بقلم - هبة الله عبد الباقي مراد
الخامسة فجرًا استيقظت من فزعي اتصبَّب عرقًا وضعتُ يدي على قلبي فتحسَّسته يبكي، أقلبُ أحدٍ يبكي؟نعم فقلبي من شدَّة الشوق قد نحِب كأمٍّ ثكلى كانت ترضعُ بكرُها فمات على صدرها ..شاردةً بعدم الغرفة المظلمة جاهلةً المكان الذي استيقظتُ فيه !أين أنا ؟
وضعت يدي على صدري فلم أشعُر بثقلٍ عليه، فنظرت بسرعة لجانبي لم أرى والدتي، فتذكَّرتُ الحُلم الذي جعلني استيقظ .كانت أمِّي منسدحة الفراش وبجانبها كنتُ مُلقية رأسها على قدمي أُداعب خصلات شعرها الأسود كاللَّيل، أتأمَّلُ عينيها الكبيرتين النَّاعستين، أعدُّ النُّجوم التي في وجهها الأبيض الشَّاحب يا سُبحان من خلقها بتلك الهيئة الملائكيَّة، وأتحسَّسُ النُّقش الغريب الذي في خدِّها الأيسر كان على شكل وردة مذُّ أن خُلقت وأنا في كل مرة أخاطب أمِّي فيها أنسى ما كنت أتكلَّم به وأشردُ في تلك الوردة وأقبِّلها بترويٍّ عليها وأتلمَّسُها برؤوس أصابعي ظنًّا مني كي لا يميل غصنُها، وعند وضوءها أُسرع إليها قبل أن يجفَّ الماء فأبلِّلُ يدي من قطرات الماء التي على جبين أمي وبيديها وأعيد لمس الوردة كي اسقيها من ذاك الماء الطَّاهر الذي يتساقط من أمّي.لم أشعر إلاَّ وبكفّْ يدها يضمُّ يدي بحنيَّةٍ وتقربّْه من ثغرها الأشبهُ بحبَّتي فراولة لتقبِّلها يا إلاهي كم أعشقها حين تقبِّلني. فارتخت يدها نظرت لعينيها رأيتهما تكادا أن تغلقا، أمسكتُ بها بذعرٍ كبير .وإذ بي أصرخُ من حُرقتي :أمِّي! جميلتي انظري لي وامسكي يدي من جديد ها هما يداي هيا امسكي بهما.لم تمسكهما فقرَّبت وجهي منها هامسةً:قبِّيليني أرجوكِ أروي خدودي بقبلاتك، ألم تُحبِّي خدِّي ؟
إذًا فلتقبِّلي رأسي كما كنتِ تفعلي وأنا صغيرة .ولكن أرجوكِ لا ترحلي، أنا بدونك أضيع أُقسِم بمن أخذ ربُّ بيتنا من قبل أنِّي سأدفُن حيَّة إن تركتني .كنتُ أصارخُ بصوتٍ أقرب للنَّحيب الممزوج بالخوف. نظرت لي بوهن ورفعت كفَّ يدها المُتعب لتُمسِك بيدي، فخانتها قوَّتها .
أمسكتُ أنا بهما وضمُمتها لصدري بقوَّةٍ أردتُ أن أدخلها لقلبي وأخبِّئُها بين ضلوعي كي لا ترحل ودموعي تنهمرُ على وجهها لم أرِد جعلها تراني أبكي فهي تكره أن تراني هكذا، فوالله كنتُ أبكي بصمتٍ ولكن لم استطع مسك دمعتي الخائنة تلك فابتسمت لي .خاطبتُها بتيهٍ :_نور عيني ألا تريدين البقاء ؟
أومأت رأسها بالنَّفي، فزادت شهقاتي _عاودت السُّؤال بصياغةٍ أخرى:صديقتي وأختي وأخي وأبي وكلُّ عائلتي يا نور العين أستترُكيني أعافرُ بالحياة لوحدي ؟حبًّا بالله أجيبيني ولا تصبِّ الزَّيت فوق نار قلبي !ابتسمت، وأومأت بالنَّفي عدَّة مرَّات..
فزارني الارتياح قليلًا ..لأكمل ..إذًا يا فلذَّةُ الكَبدِ وعمري وروحي لما تفعلين هكذا ؟ألتعذيبي ؟
أم لتمتحينينني إن كنتُ أحبُّك؟أعلم أن هذا امتحانٌ لي، فاطمئنِّي أحبُّك فوق حب العالمين حبًّا، وأهيمُ بكِ كهُيام الرَّسول بربِّه، وبأضعاف عشقِ زُليخة ليوسُف .يا نور قلبي لا تتركيني إن رحلتِ من سيضيءُ لي ظُلمتي ؟
"فمن لم يجعل الله لهُ نورًا فما له من نور" إن لم تكُنِ لي النور فما لي من نور .نظرت لعيني بنظراتٍ أردتُ تقبيلها كي أُسكتَ جوعَ قلبي وأجابتني بطلاقة: فليغمُركِ اللهُ عليكِ برضاه، أُحبُّكِ مدلَّلتي الصَّغيرة، ولكن أُحبُّ والدك وأريدُ أن التقيه .بابتسامتها الشَّاحبة ضممتُها بقوّةٍ وقبَّلتُ يديها وبغزارة أمطاري دعيتُ ربِّي ألَّا يفقدني نظر عيني وملجأي وطمأنينتي وكلُّ قوَّتي ..استرقتُ النّظر للنافذة فرأيتُ بصيص ضوء فعلمتُ أنها قد أصبحت الساعة السَّادسة وأنَّني عدتُ لليقظة، فما أقسى الواقع ..بكيتُ لضعفي وقلَّة حيلتي، فلم أستطع أن أشدَّ بضمِّها أكثر كي أُخرجها معي من الحُلم ..جُننتُ على فراقك يا زهرة القلب ونور العين ..عودي لأُشبع عينيَّ منكِ، فلتعودي وتزمِّيليني يا غصَّة العمر ..