بقلم: عادل عامر
وسائل الإعلام في أي مجتمع هي المسؤولة عن صياغة و نشر و توزيع الأخبار و المعلومات و الأفكار و الآراء, و بالتالي تصبح من أهم الوسائل الفاعلة في أي مجتمع لتغيير القيم و الاتجاهات و لتعزيز أي سلوك إيجابي و تكريسه, و تهميش أي سلوك سلبي في نفس المجتمع.
و لذا تعتمد الحكومات و المؤسسات الحكومية و الخاصة و مؤسسات المجتمع المدني و الجمعيات و الهيئات ذات الصلة بالمجتمع و شرائحه, تعتمد على وسائل الإعلام الجماهيرية (صحافة, إذاعة, تلفزيون, سينما) في الوصول إلى الجمهور المستهدف و تحقيق الأهداف المتوخاة من ذلك الاتصال.
و المجتمع- أي مجتمع- ليس شئياً واحداً أو كلاً متشابهاً في طبيعته و صفاته و دوره, بل يشمل المجتمع شرائح كثيرة متباينة الصفات و الأوضاع و الأهداف و الأفكار و القيم و الإتجاهات. و لذا كان لزاماً على وسائل الإعلام أن تغير من نظرتها للمجتمع ككتلة واحدة إلى مجتمع متشابك و معقد, و بالتالي ينبغي صياغة رسائل إعلامية مناسبة لكل شريحة مستهدفة بحيث يتم صياغة تلك الرسائل بما يتناسب و اتجاهات و أفكار و سمات تلك الشريحة المستهدفة. و لعله من نافلة القول التأكيد على أن وسائل الإعلام و المؤسسات الإعلامية لا يمكن لها أن تحقق أي شيء يذكر في تغيير النظرة السلبية للمعاقين في المجتمع دون أن تتظافر جميع مؤسسات الدولة العامة و الخاصة بجهودها في هذه المسألة, فدور الإعلام هو دور مكمل لباقي الجهود, و لا يمكن النظر له بمعزل عن باقي العوامل و المتغيرات التي تؤثر بالمجتمع.
" هل تدرك السمكة أنها مبتلة بالماء؟" هذا السؤال طرحه عالم الاتصال الكندي المعروف مارشال ماكلوهان (صاحب نظرية القرية العالمية), الجواب طبعاً "لا", فالسمكة لا تدرك أنها مبللة بالماء لأن البيئة التي تعيش فيها السمكة مغلفة بالماء (بيئة مائية) إلى درجة أنها لا تشعر بالماء إلا في حالة فقدان الماء أو غيابه!
هكذا الحال تماماً في علاقة أفراد الجمهور بوسائل الإعلام الجماهيرية. إن وسائل الإعلام تتدخل تقريباً في كل مجالات حياتنا اليومية و واقعنا إلى درجة أننا لا نشعر بوجودها, ناهيك عن تأثيرها علينا و على حياتنا, إننا - كالسمك في الماء- محاطين بوسائل الإعلام الجماهيرية من كل جانب, إن وسائل الإعلام تزودنا بالمعلومة, تسلينا و ترفه عنا, تسعدنا, تحزننا, تضايقنا, تحرك مشاعرنا, تتحدى ذكائنا, و أحياناً تحاول استغفالنا. إن هذه الوسائل تساعدنا على التعرف على أنفسنا, كما أنها تشكل واقعنا و حياتنا.
الاتصال (Communication) مأخوذة من (Common) أي مشترك و عام. فالاتصال كعملية يتضمن المشاركة حول شيء أو فكرة أو إحساس أو اتجاه أو سلوك أو فعل ما. فنحن عندما نتصل بالناس في حياتنا اليومية إنما نشترك معهم في تبادل الأفكار و المعلومات.
الاتصال, في أبسط صوره, هو " إرسال رسالة من مصدر إلى مستقبل بغرض إحداث تأثير". الإنسان منذ بدء الخليقة يعيش في تجمعات بشرية. و لكي يتفاعل الإنسان مع مجتمعه لابد عليه من أن "يتصل" بمن حوله حتى يستطيع أن يتبادل الأخبار, المعلومات, الآراء, المشاعر و التي تؤثر في حياته اليومية. لذا يتميز المجتمع الإنساني بأنه مجتمع اتصالي لأن الناس تحتاج إلى الاتصال بالآخرين لتسهيل أمور حياتهم.
عندما نتحدث عن علاقة الإعلام بالإعاقة و نصفها بأنها علاقة تفاعلية و مسؤولية متبادلة, فإن ذلك يعني أننا بدأنا ندرك و نعي أهمية توظيف وسائل الإعلام في إثارة قضايا الأشخاص المعاقين في المجتمع, و استغلالها في التوعية الشاملة لكل أفراد المجتمع بالنسبة فيما يتعلق بمفهوم الإعاقة و بضرورة دمج المعاق في مجتمعه لكي يكون عضواً فاعلاً كبقية أفراد المجتمع.
إن لوسائل الإعلام وظائف متنوعة في المجتمع- أي مجتمع- و من خلال الوظائف تؤثر وسائل الإعلام في أفراد المجتمع و في قيمه و آرائه و اتجاهاته, و تساهم بالتغيير الاجتماعي للمجتمع.
و من خلال استعراض ما ذكرته الأدبيات الإعلامية حول أهداف و وظائف الاتصال , فإننا نخلص إلى بعض الوظائف المهمة و التي تخدمنا في موضوع علاقة الإعلام بالإعاقة و بالأشخاص المعاقين و قضاياهم:
• وظيفة الأخبار و التزويد بالمعلومات و الأخبار عن ما يحدث في بيئتنا أو من حولنا.
• وظيفة الإعلام و التعليم.
• وظيفة ترابط المجتمع و نقل تراثه, حيث يتم نقل القيم و العادات و التقاليد و اللغة إلى أفراد المجتمع.
• وظيفة الترفيه: و هي وظيفة أساسية لتحقيق بعض الإشاعات النفسية و الاجتماعية.
• وظيفة الرقابة: و هي تعنى بحماية المجتمع و صيانته من الفساد و المخالفات و إساءة استخدام السلطة.
• وظيفة الإعلان و الترويج و التسويق.
• وظيفة تكوين الآراء و الاتجاهات لدى الجمهور.
و لقد تم التوصل إلى عدة نظريات إعلامية لتفسير العلاقة بين وسائل الإعلام و بين المجتمع, و سنسلط الضوء على نظريتين إعلاميتين تشرحان كيف يمكن استخدام وسائل الإعلام للتأثير على أفراد الجمهور في تبني القضايا و الاتجاهات و الأفكار التي يريدها القائم بالاتصال, و هذه النظريتين هما: نظرية ترتيب الأوليات, نظرية الغرس الثقافي.
1. نظرية ترتيب الأوليات (تحديد الأجندة)
بسبب اعتماد أفراد الجمهور على وسائل الإعلام, أصبحت وسائل الإعلام الجماهيرية و بالذات التلفزيون أهم الوسائل الإعلامية تأثيراً في تشكيل أفكار و آراء الجمهور, و بالتالي تؤثر حتى في تحديد أولويات الجمهور و فيما يظنه مهم أو غير مهم, و ذلك بالتركيز على موضوعات معينة أو التعتيم على موضوعات أخرى, مما يجعل الجمهور يتفاعل مع القضايا المثارة إعلامياً و يتناسى أو ينسى القضايا غير المثارة إعلامياً.
و هذا ما أثار اهتمام الباحث الإعلامي لازرفيلد في عام 1944 عندما بحث في قدرة قدرة وسائل الإعلام الجماهيرية على صياغة و تشكيل أولويات الناس تجاه القضايا المختلفة في المجتمع، بحيث أنه إذا تم التركيز على قضية معينة في الإعلام, فإنها ستحظى بنفس الإهتمام لدى الجمهور, و العكس صحيح.
بمعنى أنه إذا ركزت وسائل الإعلام على قضية معينة وأبرزتها فإن هذه القضية تكتسب نفس الأهمية لدى الجمهور, و هذا ما يعرف بنظرية "تحديد الأوليات" أو نظرية "تحديد الأجندة" Agenda Setting Theory و التي أثارها الباحثان الإعلاميان مكومبس، وشو.
و نظرية ترتيب الأوليات- تحديد الأجندة, كما يقول صالح خليل ابو اصبع (1999) تفيد بـ"وجود علاقة إيجابية بين ما تؤكده وسائل الإعلام في رسائلها, و بين ما يراه الجمهور هاماً. أي أن دور وسائل الإعلام يسهم في ترتيب الأوليوات عند الجمهور. و من ثم فإن وسائل الإعلام بهذا المعنى تقوم بمهمة تعليمية."
لقد أصبحت وسائل الإعلام الجماهيرية الرئيسة (الإذاعة, التلفزيون, الصحافة) هي الوسيط بين الأحداث و بين أفراد الجمهور, فهي تنقل الأخبار و المعلومات و الرأي و التفسير و التحليل, و هي بذلك تساهم في خلق "واقع اجتماعي" يعيش فيه أفراد الجمهور, و لذلك تبدو أي عملية تغيير في المنظومة الفكرية و الثقافية لدى الفرد غير ناجعة إذا لم توظف وسائل الإعلام التوظيف الصحيح.
فكرة النظرية أنه مثلما يحدد جدول الأعمال في أي لقاء ترتيب الموضوعات التي سوف تُناقش بناءً على أهميتها, و لذا فإن وسائل الإعلام لها جدول أعمالها الخاص التي تحدد الأهم و الأقل أهمية من الموضوعات و الأحداث.
الناس تتحدث في حياتها اليومية عن الموضوعات أو الأحداث التي تظهر في الوسائل الإعلامية, و بمجرد اختفاء هذه الأحداث من واجهة الصحف, مثلاً, فإن الناس سوف تنساها تدريجياً. هذه النظرية تهتم بدراسة العلاقة التبادلية بين وسائل الإعلام و الجماهير التي تتعرض لتلك الوسائل في تحديد أولويات القضايا السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية التي تهم المجتمع. كما تفترض النظرية أن وسائل الإعلام لا تستطيع تغطية جميع الموضوعات, لذا يختار القائمون على هذه الوسائل بعض الموضوعات التي يتم التركيز عليها بشدة و التحكم في طبيعتها و محتواها. و هذه الموضوعات تثير اهتمامات الناس تدريجياً, و تجعلهم يدركونها, و يفكرون فيها, و يقلقون بشأنها. و بالتالي تمثل هذه الموضوعات لدى الجماهير أهمية أكبر نسبياً من الموضوعات الأخرى التي لا تطرحها وسائل الإعلام. وسائل الإعلام هي التي توجه الاهتمام نحو قضايا بعينها, فهي التي تطرح الموضوعات, و تقترح ما الذي ينبغي أن يفكر فيه الأفراد باعتبارهم أعضاء في الحشد, و ما الذي ينبغي أن يعرفوه, و ما الذي ينبغي أن يشعروه به.
حين تقرر وسائل الإعلام تخصيص معظم الوقت و المساحة في التغطية الإخبارية لقضية ما, فإن هذه القضية سوف تكتسب أهمية قصوى لدى الجماهير التي تتعرض لتلك الوسائل.
و إذا ما أردنا أن نسقط هذه النظرية أو أن نوظفها في موضوع الإعاقة و قضايا الأشخاص المعاقين فإننا نستطيع القول بأن الاهتمام الزمني (في الإذاعي و التلفزيوني) أو المساحة (الصحف و المطبوعات) الذي توليه وسائل الإعلام في المجتمع لقضايا الإعاقة, فإنها ستجعل بقية أفراد المجتمع تهتم بهذا الموضوع و تتحدث عنه. و العكس صحيح أيضاً, فإنه عندما تهمل وسائل الإعلام إثارة قضايا المعاقين, أو لا تعطيها مساحة زمنية أو مكانية كافية, فإن اهتمام الجمهور يتلاشى و يختفي لقضايا المعاقين, و هذا ما يحدث في الواقع, حيث لا تهتم وسائل الإعلام كثيراً في قضايا المعاقين إلا عندما تكون هناك مناسبة معينة كيوم الإعاقة العالمي أو العربي, أو يكون هناك نشاط معين (كمؤتمر أو ملتقى حول الإعاقة), و بالتالي لا نستغرب كثيراً عندما نرى عزوف أفراد المجتمع عن الاهتمام بقضايا المعاقين.
2. نظرية الغرس (الإنماء) الثقافي Cultivation Theory
و هناك نظرية إعلامية أخرى تبدو مفيدة و نحن نتحدث هنا عن العلاقة بين الإعلام و الإعاقة, و هذه النظرية هي نظرية الغرس الثقافي Cultivation Theory و هي نظرية قدمها Gerbner et. al. كمنظور لدراسة أثر وسائل الإعلام. بدأ هذه النظرية الباحث الأمريكي جورج جربنر من خلال مشروعه الخاص بالمؤشرات الثقافية التي اهتمت بحوث المؤشرات الثقافية بثلاث قضايا متداخلة هي دراسة الهياكل و العمليات التي تؤثر على إنتاج الرسائل الإعلامية, و دراسة الرسائل و القيم و الصور الذهنية التي تعكسها وسائل الإعلام, و دراسة الإسهام المستقل للرسائل الجماهيرية على إدراك الجمهور للواقع الاجتماعي.
تنص النظرية على "أن مداومة التعرض للتلفزيون – ولفترات طويلة و منتظمة- تنمي لدى المشاهد اعتقاداً بأن العالم الذي يراه على شاشة التلفزيون, إنما هو صورة من العالم الواقعي الذي يحياه."
و تفترض النظرية أن الأشخاص الذين يشاهدون كميات ضخمة من البرامج التلفزيونية (كثيفو المشاهدة) يختلفون في إدراكهم للواقع الاجتماعي عن أولئك الذين يشاهدون كميات قليلة من البرامج أو لا يشاهدون (قليلو المشاهدة), ذلك أن كثيفي المشاهدة سيكون لديهم قدرة أكبر على إدراك الواقع المعاش بطريقة متسقة مع الصور الذهنية التي ينقلها عالم التلفزيون. و يرى واضعو النظرية أن وسائل الاتصال الجماهيرية تحدث آثاراً قوية على إدراك الناس للعالم الخارجي, خاصة هؤلاء الذين يتعرضون لتلك الوسائل لفترات طويلة و منتظمة.
و خلصت النظرية إلى أن الذين يشاهدون التلفزيون بكثافة Heavy Viewers فإنهم يعتقدون أن ما يشاهدونه من خلال التلفزيون من واقع و أحداث و شخصيات فإنها تكون مطابقة لما يحدث في الحقيقة و في الحياة. نظرية الغرس الثقافي تفيد بأن الأفراد كثيفي المشاهدة بانتظام يميلون إلى رؤية العالم كما يصوره التلفزيون مقارنة بغيرهم ممن هم قليلي المشاهدة, فالعرض المتكرر يشكل الآراء و يبني المواقف. كذلك المشاهدة المتكررة تخلق ثقافة موحدة للحقيقة و الاعتقادات التي توجد عليها الأشياء في العالم. و إذا أردنا أن نسقط هذه النظرية على الإعاقة و الأشخاص المعاقين, فإن الصور الذهنية و الواقع الاجتماعي التي تقدمه وسائل الإعلام (و خصوصاً التلفزيون) عن المعاقين, تجعل الجمهور سوف يؤمن بأن هذا هو الواقع الفعلي للمعاقين. فمثلاً, إذا كانت صورة المعاقين التي تعرضها الدراما العربية و الخليجية هي صورة سلبية و مشوهة بحيث يبدو المعاق كأنه عالة على غيره و لا يستطيع أن يفعل شيئاً و هو شخص منعزل عن الحياة, فإن مشاهدي التلفزيون عندما يشاهدون شخصاً معاقاً أمامهم في الحياة العامة فإنهم سوف يستحضرون تلك الصور الذهنية السلبية التي شاهدوها في التلفزيون و يبدءون يتعاملون مع هذا الشخص المعاق على هذا الأساس. و من تبدو مسألة توظيف الصور الإيجابية للأشخاص المعاقين مهمة لأنها تساهم في غرس صورة إيجابية لدى جمهور وسائل الإعلام و خاصة التلفزيون, و بالتالي يبدأ الجمهور يغير من نظرته السلبية للمعاق.
وسائل الإعلام في أي مجتمع هي المسؤولة عن صياغة و نشر و توزيع الأخبار و المعلومات و الأفكار و الآراء, و بالتالي تصبح من أهم الوسائل الفاعلة في أي مجتمع لتغيير القيم و الاتجاهات و لتعزيز أي سلوك إيجابي و تكريسه, و تهميش أي سلوك سلبي في نفس المجتمع.
و لذا تعتمد الحكومات و المؤسسات الحكومية و الخاصة و مؤسسات المجتمع المدني و الجمعيات و الهيئات ذات الصلة بالمجتمع و شرائحه, تعتمد على وسائل الإعلام الجماهيرية (صحافة, إذاعة, تلفزيون, سينما) في الوصول إلى الجمهور المستهدف و تحقيق الأهداف المتوخاة من ذلك الاتصال.
و المجتمع- أي مجتمع- ليس شئياً واحداً أو كلاً متشابهاً في طبيعته و صفاته و دوره, بل يشمل المجتمع شرائح كثيرة متباينة الصفات و الأوضاع و الأهداف و الأفكار و القيم و الإتجاهات. و لذا كان لزاماً على وسائل الإعلام أن تغير من نظرتها للمجتمع ككتلة واحدة إلى مجتمع متشابك و معقد, و بالتالي ينبغي صياغة رسائل إعلامية مناسبة لكل شريحة مستهدفة بحيث يتم صياغة تلك الرسائل بما يتناسب و اتجاهات و أفكار و سمات تلك الشريحة المستهدفة. و لعله من نافلة القول التأكيد على أن وسائل الإعلام و المؤسسات الإعلامية لا يمكن لها أن تحقق أي شيء يذكر في تغيير النظرة السلبية للمعاقين في المجتمع دون أن تتظافر جميع مؤسسات الدولة العامة و الخاصة بجهودها في هذه المسألة, فدور الإعلام هو دور مكمل لباقي الجهود, و لا يمكن النظر له بمعزل عن باقي العوامل و المتغيرات التي تؤثر بالمجتمع.
" هل تدرك السمكة أنها مبتلة بالماء؟" هذا السؤال طرحه عالم الاتصال الكندي المعروف مارشال ماكلوهان (صاحب نظرية القرية العالمية), الجواب طبعاً "لا", فالسمكة لا تدرك أنها مبللة بالماء لأن البيئة التي تعيش فيها السمكة مغلفة بالماء (بيئة مائية) إلى درجة أنها لا تشعر بالماء إلا في حالة فقدان الماء أو غيابه!
هكذا الحال تماماً في علاقة أفراد الجمهور بوسائل الإعلام الجماهيرية. إن وسائل الإعلام تتدخل تقريباً في كل مجالات حياتنا اليومية و واقعنا إلى درجة أننا لا نشعر بوجودها, ناهيك عن تأثيرها علينا و على حياتنا, إننا - كالسمك في الماء- محاطين بوسائل الإعلام الجماهيرية من كل جانب, إن وسائل الإعلام تزودنا بالمعلومة, تسلينا و ترفه عنا, تسعدنا, تحزننا, تضايقنا, تحرك مشاعرنا, تتحدى ذكائنا, و أحياناً تحاول استغفالنا. إن هذه الوسائل تساعدنا على التعرف على أنفسنا, كما أنها تشكل واقعنا و حياتنا.
الاتصال (Communication) مأخوذة من (Common) أي مشترك و عام. فالاتصال كعملية يتضمن المشاركة حول شيء أو فكرة أو إحساس أو اتجاه أو سلوك أو فعل ما. فنحن عندما نتصل بالناس في حياتنا اليومية إنما نشترك معهم في تبادل الأفكار و المعلومات.
الاتصال, في أبسط صوره, هو " إرسال رسالة من مصدر إلى مستقبل بغرض إحداث تأثير". الإنسان منذ بدء الخليقة يعيش في تجمعات بشرية. و لكي يتفاعل الإنسان مع مجتمعه لابد عليه من أن "يتصل" بمن حوله حتى يستطيع أن يتبادل الأخبار, المعلومات, الآراء, المشاعر و التي تؤثر في حياته اليومية. لذا يتميز المجتمع الإنساني بأنه مجتمع اتصالي لأن الناس تحتاج إلى الاتصال بالآخرين لتسهيل أمور حياتهم.
عندما نتحدث عن علاقة الإعلام بالإعاقة و نصفها بأنها علاقة تفاعلية و مسؤولية متبادلة, فإن ذلك يعني أننا بدأنا ندرك و نعي أهمية توظيف وسائل الإعلام في إثارة قضايا الأشخاص المعاقين في المجتمع, و استغلالها في التوعية الشاملة لكل أفراد المجتمع بالنسبة فيما يتعلق بمفهوم الإعاقة و بضرورة دمج المعاق في مجتمعه لكي يكون عضواً فاعلاً كبقية أفراد المجتمع.
إن لوسائل الإعلام وظائف متنوعة في المجتمع- أي مجتمع- و من خلال الوظائف تؤثر وسائل الإعلام في أفراد المجتمع و في قيمه و آرائه و اتجاهاته, و تساهم بالتغيير الاجتماعي للمجتمع.
و من خلال استعراض ما ذكرته الأدبيات الإعلامية حول أهداف و وظائف الاتصال , فإننا نخلص إلى بعض الوظائف المهمة و التي تخدمنا في موضوع علاقة الإعلام بالإعاقة و بالأشخاص المعاقين و قضاياهم:
• وظيفة الأخبار و التزويد بالمعلومات و الأخبار عن ما يحدث في بيئتنا أو من حولنا.
• وظيفة الإعلام و التعليم.
• وظيفة ترابط المجتمع و نقل تراثه, حيث يتم نقل القيم و العادات و التقاليد و اللغة إلى أفراد المجتمع.
• وظيفة الترفيه: و هي وظيفة أساسية لتحقيق بعض الإشاعات النفسية و الاجتماعية.
• وظيفة الرقابة: و هي تعنى بحماية المجتمع و صيانته من الفساد و المخالفات و إساءة استخدام السلطة.
• وظيفة الإعلان و الترويج و التسويق.
• وظيفة تكوين الآراء و الاتجاهات لدى الجمهور.
و لقد تم التوصل إلى عدة نظريات إعلامية لتفسير العلاقة بين وسائل الإعلام و بين المجتمع, و سنسلط الضوء على نظريتين إعلاميتين تشرحان كيف يمكن استخدام وسائل الإعلام للتأثير على أفراد الجمهور في تبني القضايا و الاتجاهات و الأفكار التي يريدها القائم بالاتصال, و هذه النظريتين هما: نظرية ترتيب الأوليات, نظرية الغرس الثقافي.
1. نظرية ترتيب الأوليات (تحديد الأجندة)
بسبب اعتماد أفراد الجمهور على وسائل الإعلام, أصبحت وسائل الإعلام الجماهيرية و بالذات التلفزيون أهم الوسائل الإعلامية تأثيراً في تشكيل أفكار و آراء الجمهور, و بالتالي تؤثر حتى في تحديد أولويات الجمهور و فيما يظنه مهم أو غير مهم, و ذلك بالتركيز على موضوعات معينة أو التعتيم على موضوعات أخرى, مما يجعل الجمهور يتفاعل مع القضايا المثارة إعلامياً و يتناسى أو ينسى القضايا غير المثارة إعلامياً.
و هذا ما أثار اهتمام الباحث الإعلامي لازرفيلد في عام 1944 عندما بحث في قدرة قدرة وسائل الإعلام الجماهيرية على صياغة و تشكيل أولويات الناس تجاه القضايا المختلفة في المجتمع، بحيث أنه إذا تم التركيز على قضية معينة في الإعلام, فإنها ستحظى بنفس الإهتمام لدى الجمهور, و العكس صحيح.
بمعنى أنه إذا ركزت وسائل الإعلام على قضية معينة وأبرزتها فإن هذه القضية تكتسب نفس الأهمية لدى الجمهور, و هذا ما يعرف بنظرية "تحديد الأوليات" أو نظرية "تحديد الأجندة" Agenda Setting Theory و التي أثارها الباحثان الإعلاميان مكومبس، وشو.
و نظرية ترتيب الأوليات- تحديد الأجندة, كما يقول صالح خليل ابو اصبع (1999) تفيد بـ"وجود علاقة إيجابية بين ما تؤكده وسائل الإعلام في رسائلها, و بين ما يراه الجمهور هاماً. أي أن دور وسائل الإعلام يسهم في ترتيب الأوليوات عند الجمهور. و من ثم فإن وسائل الإعلام بهذا المعنى تقوم بمهمة تعليمية."
لقد أصبحت وسائل الإعلام الجماهيرية الرئيسة (الإذاعة, التلفزيون, الصحافة) هي الوسيط بين الأحداث و بين أفراد الجمهور, فهي تنقل الأخبار و المعلومات و الرأي و التفسير و التحليل, و هي بذلك تساهم في خلق "واقع اجتماعي" يعيش فيه أفراد الجمهور, و لذلك تبدو أي عملية تغيير في المنظومة الفكرية و الثقافية لدى الفرد غير ناجعة إذا لم توظف وسائل الإعلام التوظيف الصحيح.
فكرة النظرية أنه مثلما يحدد جدول الأعمال في أي لقاء ترتيب الموضوعات التي سوف تُناقش بناءً على أهميتها, و لذا فإن وسائل الإعلام لها جدول أعمالها الخاص التي تحدد الأهم و الأقل أهمية من الموضوعات و الأحداث.
الناس تتحدث في حياتها اليومية عن الموضوعات أو الأحداث التي تظهر في الوسائل الإعلامية, و بمجرد اختفاء هذه الأحداث من واجهة الصحف, مثلاً, فإن الناس سوف تنساها تدريجياً. هذه النظرية تهتم بدراسة العلاقة التبادلية بين وسائل الإعلام و الجماهير التي تتعرض لتلك الوسائل في تحديد أولويات القضايا السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية التي تهم المجتمع. كما تفترض النظرية أن وسائل الإعلام لا تستطيع تغطية جميع الموضوعات, لذا يختار القائمون على هذه الوسائل بعض الموضوعات التي يتم التركيز عليها بشدة و التحكم في طبيعتها و محتواها. و هذه الموضوعات تثير اهتمامات الناس تدريجياً, و تجعلهم يدركونها, و يفكرون فيها, و يقلقون بشأنها. و بالتالي تمثل هذه الموضوعات لدى الجماهير أهمية أكبر نسبياً من الموضوعات الأخرى التي لا تطرحها وسائل الإعلام. وسائل الإعلام هي التي توجه الاهتمام نحو قضايا بعينها, فهي التي تطرح الموضوعات, و تقترح ما الذي ينبغي أن يفكر فيه الأفراد باعتبارهم أعضاء في الحشد, و ما الذي ينبغي أن يعرفوه, و ما الذي ينبغي أن يشعروه به.
حين تقرر وسائل الإعلام تخصيص معظم الوقت و المساحة في التغطية الإخبارية لقضية ما, فإن هذه القضية سوف تكتسب أهمية قصوى لدى الجماهير التي تتعرض لتلك الوسائل.
و إذا ما أردنا أن نسقط هذه النظرية أو أن نوظفها في موضوع الإعاقة و قضايا الأشخاص المعاقين فإننا نستطيع القول بأن الاهتمام الزمني (في الإذاعي و التلفزيوني) أو المساحة (الصحف و المطبوعات) الذي توليه وسائل الإعلام في المجتمع لقضايا الإعاقة, فإنها ستجعل بقية أفراد المجتمع تهتم بهذا الموضوع و تتحدث عنه. و العكس صحيح أيضاً, فإنه عندما تهمل وسائل الإعلام إثارة قضايا المعاقين, أو لا تعطيها مساحة زمنية أو مكانية كافية, فإن اهتمام الجمهور يتلاشى و يختفي لقضايا المعاقين, و هذا ما يحدث في الواقع, حيث لا تهتم وسائل الإعلام كثيراً في قضايا المعاقين إلا عندما تكون هناك مناسبة معينة كيوم الإعاقة العالمي أو العربي, أو يكون هناك نشاط معين (كمؤتمر أو ملتقى حول الإعاقة), و بالتالي لا نستغرب كثيراً عندما نرى عزوف أفراد المجتمع عن الاهتمام بقضايا المعاقين.
2. نظرية الغرس (الإنماء) الثقافي Cultivation Theory
و هناك نظرية إعلامية أخرى تبدو مفيدة و نحن نتحدث هنا عن العلاقة بين الإعلام و الإعاقة, و هذه النظرية هي نظرية الغرس الثقافي Cultivation Theory و هي نظرية قدمها Gerbner et. al. كمنظور لدراسة أثر وسائل الإعلام. بدأ هذه النظرية الباحث الأمريكي جورج جربنر من خلال مشروعه الخاص بالمؤشرات الثقافية التي اهتمت بحوث المؤشرات الثقافية بثلاث قضايا متداخلة هي دراسة الهياكل و العمليات التي تؤثر على إنتاج الرسائل الإعلامية, و دراسة الرسائل و القيم و الصور الذهنية التي تعكسها وسائل الإعلام, و دراسة الإسهام المستقل للرسائل الجماهيرية على إدراك الجمهور للواقع الاجتماعي.
تنص النظرية على "أن مداومة التعرض للتلفزيون – ولفترات طويلة و منتظمة- تنمي لدى المشاهد اعتقاداً بأن العالم الذي يراه على شاشة التلفزيون, إنما هو صورة من العالم الواقعي الذي يحياه."
و تفترض النظرية أن الأشخاص الذين يشاهدون كميات ضخمة من البرامج التلفزيونية (كثيفو المشاهدة) يختلفون في إدراكهم للواقع الاجتماعي عن أولئك الذين يشاهدون كميات قليلة من البرامج أو لا يشاهدون (قليلو المشاهدة), ذلك أن كثيفي المشاهدة سيكون لديهم قدرة أكبر على إدراك الواقع المعاش بطريقة متسقة مع الصور الذهنية التي ينقلها عالم التلفزيون. و يرى واضعو النظرية أن وسائل الاتصال الجماهيرية تحدث آثاراً قوية على إدراك الناس للعالم الخارجي, خاصة هؤلاء الذين يتعرضون لتلك الوسائل لفترات طويلة و منتظمة.
و خلصت النظرية إلى أن الذين يشاهدون التلفزيون بكثافة Heavy Viewers فإنهم يعتقدون أن ما يشاهدونه من خلال التلفزيون من واقع و أحداث و شخصيات فإنها تكون مطابقة لما يحدث في الحقيقة و في الحياة. نظرية الغرس الثقافي تفيد بأن الأفراد كثيفي المشاهدة بانتظام يميلون إلى رؤية العالم كما يصوره التلفزيون مقارنة بغيرهم ممن هم قليلي المشاهدة, فالعرض المتكرر يشكل الآراء و يبني المواقف. كذلك المشاهدة المتكررة تخلق ثقافة موحدة للحقيقة و الاعتقادات التي توجد عليها الأشياء في العالم. و إذا أردنا أن نسقط هذه النظرية على الإعاقة و الأشخاص المعاقين, فإن الصور الذهنية و الواقع الاجتماعي التي تقدمه وسائل الإعلام (و خصوصاً التلفزيون) عن المعاقين, تجعل الجمهور سوف يؤمن بأن هذا هو الواقع الفعلي للمعاقين. فمثلاً, إذا كانت صورة المعاقين التي تعرضها الدراما العربية و الخليجية هي صورة سلبية و مشوهة بحيث يبدو المعاق كأنه عالة على غيره و لا يستطيع أن يفعل شيئاً و هو شخص منعزل عن الحياة, فإن مشاهدي التلفزيون عندما يشاهدون شخصاً معاقاً أمامهم في الحياة العامة فإنهم سوف يستحضرون تلك الصور الذهنية السلبية التي شاهدوها في التلفزيون و يبدءون يتعاملون مع هذا الشخص المعاق على هذا الأساس. و من تبدو مسألة توظيف الصور الإيجابية للأشخاص المعاقين مهمة لأنها تساهم في غرس صورة إيجابية لدى جمهور وسائل الإعلام و خاصة التلفزيون, و بالتالي يبدأ الجمهور يغير من نظرته السلبية للمعاق.