن الشجرة الأخيرة قد قاربت السقوط ، فقد جفت أغصانها ، وها هي الشرارة تمسك بها لتأتي عليها نهائياً فلا يبقى منها شيء أبداً ...
تظاهرت أمامه بالأمل ، أعطته ابتسامتها التي كانت من نزعها الأخير ، لكنها أبت أن تثنيه عن طريقه ، عليه المواصلة في مكان آخر .. قد ينجح وحينئذٍ سيعود ... قالت له لا تيأس ، عندما عرفتك عرفت أننا لن نفترق .. قد تسافر في إتجاه لا يلتقي مع إتجاهي ، لكنني أعرف أن اللقاء سيأتي على غير ما نتوقع من نهايات ربيعية ..
عندما تبدأ الأوراق في الذبول ، وعندما ينتابها الذهول قبل أن تستسلم نهائياً وتسقط تحت صفعات الشيخوخة المبكرة ، حيث يعود الربيع كل عام في ثوب حياة متجدد .. نفس ما سنفعله نحن ، ستنتهي السنوات العجاف التي تلاحقنا بالجوع والعري وسنلبس حلةً جديدة تفرز أمالنا وأحلامنا من جديد .
انطفأ الأفق الوردي نهائياً ، واندثرت الأرضُ تحت أستار الليل السوداء العامرة بالكوابيس وبالانفجارات ، التي تفتك بالأقمار عند محاولتها الهبوط الى الأرض .. ليس ثمة أصوات سوى زمجرة الحيوانات وهي تصادم بعضها بعضاً ، بحثاً عن بعض العفن المنسي على الطرقات ، وقد امتزجته وحوش النهار المقفل بالفضاءات الوقتية التي لا تكشف الرؤية بل تعدمها ..
ومن بعيد بدى البحر الملك ، الذي يبتلع في جوفه الزغاريد والصرخات .. لم يُبْق على شيء فوق الشاطئ إلا قبراً سقط شاهده الوحيد الأبيض .. نسي البنّاء أو تعمد ألا ينحت اسم الميت على لوحه ، وكأنه ليس من حق هذه الجيفة أن تمتلك بيتاً صغيراً فوق الشاطئ ، تتدلى عليه جريدات نخلة عجوز ، آلمتها الوحدة الطويلة ، وقهرها الخوف أن يقتلعها البحر من جذرها رامياً بها الى جوفه المغلق الخانق المجهول ..
في الليل يُعَقِدَ البحرُ الرؤية ، إذ يغشي عينيه الغضبُ لهذي القاذورات التي لا تنتهي أبداً ، فتندفع أمواجه نحو البيوت يطيح بها على الأرض حجارة ممسوخة .. ولكن ثمة قلعة جميلة بناها الأطفال على الشاطئ أثناء أحلامهم الوردية البيضاء الرقيقة ، بقيت صامدة لم تستطع الأمواج الهادرة من حولها أن تقتلع ابتسامة الحلم الطفولي الرائعة المنقوشة على سورها .
على مدى العواء والصهيل كانت السفينة تقف ساكنة براكبها المشعوذ الذي يلوح بيديه نحو الشاطئ .. لقد رحل هذا الصباح بعيداً ، وفي طريق إبحاره تذكر أنه نسي كل شيء أعطاه معناه وحقيقته .. حقيقته التي خلفها وراءه تنتظر عودته المظفرة .. لقد فقد كل شيء عندما ترك حقيقته على الشاطئ .. تودعه وتدير له ظهرها .. حتى لا يرى الدموع التي انحدرت بغزارة على وجنتيها الربيعيتين ..
من بعيد نظر المبحرُ ضوءاً نافذاً دقيقاً خلف الشاطئ ... أحس بالرعشة تخترقه ، فاندفع سريعاً وبكل ما أوتي من قوة محاولاً أن يجعل من السفينة صاروخاً ينطلق باتجاه الضوء .... لكنها اللعنة تلاحقه .. قد ارتطمت السفينة بجسم صلب كبير لا يعرف كيف وجد الآن .. بالتأكيد لم يكن موجوداً في رحلة الخروج ، اندفعت المياه متدفقة الى قلب السفينة التي بدأت تخور وتهوي الى القاع ، حيث السكون والرهبة والتحفز ... وكان وحيداً وسط الأمواج ، ووسط الليل ، ووسط الخوف ... ساعات بطول الدهر انقضت عليه وهو يجدف بيديه ورجليه ، متجهاً الى الشاطئ .. في إحدى اللحظات كاد أن يستسلم للمياه ، وأن يخلد لأحضانها العميقة ... لكنها كانت أمامه تناديه .. تلوح له تحثه أن يسرع لينجدها ... وأخيراً وصل .. لم تكن بانتظاره .. تداخلت في رأسه الصور .. كاد أن يقفل راجعا الى السفينة التي اختفت الا عمود الصاري الذي ظل منتصباً محتفظاً بعلوه الشاهق وكأنه شاهد قبر ... قاوم نفسه وخوفه .. تغلب على الإرهاق والحمى التي بدأت تسري في عروقه النازفة تشوقاً ولهفةً .. ومضى بعيداً عن الشاطئ في اتجاه الضوء الصغير ، بحث عنه طويلاً ، وعندما اقترب منه إذا بالديك يصيح ومع صياحه فرّ الضوء الصغير ليحل مكانه ضوء مسموم أصفر كالموت .. دب اليأسُ الى قلبه .. لقد نفذ عرقُه وكدُّه وتورمت قدماه الحافيتان .. لقد فقد حذاءه في البحر .. ساعات طويلة وهو يدوس دون وعي على بقايا عظام مسننة .. اقترب من الحائط .. فهو بحاجة الى قليل من الراحة حتى يسترد بعض أنفاسه ، ... عليه أن يفكر في عملية إنقاذ ضخمة يستخلص فيها حبيبته .. صوتها ما زال يناديه ويستحثه .. لقد أدار ظهره بالأمس لها وأعلن انه الفراق الذي لا بد منه ... كيف عاد ثانية ..؟! عليه الإسراع ليبشرها بعودته .. حاول القيام والمضي الى نافذتها فلا بد أنها في انتظاره .. استند على الحائط بكل قوته وثقله فإذا به ينهار حصىً صغيرة ، أُخِذَ لما يرى ولم يدرِ بنفسه الا وقد سقط هو الآخر مستغرقاً في النوم ككومة تراب أسود لا يتميز عن الجدار المنهار بجواره
عندما استيقظ كانت خطوات الليل الثقيلة تدب أمامه من جديد ، فرك عينيه بأصابعه بسرعة ليتم استيقاظه البطيء ويعجله حتى يمكنه تدبر امره ... رأى أكداساً من خيالات مجهولة تتعارك فيما بينها .. خيالات تسقط دون حركة .. وخيالات اخرى كانت تفر من نير الضربات القوية التي اطاحت بها ... اقترب منها ببطء متفادياً أن تصيبه إحدى الضربات الطائشة التي كانت تتناثر دون هدف في كل اتجاه ... عندما وصل إليها .. حرص ألا ينتبه إليه أحد وبسرعة مدّ يديه بين الخيالات المتعاركة بعصا غليظة وجدها تحت قدميه ... اغتاظ .. إذ لم تصب عصاه أياً من تلك الخيالات التي تلاشت أمامه فجأة لتبدو له من بعيد وقد بدأت معركة جديدة فيما بينها .. نظر حواليه .. تكشفت له الحقيقة المخيفة .. إنه الكمين وقع فيه ... الحيوانات تملأ الشارع وقد استلقت على ظهورها ببطونها المنتفخة التي تصدر عن ملامسة الريح لها أصوات كقرع الطبل .. تجذب أفواجاً أخرى من الحيوانات التي تتقدم الى وسط الشارع ملتهمة في طريقها كل شيء حتى الحجارة والرمال .. انتابه الفزع لما يراه ، وعندما قاربوه تطلعوا نحوه بشراهة حمراء .. لم يتحمل رؤية لون أنيابهم الحمراء .. جرى مسرعاً وفي طريقه لم يهتم لأي شيء سوى الهرب .. لقد تعود الهرب .. أسباب هروبه تنوعت حتى صارت متناقضة ، فما هرب منه بالأمس هو نفسه ما يعود لأجله الآن ، وهو الان يفر ممن فرّوا منه بالأمس .
رأى نافذة تطل عليه وقد فتحت ضلفتاها ذات الزجاج المحطم ، اتجه إليها .. إن نجاته ترتبط بسرعة الوصول إليها والقفز منها الى الداخل ... سيظل داخلها الى الأبد ، عندما وصل إليها توارد الى أذنيه أصوات نهش ومضغ لأكل .. قفز بسرعة قبل ان يستجمع تفكيره فقد التصقت ملابسه بالأنياب المنطلقة وراءه .. كان سقوطه عظيماً .. ثمة وليمة دموية بانتظاره في الداخل .. دقق النظر .. إنها عروسه المنتظرة عودته المظفرة .. لم يبق منها إلا خصلات من شعرها الذهبي .. التصقت بالأرض .. الألسن من حولها تلغ في دمها المعجزة .. لم تكن تقاوم .. ردائها الأزرق السماوي ما يزال نظيفاً .. لقد خلعته قبل أن تتفتق الى قطع مزمجرة داخل البطون الجائعة النهمة .. أبقت ثوبها نقياً صافياً مترجمةً نقاءها وحبها الأبدي وانها أبداً لم تعرف ولم تمارس الخيانة .. حاول الاقتراب من خصلاتها الملتصقة بالأرض لينتزعها ويشدها حول رقبته الآثمة التي طأطأت عندما استسلمت للرحيل ..
أحاطت به صرخات الأشباح وتفتحت لتلتهمه الأنياب المكشرة .. وانطلقت النظرات تهزه من أعماقه .. ملأه الذعر وقبل أن يقفزوا نحوه تمهلهم قليلاً : دعوني أزيل عن جسدي المترهل عباءتي الوحيدة ثم إفعلوا بي ما تشاءون .. نظروا الى جسده العاري .. لم يرَوْا فيه ما يشجع على الإيلاغ في دمه وتقطيع جسده وتقسيمه فيما بينهم ... أنفوا من الاقتراب باتجاهه .. تركوه وقفزوا من النافذة الى شارع اللانهائي .. جن جنونه .. لماذا تركوه وحيداً مع هذا الثوب السماوي وبجانب الخصلات الذهبية .. مدّ يده الى ثوبها الأزرق .. أراد تقبيله ... لكن دوياً كالرعد وقهقهة عظيمة شلت يديه .. عاد الى مكانه قرب النافذة .. كانت الأشباح والحيوانات تبتعد حتى تكاد تختفي .. صرخ بها .. انتظروني .. بلحظة البرق كان خارج النافذة يعدو وراء الحيوانات .. لم يعد له وجود في الشارع .. اختفى نهائياً .. دون أن يترك أثراً .....
***
نشرت في صحيفة الوحدة الاماراتية عام 1981