حين يُزهر السرو.
رائحةُ الأرضِ التي تربّيتُ عليها، بقايا قلبٍ ماتَ في العشرين من عمره، عقلي التّائه بين الحنين وذكرياتٍ عجاف، تجاعيدُ وجهي ومشيبُ رأسي، عُكّازتي التي حملتني خمسين عاماً، جميعهم تركوني في أول الطّريق حين أبصرتُ طيفَكِ يافاطمة.
خمسون عاماً، ما زلت عالقاً بين ذكرياتي على هذا الطّريق.
شَابَ الطّريق كما شابت ذاكرتي، لَكني لم أملُّ ذِكراكِ لحظة.
الجميل في ذاكرتي يا فاطمة أنها اعتادت أن تقتادني لهذا الطريق الذي واعدّتني فيه قبل رحيلي، لم أفهم كلامكِ حين قلتي إنَّ لقائنا حين يُزهر السرو.
أيزهر السروَ يا فاطمة؟
حتى شجرة السروِ تلك ملّت الانتظار ورحلت تاركةً خلفها رماداً يشتعل في قلبي مع كل شهيق.
لماذا أتيتِ الآن؟
= جاءني عيد الميلاد ولم تأتِ.
السرو في بيتنا امتلأ بالزهر والأجراس، فتّشتُ عنك بين الحضور وبين الغيّاب، بين الزهور، بين طيات هذا الطريق، لكنك لم تأتِ.
أكلَ الطريق من قدماي، ونهشت لحمي ذكرياتك، بقيتُ وحيدة، وحيدةٌ كهذه الصخرة التي مازالت تحمل حتى الآن شوقي لك.
الروحُ تعبت يا مالك، لم أستطع مقاومتهم أكثر حين أرادوا تزويجي.
كنتُ في السابعة عشر من عمري ولم يكن الخيار بيدي،
وكنتَ في العشرين من عمرك، لم تستطع فعل شيء حين أُجبرتُ على الزواج.
أرسلتُ إليكَ لم تأتِ، لم تكن بجانبي، بحثت عنك طويلاً لم أرك، أنتظرُ أياماً قالوا فيها إنك ستعود.
وعدّتني إنك سترجع حين ينضج التين على سفوح مجدل شمس، نضجَ التين خمسين مرةٍ، واشتعلت أزهار السروِ في ركن بيتنا خمسين مرة.
رحلتَ أنتَ كما رحلت مجدل شمس، تلهفتُ لسماعِ خبرِ عودتك حين عادت سيناء، لكنك لم تأتِ.
- آهٍ يا فاطمة...
الرصاصةُ التي اخترقت صدري لم تقتلني، أيقتل الأموات يافاطمة؟
أنا ميتٌ مذ سمعتُ خبر زفافكِ وأنا في صفوف المقاومة، كيف أعود لقريةٍ لستِ فيها، كيف أسير في طريقٍ لستِ رفيقتي فيه.
عدتُ حين رأيتكِ بالأمسِ تجمعين الزهور بثوبكِ الأبيض هذا، عيناكِ لم تذبل، مازال الجوري يغطي مساحاتٍ شاسعةٍ من وجنتيكِ.
ما زلتِ جميلةً كما كنتِ آخر مرةٍ رأيتكِ فيها عند الصخرة.
تلك الصخرة يافاطمة أصبحت ملجأ دموعي عند الاشتياق، ومسكن روحي حين الحنين.
انتظرت السّاعات عندها، أبحث عن أي شيء يدلني عليكِ، لعلَّ الرياح تركت بعض عطرك، بقايا كلماتٍ أجدني بين حروفها، بحثتُ طويلاً يافاطمة ولم أجدني.
= ما الذي جاء بك إلى هذا الطريق بعد هذا العمر يا مالك؟
-أنا لم أفارق هذا الطريق يوماً، أتعبني الموت يافاطمة ولستِ معي.
كنتُ أراكِ في كل شيء، في قطرات الندى عند كل صباح، في أفقِ الشمس حين المغيب، أنام على تراتيل ذكراكِ وأصحو على أنينِ فراقك.
وأنتِ ما الذي جاء بكِ يافاطمة؟
= رائحتكَ التي نبشت قبور الياسمين في قلبي وتوغلت في طيات ذاكرتي فأنعشتها وأعادت لي عمراً ضاع مني ولم أستطع حتى البحث عنهُ.
-هل هؤلاء أبنائكِ يا فاطمة؟
= أجل... جاؤوا بي إليكَ حين أتعبتني الحياة ومللتُ الانتظار...
وأنت هل تزوجت يا مالك؟
- ألم أقل لكِ يا فاطمة إنَّ السروَ لا يزهر!
مصطفى المفتي
رائحةُ الأرضِ التي تربّيتُ عليها، بقايا قلبٍ ماتَ في العشرين من عمره، عقلي التّائه بين الحنين وذكرياتٍ عجاف، تجاعيدُ وجهي ومشيبُ رأسي، عُكّازتي التي حملتني خمسين عاماً، جميعهم تركوني في أول الطّريق حين أبصرتُ طيفَكِ يافاطمة.
خمسون عاماً، ما زلت عالقاً بين ذكرياتي على هذا الطّريق.
شَابَ الطّريق كما شابت ذاكرتي، لَكني لم أملُّ ذِكراكِ لحظة.
الجميل في ذاكرتي يا فاطمة أنها اعتادت أن تقتادني لهذا الطريق الذي واعدّتني فيه قبل رحيلي، لم أفهم كلامكِ حين قلتي إنَّ لقائنا حين يُزهر السرو.
أيزهر السروَ يا فاطمة؟
حتى شجرة السروِ تلك ملّت الانتظار ورحلت تاركةً خلفها رماداً يشتعل في قلبي مع كل شهيق.
لماذا أتيتِ الآن؟
= جاءني عيد الميلاد ولم تأتِ.
السرو في بيتنا امتلأ بالزهر والأجراس، فتّشتُ عنك بين الحضور وبين الغيّاب، بين الزهور، بين طيات هذا الطريق، لكنك لم تأتِ.
أكلَ الطريق من قدماي، ونهشت لحمي ذكرياتك، بقيتُ وحيدة، وحيدةٌ كهذه الصخرة التي مازالت تحمل حتى الآن شوقي لك.
الروحُ تعبت يا مالك، لم أستطع مقاومتهم أكثر حين أرادوا تزويجي.
كنتُ في السابعة عشر من عمري ولم يكن الخيار بيدي،
وكنتَ في العشرين من عمرك، لم تستطع فعل شيء حين أُجبرتُ على الزواج.
أرسلتُ إليكَ لم تأتِ، لم تكن بجانبي، بحثت عنك طويلاً لم أرك، أنتظرُ أياماً قالوا فيها إنك ستعود.
وعدّتني إنك سترجع حين ينضج التين على سفوح مجدل شمس، نضجَ التين خمسين مرةٍ، واشتعلت أزهار السروِ في ركن بيتنا خمسين مرة.
رحلتَ أنتَ كما رحلت مجدل شمس، تلهفتُ لسماعِ خبرِ عودتك حين عادت سيناء، لكنك لم تأتِ.
- آهٍ يا فاطمة...
الرصاصةُ التي اخترقت صدري لم تقتلني، أيقتل الأموات يافاطمة؟
أنا ميتٌ مذ سمعتُ خبر زفافكِ وأنا في صفوف المقاومة، كيف أعود لقريةٍ لستِ فيها، كيف أسير في طريقٍ لستِ رفيقتي فيه.
عدتُ حين رأيتكِ بالأمسِ تجمعين الزهور بثوبكِ الأبيض هذا، عيناكِ لم تذبل، مازال الجوري يغطي مساحاتٍ شاسعةٍ من وجنتيكِ.
ما زلتِ جميلةً كما كنتِ آخر مرةٍ رأيتكِ فيها عند الصخرة.
تلك الصخرة يافاطمة أصبحت ملجأ دموعي عند الاشتياق، ومسكن روحي حين الحنين.
انتظرت السّاعات عندها، أبحث عن أي شيء يدلني عليكِ، لعلَّ الرياح تركت بعض عطرك، بقايا كلماتٍ أجدني بين حروفها، بحثتُ طويلاً يافاطمة ولم أجدني.
= ما الذي جاء بك إلى هذا الطريق بعد هذا العمر يا مالك؟
-أنا لم أفارق هذا الطريق يوماً، أتعبني الموت يافاطمة ولستِ معي.
كنتُ أراكِ في كل شيء، في قطرات الندى عند كل صباح، في أفقِ الشمس حين المغيب، أنام على تراتيل ذكراكِ وأصحو على أنينِ فراقك.
وأنتِ ما الذي جاء بكِ يافاطمة؟
= رائحتكَ التي نبشت قبور الياسمين في قلبي وتوغلت في طيات ذاكرتي فأنعشتها وأعادت لي عمراً ضاع مني ولم أستطع حتى البحث عنهُ.
-هل هؤلاء أبنائكِ يا فاطمة؟
= أجل... جاؤوا بي إليكَ حين أتعبتني الحياة ومللتُ الانتظار...
وأنت هل تزوجت يا مالك؟
- ألم أقل لكِ يا فاطمة إنَّ السروَ لا يزهر!
مصطفى المفتي