الأخبار
تنديد عربي واسع بتصريحات إسرائيلية تدعو لفرض السيادة على الضفة الغربيةبريطانيا تحظر منظمة "بالستاين أكشن" المناصرة لفلسطينوزارة الأوقاف بغزة توضّح بشأن نفاد القبور في معظم مناطق القطاعأميركا تدرس تسليح إسرائيل بقاذفات الشبح "B-2" في خطوة غير مسبوقةمفاوضات غزة.. واشنطن ستدعم التمديد بعد هدنة 60 يومًا في هذه الحالةوزير إسرائيلي: مؤشرات إيجابية على اختراق قريب في مفاوضات غزةسوريا: مقتل وإصابة مدنيين بانفجار صهريج وقود في حماةالحكومة الفلسطينية: جهود مستمرة لوقف العدوان والإفراج عن أموالنا المحتجزةتقنيات أمان البيتكوين: كيف تحافظ على أموالك؟تفاصيل مقتل جندي إسرائيلي وإصابة ثمانية آخرين بكمائن في حي الشجاعيةمن جديد.. نتنياهو يتعهّد بـ"القضاء" على حماس واستعادة الأسرىسويسرا تبدأ إجراءات لإغلاق مكتب "مؤسسة غزة الإنسانية" في جنيف(حماس): نجري مشاورات وطنية لمناقشة مقترحات الوسطاء بشأن وقف إطلاق النار بغزةارتفاع عدد الصحفيين المعتقلين إدارياً في سجون الاحتلال إلى 22غزة: 142 شهيداً و487 جريحاً وصلوا المستشفيات خلال 24 ساعة
2025/7/3
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

بين حبيبتين

تاريخ النشر : 2022-06-12
 ترجمة : حماد صبح
وصلت بعد أن سرت مسافة طويلة إلى نهر فوقه جسر؛ بالقرب منه فندق . دخلت الفندق وجلست عند منضدة قرب نافذة حيث أرى النهر واضحا وبداية الجسر . وكان يجلس أمامي شيخ جليل من أهل المنطقة يشرب من كأس ، ويمعن النظر في قاعها . وكان وجهه من تلك الوجوه المنشرحة التي يظن من يراها أنه يعرف أصحابها منذ زمن بعيد ، ويكلمهم دون تعريف ويفهم ما يقولون . وعرض علي الشرب ، ثم شرع يحدثني عن شبابه ، عن هذه القرية التي مر بها يوما ، وعن زورقه ، وعن الجسر الذي أراه ، وعن امرأتين . وبدأ بوصف نهر زمن شبابه ، فقال : هذا نهر هائم تستقي منه الأشجار والذباب والذئاب ، ويأتي من مكان قصي ، ويسبح فيه البط ، وفيه نبات أسل ، وكائنات تحمائية ( تحت مائية ) مثل السمك الأخضر الذي ينام في ضوء الشمس . وتابع حديثه مبتهجا بالزجاجة الموجودة فوق المنضدة قرب كأسه : كان نهري هذا هادئا . لم يتبدل كثيرا . شاطئاه تبدلا . لم يكن ، حين وصلت إليه ، فوقهما بيوت ، ولا قرية ، ولا جسر يربط بينهما . كان يومئذ وحيدا . لم يكن هنا سوانا وسوى أسرتين أخريين . كان أبي أول الواصلين ، فانجذب إليه ، وتنبأ بأن هذا المكان سيكون له يوما مستقبل ، فعبر النهر ، وصنع زورقا رماديا لينتقل فيه من شاطىء إلى آخر . وكبرت في ذاك الزورق . كان هو مهدي ، وكنت أنام في قعره ومقدم قبعتي فوق عيني ، وكنت أحيانا أنام والأغاني تغمر سمعي غمرا . وكنت حين أصحو ألبث ساعات مستلقيا على بطني فوق طرف الزورق ، فتتاح لي رؤية فسيحة المدى . كنت أنظر إلى الماء إذ يجري ، إلى السمك ، وأحيانا إلى دوامات الماء التي كنت أسميها عيون النهر . وكان الشاطئ الذي يقوم فيه بيتنا هو الشاطىء المأهول ؛ لأن القرية تقوم على بعد خمسة أميال من بيتنا ، وكان فيها كنيسة صغيرة ، وبقالة ، ومدرسة ريفية . وكنا وجيراننا نسكن البيوت الأخيرة ، وفي الشاطىء الآخر كان الساكنون الجدد ، وبنى فيه السيد بوليو ، الذي كان الناس يدعونه المولى بوليو تعظيما له ، بيته حيث يقوم بيتنا ، وكان أول زبائن أبي . وقد عبر النهر في زورقنا كل أيام وجوده صيفا . وقدم بعده بعض المستوطنين الذين كانوا يقطعون الخشب ، وهم الذين بنوا القرية حيث نحن هذا المساء . وأحسبك
تحب أن أكلمك عن المدرسة . دخلتها إلا أنني قبل أن أتعلم فيها الألفباء كنت أعرف الغابة وشاطىء النهر والزورق والنهر عن ظهر قلب . كنت أرقب فيها الشمس حين تغرب جالسا عند النافذة ، وكنت قادرا على الرجعة إلى بيتنا وحدي إلا أنني كنت دائما أتغدى فيها ، وأذهب إليها مشيا في بكور الصباح مع ماري . ماري ؟! من تلكم ماري ؟! كانت صبية تقاربني عمرا ، وابنة لإحدى الأسرتين اللتين كانتا تقطنان معنا على شاطىء النهر .ماري ؟! انظر هنا إلى قاع كأسي ! صحيح أنك لا تراها إلا أنني أراها فيه دائما . كنا دائما معا ، وكنا نحصب البط البري بالحجارة ، ونذهب باحثين عن الكرز وثمر العليق الأحمر ، وشكلت هي تيجانا من ورق الشجر في الخريف ، وجمعتُ لها حصا أبيض ؛ لأنني وجدتها ، ماري ، صبية حسناء .ورأيت مرة محارة في الرمل ، فأعطيتها نصفها ، وما فتئت أحتفظ بنصفي منها في صندوق عتيق في بيتنا ، ولدي أيضا بعض التذكارات من ذاك الزمن الجميل . وفي يومٍ بلغت من عمري الخامسة عشرة ، وصار أبي شيخا سيء الرؤية ، ففارقت المدرسة للحلول محله في العمل ، وكانت القرية المقابلة لنا اتسعت ، وصارت بيوتها كثيرة ، وشارع كبير ، ومسلخ ، وكنيسة صغيرة ، فوفر ذلك عملا جما للزورق ، وكنت أنا الذي أنقل العابرين فيه ، وكنت أحسن مهنتي لإحساني فهم حال زورقي ، وسميته اسما ، سميته ماري ، وكتبت الاسم على جنبيه . كتبت "ماري " بحروف بيض ، وحين يكون ماء النهر تيارا ترتفع أمواجه حتى الاسم معانقة له ، وحين يهدأ الجو ينعكس الاسم في الماء في كل الأنحاء . وبلغت العشرين مثلما بلغها سواي من الناس . وكان لماري شعر ينساب حتى ظهرها ، وكانت عيناها في لون ثمرة البندق .وكانت ممتلئة الجسد ، نشيطة رشيقة ، وكنت أنتظر أن أكبر شيئا لأتزوجها ، وعلمت نيتي ، فهيأت جهاز عرسها في هدوء بالتعاون مع أمها ، وشغلت بتهيئته كثيرا من الشابات لكون أسرتها أسرة كبيرة . وكانت في كل ربيع تتحفني بهدية ، أتعلم ما هيهْ ؟! سرادق صغير أبيض ، لمهْ ؟! لإقامته على شاطىء النهر الموازي فوق سارية ، والعادة أنه يظل ملفوفا ، أما إن أحب شخص عبور النهر فله أن يرفعه ، وكانت تلك علامة العبور . وإذا أردت أن أجعله يرفرف في الهواء أثب في الزورق وأعبر به . واستعملت سراديق كثيرة بيضا ، سرادقا كل سنة ، وكانت كلها من صنع ماري ، وأحتفظ في بيتنا بثلاثة أو أربعة قديمة منها في صندوقي . إنما لم أتزوج ماري ، وما كان ذلك برغبتي . قدمت فتاة أخرى إلى المنطقة وقصمت حياتي ! صنف من أهل الرقص يختلف عنا . ولم تتكلم كثيرا إلا أنها أضرمت النار في قلبي بعينيها السوداوين اللتين كانتا دائمتي البريق . ونظرا لكون المنطقة جديدة فإنها كانت تحوي كثيرا من أصناف الناس الزائرين لها . ممثلون من المدينة جاؤوا لعرض مسرحية أو ألعاب بهلوانية وسيركات صغيرة وألعاب رياضية . وفي يوم جميل ، قدمت إلى المنطقة عصبة من الغرباء ، وكان معهم قياثير ، وعيدان للعزف ، وثياب حمر وزرق من الحرير . وكانت تلك الفتاة معهم ، وكان لها ضفيرتان كبيرتان سوداوان مشدودتان على صدغيها بريشات صغار صُفر ، وكان اسمها جيان ، وأنا الذي نقلتهم في الزورق عصرا ، قبل تناول طعام العشاء ، قرب الساعة الخامسة ، وكنت لحظتها مع ماري على الشاطىء ، فقالت لي ناظرة إليهم : هؤلاء متشردون يا نيكولا ، متشردون ! سارع بنقلهم ! لا تنظر إليهم ! خطرون !
ثم تنحت بعيدا ، وهو ما لم أقدر عليه . كان لا مفر من أن أنقلهم . ولم تتكلم جيان إلا أنها ركزت علي نظراتها طول النقلة ، واقتربت مني بعد نزولها ، وأسرت لي متعالية على حذاء صغير من الحرير الأخضر : تعال ! سأرقص لك !
وما سبق لي أن نلت هذا الضرب من الدعوات ، فبهرتني دعوتها ، وكان أن عبرت النهر سرا ذياك المساء ، وكذبت على ماري حول سبب عبوري . وكان على الشاطىء خلق كثيرون ، وأنوار ، والجو جو بهجة ، وصدحت الموسيقا فوق سقف بيت مسطح ، وكانت جيان في المكان ، في وسط الناس ، ولم أعرفها سريعا لشعرها الذي كان يهفهف حول عنقها ، وكانت جعلت من يديها دائرة صغيرة فوق رأسها ، وانفصلت عن الناس جارية على أطراف قدميها مثبتة ذلك الشيء بعيدا عنهم .كانت دائمة النظر إلى ذات المكان ، إلى نقطة في السماء الزرقاء . كانت تنظر إلى سرادقي الأبيض الذي لبث منصوبا في الهواء منذ بدء الليلة الساهرة ، ولم يكف حذاؤها الأخضر عن الرجفان . ولبثتُ هناك في بلاهة متكئا على شجرة ‘ في يدي قبعتي ، لا أعرف أين أنا بالضبط . وقدمت إلي جيان بين رقصتين . سارت نحوي وثبا ، سارت جريا تقريبا . سارت إلي ، ورأيت بسمتها ، ففارقتني أعصابي بغتة حين رأيت محياها الصغير ، وشعرت بالسرور والارتياح ، وضحكت ، وكانت هي التي بادرتني بالكلام ، قالت :
رقصت لك !
_ عجبا ! شكرا كثيرا .
_ سأرقص إن شئت .
_ ما اسم الرقصة التي تنوينها ؟!
_ سرادق . مثل هذا السرادق العالي هناك .
_ تشبهين سرادقي . هذا حق .
_ شكرا .
_ هل سترقصين ؟!
_ اقترب لتحسين رؤيتك لرقصي !
_ لا . سأمكث هنا . أرى من مكاني حسنا .
_ لم لا تتقدم ؟!
_ السرادق مبني ليُرى من بعيد .
_ حالا سأرقص .
ورقصت ثانيةً ، كان لها ميسم ملاك ، ورقة غيمة ، أما أنا فتأملت في السماء ، وتوقف الحفل مع تقدم الليل ، ونفذت عدة نقلات سريعة بالزورق ازدحم خلالها بالراكبين . عملت دونما إحساس بالإعياء كأنما كان لي ساعدان من حديد ، وعلى كل حال كان الذين نقلتهم من المتشردين . وكانت كل الأنوار أطفئت . كنت في نهاية عملي ومعي جيان بين سواري الزورق ، ورفضت النزول حين بلغنا الشاطىء ، واختبأت داخل الزورق ، ولم يلحظها رفاقها
الذين استقلوا عربة ، وتابعوا سيرهم في سبيلهم صادحين بالغناء . وقعدت هي أمامي على صندوق ، وسألبث أتذكر عينيها في تلك الليلة . ألهبتا أحاسيسي إنما دون أيما أذية ، وقالت لي جيان إنها تشعر بالبرد ، ففتحت صندوقي ، واستخرجت كنزة الصوف الكبيرة السوداء التي كانت ماري حاكتها لي ، ودثرتها بها . وكانت الليلة صاحية ساكنة ، وبغتة سمعت جلبة من جهة بيتنا تشبه صوت خشبة تسقط في الماء ، فأصخت السمع ، وبصرت بشخص آتٍ سباحة ، فعرفت هويته حتى إذا صار على خمسين خطوة منا نادى اسمى مرتين ، ثم غاص في غور النهر . كان ماري ! أنقذتها بألمي وتعاستي إلا أنها ما آثرت الحياة . أجبرتها تقريبا عليها ، وأرسلتُ جيان المتشردة إلى جماعتها ، وأيقظت ماري تلك الليلة . كانت في حجرة أمها . لقد سعلت ، ومع مطلع الشمس صبحاً التفتت إلي . كان على مخدتها خيط صغير من الدم ، ورفعت إلي عينين تتهمانني ، فتألمت واضطررت للخروج ، وأذنت لها بانتظاري في الزورق ، ونمت بتأثير أشعة الشمس .ومضت الأيام . كنت محزونا ، كنت متضايقا . وطاردت خيال جيان دون فائدة . كانت لابثة في بالي .وكان تشافي ماري بطيئا إلا أنها كانت نحيلة العود ، شاحبة الوجه ، بل سارت شبه مريضة . ولما ارتفعت الشمس خرجتْ للتنزه على رمل الشاطىء . وجاءني صوتها بعد الظهيرة رقيقا ، فخجلت من النظر إليها .نادتني : نيكولا ! نيكولا !
_ نعم يا ماري .
_ سترقص هذه الليلة في قرية أخرى . تعال إليها إن كنت تشعر بالملل ! اذهب لتراها !
سيسرك هذا . تعال ! وبعد ذلك تعود .
ما كان أكثر راحة بالي ! وذهبت تلك الليلة ثانية إلى السهرة مستعيرا دراجة للذهاب .
وشاهدت جيان . كانت هنالك فوق السقف المسطح لابسة نفس ثوبها الأبيض . رقصت ثانية . السرادق نفس السرادق ، والموسيقا نفس الموسيقا ، والبوهيميون نفس البوهيميين ، وقال الناس إنهم سهروا نفس السهرة السالفة . واخترقتْ الجمهور بين رقصتين ، اخترقته جريا حتى لا يتسخ حذاؤها الأخضر ، وقصدتني ، وتأكدت من قصدها لي ، فبارحني ألمي كاملا ، وشعرت بالسعادة شعوري السابق بها لكونها ما نسيتني ، فصرختُ : جيان ! إنه أنا . حضرت ! حضرت !
فرفعت عينيها ، ورمقتني دون أن تنطق أيما كلمة كأنها ما رأتني ، وحنت رأسها ، وتابعت سبيلها ، فأتبعتها عيني ، وعادت إلى ظل شجرة حيث كان في انتظارها فتى آخر ، فغادرت جريا ، وعدت إلى بيتنا ، وبكيت في طريق العودة إلا أن كل شيء ولى . وجاءتني ماري تاليَ يوم وعلى شفتيها ابتسامة جميلة لمخلوقة مريضة إلا أنها سعيدة ، ولم أدرِ ماذا أفعل لها لتغفر لي ذنبي في حقها . سألتني : هل ستتحسن حالك يا نيكولا ؟!
_ نعم يا ماري . اركبي في الزورق لأهدهدك مثلما كنت سالفا . اركبي يا ماري لأدثرك بكنزتي الصوفية !
وكان على الشاطىء رجل يريد العبور ؛ معه حقيبة صغيرة ، فسمحت له بالصعود ، وبعد أن استقر وسط الزورق طلب مني في أدب إيقافه ، فأذعنت لطلبه ، ورأيته يخرج من حقيبته آلات معقدة ،وحسبته يريد التقاط صور إلا أن هذا ما كان مراده . كان مساحا حكوميا جاء لأخذ مقاييس النهر ، فسألته عن العلة ، فأجابني سائلا : ألا تعلمها ؟! نريد بناء جسر هنا !
جسر ! ولم أضف أي كلمة ، وأشاحت ماري بوجهها إشاحة كبيرة حتى لا ترى ذاك الغريب
. يريدون بناء جسر فوق نهري ؟! جسر للاستغناء عن زورقي ؟!
قلت : ماري ، يريدون بناء جسر ، سمعت ؟!
فلم تجبني ، وحسبتها تبكي .
وهنا تنتهي قصتي ، ألم تتعب من الاستماع إليها يا فتاي ؟! الجسر هو ما تراه هنالك . إنه ما استغني عني بسببه . أتدري ما أسميه ؟! أسميه جيان ؛ لأن له بأقواسه التي تسر الناظرين مظهر راقصة ، وله أنواره وملصقاته الإعلانية . وهناك سبب آخر ؛ لأنه لكل الناس باستثنائي أنا الذي لي جسر آخر . أين ماري ؟! ماتت ، ماتت فورا بعد استحمامها . ماتت سعيدة أيضا مبدية علامة على حبها لي . كرهتْ رؤية الجسر .لم تره . وماذا عن جسري الخاص ؟! مات هو الآخر وقت موتها . أحرقته لوحا لوحا ما عدا لوحا واحدا هو الذي كتبت عليه " ماري " . مازلت أحتفظ به . عرفت امرأتين إلا أنني لا أحتفظ إلا بذكرى واحدة منهما . إنها الزورق الرمادي الجميل ..
*الكاتب الفرنسي فيلكس لكلرك .
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف