بقلم - سفيان الجنيدي
غريب والذي كان آنذاك يبلغ عشرين عاما حين انقلبت حياته رأسا على عقب لتبدأ المحطة الاخيرة والاصعب في اغتيال روحه وآدميته. أطبقت عليه الهموم والاشجان ووقع فريسة الهواجس والنوبات العصبية المتكرره والتي اقضت مضجعه بعد سلسلة من الاخفاقات توجت برفض ابنة خاله حياة الارتباط به.
غريب ذلك الشاب ،الخجول، واسع الخيال، الحالم، الانطوائي والذي اصبح يزداد عزلة وانطوائية شيئا فشيئا و بدأ يستغرق جل وقته شارد الذهن، متأملا رتابة الحياة في قريته التي يحب أن يزورها ولكن لا يحبذ قضاء جل عمره فيها، قدري أن أعيش بين اناس تجاربهم ضحلة لا يعرفون من الدنيا الا عرف الديك الذي راه الضرير حين أبصر هنيهة ثم عاد سيرته الاولى ، اجد نفسي غريبا ، تائها ، ممزق بين عالمين، عالم اعيشه وأمقته، وعالم أصارع من اجل العيش فيه وليس لي اليه سبيلا، وكان دائم الترديد لبيت الشعر ما انا بالعيش فيهم وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر، توالت الايام و غريب عاكفا في محرابه، لا يشغل باله الا كيفية الخروج من القرية والانطلاق إلى فضاء اوسع ، اجد نفسي حصانا اصيلا جامحا مكبلا، كم اتوق للعيش في حيفا، مدينة كبيرة، تدب فيها الحياة على مدار الساعة، فيها اجناس من كل اصقاع الدنيا، اليوم فيها عن سنه بالقرية، ليتنا نستطيع أن نختار اقدارنا، ولكن إذا لم يكن بوسعنا أن نختار أقدارنا، فعلينا أن نغيرها و أن نصنع اقدار جديدة، نعم هي حيفا التي اجد فيها نفسي وكينونتي ، وبعدين حيفا ليست بعيدة عن القيرة،يا دوب ٢٣ كيلومتر، يعني متى ما حبيت ازور اهلي وخلاني، سويعات مشيا على الاقدام وبكون في القيرة، إن شاء الله ع موسم الحصاد بدي اتوكل ع الله و اروح ع حيفا و أستقر فيها ، كلها شهرين إن شاء الله و بخلص من القرية وحياتها المملة، لكن اللي مزعجني الكوابيس والتي اصبحت تغتال نومي بشكل يومي، كل يوم بتكرر نفس الكابوس مع زيادة تفاصيل أكثر إيلاما وجلدا للروح، ارآني اسقط في هوة ليس لها مستقر، احاول أن اخرج لكن دون جدوى، اناجي اشقائي لكنهم لا يأبهون ويمضوا دون أن يمدوا لي يد المساعدة، والانكى من ذلك والدتي واشقائي واللي صاروا ع الرايحة والجاية يؤذوا مسامعي بملاحظات و استفسارات وأسئلة تزيدني هما فوق همي، والله وضعك يا غريب ما بطمن، معظم وقتك سرحان، صرت تدخن كثير، و طول الوقت بتحكي مع حالك، ناهيك عن صراخك اللي بصحينا من النوم كل يوم، بصراحة احنا صرنا خايفين عليك و قررنا نعرضك على طبيب المستوصف الانجليزي، يعني مش خسرانين اشي، منها بنتطمن على صحتك، ومن جهة ثانية بتطلع و بتروح ع نفسك، وانت بتحب انك تروح ع حيفا، شو رأيك؟ لم يفكرغريب في الامر مليا و ابدى موافقته ع الفور، مش غلط يوم بره القرية، بنشوف فيه وجه ربنا ولعلى الله أنه يفتح علي واتعرف ع ناس يمدوا لي ايد العون لم اروح اعيش في حيفا، وبالمرة بخلص من نق اهلي، يعني رحلة اجت لا ع البال ولا ع الخاطر. توكلنا ع الله، و متى النية إن شاء الله؟ بعد بكرة بمشيئة الله.
عرضوا غريب ع الاطباء الانجليز والذين افادوا بأنه يعاني من بعض الضغوطات النفسية والتي ستزول مع قادم الايام، الظاهر انه ابنكم تعرض لصدمة نفسية حادة، حالته مش صعبة لكن عليكم أن تصبروا وألا تستعجلوا شفائه، المسألة تحتاج لبعض الوقت لكن عليه أن يخالط الناس و الا يجهد نفسه، واطمأنوا حالته ستسقر، لا يوجد ما يثير القلق والصخب.
توالت الايام وغريب يزداد انطواء و عزلة، واصبح يلتهم الدخان التهاما، و ازداد صراخه حدة بفعل الكوابيس ، واضحى قليل الطعام، قليل النوم، مكفهر الوجه، شاحبا، يمضي جل الليل ذهابا وجيئة، لا ينام حتى تنهار قواه ويمسي لا يقوى على المشي.
اجتمع جميع افراد الاسرة، واخذوا يناقشون وضع ابنهم الصحي والذي يزداد تدهورا يوم بعد يوم، وألقي في روعهم انه اما أن يكون مسحورا او ممسوسا ! قرروا أن يعرضوه على الشيخ تقي الدين في جنين، لم يتاونوا في ذلك وحطوا رحالهم في حضرة الشيخ تقي الدين والذي افاد بأن غريب قد تعرض لمس سفلي، طمأنهم أنه سيشفى بإذن الله إذا تقيدوا بتوصياته على اكمل وجه، أعطاهم بعض وريقات خطها بكلمات غير مفهومة وأوصى أن يذيبوا الوريقات، خاتم العلاج ، بماء وبعد ذلك عليهم أن ينجموا الخليط حتى يستحم به الغريب قبل شروق الشمس، وأوصى بتكرار هذا العلاج لمدة اربعين يوما، و طلب منهم تحديد إقامة غريب بغرفة منعزله على الاخرين وشدد على ضرورة الا يخالط او أن يكلم الناس لمدة اربعين يوما، وطلب منهم أن يناولوه الطعام من نافذة دون أن يكلموه البته، واعاد على مسامعهم توصياته مع ضرورة أن يعيدوا العلاج من البداية ولمدة اربعين يوما في حالة عدم الامتثال لأي من توصياته، مرة أخرى ديروا بالكم حدا يكلمه، وإذا وقع المحضور،لا سمح الله، فيتوجب عليكم البدء في العلاج مرة أخرى ولمدة أربعين يوما،إحتياطا لأي طارئ، أنا راح اعطيكم خاتم العلاج احتفظوا فيه واستخدموه إذا وقع المحظور.
تهللت اسارير افراد العائلة وايقنوا أن مسألة شفاء غريب باتت مسألة وقت ليس إلا، فكرمات الشيخ تقي الدين يتغنى فيها القاصي والداني، وتأكيده أن الشفاء حاصل لا محالة اجلى الهموم عن صدورهم، رجعوا الى القرية والامل يعلو محياهم وفي المساء زارهم الحاج خالد ولفيف من رجالات القرية للاطمئنان والوقوف على حالة غريب الصحية، بدأ أشقاء غريب بتذكير ضيوفهم بكرامات الشيخ تقي الدين وأيد معظم الحاضرين تلك الكرامات، وبدأ أشقاء الغريب بإفادة الحضور بوصفة علاج شقيقهم والفرح يكتسي وجوههم، وقعت كلماتهم كالرعد على مسامع الحاح خالد والذي حاول مرارا وتكرارا أن يكبح سيل سورات غضبه وحنقه قبل أن ينفجر في مخاطبة جميع الحضور والذين اطرقوا مسامعهم طربا لوصفة العلاج والتفاؤل عنوان وجوههم ، يا جماعة الخير وحدوا الله، شو هذا الكلام والذي لا يعدوا عن كونه ترهات و خزعبلات، يا ولاد الحلال، الكل عارف في قرارته أنه غريب تعرض لصدمة عاطفيه، ناهيكم عن ان شخصية غريب انطوائيه بعض الشئ، والرجل حالم و خياله واسع، بالاضافة إلى أن حياة القرية لا تروق له ولا يجد نفسه فيها، يعني مشكلة الغريب عرضية وبدها شوية وقت، وكنت اشرت عليكم آنفا أن تسهلوا له طريقا إلى حيفا فتغير المكان سيطفئ وقود خيبته العاطفية، ومن جهة ثانية سنحقق له رغبته في العيش في مكان يحبه ويتلائم مع شخصيته الطموحه، قاطع عيسى شقيق غريب الاكبر، الشيخ خالد مستنكرا عليه قدحه و ذمه للشيخ تقي الدين، يا حاج خالد الله يرحم والديك، والله احنا عارفين انك خايف ع الغريب وانك ذو رأي وعلم، بس هاي المرة لم تصب كبد الحقيقة، يا حاج خالد بتعرف إنا جربنا الطب الشعبي، وعرضنا الغريب ع الاطباء الانجليز بس للأسف ظلت حالة الولد تزيد سوءا، بعدين إحنا شو خسرانين! وما في حدا بالبلاد كلها إلا وحكى عن بركات الشيخ وكراماته، والكل حكى أنه عالج حالات اكثرسوءا من حالة الغريب، يا بن الحلال الناس واقفة طوابير باب بيته، والله قعدنا يومين نستنى لحتى اجى دورنا، وما تزعل مني يا حاج خالد، هذه مش خزعبلات وكلام فاضي، هذه هبة وبركة من الله ، الله يبارك فيها وبصاحبها، عاجله الحاج خالد قبل أن يستطرد بكلامه، لا ورب العزة هذه نقمة من الله، بل هذا تعدي سافر على الدين والعقل والكون ونواميسه وسننه و ضوابطه، وبعدين يومين وانتم تنتظروا دوركم، هذا انما يدلل على مدى تفشي الخرافة والخزعبلات في الامة، جهل مطبق مدفوع الاجر، لا حول ولاقوة الا بالله.
يا حاج خالد، اذكر الله، شو هذا الكلام اللي بتحكي فيه، هذا كمان شوي بدك تطلعنا من الدين، يا حاج خالد الغريق بتمسك بقشة، وعلاج الشيخ تقي الدين مش قشة، هذه سفينة النجاة، إن شاء الله، اللي ربنا بعثها لابنا. حوقل الحاج خالد وأسهب في نقاشه مع آذان صماء وعقول مأفونة بقدسية الموروثات والخزعبلات والخرافات، والله يا جماعة الخير ما هذا الا جريمة نكراء ولا يمكن تبريرها أو إيجاد أي مسوغ لها، يا جماعة الخير، أنتم، بفعلتكم هذه، تحجبوا العقل و تحجروا عليه و تنكصوا به الى عصور ما قبل التاريخ. أبدى الحضور استيائهم من كلام الحاج خالد والذي استلب نشوتهم و سفه أحلامهم.
أطرق الحاج خالد في التفكير وجال في خاطره الجهل المطبق على ابناء القرية والامة بأسرها و دعا ربه أن ينير بصائرهم وأن يردهم الى العقل والحكمة. الظاهر أن الصراع بين العقل و الموروثات القبلية مستمر ما دام الانسان يحتل كوكب الارض، وكلي يقين أن الخرافة و الموروثات القبلية ليست مقتصرة على امة دون سواها، فغالبية العرق البشري يعتبر، بدرجات متفاوتة، الخرافة و الموروثات القبلية دستورا يحتذى به بالرغم من التطور والقفزات التي حققتها البشرية في سبر اغوار الكون.
لم يفلح أي من الفريقين في إقناع النقيض بوجهة نظره، وعاد كل منهما الى سابق عهده وحياته، وفي اليوم التالي بدأت عائلة الغريب بعلاجه متقيدة بتعليمات الشيخ تقي الدين ذائع الصيت والكرامات.
إستمرت العائلة بتنجيم خليط الماء بعد أن يذيبوا فيه الوريقات والتي مهرها الشيخ بخاتم التخلص من المس ( حسب زعمه) وقبل شروق الشمس يدخلونها على الغريب حتى يستحم بها، ولضمان إستحمامه، كانوا ينتظروا حتى يفرغ من الاستحمام، وإذا تمنع قاموا هم بأنفسهم بسكب الخليط عليه ، وخلال اليوم يدخلون له وجبات الطعام صباحا، عصرا ، مساء، تقيدوا بتعليمات الشيخ وبتوصياته، فكانوا يدخلون الخليط والملابس والطعام دون أن ينبس أي منهم ببنت شفة، إستمرت رحلة شقاء الغريب واغتيال روحه وآدميته حتى وقع المحظور في اليوم الخامس والعشرين من رحلة الاغتيال، حيث خلت الدار من كل قاطنيها الا من شفيقة شقيقتهم الصغرى، الفتاة ذات الخمس عشر ربيعا، إنتهز الغريب فرصة غياب جميع افراد العائلة، اخذت الافكار ترسم البهجة على وجهه الشاحب النحيل، ها قد حانت ساعة خلاصي من هذا العذاب و الجنون، لا بد أن استعيد اغلى ما املك روحي و حريتي، أطلق خياله للعنان ورأى نفسه حرا طليقا مستلقيا على سحابة، بدأ بملاطفة شفيقة واخذ يستدرجها بلين الكلام و يستعطفها ويستنجد بها، شايفة يا عزيزة كيف بيعملوا بي، مش حرام هذا اللي بصير! يعني الله بيقبل انهم يسجونني! يا خوي والله بدهم يعالجوك، والله قلوبنا بتتقطع عليك، استمر بإثارة عاطفتها بصوته المتهدج الاسيف، وبدأ بترغيبها بإصطحابها إلى مدينة حيفا، وبدأ يغريها بمعسول الكلام، بتعرفي راح اشتريلك احلى ملابس في حيفا، وراح اصطحبك الى الهادار، والله لاخليك تقضي احلى يوم بحياتك، لم يدخر جهدا في إقناعها بانه لا يود الخروج بل اكثر ما يطمح إليه رؤية الفضاء الفسيح والاستئناس برؤية المارة، بدأت محاولاته تأتي اكلها، بدأت شفيقة تجنح لرغبة اخيها بعد أن غلبت عليها العاطفة، طيب مثل ما بدك يا خوي، بس الله يخليك ما تحكي إني فتحت الباب والله ببهدولوني وبيقلوا قيمتي، ما تخافي ما راح اجيب سيرة، وما أن شرعت بفتح الباب، حتى دفعهما بحنق وانطلق بعنفوان فرس جامح، سهم غادر كنانته و لا يمكن لأي قوة على وجه الارض أن تصده او أن تمنعه أن يدرك غايته، الحرية ولا شئ دونها، إندفع كثور هائج لا يرى في الافق إلا الرايات الحمراء، اخذ يعدو ويسابق الريح ويحاول أن يصطاد السحاب، لم يأبه للحظة لجمال الطبيعة وللاخرين، كل ما كان يدور في خلده أن يظل يعدو ويعدو، وجد ضالته وحريته في أن ينتصر على المكان والزمان، حاول اشقاءه و رجالات القرية أن يتعقبوه ولكن دون جدوى، كانت طاقته وإلتهامه للحرية تزداد كلما عدا اكثر، فرغ في عدوه جميع آلامه،حسراته، طاقته الكامنه وشغفه للحياة.
لم يفلح اشقاءه في كبح هيجانه، مندهشين،مصعوقين،متأوهين ،ضاربين كفا بكف ، مرددين، لا حول ولا قوة إلا بالله، ضاع الولد، ضاع الغريب، حسبنا الله ونعم الوكيل.
ظل يعدو على غير بصيرة او هدى، مشتت الذهن، مشلول التفكير، لم تسنح له الفرصة أن يستنطق عقله ويهرع الى خارج حدود القرية ليبقى حرا طليقا ويهرب من عذابات الحجر وإغتيال إرادته، آدميته وحريته.
مساء و بعد سويعات من العدو جاب فيها دروب القرية ذهابا وإيابا وبعد أن استنفذ جميع طاقته هوى مغشيا عليه بالقرب من ديوان القرية.
ردوه مرة اخرى إلى جهنمه التي لم يختار، أحكموا الاجراءات والتدابير،ونجحوا هذه المرة من طرد الأرواح الشريرة وروحه على حد سواء ليمسي شبحا هزيلا لا روح فيه في صورة إنسان.
ظل الغريب أسير هذه التجربة الاليمة وازداد انطوائية وظلت الهواجس ونوبات الخوف ملازمه له إلى أن رحل عن خرافاتنا واساطيرنا في شتاء ١٩٤٧ واستطاع ، اخيرا، أن يحقق حلمه في أن يعيش في فضاء اوسع من القرية وحتى من فضاء حيفا، عالم الغياب الابدي.
سقطت يكنعام في ربيع ١٩٤٨ بيد الغزاة ولكنها ظلت وفية لاسرار أبنائها وحكاياتهم ولرائحتهم، تقف على قارعة الطريق تنتظرعودتهم، وظلت وفية لرفات ابنها الغريب.
هامش:
يكنعام الاسم العربي الكنعاني لقرية قيرة وقامون المغتصبة، تقع على بعد ٢٣ كيلومتر من الجنوب الشرقي لميناء حيفا وفي الطرف الشمالي الشرقي لجبال الكامل. استوت على اراض فاق تقديرها ١٤٠٠٠ دونم. تتميز بخصوبة اراضيها وكثرة الينابيع الطبيعية إضافة الى المغارات والتي صنفتها منظمة اليونسكو بعد نكبة ١٩٤٨ مواقع ومزارات تاريخية و اثرية.
كاتب فلسطيني
الله يرحمك يا غريب ويحسن اليك ويجعل مثواك الجنة، اطرق الحاج خالد آل جنيد، الفقيه الازهري، في التفكير واسترجع شريط ذكريات غريب الاليمة والذي افضى إلى ربه قبيل قرار تقسيم فلسطين، حسبنا والله ونعم الوكيل، يعني الواحد مش عارف من وين يتلقاها، ويلنا وضع البلاد اللي ما حدا عارف لوين رايحة الامورفيها ، ولا ويلنا موت هالشب اللي مثل نسمات الصيف، آه الله يلعن الجهل وقلة العقل ، فعلا العلم يبني بيوتا لا عماد لها والجهل يهدم بيوت العز والكرم، سبع سنوات عجاف احالتك يا غريب جذعا هزيلا شاحبا بائسا لا حياة فيه، ،حاولت بشتى الطرق أن ارجعهم إلى رشدهم وأن اثنيهم عن حمقاتهم، لكنهم عضوا على ارآئهم بالنواجذ وضربوا برأيي عرض الحائط.
الله يرحمك يا غريب ويحسن اليك ويجعل مثواك الجنة، اطرق الحاج خالد آل جنيد، الفقيه الازهري، في التفكير واسترجع شريط ذكريات غريب الاليمة والذي افضى إلى ربه قبيل قرار تقسيم فلسطين، حسبنا والله ونعم الوكيل، يعني الواحد مش عارف من وين يتلقاها، ويلنا وضع البلاد اللي ما حدا عارف لوين رايحة الامورفيها ، ولا ويلنا موت هالشب اللي مثل نسمات الصيف، آه الله يلعن الجهل وقلة العقل ، فعلا العلم يبني بيوتا لا عماد لها والجهل يهدم بيوت العز والكرم، سبع سنوات عجاف احالتك يا غريب جذعا هزيلا شاحبا بائسا لا حياة فيه، ،حاولت بشتى الطرق أن ارجعهم إلى رشدهم وأن اثنيهم عن حمقاتهم، لكنهم عضوا على ارآئهم بالنواجذ وضربوا برأيي عرض الحائط.
غريب والذي كان آنذاك يبلغ عشرين عاما حين انقلبت حياته رأسا على عقب لتبدأ المحطة الاخيرة والاصعب في اغتيال روحه وآدميته. أطبقت عليه الهموم والاشجان ووقع فريسة الهواجس والنوبات العصبية المتكرره والتي اقضت مضجعه بعد سلسلة من الاخفاقات توجت برفض ابنة خاله حياة الارتباط به.
غريب ذلك الشاب ،الخجول، واسع الخيال، الحالم، الانطوائي والذي اصبح يزداد عزلة وانطوائية شيئا فشيئا و بدأ يستغرق جل وقته شارد الذهن، متأملا رتابة الحياة في قريته التي يحب أن يزورها ولكن لا يحبذ قضاء جل عمره فيها، قدري أن أعيش بين اناس تجاربهم ضحلة لا يعرفون من الدنيا الا عرف الديك الذي راه الضرير حين أبصر هنيهة ثم عاد سيرته الاولى ، اجد نفسي غريبا ، تائها ، ممزق بين عالمين، عالم اعيشه وأمقته، وعالم أصارع من اجل العيش فيه وليس لي اليه سبيلا، وكان دائم الترديد لبيت الشعر ما انا بالعيش فيهم وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر، توالت الايام و غريب عاكفا في محرابه، لا يشغل باله الا كيفية الخروج من القرية والانطلاق إلى فضاء اوسع ، اجد نفسي حصانا اصيلا جامحا مكبلا، كم اتوق للعيش في حيفا، مدينة كبيرة، تدب فيها الحياة على مدار الساعة، فيها اجناس من كل اصقاع الدنيا، اليوم فيها عن سنه بالقرية، ليتنا نستطيع أن نختار اقدارنا، ولكن إذا لم يكن بوسعنا أن نختار أقدارنا، فعلينا أن نغيرها و أن نصنع اقدار جديدة، نعم هي حيفا التي اجد فيها نفسي وكينونتي ، وبعدين حيفا ليست بعيدة عن القيرة،يا دوب ٢٣ كيلومتر، يعني متى ما حبيت ازور اهلي وخلاني، سويعات مشيا على الاقدام وبكون في القيرة، إن شاء الله ع موسم الحصاد بدي اتوكل ع الله و اروح ع حيفا و أستقر فيها ، كلها شهرين إن شاء الله و بخلص من القرية وحياتها المملة، لكن اللي مزعجني الكوابيس والتي اصبحت تغتال نومي بشكل يومي، كل يوم بتكرر نفس الكابوس مع زيادة تفاصيل أكثر إيلاما وجلدا للروح، ارآني اسقط في هوة ليس لها مستقر، احاول أن اخرج لكن دون جدوى، اناجي اشقائي لكنهم لا يأبهون ويمضوا دون أن يمدوا لي يد المساعدة، والانكى من ذلك والدتي واشقائي واللي صاروا ع الرايحة والجاية يؤذوا مسامعي بملاحظات و استفسارات وأسئلة تزيدني هما فوق همي، والله وضعك يا غريب ما بطمن، معظم وقتك سرحان، صرت تدخن كثير، و طول الوقت بتحكي مع حالك، ناهيك عن صراخك اللي بصحينا من النوم كل يوم، بصراحة احنا صرنا خايفين عليك و قررنا نعرضك على طبيب المستوصف الانجليزي، يعني مش خسرانين اشي، منها بنتطمن على صحتك، ومن جهة ثانية بتطلع و بتروح ع نفسك، وانت بتحب انك تروح ع حيفا، شو رأيك؟ لم يفكرغريب في الامر مليا و ابدى موافقته ع الفور، مش غلط يوم بره القرية، بنشوف فيه وجه ربنا ولعلى الله أنه يفتح علي واتعرف ع ناس يمدوا لي ايد العون لم اروح اعيش في حيفا، وبالمرة بخلص من نق اهلي، يعني رحلة اجت لا ع البال ولا ع الخاطر. توكلنا ع الله، و متى النية إن شاء الله؟ بعد بكرة بمشيئة الله.
عرضوا غريب ع الاطباء الانجليز والذين افادوا بأنه يعاني من بعض الضغوطات النفسية والتي ستزول مع قادم الايام، الظاهر انه ابنكم تعرض لصدمة نفسية حادة، حالته مش صعبة لكن عليكم أن تصبروا وألا تستعجلوا شفائه، المسألة تحتاج لبعض الوقت لكن عليه أن يخالط الناس و الا يجهد نفسه، واطمأنوا حالته ستسقر، لا يوجد ما يثير القلق والصخب.
توالت الايام وغريب يزداد انطواء و عزلة، واصبح يلتهم الدخان التهاما، و ازداد صراخه حدة بفعل الكوابيس ، واضحى قليل الطعام، قليل النوم، مكفهر الوجه، شاحبا، يمضي جل الليل ذهابا وجيئة، لا ينام حتى تنهار قواه ويمسي لا يقوى على المشي.
اجتمع جميع افراد الاسرة، واخذوا يناقشون وضع ابنهم الصحي والذي يزداد تدهورا يوم بعد يوم، وألقي في روعهم انه اما أن يكون مسحورا او ممسوسا ! قرروا أن يعرضوه على الشيخ تقي الدين في جنين، لم يتاونوا في ذلك وحطوا رحالهم في حضرة الشيخ تقي الدين والذي افاد بأن غريب قد تعرض لمس سفلي، طمأنهم أنه سيشفى بإذن الله إذا تقيدوا بتوصياته على اكمل وجه، أعطاهم بعض وريقات خطها بكلمات غير مفهومة وأوصى أن يذيبوا الوريقات، خاتم العلاج ، بماء وبعد ذلك عليهم أن ينجموا الخليط حتى يستحم به الغريب قبل شروق الشمس، وأوصى بتكرار هذا العلاج لمدة اربعين يوما، و طلب منهم تحديد إقامة غريب بغرفة منعزله على الاخرين وشدد على ضرورة الا يخالط او أن يكلم الناس لمدة اربعين يوما، وطلب منهم أن يناولوه الطعام من نافذة دون أن يكلموه البته، واعاد على مسامعهم توصياته مع ضرورة أن يعيدوا العلاج من البداية ولمدة اربعين يوما في حالة عدم الامتثال لأي من توصياته، مرة أخرى ديروا بالكم حدا يكلمه، وإذا وقع المحضور،لا سمح الله، فيتوجب عليكم البدء في العلاج مرة أخرى ولمدة أربعين يوما،إحتياطا لأي طارئ، أنا راح اعطيكم خاتم العلاج احتفظوا فيه واستخدموه إذا وقع المحظور.
تهللت اسارير افراد العائلة وايقنوا أن مسألة شفاء غريب باتت مسألة وقت ليس إلا، فكرمات الشيخ تقي الدين يتغنى فيها القاصي والداني، وتأكيده أن الشفاء حاصل لا محالة اجلى الهموم عن صدورهم، رجعوا الى القرية والامل يعلو محياهم وفي المساء زارهم الحاج خالد ولفيف من رجالات القرية للاطمئنان والوقوف على حالة غريب الصحية، بدأ أشقاء غريب بتذكير ضيوفهم بكرامات الشيخ تقي الدين وأيد معظم الحاضرين تلك الكرامات، وبدأ أشقاء الغريب بإفادة الحضور بوصفة علاج شقيقهم والفرح يكتسي وجوههم، وقعت كلماتهم كالرعد على مسامع الحاح خالد والذي حاول مرارا وتكرارا أن يكبح سيل سورات غضبه وحنقه قبل أن ينفجر في مخاطبة جميع الحضور والذين اطرقوا مسامعهم طربا لوصفة العلاج والتفاؤل عنوان وجوههم ، يا جماعة الخير وحدوا الله، شو هذا الكلام والذي لا يعدوا عن كونه ترهات و خزعبلات، يا ولاد الحلال، الكل عارف في قرارته أنه غريب تعرض لصدمة عاطفيه، ناهيكم عن ان شخصية غريب انطوائيه بعض الشئ، والرجل حالم و خياله واسع، بالاضافة إلى أن حياة القرية لا تروق له ولا يجد نفسه فيها، يعني مشكلة الغريب عرضية وبدها شوية وقت، وكنت اشرت عليكم آنفا أن تسهلوا له طريقا إلى حيفا فتغير المكان سيطفئ وقود خيبته العاطفية، ومن جهة ثانية سنحقق له رغبته في العيش في مكان يحبه ويتلائم مع شخصيته الطموحه، قاطع عيسى شقيق غريب الاكبر، الشيخ خالد مستنكرا عليه قدحه و ذمه للشيخ تقي الدين، يا حاج خالد الله يرحم والديك، والله احنا عارفين انك خايف ع الغريب وانك ذو رأي وعلم، بس هاي المرة لم تصب كبد الحقيقة، يا حاج خالد بتعرف إنا جربنا الطب الشعبي، وعرضنا الغريب ع الاطباء الانجليز بس للأسف ظلت حالة الولد تزيد سوءا، بعدين إحنا شو خسرانين! وما في حدا بالبلاد كلها إلا وحكى عن بركات الشيخ وكراماته، والكل حكى أنه عالج حالات اكثرسوءا من حالة الغريب، يا بن الحلال الناس واقفة طوابير باب بيته، والله قعدنا يومين نستنى لحتى اجى دورنا، وما تزعل مني يا حاج خالد، هذه مش خزعبلات وكلام فاضي، هذه هبة وبركة من الله ، الله يبارك فيها وبصاحبها، عاجله الحاج خالد قبل أن يستطرد بكلامه، لا ورب العزة هذه نقمة من الله، بل هذا تعدي سافر على الدين والعقل والكون ونواميسه وسننه و ضوابطه، وبعدين يومين وانتم تنتظروا دوركم، هذا انما يدلل على مدى تفشي الخرافة والخزعبلات في الامة، جهل مطبق مدفوع الاجر، لا حول ولاقوة الا بالله.
يا حاج خالد، اذكر الله، شو هذا الكلام اللي بتحكي فيه، هذا كمان شوي بدك تطلعنا من الدين، يا حاج خالد الغريق بتمسك بقشة، وعلاج الشيخ تقي الدين مش قشة، هذه سفينة النجاة، إن شاء الله، اللي ربنا بعثها لابنا. حوقل الحاج خالد وأسهب في نقاشه مع آذان صماء وعقول مأفونة بقدسية الموروثات والخزعبلات والخرافات، والله يا جماعة الخير ما هذا الا جريمة نكراء ولا يمكن تبريرها أو إيجاد أي مسوغ لها، يا جماعة الخير، أنتم، بفعلتكم هذه، تحجبوا العقل و تحجروا عليه و تنكصوا به الى عصور ما قبل التاريخ. أبدى الحضور استيائهم من كلام الحاج خالد والذي استلب نشوتهم و سفه أحلامهم.
أطرق الحاج خالد في التفكير وجال في خاطره الجهل المطبق على ابناء القرية والامة بأسرها و دعا ربه أن ينير بصائرهم وأن يردهم الى العقل والحكمة. الظاهر أن الصراع بين العقل و الموروثات القبلية مستمر ما دام الانسان يحتل كوكب الارض، وكلي يقين أن الخرافة و الموروثات القبلية ليست مقتصرة على امة دون سواها، فغالبية العرق البشري يعتبر، بدرجات متفاوتة، الخرافة و الموروثات القبلية دستورا يحتذى به بالرغم من التطور والقفزات التي حققتها البشرية في سبر اغوار الكون.
لم يفلح أي من الفريقين في إقناع النقيض بوجهة نظره، وعاد كل منهما الى سابق عهده وحياته، وفي اليوم التالي بدأت عائلة الغريب بعلاجه متقيدة بتعليمات الشيخ تقي الدين ذائع الصيت والكرامات.
إستمرت العائلة بتنجيم خليط الماء بعد أن يذيبوا فيه الوريقات والتي مهرها الشيخ بخاتم التخلص من المس ( حسب زعمه) وقبل شروق الشمس يدخلونها على الغريب حتى يستحم بها، ولضمان إستحمامه، كانوا ينتظروا حتى يفرغ من الاستحمام، وإذا تمنع قاموا هم بأنفسهم بسكب الخليط عليه ، وخلال اليوم يدخلون له وجبات الطعام صباحا، عصرا ، مساء، تقيدوا بتعليمات الشيخ وبتوصياته، فكانوا يدخلون الخليط والملابس والطعام دون أن ينبس أي منهم ببنت شفة، إستمرت رحلة شقاء الغريب واغتيال روحه وآدميته حتى وقع المحظور في اليوم الخامس والعشرين من رحلة الاغتيال، حيث خلت الدار من كل قاطنيها الا من شفيقة شقيقتهم الصغرى، الفتاة ذات الخمس عشر ربيعا، إنتهز الغريب فرصة غياب جميع افراد العائلة، اخذت الافكار ترسم البهجة على وجهه الشاحب النحيل، ها قد حانت ساعة خلاصي من هذا العذاب و الجنون، لا بد أن استعيد اغلى ما املك روحي و حريتي، أطلق خياله للعنان ورأى نفسه حرا طليقا مستلقيا على سحابة، بدأ بملاطفة شفيقة واخذ يستدرجها بلين الكلام و يستعطفها ويستنجد بها، شايفة يا عزيزة كيف بيعملوا بي، مش حرام هذا اللي بصير! يعني الله بيقبل انهم يسجونني! يا خوي والله بدهم يعالجوك، والله قلوبنا بتتقطع عليك، استمر بإثارة عاطفتها بصوته المتهدج الاسيف، وبدأ بترغيبها بإصطحابها إلى مدينة حيفا، وبدأ يغريها بمعسول الكلام، بتعرفي راح اشتريلك احلى ملابس في حيفا، وراح اصطحبك الى الهادار، والله لاخليك تقضي احلى يوم بحياتك، لم يدخر جهدا في إقناعها بانه لا يود الخروج بل اكثر ما يطمح إليه رؤية الفضاء الفسيح والاستئناس برؤية المارة، بدأت محاولاته تأتي اكلها، بدأت شفيقة تجنح لرغبة اخيها بعد أن غلبت عليها العاطفة، طيب مثل ما بدك يا خوي، بس الله يخليك ما تحكي إني فتحت الباب والله ببهدولوني وبيقلوا قيمتي، ما تخافي ما راح اجيب سيرة، وما أن شرعت بفتح الباب، حتى دفعهما بحنق وانطلق بعنفوان فرس جامح، سهم غادر كنانته و لا يمكن لأي قوة على وجه الارض أن تصده او أن تمنعه أن يدرك غايته، الحرية ولا شئ دونها، إندفع كثور هائج لا يرى في الافق إلا الرايات الحمراء، اخذ يعدو ويسابق الريح ويحاول أن يصطاد السحاب، لم يأبه للحظة لجمال الطبيعة وللاخرين، كل ما كان يدور في خلده أن يظل يعدو ويعدو، وجد ضالته وحريته في أن ينتصر على المكان والزمان، حاول اشقاءه و رجالات القرية أن يتعقبوه ولكن دون جدوى، كانت طاقته وإلتهامه للحرية تزداد كلما عدا اكثر، فرغ في عدوه جميع آلامه،حسراته، طاقته الكامنه وشغفه للحياة.
لم يفلح اشقاءه في كبح هيجانه، مندهشين،مصعوقين،متأوهين ،ضاربين كفا بكف ، مرددين، لا حول ولا قوة إلا بالله، ضاع الولد، ضاع الغريب، حسبنا الله ونعم الوكيل.
ظل يعدو على غير بصيرة او هدى، مشتت الذهن، مشلول التفكير، لم تسنح له الفرصة أن يستنطق عقله ويهرع الى خارج حدود القرية ليبقى حرا طليقا ويهرب من عذابات الحجر وإغتيال إرادته، آدميته وحريته.
مساء و بعد سويعات من العدو جاب فيها دروب القرية ذهابا وإيابا وبعد أن استنفذ جميع طاقته هوى مغشيا عليه بالقرب من ديوان القرية.
ردوه مرة اخرى إلى جهنمه التي لم يختار، أحكموا الاجراءات والتدابير،ونجحوا هذه المرة من طرد الأرواح الشريرة وروحه على حد سواء ليمسي شبحا هزيلا لا روح فيه في صورة إنسان.
ظل الغريب أسير هذه التجربة الاليمة وازداد انطوائية وظلت الهواجس ونوبات الخوف ملازمه له إلى أن رحل عن خرافاتنا واساطيرنا في شتاء ١٩٤٧ واستطاع ، اخيرا، أن يحقق حلمه في أن يعيش في فضاء اوسع من القرية وحتى من فضاء حيفا، عالم الغياب الابدي.
سقطت يكنعام في ربيع ١٩٤٨ بيد الغزاة ولكنها ظلت وفية لاسرار أبنائها وحكاياتهم ولرائحتهم، تقف على قارعة الطريق تنتظرعودتهم، وظلت وفية لرفات ابنها الغريب.
هامش:
يكنعام الاسم العربي الكنعاني لقرية قيرة وقامون المغتصبة، تقع على بعد ٢٣ كيلومتر من الجنوب الشرقي لميناء حيفا وفي الطرف الشمالي الشرقي لجبال الكامل. استوت على اراض فاق تقديرها ١٤٠٠٠ دونم. تتميز بخصوبة اراضيها وكثرة الينابيع الطبيعية إضافة الى المغارات والتي صنفتها منظمة اليونسكو بعد نكبة ١٩٤٨ مواقع ومزارات تاريخية و اثرية.
