الأخبار
قطر تُعيد تقييم دورها كوسيط في محادثات وقف إطلاق النار بغزة.. لهذا السببالمتطرف بن غفير يدعو لإعدام الأسرى الفلسطينيين لحل أزمة اكتظاظ السجوننتنياهو: هدفنا القضاء على حماس والتأكد أن غزة لن تشكل خطراً على إسرائيلالصفدي: نتنياهو يحاول صرف الأنظار عن غزة بتصعيد الأوضاع مع إيرانمؤسسة أممية: إسرائيل تواصل فرض قيود غير قانونية على دخول المساعدات الإنسانية لغزةوزير الخارجية السعودي: هناك كيل بمكياليين بمأساة غزةتعرف على أفضل خدمات موقع حلم العربغالانت: إسرائيل ليس أمامها خيار سوى الرد على الهجوم الإيراني غير المسبوقلماذا أخرت إسرائيل إجراءات العملية العسكرية في رفح؟شاهد: الاحتلال يمنع عودة النازحين إلى شمال غزة ويطلق النار على الآلاف بشارع الرشيدجيش الاحتلال يستدعي لواءين احتياطيين للقتال في غزةالكشف عن تفاصيل رد حماس على المقترح الأخير بشأن وقف إطلاق النار وتبادل الأسرىإيران: إذا واصلت إسرائيل عملياتها فستتلقى ردّاً أقوى بعشرات المرّاتإعلام الاحتلال: نتنياهو أرجأ موعداً كان محدداً لاجتياح رفحإصابة مطار عسكري إسرائيلي بالهجوم الصاروخي الإيراني
2024/4/18
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

عن بدايات الشعر المغربي المعاصر قراءة في كتاب "في الشعر المغربي المعاصر" لمحمد الميموني

تاريخ النشر : 2020-10-12
عن بدايات الشعر المغربي المعاصر قراءة في كتاب "في الشعر المغربي المعاصر" لمحمد الميموني
عن بدايات الشعر المغربي المعاصر
قراءة في كتاب "في الشعر المغربي المعاصر" لمحمد الميموني

* بقلم:الصادق بنعلال

"نريد أن يكون عندنا شعراء نقاد لنا أن نرجو ظهورهم ، و لكن سنأخذ دور المدافع عن الشيطان و أقول إنني لا أوصي بإضفاء القداسة إلا على حالات نادرة جدا ، حالات تشمل قديسين حقيقيين تمكنوا من تحقيق معجزة التوفيق بين النقد و الشعر في أنفسهم" : رينيه وليك .

تمهيد :
نصدر في هذه المقالة من تصور نقدي معرفي مفاده أن الشعر العربي الحديث يشكل المعطى الأساس الذي يختزل مجمل الموضوعات و الإشكالات التي عالجتها الأشكال الأدبية و الفكرية على وجه الإجمال و المرآة القادرة على عكس أدق السمات المبلورة لنظرة الإنسان العربي الحديث الراهن من الوجود في إطلاقيته . و قد شهدت الساحة الأدبية المغربية كمثيلاتها العربية و العالمية قدرا هاما من الأبحاث و الدراسات التي اتخذت من الشعر المغربي المعاصر مجالا للمطارحة النقدية . و نروم في هذا السياق تقديم قراءة نقدية لكتاب "في الشعر المغربي المعاصر" للشاعر و الباحث المغربي الراحل محمد الميموني (1) .
تضمن مؤلف "في الشعر المغربي المعاصر : سبع خطوات رائدة" ، الذي صدر سنة 1999 قسمين رئيسيين مع مدخل عام يشكل إطارا تحديديا سعى الناقد عبره إلى ضبط الإشكال الموضوعي الذي سيحظى بالمقاربة النقدية ، و التعريف بالمنهجية التحليلية و الأدوات الفنية المعتمدة أثناء التعاطي الملموس مع النصوص الشعرية المقترحة للدراسة . و لئن كان القسم الأول من الكتاب : ( عتبات التحديث ) قد خصص لمعالجة جانب من الإنتاج الشعري لكل من : علال الفاسي و عبد المالك البلغيثي و عبد الكريم بن ثابت و عبد المجيد بن جلون ، فإن القسم الثاني ( نصوص منسية من الشعر المغربي المعاصر ) انفتح على نصوص شعرية لعبد القادر المقدم و محمد السرغيني و عبد الكريم الطبال ، و هي نصوص إبداعية محورية عانت إهمالا غير مبرر من قبل نقاد أدبنا الحديث .
و هكذا فالمؤلَف قيد المعاينة الاستجلائية يولي اهتماما خاصا بالتجربة الشعرية التأسيسية في المرحلة التمهيدية للمنجز الشعري المغربي الحديث ، تلك المرحلة التي مثلت الانطلاقة الفعلية لحداثة الصوغ الشعري الراهن . و إذا كنا لا ننوي تتبع محتويات المؤلف و قضاياه الإشكالية العامة ، فإننا ننزع نحو الاقتصار على الوقوف عند بعض من هذه الموضوعات ، مع التركيز على استشراف آليات البنية العميقة و السمات الجمالية التي تخللت العملية التحليلية ، و إثارة الانتباه إلى أسئلة صعبة توخى الكاتب تفجيرها قصد إعادة النظر فيها و إغنائها بالدراسات الجادة .
و ما من شك في أن إشكال المنهج يمثل نقطة ارتكاز أي عمل نقدي ، جاء يطمح إلى مساءلة العمل الأدبي عبر مقصدية موضوعية ، و إلى استخلاص نتائج تحظى بالمقبولية النسبية من قبل المعنيين بالظواهر الأدبية ، و يذكرنا الناقد المغربي محمد بنيس في هذا السياق ، بصعوبة قراءة الشعر العربي الحديث بالاقتصار فقط على المعرفة الشعرية العربية الكلاسيكية ، دون استحضار واع للشعريات العالمية ، التي كشفت الحدود الجمالية و الإبستمولوجية للشعرية العربية القديمة ، و إن كان يقر بأن هذه الأخيرة مافتئت قادرة على تناول "قضايا و عناصر ما تزال فاعلة في الشعر العربي الحديثّ" (2) .
و غني عن القول إن الساحة الأدبية العالمية تحفل بترسانة نقدية غير محدودة ، تشمل المناهج و النظريات و المفاهيم و المصطلحات و الاتجاهات الفنية المختلفة ، و التقنيات المعتمدة في تحليل التجليات الأدبية ، إلى درجة أفضت ببعض الباحثين إلى نعت هذه الظاهرة "بالتخمة النقدية" و الإحساس بما يشبه الإحباط ، بل هناك من أكد أنه "لا يسع الباحث إلا أن يحلم بالعودة إلى إمعان النظر في الأوليات الجمالية و المظاهر الإبداعية البسيطة ، و التحليلات الفنية الصغيرة لعلها تسعف في محو الغشاوة و إعادة ترتيب البيت الشعري" (3) .
و نحن إذ نؤكد على أهمية التعاطي مع الظواهر الأدبية بتبصر منهجي محكم الرؤية و الأداة ، فإننا نلح في الآن عينه على أولوية النص الإبداعي الذي يعد أكبر و أعم من أي منهج نقدي مهما اكتسى من جدة و حداثة . و بالعودة إلى الكتاب الذي نحن بصدد دراسته نتبين أن الباحث المغربي محمد الميموني لم يتقيد فيه بمنهجية نقدية جاهزة ، و لم يقتد بأبحاث و نتائج من سبقه من الدارسين ، بل إنه استرشد بذوقه الفني السليم ، و بما تراكم لديه من معاشرته المديدة للشعر قراءة و إبداعا ، متخذا النصوص الشعرية الملموسة منطلقا له ، و كشف طبيعتها الجمالية هدفا جوهريا (4) .
مما يعني أنه لا مندوحة لأي ناقد أدبي من ذوق فني راجح ، و تراكم إبداعي غني و متنام ، يساعدانه على استقراء جماليات الصوغ الفني و استبطان مستوياته الدلالية ، و ما جدوى مطارحة نقدية لا تتخذ من النص المنطلق الأساس و كشف ميكانيزمات شاعريته مبتدأها و خبرها ؟ و نعتقد أن الكاتب محمد الميموني كان دقيقا في ضبط المتن المقترح للتحليل ، باعتبار كفايته التمثيلية ، يقول جان كوهين في هذا الإطار : "يشترط في المتن أن يرضي قاعدتين متناقضتين : أن يكون محصورا بما فيه الكفاية حتى لا يثبط عن البحث ، و واسعا بالقدر الذي يسمح بالاستقراء" (5) . و عليه فإن هذا الكتاب يرتكز على هاتين القاعدتين الأساسيتين : تحديد الموضوع و نوعية المتن و إطاره العام ، فسبعة شعراء معطى نقدي هام ، و كفيل بإعطاء صورة دقيقة لكوكبة من الشعراء المغاربة اللامعين ، خاصة أثناء العقود الثلاثة قبل استقلال المغرب ، تلك الكوكبة التي احتضنت بذرة التجديد في شعرنا المغرب الحديث .
علال الفاسي بين النزعة الخطابية و بلاغة الوضوح :
أضحى من المؤكد عند عديد من النقاد و المشتغلين بقضايا الأدب أن الفكر النقدي العالمي يعيش قصورا هيكليا مشهودا ، على الرغم من حركيته الظاهرية ، و المسلكيات المنهجية غير المحصورة ، و لعل هذا القصور يعود إل غياب فهم عميق و فاعل لطبيعة العمل الأدبي المخصوص ، و آليات اشتغال مكوناته و سماته ، و في الغالب ينبري جل النقاد في الجري وراء "المحتوى الأيديولوجي" للنصوص الأدبية فتصبح العملية النقدية استبطانا لنوايا المبدع و احتفاء "بالمعاني و الدلالات" ، دون توقف ملائم عند التشكيل الفني للنص الأدبي و الشبكة النصية التي تعد بؤرة الفاعلية النقدية ، و هكذا فالنقد الحديث "يبحث عن مدلول حقيقي مختلف عن المدلول الظاهري ليتسلم منه العمل الأدبي ، و بذلك يتوارى عنه موضوعه الحقيقي ، إذ يبحث وراء اللغة عن مفتاح موجود في اللغة كوحدة لا تنفصم بين الدال و المدلول" (6) . بيد أن الشاعر و الباحث محمد الميموني يهدف إلى تجاوز هذا العائق النقدي متبنيا التحليل النصي و المقارنة الملموسة لبنيات الأعمال الشعرية .
ما من شك في أن اللحظة التاريخية التي عاش فيها الشاعر المغربي علال الفاسي كانت لحظة زمنية عصيبة بالنسبة للتاريخ المغربي الحديث ، حيث الحركة الوطنية المتأهبة لكل أشكال النضال ، من أجل إعادة الكرامة و الاستقلال للوطن ، مما ساهم في وجود ازدواجية رؤيوية في الخطاب الشعري عند عدد كبير من الشعراء من ضمنهم علال الفاسي ؛ إنها ازدواجية الشاعر المبدع الذي يطمح إلى معانقة جوهر الإنسان و حقيقته ، و المناضل المتألم لواقع بلده الساعي ، إلى إحداث تغيير فعال للوضعية المغربية العامة ، و تجاوزها إلى ما هو أرقى ، و لقد كان الشاعر في مواجهة مفتوحة مع تحديات الزمن و إشكالات السياسة ، فمجد القيم الإصلاحية و الدعوات الثورية التي تسم أمل الشباب و تطلعاتهم ، و كأننا بالشاعر قد اتخذ من القصيدة أداة ناجعة للدعوة الإصلاحية النهضوية ، و التوعية الدينية و السياسية المنسجمة و السياق التاريخي للمغرب في عهد الحماية الفرنسية ، مما أكسب الشعر "العلالي" نزعة خطابية تكاد تقترب من الأسلوب النثري المألوف ، يقول في قصيدته "المتنبي شاعر الدهر" موجها خطابه إلى الشاعر العباسي الذي ملأ الدنيا و شغل الناس :
حفلت بالواقع المحسوس تحسبه سر الحياة و لم تحفل بما حجبا
و قد رأيت احتفاء الناس قاطبة بالمال يعلون مولاه و إن سلبا
فجلت باب ملوك الصيد تسألهم بالشعر يمنحوك المال و الرتبا
تذكرنا هذه الأبيات و ما يماثلها في شعر علال الفاسي باللغة النثرية التي تتوسل بمختلف الأدوات المعجمية و التركيبية و "المنطقية" لتحقيق الانسجام و التناسق بين "مضامين و أفكار" النص ، لأن المرمى هو إقناع المتلقي بنبل الرسالة الوطنية ، و جعله سر اللحظة الخاصة التي يمر بها الوطن ، صحيح أن اللغة الشعرية لغة إيحائية تصويرية تعددية .. غير أن الشاعر ما كان له إلا أن ينتقي بوعي صوغا فنيا يوازي حقيقة السياق التاريخي المخصوص ، الذي تعبأ فيه كل المواطنين باختلاف انتماءاتهم و انشغالاتهم الفكرية و الجمالية .. من أجل إنجاز نهضة تحررية ، و للوضوح أيضا نصيب من الجمالية و البلاغة النوعية ، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار المجال التداولي للقصيدة الثلاثينية لمغرب القرن العشرين .
إضاءة حول الرومانسية المغربية :
تمثل الرومانسية مرحلة أو خصيصة فنية فارقة في مسيرة التطور الإبداعي العالمي ، بقدر ما أنها سمة جمالية تحضر في مختلف النصوص الإبداعية و الشعرية على وجه التحديد ، مما حدا ببعض الدارسين إلى القول بان أية قصيدة شعرية قديمة كانت أم حديثة ، لا بد أن تتضمن قدرا من النزوع الرومانسي و المسحة الذاتية المغلفة "بالنظرة الوجدانية" ، التي يطل الشاعر من خلالها إلى الكون و الحياة . و يعد عبد الكريم بن ثابت من ضمن الشعراء الذين أغنوا الديوان المغربي بالإنتاجات الفنية الزاخرة بالجمال ، مثلت قصائده المرحلة الرومانسية للشعر المغربي ، و هي القصائد التي حفلت بالقيم الإنسانية الرفيعة و التعبير عن حقائق الفرد و المجتمع من زاوية فنية ، تستلهم الصيغ المجازية العذبة و الصور البلاغية الحالمة بالحق و الخير و الجمال ، مشكلة مرآة تعكس الواقع المغربي و هو يئن تحت وطأة الاستعمار الأجنبي ، و ما يرمز إليه من قهر و استغلال . يرشح ديوان هذا الشاعر المتميز "الحرية" بالقلق الشعري الذي يساءل الذات و الآخر ، و تتراوح قصائد الديوان بين الشعور باليأس و الإحباط و بين الإحساس بالأمل و الفجر المشرق ، يقول الشاعر في قصيدة "حياة" :
ستذهب كل الرؤى مثلما ستذهب أحلامنا في الوجود
ستمضي مضي النسيم العليل و تفنى فناء ابتسام الوليد
و تهب أفكارك الحافلات بكل قديم و كل جديد
إن هذا المقطع و غيره من النماذج الشعرية لعبد الكريم بن ثابت ، يعبر بجلاء عن مرحلة هامة من شعرنا المغربي الحديث ، إنها الرومانسية بأبعادها الإنسانية الهيكلية ، بميسمها الوطني النوعي ، المتمثل في المسحة الدينية و الملمح الوقور ، إنها الوجدانية التي لا تحلم إلا بمقدار و تستحضر الهموم الفردية و الذات الجماعية الباحثة باستمرار عن معنى الوجود . و هكذا ينتمي عبد الكريم بن ثابت إلى كوكبة شعراء الأربعينيات من القرن الماضي ، الذين أثثوا الفضاء الثقافي المغربي بشعر شفاف بالغ العذوبة ، يمزج بين الصيغ اللغوية المشاعة ، متجنبا التشكيلات الإيحائية "الغريبة" ، و بين المعاني الإنسانية السامية من منظور فني يتأمل الذات المتصارعة مع الآخر .
حول معوقات الانخراط في التجديد :
عرف الأدب المغربي في الأربعينيات و الخمسينيات من القرن الماضي مبدعين كبارا في مجال القول الشعري ، ساهموا في تحقيق انعطافة محورية في مسيرة إبداعنا الشعري الحديث ، دون أن يتسنى لهم الانخراط في التجديد أو الحداثة بمفهومها الديناميكي ، و قد توقف الناقد محمد الميموني مليا عند أحد هؤلاء الشعراء بالتحليل النصي و المساءلة الفنية ، و هو الشاعر عبد القادر المقدم الذي ترك ديوانا شعريا فارقا في مسيرة حركية الشعر المغربي الحديث ، و بغض النظر عن التيمات / الموضوعات التي حظيت باهتمام الشاعر في مرحلة نضجه الإبداعي ، حيث الخروج عن المحيط الفردي المحدود و الانفتاح على الفضاء الإنساني العام ، فإن قصائد عبد القادر المقدم في مجملها تتشكل من الأساليب الخطابية و الصيغ التقريرية المتوجهة رأسا إلى ذهن المتلقي و عقله ، بهدف البيان و الإقناع ، في شبه غياب للتركيب الشعري البلاغي الذي يتوخى وجدان المخاطب و روحه و ذوقه ، و كأن هاجس التوصيل هو الإطار الذي تحكم في مجمل الإبداع الفني عند الشاعر . يقول عبد القادر المقدم مخاطبا روح غاندي :
يا شبه معصوم أ شعبي مدرك آماله أم حظه مستدبر
أم جيله متهاون متوكل بحلي المجنون مقمص متدثر
أم أنهم يستلهمون تقدما و هم قعود عن علاهم صبر
أم هم عبيد قانعون بعيشهم في الأسر لا يرضون أن يتحرروا
إن ملازمة الشاعر و الناقد محمد الميموني لشعر عبد القادر المقدم و التعاطي معه قراءة و تحليلا ، جعلته يستنتج ظاهرتين فنيتين جديرتين بالتأمل ، الظاهرة الأولى تتجلى في تدبيج الشاعر نفسه بعض قصائد ديوانه بمقدمات نثرية ، تلقي الضوء على مناسبة القصيدة و الدواعي التي كانت وراء كتابتها ، و هي مقدمات تطفح بنفس شعري ملحوظ و تعبير فني راق ، و ذلك من قبيل المقدمة التي خصها لقصيدة "وحي شفشاون" :
" مهبط شبحي و منبت أحلامي الناعمة التي لا تفتأ براعمها تنعشها أشعة الحياة فتنمو باطراد .. و تشذ بها أنامل الأيام الحكيمة . لي معها موعد مضروب ليوم تتوالى فيه علي أطياف الأمل المتوالية ، صياح تتساقط على قمم جبال ثلوج المشيب الزهرية ، وقتذاك أنثر عبرات الوداع لأسمع عالمي نشيدا من الحنين العبقري على أوتار الجنون الشريف"
تصور هذه المقدمة الإطار بصفاء بديع الذائقة الشعرية الرفيعة ، التي تتجذر في جوهر الشاعر ، و تتمظهر عبر المفردات المعجمية و الأساليب النحوية المتقنة ، و الصور الفنية المتساوقة ، بل إن هذه المقدمة و ما يماثلها تقوم دليلا موفقا على التناسجية المثلى الحاصلة بين المضمون المعبر عنه ، و التشكيلات الجمالية المتوسل بها ، و هو المطلب الإبداعي الذي يتشوق إليه كل فنان مدرك لآليات الخلق الجمالي . و الظاهرة الثانية التي وسمت الكتابة الشعرية عند عبد القادر المقدم هي ظاهرة النثر الفني أو "قصيدة النثر" ، و إذا كان الناقد محمد الميموني فضل أن يظل أمينا لطبيعة الموضوع المعني بالمقاربة حريصا على تفادي الخروج عن حدوده المسطرة منهجيا : أي التعاطي مع النصوص الشعرية بحصر المعنى ، خاصة و أن تجرية قصيدة النثر في الشعر المغربي الحديث تستدعي بحثا مستقلا ، من أجل تقييم أبعادها الجمالية و مرتكزاتها الموضوعية ، فإنه قدم بعض نماذج هذا النوع من الخطاب الأدبي ، الذي تفوق فيه الشاعر إلى جانب آخرين و على رأسهم الشاعر الكبير محمد الصباغ ، و كمثال على "قصيدة النثر" عند عبد القادر المقدم نورد مقطعا من قصيدة "روح و ظلال" ، يسال فيها الشاعر عن السر الذي يجعل العصفورة تنتقل بين أغصان الشجر :
من غصن إلى غصن تتفقدين أمرا لا يدركه سواك
متنسمة بقايا من شذاه الموهوم
و ربما كان في الوهم غلالة للروح الولهى
بلا كبير عناء بحثا عن رمز يشير إلى مقر الحبيب
أو يدل على سبيل تنسجم روائحه المنعشة .
فإذا كانت المقدمات و المداخل التي خصها الشاعر لبعض قصائده قد صورت مدى شاعريته و رهافة إبداعه ، فإن نثره الفني بدوره يجسد هذا المنحى الفني الجميل ، حيث حركية الصور البلاغية و النفاذ إلى أعماق الطبيعة ، و اندماج الذات بالموضوع و اعتماد الإيحاء و التصوير بديلا عن التقرير و الإبلاغ ، و قد أفضت هذه الملاحظات السديدة بالناقد إلى طرح سؤال صعب و هام و هو : ما الذي منع شاعرا من حجم عبد القادر المقدم من الانخراط في تيار التجديد ؟ لماذا تحفل قصائده المنثورة و مقدماته التي استهل بها بعض إبداعاته الشعرية بأبعاد جمالية رحبة ترشح بالألق التعبيري ، في حين يطغى على قصائده الشعرية ذلك النوع من التقريرية و المباشرة ؟ ما هي العوائق المعرفية و الجمالية التي حالت دون أن يتأثر بحركة الحداثة بالمشرق العربي ؟ هل يعود ذلك إلى السياق الثقافي العام الذي ميز المغرب في النصف الأول من القرن العشرين ؟ و هو سياق التقليد و المحافظة و هيمنة القيم الدينية بمفهومها السطحي ، حيث لم تجعل المغرب آنذاك مهيئا لتمثل قيم الحداثة و التجديد ؟ أم أن الأمر يعود أساسا إلى هيمنة نموذج الشعر العربي العمودي التقليدي ؟ الذي يفرض على المبدع شاء أم أبى صيغا تعبيرية و معجما نوعيا و ظواهر فنية مكرورة ، تستدعي نظما شعريا كلاسيكيا ؟ أم أن هناك عوامل أخرى تتطلب الاستقصاء و الاستجلاء ؟ مهما تعددت العوامل و تنوعت المعوقات التي حرمت بعض الشعراء المغاربة و منهم عبد القادر المقدم من معانقة مستلزمات الحداثة الشعرية ، فإن هذا الأخير ظل يتراوح بين اتباعية الشعر العمودي التقفوي و إبداعية النثر الفني !
حين يخضع الشعر المسلمات المجتمعية للمساءلة :
يعد الشعر تعبيرا لغويا فنيا عن مطلق التجارب البشرية ، مما يجعله يختزل و بإيحائية غنية كل القيم و الرؤى و التطلعات التي تسيج المجتمع ، و تشكل جوهر الإنسان و عمقه الأبدي ، و الشاعر و هو يعبر عن أحلامه و آماله و عذاباته الذاتية ، يطمح إلى فهم العالم و تغييره جماليا ، عبر مختلف المكونات و التشكيلات اللغوية و البلاغية الخفية و المتجلية . و في هذا السياق شهدت البدايات الأولى للشعر المغربي الحديث ( الخمسينيات من القرن العشرين على وجه التحديد ) نماذج شعرية تضمنت عناصر الحداثة و مظاهر التجديد ، سواء تعلق الأمر بمكون الرؤية ، حيث الانفتاح على فضاءات خارج حدود الذات الضيقة ، و معانقة قيم المجتمع و انشغالاته ، أو تعلق الأمر بمكون الأداة الفنية ( اعتماد الصور الإيحائية و اللغة الانزياحية ، و التخفيف من ثقل الإيقاع المحافظ . و يعتبر الشاعر محمد السرغيني واحدا من الشعراء الذين أثروا القصيدة المغربية الخمسينية معنى و مبنى .
و قد قدم الكاتب محمد الميموني قراءة نقدية تذوقية وافية لبعض نصوص هذا الشاعر المجدد ، متوخيا عبر ذلك اكتشاف ملامح شاعريته و استقصاء توجهه الحداثي ، و قبل أن نتعرف على ميكانيزمات العملية التحليلية التي خصها الكاتب لقصيدة صدرت في يناير 1954 بمجلة "الأنيس" تحت عنوان "الميلاد الجديد" ، نود أن نورد المقطع الأول منها :
في فجاج الزمان كفنت أيامي أودعتها اللحود الثقيلة
و تهافت كالقضاء على الماضي فقوضته فصار خرابا
ينعق البوم في مسارحه الثكلى فيشجي صداه عشب الخميلة
السكون الرهيب و الوحشة الحيرى ، تحيل الصفاء منه ضبابا
و أهم ما يطبع هذه المقاربة النقدية تجنبها أي ادعاء واهم بالحداثة ، أو الاستقواء على النص بما لا يتناغم و منطقه الداخلي المخصوص ، بل إنها مقاربة تسائل النص الشعري في جزئيات بنيته الفنية ، لتجعل من مستوياتها الدلالية و أبعادها الجمالية في حالة انبجاس متجدد ، و قد خلص الكاتب إلى معاينة البوادر و السمات المغايرة في القصيدة الخمسينية لدى محمد السرغيني ، فعلى مستوى التيمات لا حظ أن الشاعر كان ينزع إلى إحداث نوع من القطيعة مع الماضي الذي يرمز إلى الثبات و جمود الذهنيات ، و تجنب قدر الإمكان الموضوعات الموغلة في الذاتية الفردية ، بهدف الانفتاح على هموم المجتمع و التطلع إلى المستقبل الذي يرهص بأفق واعد ، و على مستوى الأدوات الفنية فقد عمد الشاعر إلى التخفيف من القيود الإيقاعية المتقادمة و توسل بصور بلاغية أكثر كثافة و إيحاء ، و كأن الرجة التي لحقت بقناعته الجمالية و الفكرية التقليدية في طور النضج الفني ، شملت و بنفس القدر نظمه الشعري . و إذا كنا قد سجلنا أثناء الحديث عن الشاعر عبد القادر المقدم ، أن هذا الأخير لم يتمكن من الاستفادة من الحيوية الشعرية العربية ، التي كانت تصل أصداؤها من المشرق إلى المغرب الأقصى ، فإن محمد السرغيني تعاطى إيجابيا مع هذه الحركة الحداثية ، فأثمرت نصوصا إبداعية رائدة ، تلك الحركة الحداثية التي دعت إلى ضرورة إعادة النظر في فهم الذات و مساءلة المسلمات الفكرية ، فبدون قلق فني و معرفي و تحويل الثبات إلى تحول مستمر ، لا يمكن إنجاز مشروع إبداعي تجديدي حداثي فاعل .
تقدم نبض الشاعرية على الأداة الفنية :
يجسد الشاعر عبد الكريم الطبال نموذجا صارخا للمبدعين المغاربة المحدثين ، الذين أنجزوا خلخلة شديدة في سياق القصيدة المغربية المعاصرة ، لوعيه المتقدم بحقيقة الأدوات الفنية و وظيفتها الجمالية منذ الخمسينيات من القرن الماضي ، مما أكسب القصيدة الخمسينية للطبال بوادر التجديد و التمايز و إرهاصات التجاوز ، و قد عثر الناقد محمد الميموني في قصائد هذا الشاعر المبدع على فضاء فني ، أسعفه على تقديم قراءة نقدية تحليلية غاية في الدقة و الرهافة ، أجراها على قصيدتين رئيسيتين نشرتا سنة 1954 ، و هما : قصيدة "رياح" ( مجلة المعتمد ) و قصيدة "قيثار" ( مجلة كتامة ) ، و قد استهل مقارنته النصية بمساءلة الكون الإيقاعي و الصوتي بغية تحديد التناسج الذي جاء وليد الإنصات لنبض الشاعرية و الإصغاء لأسرارها الدفينة ، مما ينتج عنه ما يسميه الناقد بالمضمون الشعري ، أي جماع المكونات و العناصر المشاركة في النشاط الإبداعي الشعري ، بل إن التناسج في القصائد الجيدة لا يقتصر على هذا المنحى ، و إنما يتجاوزه إلى التناغمية القائمة بين المكونات الدلالية للبنية السطحية و البنية الشعورية الداخلية للنص الشعري ، فقصيدة "رياح" مطلعها :
اهجري يا رياح معبد حلمي و دعيني في نشوتي و صلاتي
نموذج حي للبناء العضوي و التنامي الجدلي لمختلف العناصر و الفعاليات المنصهرة ، فالكلمة المحورية التي تشكل "العلبة السوداء" باصطلاح رولان بارت و "بذرة التخليق" كما يسميها الناقد محمد الميموني في قصيدة رياح هي "المعبد" و ليس الرياح التي جاءت عنوانا للقصيدة ، و قد لاحظ الباحث أن أبيات هذه الأخيرة تجسد دائرة دلالية صغرى تعكس "فاعلية الريح" و "سكونية" المعبد ، و في موازاة هذه الدائرة نجد على المستوى الوجداني نوعا من الاحتماء بالذات التي تواجه رياح المجهول ، و هكذا يميز الباحث بدقة وظيفة الناقد المنحصرة في إدراك مظاهر النشاط الفني ، دون تجاوز ذلك إلى "سبر أغوار آليات الفاعليىة الفنية" التي هي من اهتمام دارسي ظاهرة الإبداع الإنساني العام حسب وجهة نظره .
و من ضمن التمظهرات الفنية التي تسم قصائد عبد الكريم الطبال الأولى ( مرحلة الخمسينيات من القرن الماضي ) ، نذكر التراكيب البلاغية و التشكلات التصويرية ، إذ تكتنز نصوصه الإبداعية بالصور الشعرية التي تضفي قدرا من الغرابة على الكون النصي ، و تخرج المفردات المعجمية من دلالاتها المألوفة إلى دلالات سياقية مصاحبة ، و تنقل الرسالة الشعرية من وظيفة الإبلاغ إلى وظيفة الإمتاع ، يقول الشاعر في قصيدة "أحلام" :
ليتني كنت دمعة في جفون العشب ألهو مع الهبا و الضياء
ليتني كنت بسمة في فم الفجر فأجلي الظلام عن دنياي
ليتني كنت جدولا يتهادى في خطاه كأنه في علاء
فدمعة في جفون العشب و بسمة في فم الفجر و جدول يتهادى في خطاه ، أساليب استعارية انزياحية تنزع نحو تجسيد المجردات في أبهى و أرق صورة ، و إلى تشخيص معالم الطبيعة و الاندماج في حناياها ، فتنبجس البسمة من فم البحر ، و يتهاددى الجدول في خطاه ، فتنفجر المستويات الإيحائية للواقع الفيزيائي المحسوس ، تماما كما هو الشأن بالنسبة للإشراقات الرومانسية العالمية على يد ممثليها الأعلام : لامارتين و فيكتور وجو .. و كما يتجلى ذلك أيضا في الأعمال الشعرية الوجدانية العربية الحديثة ، عند كل من أبي القاسم الشابي و إبراهيم ناجي و جبران خليل جبران و أحمد زكي أبو شادي و عبد الرحمن شكري ..
خلاصة :
استطاع الشاعر و الباحث المغربي محمد الميموني ضمن هذه المقاربات النصية لبعض نماذج بدايات الشعر المغربي الحديث ، أن يعانق أبرز الدلالات و الرؤى الإنسانية ، التي تخللت مجمل هذه الأعمال ، و أن يستشرف تشكيلاتها و مكوناتها الجمالية ، جاعلا من القصيدة منطلقا محوريا للعملية التحليلية المحايثة للآليات النصية ، و مستجليا مظاهر شاعرية نصوص إبداعية طالما عانت ضروبا من الإهمال و الإقصاء ، و متجنبا أي ادعاء بالتسلح بالترسانة النقدية الحداثوية . فهل مقصدية الكاتب عبر هذا المنحى النقدي تتغيا إعادة الاعتبار للنص الشعري المظلوم من قبل بعض النقاد و الدارسين "المتخصصين" ؟ أم أن الأمر يتعلق برسالة نقدية مستترة تستدعي ضرورة إعادة تنظيم البيت النقدي في الساحة الأدبية العربية و المغربية على وجه التحديد !؟
الهوامش :
1 – محمد الميموني : في الشعر المغربي المعاصر : سبع خطوات رائدة – منشورات جمعية تطاون – أسمير 1999
2 – محمد بنيس : مساءلة الحداثة ، دار توبقال للنشر : الطبعة الأولى 1991 ص : 176
3 – محمد أنقار : صورة عطيل : منشورات نادي الكتاب ، كلية الآداب بتطوان ، الطبعة الأولى مارس 1999 ص : 6
4 – محمد الميموني ... ص : 7
5 – جان كوهن : بنية اللغة الشعرية : ترجمة محمد الولي و محمد العمري ، دار توبقال للنشر ، الطبعة الأولى 1986 ص : 13
6 – المرجع السابق : ص : 13

* باحث في قضايا الفكر و الأدب
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف