الأخبار
غوتيريش: آخر شرايين البقاء على قيد الحياة بغزة تكاد تنقطعترامب وبوتين يبحثان الحرب في أوكرانيا والتطورات بالشرق الأوسطشهيد وثلاثة جرحى بغارة إسرائيلية استهدفت مركبة جنوب بيروتاستشهاد مواطن برصاص الاحتلال قرب مخيم نور شمس شرق طولكرمالشيخ يبحث مع وفد أوروبي وقف العدوان على غزة واعتداءات المستوطنيننحو صفقة ممكنة: قراءة في المقترح الأمريكي ومأزق الخياراتالكشف عن تفاصيل جديدة حول اتفاق غزة المرتقبمسؤولون إسرائيليون: نتنياهو يرغب بشدة في التوصل لصفقة تبادل "بأي ثمن"أخطاء شائعة خلال فصل الصيف تسبب التسمم الغذائيألبانيز: إسرائيل مسؤولة عن إحدى أقسى جرائم الإبادة بالتاريخ الحديثالقدس: الاحتلال يمهل 22 عائلة بإخلاء منازلها للسيطرة على أراضيهم في صور باهرقائد لا قياديعدالة تحت الطوارئ.. غرف توقيف جماعي بلا شهود ولا محامينارتفاع حصيلة شهداء حرب الإبادة الإسرائيلية إلى 57.130بعد أيام من زفافه.. وفاة نجم ليفربول ديوغو جوتا بحادث سير مروّع
2025/7/4
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

المرأة الغامضة ترجمة حماد صبح

تاريخ النشر : 2021-11-11
المرأة الغامضة 

ترجمة: حماد صبح
 
كنت ذات أصيل قاعدا على رصيف " مقهى السلام " أتأمل روعة حياة باريس وبؤسها ، وأتعجب إذ أحتسي خمر الفيرموت من المشهد الغريب للزهو والعسر الذي يجري تحت عيني ، وبغتة سمعت من يناديني باسمي ، فالتفت اللورد ورأيت جيرالد مورتشيسون الذي ما التقيته منذ أن كنا في الكلية ، أي قرابة عشر سنين ؛ لذا سررت لرؤيته من جديد ، وتصافحنا بحرارة ومودة . كنا في جامعة أكسفورد صديقين حميمين ، وأحببته حبا كبيرا . كان وسيم المحيا جدا، وعالي الهمة كثيرا ، وموفور الشرف ، وألفنا أن نقول عنه إنه من خير الرفاق . 

وهو وإن كان لا يقول الحقيقة دائما إلا أنني أؤمن أننا أعجبنا به لصراحته من بين سائر صفاته . ولاحظت أنه تبدل كثيرا . وبدا لي قلقا ومحيرا ، ومرتابا في أمر ما ، وشعرت أن الأمر ليس النزوع للشك الذي فشا في الحياة الحديثة ، فهو ، صديقي ، أشجع أعضاء حزب الأحرار ، ويؤمن بأسفار موسى الخمسة إيمانه بأعضاء مجلس النخبة ، ومن ثم رجحت أن علة ما به امرأة ، فسألته إن كان تزوج ، فأجابني : لا أفهم النساء فهما كافي الجودة.

فقلت : يا عزيزي جيرالد ! النساء في حاجة للحب لا للفهم .
فأجاب : لا أستطيع أن أحب حيث لا أثق .
فصحت : أحسب أن في حياتك سرا يا جيرالد ، حدثني عنه !
فقال : هيا نقم بنزهة ! المكان هنا كثير الازدحام . لا ، لن نركب عربة صفراء ، لنختر أي لون آخر ! انظر! تلك العربة الخضراء المائلة للسمرة تحقق مرادنا.

وبعد قليل كنا نهبط الشارع العريض صوب ماديلين .
سألته : إلى أين سنمضي ؟!
فأجاب : إلى أي مكان تريده . إلى المطعم في بوا . سنتعشى هنالك ، وستحدثني بكل شيء عن نفسك .
قلت : أريد أولا أن أسمع عنك . أبنْ لي سرك !

فأخرج من جيبه علبة مغربية صغيرة فضية المِغلاق ، وناولها لي ، ففتحتها ووجدت فيها صورة امرأة . كانت طويلة ورشيقة ، ونادرة الفتنة بعينيها النجلاوين الغامضتين ، وشعرها المسترسل الغدائر ، وبدت كأنها ذكية . وكانت تتدثر بنفيس الفراء.

سأل : ما قولك في هذا الوجه ؟! أهو حقيقي ؟!
فتفحصتها مترويا ، وبدا لي وجهها وجه صاحبة سر ما إلا أنني عجزت عن بيان ما إذا كان السر خيرا أو شرا . كان جمال وجهها جمالا منبثقا من غوامض جمة . إنه جمال نفسي لا مادي . وكانت الابتسامة الباهتة المتلاعبة عبر الشفتين من فرط اللطافة حتى ليستبعد رائيها أن تكون حلاوتها حلاوة حقيقية.

صاح بي نافد الأناة : حسنا ! ما قولك فيها ؟!
قلت : هي الجيوكندا بين الرمال . دعني أعرف كل شيء عنها !
قال : ليس الآن . بعد العشاء.

وراح يتحدث في أشياء مغايرة . وبعد أن جاءنا النادل بقهوتنا وسجائرنا ذكرت جيرالد بوعده لي ، فانبعث من مقعده ، وذرع الحجرة مرتين أو ثلاثا ، ثم غاص في مقعده ذي الذراع ، وروى لي القصة التالية ، قال : " كنت أتمشى ذات غروب شمس في شارع بوند قرابة الساعة الخامسة . ووقع تصادم مروع بين طائفة من العربات ، فانغلق الشارع تقريبا . كانت تقف لِصقَ رصيفه عربة برهام ( عربة صغيرة مغلقة . المترجم ) صفراء لفتت انتباهي لعلة ما . وحين مررت قربها أطل منها الوجه الذي أريتكه أصيل هذا اليوم ، فتيمني في اللحظة ، وبت طول تلك الليلة أفكر فيه ، وطول النهار التالي . وذرعت ذلك الشارع البائس ذاهبا جائيا أدقق النظر في كل عربة منتظرا رؤية العربة الصفراء إلا أنني ما وجدت مجهولتي الحسناء ، وفي الأخير خلتها محض حلم عرض لي . وعقب حوالي أسبوع كنت أتعشى صحبةَ السيدة دو روستيل . كان الوقت الثامنة إلا أننا لبثنا في حجرة الاستقبال حتى الثامنة والنصف . وأخيرا فتح الخادم الباب معلنا قدوم السيدة الروي . كانت المرأة التي أنقب عنها . ودلفت في أناة شبه شعاعة قمر متزينة بمشد رمادي ، ولفرط مسرتي طلبوا مني أن أقودها إلى حجرة الطعام.

وبعد قعودنا أبديت في براءة تامة ملاحظة ، قلت : أحسبني رأيتك يا سيدة الروي في وقت ماضٍ في شارع بوند !
فامتقع وجهها ، وقالت خفيضة الصوت : رجائي لا ترفع صوتك إلى هذا الحد ! قد يسمعك الآخرون في وضوح.

فشعرت بتعاسة للبداية المسرفة الرداءة التي صدرت عني ، وانهمكت غير جاد في الحديث عن المسرحيات الفرنسية . وقللت هي من كلامها ، ودائما كان في ذات الصوت الموسيقي الخفيض ، وبدا لي كأنها تخشى شخصا يستمع إليها . ووقعت في غرامها وقوع متدله متبله ، وهاج جو الغموض الرحب الذي دثرها أقوى فضولي حدة وشدة . وعند انصرافها بعد تناول العشاء بوقت وجيز سألتها إن كان ممكنا أن أتصل بها وأراها ثانية ، فترددت لحظة ، وتلفتت حولها لترى إن كان أحد يرانا ، ثم قالت : نعم . غدا في الخامسة إلا ربعا . ورجوت السيد دو راستيل أن تحدثني عنها إلا أن كل ما علمته منها أنها أرملة لها بيت بديع في منطقة بارك لين ، وشرعتْ مثل شخص علمي التفكير مضجر في خطبة طويلة عن الأرامل مقدمة أمثلة على كيفية ديمومة الحياة الزوجية المثلى ، وانصرفت بعد ما قالته إلى بيتي . وقصدت تالي يوم بارك لين في الموعد المحدد ضبطا إلا أن كبير الخدم أنبأني أن السيدة الروي خرجت قبل قليل ، فقصدت النادي تام التعاسة تام الحيرة . وبعد تفكير طويل كتبت إليها رسالة أسألها إن كان ممكنا أن أجرب حظي لزيارتها في أصيل يوم آخر ، فلم أتلقَ منها ردا عدة أيام ، وفي النهاية وصلت منها رسالة قصيرة تقول إنها ستكون في البيت يوم الأحد في الساعة الرابعة ، وذيلت رسالتها بهذه الحاشية المستغربة : " رجائي لا تكتب لي مرة تالية على هذا العنوان ! وسأشرح لك السبب حين ألتقيك . " . واستقبلتني يوم الأحد ، وكانت في كمال سحرها ، ورجتني آنَ مُنصَرَفي إن أتيح لي أن أكتب إليها ثانية أن أوجه رسالتي إلى : " السيدة نوكس . عناية مكتبة ويتاكر . جرين ستريت . " ، وأضافت : " هناك أسباب لعجزي عن تلقي رسائل في بيتي . " . ولقيتها كثيرا خلال الفصل دون أن يبارحها جو الغموض الذي كان يدثرها ، وخيل لي أنها تخضع لرجل معين إلا أنني ما صدقت تخيلي ؛ لأنها كانت لا يسهل الوصول إليها . والحق أنه كان من الشاق علي أن أنتهي إلى نتيجة في أمرها ؛ ذلك لأنها كانت تشبه تلك البلورات التي نراها في المتاحف والتي تبدو لنا حينا صافية وحين آخر غيماء . وفي النهاية عزمت أن أسألها أن تتزوجني ؛ إذ عييت وسئمت من السرية الموصولة التي فرضتها على كل زياراتي إليها ، وعلى الرسائل التي كتبتها إليها . فكتبت إليها في المكتبة أسألها إن كان ممكنا أن أراها الاثنين التالي في الساعة السادسة ، فأجابت بالموافقة ، فطرت حتى السماء السابعة ابتهاجا وأملا . لقد فتنت بها على غموضها الذي خلته حينئذ ، وبسببه مثلما أعي الآن . لا ! إنه هو المرأة التي أحببتها . أربكني غموضها ، خبلني ، لم رماني حظي في سبيله ؟!
صحت بجيرالد : إذن اكتشفته !

أجاب : أحسب هذا . احكم بنفسك ! وحين وافي يوم الاثنين ذهبت للغداء مع عمي ، وفي حوالي الرابعة وجدت نفسي في شارع ماري ليبون ، وتعلم أن عمي يسكن في ريجنت بارك . وأردت أن أذهب إلى بيكاديلي ، فقمت باختراق سريع خلال عدة شوارع زرية الحال ،وفجأة رأيت السيدة الروي في وجهي منقبة تنقيبا صفيقا وسريعة الخطا ، ولما انتهت إلى آخر منزل في الشارع ارتقت درجاته ، وأخرجت مفتاحا ودخلته . قلت لنفسي : "هنا السر" ،وعجلت وتفحصت المنزل ،فبدالي أنه مكان تأجير للساكنين ، ورأيت على عتبته منديلها الذي أوقعته ، فالتقطته وأودعته جيبي ، ثم فكرت في ما يجب أن أفعل ،وانتهيت إلى أنه لا حق لي في التجسس عليها ، فقصدت النادي ، وذهبت بعده في الساعة السادسة لرؤيتها ، فوجدتها منطرحة على أريكة لابسة مِبْذَلة قَعدة الشاي المعقودة ببعض حجارة القمر الزينية الشفيفة التي تلبسها دائما . كانت تامة الحلاوة . قالت : مسرورة تماما لرؤيتك . لم أخرج طول النهار.

فحملقت فيها مخطوف اللب ، وأخرجت المنديل من جيبي وقدمته إليها . قلت تام الهدوء : أسقطتِه في كمنور أصيل اليوم يا سيدة الروي.

فنظرت إليه منذعرة دون أن تحاول أخذه . سألتها : ماذا كنت تفعلين هنالك ؟!
فردت : أي حق لك في سؤالي ؟!
أجبت : حق رجل يحبك . جئت إليك أسألك الزواج مني .
فأخفت وجهها بين كفيها وانفجرت في دمع صبيب ، فتابعت كلامي : يجب أن تقولي لي رأيك .
فقامت ، وحدقت في وجهي مباشرة ،وقالت :لورد مورتشيسون ! ما من شيء أقوله لك .
فصرخت :ذهبت لمقابلة شخص ما . هذا هو سرك .
فشحب وجهها شحوبا حادا ، وقالت : ذهبت لغير مقابلة أحد .
فصرخت : ألا تقولين لي الحقيقة ؟!
قالت : قلتها .

فانخبلت ،انسعرت ، ولا أدري ما قلت لها عند ذاك إلا أنني متوثق أنني قلت أشياء مرعبة . وفي الختام هرولت خارجا من المنزل . وفي اليوم التالي كتبت إلي رسالة ، فأعدتها إليها دون أن أفتحها ، وسافرت إلى النرويح صحبةَ آلان كولفيل ، وعدت بعد شهر ، وكان أول نبأ قرأته في جريدة " مورننج بوست " نبأ وفاة السيدة الروي، وعلتها أنها أصابها برد في الأوبرا ، فتوفيت عقب خمسة أيام بداء ذات الرئة ، فأوصدت على نفسي بابي ولم أرَ أحدا . لقد أحببتها حبا موفورا ، أحببتها بجنون عاتٍ . رباه ! لشد ما أحببت تلك المرأة !
 
قلت : ذهبت إلى الشارع ، إلى المنزل القائم فيه ؟!
أجاب :نعم . ذهبت يوما إلى شارع كمنور . لم أستطع منع نفسي من الذهاب إليه . كان الشك يعذبني .دققت الباب ففتحته امرأة وقور السيما ، فسألتها إن كان لديها حجرات استقبال للتأجير ،
فأجابت : نعم يا سيدي . حجرات الاستقبال المفترض أنها مؤجرة إلا أنني ما رأيت السيدة المستأجرة منذ ثلاثة أشهر ، وما دامت مهيأة للاستئجار فيمكنك استئجارها .
قلت مبرزا الصورة : أهي هذه السيدة ؟!
صرخت :هي . مؤكد ، ومتى ستعود يا سيدي ؟!
أجبت : السيدة ماتت .
فقالت : أوه يا سيدي ! آمل لا . كانت أحسن مستأجر عندي . دفعت لي ثلاثة جنيهات أسبوعيا لمجرد أن تقعد في حجرات الاستقبال خاصتي بين وقت وآخر .
قلت : قابلتْ أحدا هنا ؟!
فأكدت لي أن الأمر ما كان كذلك ، وأنها كانت تأتي دائما منفردة ، وأنها لم ترَ معها أحدا .
صرخت : ماذا فعلت هنا إذن بحق الله ؟!
فأجابت : كانت ببساطة تقعد في حجرة الاستقبال يا سيدي ، وتقرأ الكتب ، وأحيانا تحتسي الشاي .
فلم أدرِ ماذا اقول ، وأعطيتها تذكارا وابتعدت . والآن ، ما معنى كل ذلك في رأيك ؟!
أتعتقد أن المرأة كانت تقول الحقيقة ؟!
_ أعتقد .
_ إذن لماذا ذهبت السيدة الروي إلى هنالك ؟!
أجبت : يا عزيزي جيرالد ! السيدة الروي كانت ببساطة مهووسة بالسرية ،وسكنت تلك الحجرات للتمتع بالذهاب إليها مسدلة النقاب متصورة أنها بطلة . كانت مهووسة بالسرية إلا أنها كانت شخصيا أبا الهول دون أي سر .
_ أهذا ما تعتقده حقا ؟!
أجبت :متأكد منه .
فأخرج العلبة المغربية وفتحها ، وتأمل الصورة ، وقال ختاما : إني لفي حيرة .
*الكاتب الإيرلندي أوسكار وايلد ( 1854 _ 1900 ) .
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف