صورة أرشيفية للكاتب
بقلم - د. سامي الكيلاني
لايعرف الكتابة-قصة قصيرة
مع اقترابه من طرف الشارع الرئيسي فيالجزء المؤدي إلى الساحة الرئيسية، إلى "الحارة" كما كان يسميها فيطفولته، وما زال الكثيرون يسمونها كذلك، يطالعه طيف الجالس على الكرسي الموضوع فيالزاوية الشمالية الشرقية من المساحة المسقوفة في مقدمة مطعم اليافاوي. ومع التقدميتضح الطيف عن جسم بملامح تتجلى شيئاً فشيئاً بحيث يستطيع أن يتعرف على هويةالجالس في هذه الزاوية. مع تمدد إقامته الجبرية، التي فرضها الاحتلال، في البلدةالصغيرة صار يعرف من الجالس على ذلك الكرسي من مسافة أبعد وأبعد. الآن يستطيع أنيعرف هوية الجالس على ذلك الكرسي بمجرد وضع قدمه على بداية انفتاح الشارع علىاستقامته عند ساحة وقوف سيارات الأجرة.
في هذا الوقت من النهار بين الضحىوالظهيرة، في أيام العمل، يكون المقعد محجوزاً للرجال الذين لا يعملون. تبرز صورةالواحد من الجالسين فتفتح الذكريات التي تعيد له صورهم أيام طفولته. يتذكر الواحدمنهم بصورة مهيبة كانت تجعله يراه في عين طفولته طويلاً أكثر وعريضاً أكثر، ويأمل أن يرىوالده يوماً يجلس على هذا الكرسي كواحد منهم، والده المزارع الدائم العمل الذي لاوقت لديه للجلوس في المقاهي. أبو صبحي كان أحد هؤلاء الرجال. يتذكر صورته القديمةبنظارته الطببية ويتذكر طريقة حديثه وقنبازه ومعطفه الثلثيني الذي تظهر من جيبهالصدري الخارجي ثلاثة أقلام، كان منظرها يترك في نفسه أثراً كبيراً، فيقول لنفسه"هذا رجل مهم وفهيم". ومنذ إقامته الجبرية في البلدة كان يمر بأبي صبحيعلى الكرسي ذاته فيطرح عليه السلام ويستمع للرد دون أن يسمع منه دعوة للجلوس كعادةالآخرين. وفي أغلب الأيام يجد أبو عدنان يجلس في مقعده عند جدار المبنى المقابلمستخدماً جدار المبنى مسنداً لظهره واضعاً ساقاً على ساق يدخن سجائره البلديةويحتسي كاسة الشاي الثقيل التي يحضرها صبي المطعم إلى حيث يجلس. يطرح عليه السلامويتلقى الرد مع دعوة يستجيب لها مسروراً، فيجلس معه ويتبادلان أحاديث كثيرة. الرجلالستيني لا يخاف من طرق أحاديث السياسة مع الشاب الثلاثيني الخاضع للإقامة الجبريةفي بلدته محروماً من الوصول إلى عمله في المدينة.
ما أن انعطف نحو ساحة موقف السياراتحتى تذكر ما حدثه به أبو عدنان قبل أسبوع. صارحه أبو عدنان عما دار بينه وبين أبيصبحي. قال له "الرجل يستغرب من جرأتي بالجلوس معك والحديث معك أمام الملأ،ويستغرب أكثر أنني أزيدها وأصرّ على دعوتك لنشرب الشاي معاً، إنه يعتقد أن أسداًبداخلي حتى أستطيع عمل ذلك"، وأضاف أن الرجل قال "أنه لولا الحراموالحلال فإنه يخاف أن يرد عليك السلام حين تمر عنه وتحييه". ضحك الشابالثلاثيني والرجل الستيني يومها طويلاً على الخوف الذي استوطن في قلوب أمثال أبيصبحي، وعلق الشاب تعليقاً مؤدلجاً على الحديث قبل أن يستأذن ليمضي في جولتهالصباحية في شوارع القرية، التي أصبحت سجنه منذ فرضت عليه الإقامة الجبرية فيها،"هذا هو الخطر الحقيقي أن نصل إلى الاعتقاد بأنهم يعرفون عنا حتى أنفاسناويستطيعون عدّها".
قطع ساحة سيارات الأجرة وظهرتالزاوية إياها، اتضحت الملامح. ملامح غريبة، أبو صبحي على الكرسي، إنه ما غيره.طيف الرجل الجالس على الكرسي لم يولّد صورة الهيبة المعتادة. الرجل الجالس علىالكرسي حاسر الرأس، بملابسه الداخلية الطويلة دون "القنباز" أو المعطفذي الأقلام الثلاثة. ما أن اقترب حتى رأى الرجل الجالس على الكرسي ينهض ويتركالكرسي وينزل إلى الشارع، يضرب الهواء بيديه بقوة طارداً عن رأسه أسراباً منالذباب والصمل ويركض هارباً. لا أحد من الجالسين على البسطة الاسمنتية للمقهىيتقدم لنجدته. الجالسون على البسطة الإسمنتية الشمالية للمقهى المقابل لا يأبهونبما يدور حولهم. أبو صبحي يفرّ باتجاه الجنوب وأسراب الذباب والصمل تلحق به ولاأحد ينهض عن كرسيه. اقترب من المكان، وأبو صبحي يكاد يختفي خلف الزاوية المؤديةإلى المسجد الكبير مع سحابة الذباب والصمل التي تكبر من خلفه. أبو عدنان يجلسمسنداً ظهره إلى الحائط كالمعتاد والصينية التي تعلوها كاسة الشاي الثقيل أمامهوالسيجارة بيده غير عابئ بالمنظر.
في منتصف الساحة رأى معطفاً مغبراًملقى على الأرض، تقدم ورفع المعطف الفاخر، سحب الأقلام من الجيب الخارجي، تفاجأ،كانت أغطية أقلام ليس إلاّ.
لايعرف الكتابة-قصة قصيرة
مع اقترابه من طرف الشارع الرئيسي فيالجزء المؤدي إلى الساحة الرئيسية، إلى "الحارة" كما كان يسميها فيطفولته، وما زال الكثيرون يسمونها كذلك، يطالعه طيف الجالس على الكرسي الموضوع فيالزاوية الشمالية الشرقية من المساحة المسقوفة في مقدمة مطعم اليافاوي. ومع التقدميتضح الطيف عن جسم بملامح تتجلى شيئاً فشيئاً بحيث يستطيع أن يتعرف على هويةالجالس في هذه الزاوية. مع تمدد إقامته الجبرية، التي فرضها الاحتلال، في البلدةالصغيرة صار يعرف من الجالس على ذلك الكرسي من مسافة أبعد وأبعد. الآن يستطيع أنيعرف هوية الجالس على ذلك الكرسي بمجرد وضع قدمه على بداية انفتاح الشارع علىاستقامته عند ساحة وقوف سيارات الأجرة.
في هذا الوقت من النهار بين الضحىوالظهيرة، في أيام العمل، يكون المقعد محجوزاً للرجال الذين لا يعملون. تبرز صورةالواحد من الجالسين فتفتح الذكريات التي تعيد له صورهم أيام طفولته. يتذكر الواحدمنهم بصورة مهيبة كانت تجعله يراه في عين طفولته طويلاً أكثر وعريضاً أكثر، ويأمل أن يرىوالده يوماً يجلس على هذا الكرسي كواحد منهم، والده المزارع الدائم العمل الذي لاوقت لديه للجلوس في المقاهي. أبو صبحي كان أحد هؤلاء الرجال. يتذكر صورته القديمةبنظارته الطببية ويتذكر طريقة حديثه وقنبازه ومعطفه الثلثيني الذي تظهر من جيبهالصدري الخارجي ثلاثة أقلام، كان منظرها يترك في نفسه أثراً كبيراً، فيقول لنفسه"هذا رجل مهم وفهيم". ومنذ إقامته الجبرية في البلدة كان يمر بأبي صبحيعلى الكرسي ذاته فيطرح عليه السلام ويستمع للرد دون أن يسمع منه دعوة للجلوس كعادةالآخرين. وفي أغلب الأيام يجد أبو عدنان يجلس في مقعده عند جدار المبنى المقابلمستخدماً جدار المبنى مسنداً لظهره واضعاً ساقاً على ساق يدخن سجائره البلديةويحتسي كاسة الشاي الثقيل التي يحضرها صبي المطعم إلى حيث يجلس. يطرح عليه السلامويتلقى الرد مع دعوة يستجيب لها مسروراً، فيجلس معه ويتبادلان أحاديث كثيرة. الرجلالستيني لا يخاف من طرق أحاديث السياسة مع الشاب الثلاثيني الخاضع للإقامة الجبريةفي بلدته محروماً من الوصول إلى عمله في المدينة.
ما أن انعطف نحو ساحة موقف السياراتحتى تذكر ما حدثه به أبو عدنان قبل أسبوع. صارحه أبو عدنان عما دار بينه وبين أبيصبحي. قال له "الرجل يستغرب من جرأتي بالجلوس معك والحديث معك أمام الملأ،ويستغرب أكثر أنني أزيدها وأصرّ على دعوتك لنشرب الشاي معاً، إنه يعتقد أن أسداًبداخلي حتى أستطيع عمل ذلك"، وأضاف أن الرجل قال "أنه لولا الحراموالحلال فإنه يخاف أن يرد عليك السلام حين تمر عنه وتحييه". ضحك الشابالثلاثيني والرجل الستيني يومها طويلاً على الخوف الذي استوطن في قلوب أمثال أبيصبحي، وعلق الشاب تعليقاً مؤدلجاً على الحديث قبل أن يستأذن ليمضي في جولتهالصباحية في شوارع القرية، التي أصبحت سجنه منذ فرضت عليه الإقامة الجبرية فيها،"هذا هو الخطر الحقيقي أن نصل إلى الاعتقاد بأنهم يعرفون عنا حتى أنفاسناويستطيعون عدّها".
قطع ساحة سيارات الأجرة وظهرتالزاوية إياها، اتضحت الملامح. ملامح غريبة، أبو صبحي على الكرسي، إنه ما غيره.طيف الرجل الجالس على الكرسي لم يولّد صورة الهيبة المعتادة. الرجل الجالس علىالكرسي حاسر الرأس، بملابسه الداخلية الطويلة دون "القنباز" أو المعطفذي الأقلام الثلاثة. ما أن اقترب حتى رأى الرجل الجالس على الكرسي ينهض ويتركالكرسي وينزل إلى الشارع، يضرب الهواء بيديه بقوة طارداً عن رأسه أسراباً منالذباب والصمل ويركض هارباً. لا أحد من الجالسين على البسطة الاسمنتية للمقهىيتقدم لنجدته. الجالسون على البسطة الإسمنتية الشمالية للمقهى المقابل لا يأبهونبما يدور حولهم. أبو صبحي يفرّ باتجاه الجنوب وأسراب الذباب والصمل تلحق به ولاأحد ينهض عن كرسيه. اقترب من المكان، وأبو صبحي يكاد يختفي خلف الزاوية المؤديةإلى المسجد الكبير مع سحابة الذباب والصمل التي تكبر من خلفه. أبو عدنان يجلسمسنداً ظهره إلى الحائط كالمعتاد والصينية التي تعلوها كاسة الشاي الثقيل أمامهوالسيجارة بيده غير عابئ بالمنظر.
في منتصف الساحة رأى معطفاً مغبراًملقى على الأرض، تقدم ورفع المعطف الفاخر، سحب الأقلام من الجيب الخارجي، تفاجأ،كانت أغطية أقلام ليس إلاّ.