بقلم: محمد بكر البوجي
ركبت سيارة الشركة في طريقي إلى البيت الذي تعهدنا بإصلاحه، مدينة الرملة قديمة متجددة بشوارعها وبيوتها وناسها ، أشاهد سيدات يلبسن أحدث الطراز الأوربي وسيدات يرتدين الزي الفلسطيني القديم ، كذلك الرجال . فتحت لي السيدة ، استقبلتني بترحاب ، بدات العمل ، جاءت تحمل صينية الشاي والبسكويت مع ابتسامة أنثوية ، سألتني عن اسمي ، أنا عادل من غزة ، أهلا بك ، أنا مريوم على اسم جارتنا العربية في تطوان ، أخرج عادل سيجارته وأخذ ينفث بشدة ، تذكر أنه ولد في هذا البيت ، يا لها من صدفة ، عام 1943 ولدت هنا في هذا المنزل ، هذه غرفتي بها ألعابي وطفولتي ،أشار عادل بيده إلى البيت المقابل لهم يعرفه جيدا ، سألها من يسكن هذا البيت ،أنه بيت قديم للفلسطينيين، بيت جارنا أبو خالد قالت: يسكنه وافدون من روسيا يأتون هنا فصل الشتاء و يقضون طول العام في بلدهم روسيا . قال عادل : عندما أطلقوا النار علينا وشردونا كان عمري خمس سنوات ، لا زلت أذكر . استأذن من السيدة دخول الحمام ، يعرفه جيدا ،كان يقصد رؤية البيارة من شباك الحمام ، إنها هي ، كما هي لا جديد فيها كما زرعها جدي وعمل بها أبي ولعبت بها هنا قبل أربعين عاما . سألته : مالي أراك شارد الذهن ، لا شيء لا شيء ، يقف عادل على الكرسي لإصلاح تلف في السقف ، الجو حار ، ألقى قميصه جانبا وبقي بملابس العمل الصيفية ، شورت وشباح ، يقف على طاولة ليواصل عمله في السقف ، تنظر إليه مريوم ، شاب مفتول العضلات، صدره مليء بالشعر عضلات صدره مفتولة واضحة ، بدأت تحدد ملامحه بالتفصيل تتلذذ وتمصمص شفتيها . فترة الغداء جاءت مريوم بالطعام وجلست تأكل معه على غير العادة ، زوجي مات في حرب الغفران عام 1973 في مصر ، كان يقود دبابة، الحكومة منحتنا هذا البيت الكبير ثلاثة طوابق وأنا أعيش وحدي . يأكل عادل وعيناه تتجولان في البيت وفي كل زواياه ،سألها: أين أولادك ؟ قالت : هم ثلاثة واحد أصيب في اشتباك على الجبهة اللبنانية وهو يعيش الآن في مستشفى الاحتياجات الخاصة ، وابنتي متزوجة في أمريكا ، والثالث عاد إلى المغرب حيث يقيم هناك في بيت العائلة القديم في تطوان ، أصلا نحن من المغرب من عائلة ، بنزكري ، معي باسبور مغربي أزور أحفادي هناك ، قال : لاحظت ذلك من لهجتك العربية ، وما الذي جاء بك الى هنا ؟ كنت طفلة صغيرة عندما هاجم العرب الملثمون بيتنا في المغرب وأحرقوه ثم أخذونا في سفينة إلى هنا ، كيف عرفت أنهم عرب ؟ هم قالوا لنا ، ابتسم عادل وقال :هم ليسوا عربا إنهم يتبعون جهات أجنبية هدفها ترحيلكم إلى فلسطين، ابتسمت وقالت أعرف ذلك جيدا كما حدثني جدي .
زوجي جاء من بولندا مع عائلته في بداية الخمسينيات ، يحب بولندا ، يتذكر رفاق مدرسته هناك ، كان دائم الحنين إليهم والحديث عنهم ، وعن بيت جده القديم هناك ، فيلا وسط حديقة كبيرة فيها أشجار مثمرة مثل التفاح والعنب الأسود ، حدثني وهو عائد من المدرسة مع رفاقه يدخلون حدائق البيوت ويلتقطون التفاح الأحمر ، تخرج لهم صاحبة البيت تصرخ عليهم ، يمسك التفاح بكلتا يديه ويهرب .أنا أحب الفلسطينيين ، أجد نفسي عند الجلوس معهم ، لي أصدقاء في يافا من عائلة الدجاني وكان زوجي أيضا يحبهم ، كانوا يشكون لنا مصادرة السلطات مستشفى الدجاني في حي النزهة في يافا ، كما تمنعهم من ترميم بيتهم الذي تضرر كثيرا في حرب 48 . كان زوجي رائعا معي ، طيب القلب ، يضحك معي على كل صغيرة وكبيرة كأنني طفلة أمامه ، يحبني يعشقني بقلبه الكبير ، كنت أشعر أنه الوطن الذي يسعني ويحميني ، طلبت منه ذات يوم أن يذهب معي إلى بيتنا في تطوان وافق بسرعة ، ذهبنا هو يحمل باسبور بولندي وأنا باسبور مغربي . تبتسم مريوم وهي تحدثني : كان لا يمكن أن يترك ليلة تضيع هكذا دون قضاء رجولته ، تتنهد : زمان كانت الحياة أجمل ، مات وماتت معه لذة الحياة ، لم أعد استمتع بشيء ، لا بالطعام ولا بالنوم ولا بالسهر ، ولا حتى بالشرب ، كان الشراب معه لذيذا ، كان يعبث بكل أنحائي في كل جزء ، يصبه على جسدي ويترع بلسانه تارة ويشفط تارة أخرى ، ذهبت معه طعم الحياة واقترب طعم الموت ، الحياة هنا لم تعد تطاق ، حروب مستمرة لا نهاية لها ولا أمل .
أمسكت مريوم عادل من ذراعيه ونظرت إلى وجهه قائلة : تعال معي حتى ترى شيئا غريبا ، مشى خلفها حتى وصلا عداد الكهرباء .انظر مكتوب عليه اسم الشركة التي ركبت العداد ، إنها شركة كهرباء القدس الفلسطينية، ابتسم وقال: أعرف ذلك جيدا ، أنا أول مرة أحضر هنا للعمل فقط منذ أسبوعين . استمر عادل في عمله لإنجاز ما كلفته به الشركة ، يقف مادا ذراعيه إلى السقف وهي تنظر إليه ، عضلات فخذيه مرسومة مثل لوحة فنان عالمي ، سألته عن سر هذا ، أجاب : أنا بطل كمال الأجسام ، هوو انت رائع عادل . لحظة انتهاء يوم العمل أراد ارتداء ملابسه ، لكنها قفزت أمامه ، اقترح أن تأخذ حماما ساخنا أفضل لك ، وافق ودخل الحمام، هو هو كما هو منذ أربعين عاما ، كانت أمي تحممني هنا أقف عاريا وأبكي من خشونة الليفة . حمل شنطة العمل وأراد الخروج ، عادل لماذا تذهب كل يوم إلى غزة ، مشوار طويل ومرهق عليك، ممكن تنام هنا البيت واسع كما ترى وأنا وحيدة ، قال : أعرف أن البيت واسع لكن زوجتي وأولادي بانتظاري . في اليوم التالي لبست مريوم ملابس شفافة وتعطرت بانتظار العامل قد ترى منه شيئا جديدا ، أرادت مجاملته وأطلقت عليه لفظ مهندس ، ابتسم وقال : فعلا أنا مهندس معماري ، لكن لا عمل لي فجئت إلى هنا . أحضرت صينية الشاي والبسكويت ، نظرت إلى السرير وهي تبتسم ، هز عادل رأسه أنه يعرفه ، فهمت هي أنه موافق على مرادها ، قامت وألقت نفسها على السرير وأشارت إليه بإصبعها ، تعال ، نظر إلى خزانة أمه وتذكر كيف ضبط والده وهو يلهث ذات ليلة على السرير ، تذكر أمه التي ماتت برصاص جنود الاحتلال عام 1967 .
أتذكر عندما دخل الجنود بيتنا بعد انتهاء الحرب ، فتشوا كل شيء في البيت حتى الملابس الداخلية لأمي ، عثروا على الذهب الذي اشتراه أبي لأمي حين زواجهما في الرملة قبل الهجرة عام 48 ، رأت أمي الذهب بيد أحد الجنود ، اعترضت وبدأت بالصراخ في وجهه ، وضع الذهب في جيوبه وخرج ، لاحقته بالصراخ ، خاف أن تهيج عليه أهل الحارة ، أطلق النار عليها من مدفع العوزي ، أصيبت في قدميها ووسطها ، لم نتمكن من الذهاب إلى المستشفى ، بعد أيام رأيتها وهي تغمض عينيها إلى الأبد . أمي رأيتها في المنام وأنا أصرخ خلفها وأبي يصرخ ويقول : دعيهم يأخذون كل شيء لقد سرقوا الوطن فلا قيمة للذهب دونه ، دوما أراها في المنام ترتدي ملابس بيضاء بأجنحة وهي تصرخ مضرجة بالدم وتطير في السماء بجوار المسيح .
أبي يرفض الزواج بعدها ، كان يقول : تحرم علي نساء الأرض بعدك يا أم عادل ، عاش مسكينا حرم نفسه من لذة الحياة ومتاعها حافظا على عهده معها قال لي في لحظة صفاء وشرود ذهني : يا ولدي عندما خطبتها كانت أجمل جميلات الكون ، أجمل جميلات البلد ، ضحكت وقالت لي : غدا تتزوج الثانية عندما أكبر وأشيخ قلت لها ونحن نجلس سوية تحت شجرة البرتقال في بيارتنا : عهدا لك أمام السماء العالية وأمام الوطن وبحق هذه الشجرة ، شجرة برتقال الشموطي ، أنني لن أطأ امرأة قبلك ولا بعدك ، يا ولدي عهد الله في قلبي ولا يمكن لي أن أخونها ، لقد نقشنا اسمينا على جذع الشجرة التي تعاهدنا في ظلها ، هناك في بيارة الرملة .
لم يلتفت إليها وقام إلى عمله ، فترة الغداء جاءت بطاجن مغربي باللحمة وقالت إنه لك صحتين وعافية ، ثم أردفت قائلة : عادل لماذا لا تأتي أنت وأولادك للعيش معي هنا في الطابق الأول، وحياة سيدي الحسن ، فكر مليا وهز رأسه بالموافقة ، لكن هل السلطات تسمح بذلك ، لا دخل لهم إنه بيتي أنا باسمي أنا وأولادي ، وافق عادل . بعد أيام ركب السيارة هو وأولاده ووالده للعيش في بيتهم الأصلي وليعمل والده في البيارة ، إنه بيتنا لماذا لا نعود اليه ! في الطريق أوقفهم شبان يلبسون أزياء سوداء غريبة ويطلقون اللحي والشعر المجدول أوقفوا السيارة للتفتيش إنهم لا يتكلمون العبرية الصحيحة ولا العربية ، غرباء ، ثم أطلقوا النار باتجاههم فأصابوه في فخذه ، صرخ الأب طالبا العودة إلى المخيم ، يا ولدي ما نفعله خطأ كبيرا ليس بهذه الطريقة تتم العودة ، انتظر يا والدي هؤلاء غرباء لن يفتوا من عزيمتي ، لا بد أن نعود بأي طريقة ، مريوم وبيتنا بانتظارنا ، سأستمر و على أقرب مستشفى نمر للعلاج . سمعنا أن عادل وأولاده وأحفاده يعيشون هناك ويعانون من مشاكل عدم الاعتراف بهم في مجال التعليم الحكومي ولا التأمين الصحي ولا كل المعاملات الرسمية .
ركبت سيارة الشركة في طريقي إلى البيت الذي تعهدنا بإصلاحه، مدينة الرملة قديمة متجددة بشوارعها وبيوتها وناسها ، أشاهد سيدات يلبسن أحدث الطراز الأوربي وسيدات يرتدين الزي الفلسطيني القديم ، كذلك الرجال . فتحت لي السيدة ، استقبلتني بترحاب ، بدات العمل ، جاءت تحمل صينية الشاي والبسكويت مع ابتسامة أنثوية ، سألتني عن اسمي ، أنا عادل من غزة ، أهلا بك ، أنا مريوم على اسم جارتنا العربية في تطوان ، أخرج عادل سيجارته وأخذ ينفث بشدة ، تذكر أنه ولد في هذا البيت ، يا لها من صدفة ، عام 1943 ولدت هنا في هذا المنزل ، هذه غرفتي بها ألعابي وطفولتي ،أشار عادل بيده إلى البيت المقابل لهم يعرفه جيدا ، سألها من يسكن هذا البيت ،أنه بيت قديم للفلسطينيين، بيت جارنا أبو خالد قالت: يسكنه وافدون من روسيا يأتون هنا فصل الشتاء و يقضون طول العام في بلدهم روسيا . قال عادل : عندما أطلقوا النار علينا وشردونا كان عمري خمس سنوات ، لا زلت أذكر . استأذن من السيدة دخول الحمام ، يعرفه جيدا ،كان يقصد رؤية البيارة من شباك الحمام ، إنها هي ، كما هي لا جديد فيها كما زرعها جدي وعمل بها أبي ولعبت بها هنا قبل أربعين عاما . سألته : مالي أراك شارد الذهن ، لا شيء لا شيء ، يقف عادل على الكرسي لإصلاح تلف في السقف ، الجو حار ، ألقى قميصه جانبا وبقي بملابس العمل الصيفية ، شورت وشباح ، يقف على طاولة ليواصل عمله في السقف ، تنظر إليه مريوم ، شاب مفتول العضلات، صدره مليء بالشعر عضلات صدره مفتولة واضحة ، بدأت تحدد ملامحه بالتفصيل تتلذذ وتمصمص شفتيها . فترة الغداء جاءت مريوم بالطعام وجلست تأكل معه على غير العادة ، زوجي مات في حرب الغفران عام 1973 في مصر ، كان يقود دبابة، الحكومة منحتنا هذا البيت الكبير ثلاثة طوابق وأنا أعيش وحدي . يأكل عادل وعيناه تتجولان في البيت وفي كل زواياه ،سألها: أين أولادك ؟ قالت : هم ثلاثة واحد أصيب في اشتباك على الجبهة اللبنانية وهو يعيش الآن في مستشفى الاحتياجات الخاصة ، وابنتي متزوجة في أمريكا ، والثالث عاد إلى المغرب حيث يقيم هناك في بيت العائلة القديم في تطوان ، أصلا نحن من المغرب من عائلة ، بنزكري ، معي باسبور مغربي أزور أحفادي هناك ، قال : لاحظت ذلك من لهجتك العربية ، وما الذي جاء بك الى هنا ؟ كنت طفلة صغيرة عندما هاجم العرب الملثمون بيتنا في المغرب وأحرقوه ثم أخذونا في سفينة إلى هنا ، كيف عرفت أنهم عرب ؟ هم قالوا لنا ، ابتسم عادل وقال :هم ليسوا عربا إنهم يتبعون جهات أجنبية هدفها ترحيلكم إلى فلسطين، ابتسمت وقالت أعرف ذلك جيدا كما حدثني جدي .
زوجي جاء من بولندا مع عائلته في بداية الخمسينيات ، يحب بولندا ، يتذكر رفاق مدرسته هناك ، كان دائم الحنين إليهم والحديث عنهم ، وعن بيت جده القديم هناك ، فيلا وسط حديقة كبيرة فيها أشجار مثمرة مثل التفاح والعنب الأسود ، حدثني وهو عائد من المدرسة مع رفاقه يدخلون حدائق البيوت ويلتقطون التفاح الأحمر ، تخرج لهم صاحبة البيت تصرخ عليهم ، يمسك التفاح بكلتا يديه ويهرب .أنا أحب الفلسطينيين ، أجد نفسي عند الجلوس معهم ، لي أصدقاء في يافا من عائلة الدجاني وكان زوجي أيضا يحبهم ، كانوا يشكون لنا مصادرة السلطات مستشفى الدجاني في حي النزهة في يافا ، كما تمنعهم من ترميم بيتهم الذي تضرر كثيرا في حرب 48 . كان زوجي رائعا معي ، طيب القلب ، يضحك معي على كل صغيرة وكبيرة كأنني طفلة أمامه ، يحبني يعشقني بقلبه الكبير ، كنت أشعر أنه الوطن الذي يسعني ويحميني ، طلبت منه ذات يوم أن يذهب معي إلى بيتنا في تطوان وافق بسرعة ، ذهبنا هو يحمل باسبور بولندي وأنا باسبور مغربي . تبتسم مريوم وهي تحدثني : كان لا يمكن أن يترك ليلة تضيع هكذا دون قضاء رجولته ، تتنهد : زمان كانت الحياة أجمل ، مات وماتت معه لذة الحياة ، لم أعد استمتع بشيء ، لا بالطعام ولا بالنوم ولا بالسهر ، ولا حتى بالشرب ، كان الشراب معه لذيذا ، كان يعبث بكل أنحائي في كل جزء ، يصبه على جسدي ويترع بلسانه تارة ويشفط تارة أخرى ، ذهبت معه طعم الحياة واقترب طعم الموت ، الحياة هنا لم تعد تطاق ، حروب مستمرة لا نهاية لها ولا أمل .
أمسكت مريوم عادل من ذراعيه ونظرت إلى وجهه قائلة : تعال معي حتى ترى شيئا غريبا ، مشى خلفها حتى وصلا عداد الكهرباء .انظر مكتوب عليه اسم الشركة التي ركبت العداد ، إنها شركة كهرباء القدس الفلسطينية، ابتسم وقال: أعرف ذلك جيدا ، أنا أول مرة أحضر هنا للعمل فقط منذ أسبوعين . استمر عادل في عمله لإنجاز ما كلفته به الشركة ، يقف مادا ذراعيه إلى السقف وهي تنظر إليه ، عضلات فخذيه مرسومة مثل لوحة فنان عالمي ، سألته عن سر هذا ، أجاب : أنا بطل كمال الأجسام ، هوو انت رائع عادل . لحظة انتهاء يوم العمل أراد ارتداء ملابسه ، لكنها قفزت أمامه ، اقترح أن تأخذ حماما ساخنا أفضل لك ، وافق ودخل الحمام، هو هو كما هو منذ أربعين عاما ، كانت أمي تحممني هنا أقف عاريا وأبكي من خشونة الليفة . حمل شنطة العمل وأراد الخروج ، عادل لماذا تذهب كل يوم إلى غزة ، مشوار طويل ومرهق عليك، ممكن تنام هنا البيت واسع كما ترى وأنا وحيدة ، قال : أعرف أن البيت واسع لكن زوجتي وأولادي بانتظاري . في اليوم التالي لبست مريوم ملابس شفافة وتعطرت بانتظار العامل قد ترى منه شيئا جديدا ، أرادت مجاملته وأطلقت عليه لفظ مهندس ، ابتسم وقال : فعلا أنا مهندس معماري ، لكن لا عمل لي فجئت إلى هنا . أحضرت صينية الشاي والبسكويت ، نظرت إلى السرير وهي تبتسم ، هز عادل رأسه أنه يعرفه ، فهمت هي أنه موافق على مرادها ، قامت وألقت نفسها على السرير وأشارت إليه بإصبعها ، تعال ، نظر إلى خزانة أمه وتذكر كيف ضبط والده وهو يلهث ذات ليلة على السرير ، تذكر أمه التي ماتت برصاص جنود الاحتلال عام 1967 .
أتذكر عندما دخل الجنود بيتنا بعد انتهاء الحرب ، فتشوا كل شيء في البيت حتى الملابس الداخلية لأمي ، عثروا على الذهب الذي اشتراه أبي لأمي حين زواجهما في الرملة قبل الهجرة عام 48 ، رأت أمي الذهب بيد أحد الجنود ، اعترضت وبدأت بالصراخ في وجهه ، وضع الذهب في جيوبه وخرج ، لاحقته بالصراخ ، خاف أن تهيج عليه أهل الحارة ، أطلق النار عليها من مدفع العوزي ، أصيبت في قدميها ووسطها ، لم نتمكن من الذهاب إلى المستشفى ، بعد أيام رأيتها وهي تغمض عينيها إلى الأبد . أمي رأيتها في المنام وأنا أصرخ خلفها وأبي يصرخ ويقول : دعيهم يأخذون كل شيء لقد سرقوا الوطن فلا قيمة للذهب دونه ، دوما أراها في المنام ترتدي ملابس بيضاء بأجنحة وهي تصرخ مضرجة بالدم وتطير في السماء بجوار المسيح .
أبي يرفض الزواج بعدها ، كان يقول : تحرم علي نساء الأرض بعدك يا أم عادل ، عاش مسكينا حرم نفسه من لذة الحياة ومتاعها حافظا على عهده معها قال لي في لحظة صفاء وشرود ذهني : يا ولدي عندما خطبتها كانت أجمل جميلات الكون ، أجمل جميلات البلد ، ضحكت وقالت لي : غدا تتزوج الثانية عندما أكبر وأشيخ قلت لها ونحن نجلس سوية تحت شجرة البرتقال في بيارتنا : عهدا لك أمام السماء العالية وأمام الوطن وبحق هذه الشجرة ، شجرة برتقال الشموطي ، أنني لن أطأ امرأة قبلك ولا بعدك ، يا ولدي عهد الله في قلبي ولا يمكن لي أن أخونها ، لقد نقشنا اسمينا على جذع الشجرة التي تعاهدنا في ظلها ، هناك في بيارة الرملة .
لم يلتفت إليها وقام إلى عمله ، فترة الغداء جاءت بطاجن مغربي باللحمة وقالت إنه لك صحتين وعافية ، ثم أردفت قائلة : عادل لماذا لا تأتي أنت وأولادك للعيش معي هنا في الطابق الأول، وحياة سيدي الحسن ، فكر مليا وهز رأسه بالموافقة ، لكن هل السلطات تسمح بذلك ، لا دخل لهم إنه بيتي أنا باسمي أنا وأولادي ، وافق عادل . بعد أيام ركب السيارة هو وأولاده ووالده للعيش في بيتهم الأصلي وليعمل والده في البيارة ، إنه بيتنا لماذا لا نعود اليه ! في الطريق أوقفهم شبان يلبسون أزياء سوداء غريبة ويطلقون اللحي والشعر المجدول أوقفوا السيارة للتفتيش إنهم لا يتكلمون العبرية الصحيحة ولا العربية ، غرباء ، ثم أطلقوا النار باتجاههم فأصابوه في فخذه ، صرخ الأب طالبا العودة إلى المخيم ، يا ولدي ما نفعله خطأ كبيرا ليس بهذه الطريقة تتم العودة ، انتظر يا والدي هؤلاء غرباء لن يفتوا من عزيمتي ، لا بد أن نعود بأي طريقة ، مريوم وبيتنا بانتظارنا ، سأستمر و على أقرب مستشفى نمر للعلاج . سمعنا أن عادل وأولاده وأحفاده يعيشون هناك ويعانون من مشاكل عدم الاعتراف بهم في مجال التعليم الحكومي ولا التأمين الصحي ولا كل المعاملات الرسمية .