الأخبار
غزة: 138 شهيداً و452 جريحاً غالبيتهم من طالبي المساعدات في آخر 24 ساعة(رويترز): مصرفان عالميان يرفضان فتح حسابات لـ"مؤسسة غزة الإنسانية"كاتس: الجيش الإسرائيلي يعد خطة لضمان ألا تتمكن إيران من العودة لتهديدناترقُّب لرد حماس.. وإعلام إسرائيلي: ترامب قد يعلن الاثنين التوصل لاتفاق بغزة(فتح) ترد على تصريحات وزير الصناعة الإسرائيلي الداعية لتفكيك السلطة الفلسطينية30 عائلة تنزح قسراً من تجمع عرب المليحات شمال أريحا بفعل اعتداءات الاحتلال ومستوطنيهمقتل جنديين إسرائيليين وإصابة اثنين آخرين بجروح خطيرة في معارك قطاع غزة20 شهيداً في غارات للاحتلال على مواصي خانيونس وحي الصبرة بمدينة غزةغوتيريش: آخر شرايين البقاء على قيد الحياة بغزة تكاد تنقطعترامب وبوتين يبحثان الحرب في أوكرانيا والتطورات بالشرق الأوسطشهيد وثلاثة جرحى بغارة إسرائيلية استهدفت مركبة جنوب بيروتاستشهاد مواطن برصاص الاحتلال قرب مخيم نور شمس شرق طولكرمالشيخ يبحث مع وفد أوروبي وقف العدوان على غزة واعتداءات المستوطنيننحو صفقة ممكنة: قراءة في المقترح الأمريكي ومأزق الخياراتالكشف عن تفاصيل جديدة حول اتفاق غزة المرتقب
2025/7/4
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

ظاهرة الحزن في نصوص محمود سعيد.. دراسة سيميائية بقلم ياسمين الدرديسي

تاريخ النشر : 2020-09-29
قراءة في نصوص محمود سعيد وعناوينها
محمود سعيد ( شاعر الحزن)
بقلم ياسمين الدرديسي / دراسات عليا في الأدب والنقد
الحزنُ عاطفة إنسانيّة، من أبرز المضامين الشعريّة والوجدانيَّة التي حفَّت بها دواوين الشَّعراء المحدثين، تعكس مدى انفعال الشاعر، فتارة يفيض شعره باللذةِ والفرح، وتارة يفيض بالحزنِ والألمِ العميق، وقد اختلف الشَّعراء في إحساسهم بأنفسهم أو الكون والحياة من حولهم، اختلافاً مبعثه قوة الإدراك ، وعمق التّفكير، فمنذ أن خُلق الإنسان على هذه الأرض وهو يعاني أزمةَ الحياةِ، فجاء الشّعور بالحزنِ ( لفقدان عزيز، أو أحبة، أو نعمة، أو حرمان) رفيقاً له في هذه الحياة، فالحزن ألمٌ وغصةٌ في القلبِ ، وثورةٌ في العقلِ، وشدةٌ على النَّفس، وشعورٌ بالعجزِ والانكسار.
إنَّ القارئ لنصوص محمود سعيد يلاحظ بوضوح أنَّ الحزنَ ملمحٌ أساسي في أغلبِها، حيث جاءت قصائدُه أنَّاتِ قلوبٍ حزينةٍ، وصرخاتِ أفئدةٍ مفجوعةٍ، تَنسابُ هادئةً متسللةً إلى خبايا النُّفوس، تُوقظُ ما غابَ من مشاعرَ وأحاسيس، تُشعلُ في متلقِّيها ناراً هادئةً، تأخذُ بالتَّوهج والاشتعال والاتساع تدريجياً؛ لتضيء العتماتِ الدفينةَ، وترسمُ ملامحَ الحزنِ، وتركن إلى الشّكوى والأنين، ولكن على طريقته هو .
قد كان لا بد لي من تحديد مساري، واختيار ما يمكنني أن أجد صداه من خلال لمحات ذات مدلول في عملية الإبداع الشّعري، فقد ارتأيت أن تكون مشاعر الحزن منطلقاً لي،
من هنا جاءت قراءتي هذه في محاولةٍ لتجليةِ ظاهرة الحزن في شعر محمود سعيد، والكشف عن ماهيتها، وهو ما توقفت عنده في قراءتي لبعض نصوصه وعناوينها
إنَّ (النَّص عالم مغلق أو كون متعدد الأضلاع والأبواب) على حد تعبير جان كوهن (1)،وهو مملكة المبدع التي يشيّدها على أنقاض أفكارِه وتجاربِه،؛ لينعم بها جمهور القراء وتظلّ هذه المملكة غير مكتملة تحتاج إلى من يُتمم نقصها، ويبقى النّص رهن القيد إلى أن يأتي العنوان ويحرره، ويبقى العنوان" مفتاحاً تأويلياً كاشفاً، تبقى أيّة دراسة نقديّة للنّص الإبداعي ناقصة من دون معاينته والنظر إليه بجدية توازي النّظر إلى النّص" (1).
بالوقوف عند عناوين بعض النُّصوص، يستوقفنا عنوانه الأول "أوتعلمين" عنوان تساؤلي استنكاري يثير الدَّهشةَ، ويُنبه لما هو قادم، ويفتح الأفق أمام القارئ في محاولةٍ منه للمعرفةِ والانتظار بشغفٍ لما سيلقى عليه، فما هي الرسالة التي يريد أن ينقلها محمود سعيد إليها؟ فقد جاء فيها :
أوتعلمين..!!
كيف أصبحَ وجهكِ المَلكِيّ..
مذبحةً للحبِّ..
في قلبي ومقبرةً للأمنيات..
لقد بات وجه الفاتنة الملكيّة سبباً ومسبباً في إقامةِ مقبرة وأد الأمنيات في قلب الشَّاعر، مما زجَّ بأحلامهِ اليانعةِ إلى مقابرِ الأموات، فالحزن هنا المتكلم الوحيد بلسان حال الشَّاعر، فأضحى قلبه ضريحاً بين الأحياء.
أوتعلمين ..!!
أنَّ خواطري تشكو إليّ ..
وأنَّ مشاعري ..
تهفو إليكِ .. وأنَّ جوارحي..
تبكي عليكِ..
دماً لا يشبه الدمعات..
وأنَّ الصّمتَ..
أصعب من كلِّ اللغات..
نرى من أعظم بواعث الحزن والاستسلام لسلطانه أن أصبح القتيل يبكي على قاتله، فجوارحه تقطر دماً لا دمعاً، وقد تعمَّقت جذور الكآبةِ في نفسيتِه، وتحولت إلى فلسفةٍ تشاؤميّةٍ تترائ له من خلالها أشباح الآلام، فيصورها بأنغامٍ مختلفةٍ، تبيّن موقفه وتأملاته وأحزانه، فيجسم الحديث والصّراخ في الصّمت.

أما عنوانه الثاني (رُبما نيسان) لطالما ارتبط شهر نيسان بالتّراث والحكايا الشّعبيّة والأمثال العربيّة، فهو شهر الرَّبيع والورود، يُشيِّد جنةً على الأرضِ، وآيات للجمال، فيه ملامح الحياة، يرسمها المطر، لكنّ شهر نيسان (أبريل) شكّل لديه شهر الحزن، وارتبط به، فهل كان في هذا الشهر ميلاد المحبوبة، أم ولادة للحبِّ في قلبه، أم أنّه الشهر الذي زُفَّت فيه أميرته، وغدت عروس لغيره، وما يؤكد هذا القول أنّه عمد إلى شهرِ نيسان، وربطه بنصِّه مدللاً :
رُبّما نيسان..
في يومِ زفَّتِها..
سوف ترقصُ..
ملءِ ما في القلبِ..
من وجعٍ..
وتبكي..
ملءَ ما في الكونِ..
من أحزان...
يعمُّ الحزن الشَّاعر جرّاء رحيل الأحبّة، فتكون نبرته خافتة، تعبر عن قهره، وتظهر ضعفه أمام ما يجول في نفسه، فنراه يسمعنا نغمة حزينة، تعكسُ سوادُ ليلِ الهموم القابعة في نفسه، فيجتاحُ الحزنُ عالمَه وأفكارَه، ويختلجُ صدرَه، ويسكنُ جوارحَه، ويُحكمُ سيطرتَه عليه، يسطو الحنينُ على قلبِه، ويعدو الحزنُ ركناً أساسياً لهذا الحنين، ورغم الاشتياق، ولوعة فراق الأحبةِ، تنبأ الشاعر بالنهاية الحزينة التي تنتظر محبوبته ذات الطعنات القاسية المسترسلة بأنَّها ستزفُ إلى آخر، وترقصُ معه رقصةَ الحياةِ، مودعة ذاك الحبّ في قلبِه، حاصدة بيديِها الندم، فقد غرست من قبل حصادها حسرةً وألماً، ولسوف تبكي ملءَ ما في الكون..
ولكن ما سر هذا البكاء؟؟ ولماذا أكّد الشَّاعر على حتميّة حدوثه؟؟ هل لأنّها لم تنل حظها معه، أم لأنَّها وأدت هذا القلبُ المتيمُ والقتل في الشَّرع جريمةٌ ومحرم، أم لأنَّها ضيّعت ذاك العاشق الذي أحبَّها حد الثَّمالة وحد الوجع، فسوف تنتهي كل سعادة لها إلى الألم، وكل نعيم إلى الشّقاء والحرمان والألم.

يتفنن محمود سعيد في اختيار العنوان الذي يصلح أن يكون "المفتاح الذي من خلاله يُمكن حلّ اللغز الذي يكون كامناً في أعماق النّص، كذلك العكس فقد يكون بمثابة لغز، والنّص تفسير وتأويل له" (2) هكذا يباغتنا عنوان "مقابرٌ من ورق" افتتاحية مخيفة بصيغة التّنكير، تُثير الذّعر والهلع، وما هي إلا تعبير عن عبثية الزّمان التي تتحكّم بحياة الشَّاعر، وهذا دليل إمعان في إظهار حالة الحزن التي تسيطر عليه، بينما يمضي القدر بالإنسان إلى النّهاية، فيطرح العنوان العديد من التّساؤلات مفادها لمن هذه المقابر؟ ولماذا هي من ورق؟ ولماذا جاءت على صورة الجمع لا المفرد؟ أليست هي القبور المعهودة ولِمَ ...ولِمَ......؟؟!!
إنَّ الورقَ وسيلةُ الكتابةِ، وطرحَ الأفكارِ، ورصدَ المشاعرِ، وحلقة للتواصل والاتصال، ومن خلال الحروف ووضعها تحت مجهر التَّحليل يُمثِّل الورقُ الخفةَ والنعومةَ بتناثرِه إذا ما كان في مهب الريحِ، وهو الشَّاهد الحقيقي من خلال التَّوثيق حينما يضيع الكلام، فلعلّه أراد أن يوثِّقَ جرمها على مرِّ الأيام، ليكون شاهداً عليها ودليلاً ، وقد جاء بالمقابر على صيغة الجمع؛ لتوحي بكثرة صرعى معارك العشق، ولعلَّه أراد من ورائِها أنَّ القلوبَ باتت مقابرَ للعشقِ، وأنَّ قلوبَ العشاقِ أضحت هشة خفيفة من ورق، وأنَّ الموت النهاية، فقد عصفت ليالي الفناء بالشّاعر بعد أن لعبت أدوارها على مسرح الحياة، فنجده يقول:
سأموتُ .. بعد قليلْ ..
جهّزتُ نعشي ..
ثم ..
أسألُكِ الرحيلْ .. !!
ولبستُ ..
ثوباً .. أبيضاً ..
إياكِ ..
بعدي ترتدي ..
الشالَ الطويلْ ..!
يُصور محمود سعيد أزمة الإنسان من خلال شعرِه، ويتجاوز محنته كفرد إلى قضيّة الموت، فهي حقيقة مادية انعكست في الصّورة العاطفيّة، فيعبر عن مرارة الواقع، بأنّ الإنسان معذب في روحه، والحياة مقفرة، والعمر منصرم، فيناشد المحبوبة عندما يموت، وعند حضور نعشه ألا تحزن، ويطالبها بالرّحيل، وألا ترتدي الشال الطّويل وذلك فيه رمزيّة للحداد.
أطفأتِ ..
قِنديلَ المسافةِ ..
بين قلبي ..
واللقاءِ المستحيلْ ..!!
وكتبتُ ..
حرفاً لي على قبرٍ ..
" أني أُحبكِ "
جُملةً لا تقبلُ التأويلْ ..!!!!
إنّ الشَّاعر مسكون بأحزان ممتدة، متلاحقة لا تنتهي، إنّها أحزانٌ مجدبةٌ، وقاحلةٌ، وموجعةٌ، ليس فيها إلا الإعياء والألم، فصار يعيش جسداً بلا روح، ويتمنى أن يأتي الموتُ اليوم قبل غدٍ، ويئن تحت وطأة الغياب والرّحيل، فلم تعدْ المسافات فاصلة، ولا الأمكنة قادرة على طي صفحةِ الحبِّ الكبير، وبرغم اللقاء المستحيل والشّعور بقرب الموت سيترك كلمة أحبك على قبره، دليل تجدد الحب واستمراريته حتى بعد الموت، وفي هذا إشارة بأنّه يرى الحياة في الموت..

خلف العناوين حكايا غامضة أحاول استنطاقها، فقد أضحى النّص يقرأ من خلال العنوان حيث "لا وجود لقراءة خاطئة" (3)،ما دامت مستمدة من ثنايا النّص، والعنوان ليس مجرد تسميّة هامشيّة، بل عاملاً من عوامل التّأسيس والبناء المعماري للنّص فهو الذي" يَسمُ النّص، ويصفه، ويثبته، ويؤكده، ويُعلن مشروعيّتة القرائية..... ويزيل عنه كل غموض وإبهام "(4)
تسيرُ حركيّة الحياة في دائرة مغلقة، تبدأ مع بداية الإنسان، وتنتهي بحتميّة زواله، إنّه الموت، القضية الكبرى في عالم الوجود، والحد الفاصل بين العالم الواقعي الزّائف للأحياء، والعالم الحقيقي للحياة، لكن موت محمود سعيد موت مؤجل، فهو قتيل الهوى ولكن على قيد الحياة، إنَّ لفظة الموت لا تعدو أن تكون إشارة ضوئيَّة، ومؤشراً دالاً على النِّهايات، وتبدّل الأحوال، والاضمحلال والذَّوبان والتَّلاشي واللاوجود بكلِّ ما تحتويه هذه اللفظة من دلالات وإيحاءات متناقضة.
موتٌ مؤجل
صرتُ أشربُ ..
من إناءِ الحبِّ ما..
لذَّ الخرابَ..
واستقي بالحزنِ ..
خمراً..
كي ينامَ...
القلبُ سكران النوى ..
مرّ الغيابِ ..
يمرُّ بالأيامِ مراً..
لقد أثقلت الهموم رأس الشَّاعر، وبات يسيطر عليه الشُّعَور بالتَّهدم والسُّقوط، فلا تخلو قصيدةً من قصائده من رائحة الحزن أو طعمه، فقد شكّل رؤية الشَّاعر للعالم، ونلمس الكآبة والمأساة حين يخاطب الشَّاعر ذاته عن الموت، فبات يتجرّع كأس الخراب، ويرى في الحزن خمراً يُسكر القلب عن الاحساس بالغياب.

أمّا عنوانه "صلاة الغائب"، الصلاة خضوع وخشوع وامتثال، والغائب مجهول لدينا غير معروف، فهل هذه الصلاة على ميت قد غادر الحياة؟ أم هي صلاة تقرب وعبادة؟ أم على حاضرٍ غائب؟ فالعنوان له مؤشرات ودلالات على الدّاخل النَّصي حيث أنّ "عمل العنوان شبيه بعمل الطّبيب الذي يستدل على المرض من حالة النّبض، والعنوان هنا بمثابةِ نبض النّص فهو الدّال علي كلِّ شيء فيه" (5)
وبالسّير قدماً نحو النّص، نكاد نعثر عل الغائب لديه حيث يقول:
أوكلّما..
قبلت وجهكِ..
بالغروبِ تناثرت..
في القلبِ أنَّاتي..
مريض فيكِ..
لست أشفى..
منكِ..
من يومِ الولادةِ..
للمماتِ ..!!
الغروب مؤشر النّهايات، وفقدان الأمل، وبداية ليل حالك السّواد، باتت فيه القبلات أنَّات تتوهج في قلبِ الشَّاعر ، فلِمَ تولّد لديه هذا الإحساس ؟ لطالما القبلات شارة المحبة، وبشارة لهدوءِ النَفس واستكانتها بعد شوق واشتياق، فلا شك أنّها أمنية وحلم لم يتحقق، فقد أفلّ النّهار، وغربت شمسه دون أن يحظى بها، فأصبح مريضاً هزيلاً متيماً بحبِها لا شفاء ولا دواء منها .

وقوفاً عند عنوان "علمتني الحب" لا تكاد تقرأ قصيدةً لمحمود سعيد إلا وقد رُسمت غيمة الحزن والصبابة والفراق والألم على مساحة النّص، فنجد العنوان حمل اعترافاً واضحاً بفضل المعشوقة عليه، فهي من علّمته الحبّ، بل وعلّمته ما هو أكبر من الحبّ نفسه، أنَ للمحبِّ جزاء، وأنَّها موتته المؤجلة الآتية لا محالة التي تُراكم له الحزن فوق الحزن، وتُدمي له الفؤاد، فيقول :
وسأكتبُ..
في البوحِ الأخير..
الحزن فوق الحزنِ..
أنّكِ..
موتتي المؤجلة..
لقد أحبَّ الشُّعراء جميعهم المرأة، وكتبوا من وحيها، وأشادوا بها، وهذه الإشادة بالمرأة والخضوع لسلطانها، لم يكن من ضعفٍ، بل كان وراءها حب عميق، وصدق عاطفة، ونرى ذلك من خلال إفصاح الشّاعر عن حجم الحزن الذي احتله، فمعنوية الموت هنا أراد بها انتهاء كل مظاهر الفرح، وموت كل شيء جميل في حياته، وما استسلامه و كونه لواقعه إلا إقراراً واضحاً بعدم القدرة على مقارعة الزّمن والقدر وظروف الحياة التي استجدت عليه فجعلت الموت يلتفُّ حوله أينما سار..

ومروراً بعنوان (أجل) وبنظرة أولية للعنوان، يقول أجل .. أي "نعم" وهو تأكيد وإقرار بشيء ما ، جواب واضح لتساؤل قائم جاء ليتخذ من النّفي إثبات، لا أحد يُحبُّ قاتله، ولا أحد يرغب بلقاء الموت، فالموت لحظة اللاعودة، اللحظة الحاسمة في حياة الإنسان، التي ليس بعدها لحظات، فنجد أنَّ العنوان أجل حمل معنى الموت القائم لا محالة، فجاء الموت نكرة للعموم والشّمول، فهو السّكون والصّمت الأبدي الذي سيشمل الجميع بلا استثناء، جاء بكلمة أجل وترك مجال التّحليل مفتوحاً أمام القارئ الذي بعبوره باب الدار سيجد الموت مشرعاً بابه سواء بعُد الأمل أو قصر، وبالغوص في غمار النّص نجده يقول:
لن أعيشَ طويلاً..
سأموتُ من الآن حتى الغد..
أوأقصر ..
في العالمِ الأعلى..
سأكون بعد اللحظةِ الأولى ..
أو أقل أو أكثر ..
لن أكون ثقيلاً ..
على كتفِ التي كانت ..
ترشُّ القلبَ ..
بالرّيحان والسّوسن ..
ولن أحزنَ..
تفوحُ رائحةُ الموتِ من بين السّطور، ونشتم رائحتها في نعي محمود سعيد لنفسه وحظه، إذ يفضّل الموت على الحياة، وقد ولَّد لديه هذ الإحساس شعوراً يغلب عليه الحزن والأسى، عكسه من خلال صور فنيّة ذات أبعاد مشحونة بمكنون النَّفس الإنسانيّة، ومعاناتها، وحسرتها، وهمومها، فنجد نظرة سوداويّة للحياة والمرأة والكون، فهو أقرب ما يكون هنا للمناجاة، فيتحدث بضمير المتكلم؛ ليخبر المحبوبة أنّه لن يعيش طويلاً، ولن يكون لها عبئاً ثقيلاً، ولن يحزن، وهنا إشارة إلى توسل واستعطاف خفي لإثارة مشاعر العطف والرأفة.

بالانتقال إلى عنوان (رسالة شكر) يمكن القول بأنّ الرّسائل تحمل على أجنحتهِا أخباراً وأسراراً ومشاعر حبٍّ وتساؤلات اطمئنان، ولكنه يقول :
سأقول شكراً..
للغياب..
وقد أكملت بي..
ما كاد ينقص..
بالفؤاد النّازف..
فهنا حمَّلها الشّكر والامتنان وهو الأقرب للعتاب، حيث سيقدِّم رسائلَ شكرٍ للغياب الذي أكملَ ما نقُص بالفؤادِ المكلومُ من النّزفِ والجراح والألم.
ففي اللحظة نفسها التي تبدأ فيها الحياة، يبدأ الفناء يعد عداً تنازلياً عبر الزّمن الحائر الذي يطلق عليه اسم "العمر" فالغد يصبح اليوم، واليوم يسمى مصاحباً لهاجس اسمه " الموت" وهكذا تتكرر" حكاية الأيام " مع الحياة القصيرة" (6).
لقد عبّر الشَّاعر عن حزنه من خلال الألفاظ الموحية، والتّراكيب القويّة، والصُّور الحسيّة، والرِّموز الفنيَّة التي تُجسِّد واقعه، وتُصور نفسيته.

ثمّة صور تعكس صورة الحزن وتجسِّدها كصور" الشال المخضَّب بالحنين، الحظ عاقر، الحبّ رصاصة، مذبحة للمحبِّ، ثقبت ناي الحزن في القدِّ النّحيل، عشب الذّكريات" وهي صور حسيّة، تعكس سوداوية الشَّاعر وقتامة نفسه، وتجسّد حزنه الكبير الذي يغلَّف قلبه بالسّوادِ.

كان لظاهرة التّكرار دلالتها الأسلوبيّة المعبرة حيث كرّر بعض الكلمات مثل ( أوتعلمين - أربع مرات، رُبّما نيسان - ثلاث مرات، أنا من موت مؤجل- مرتان، أوكلما من صلاة الغائب- ثلاث مرات)، وبتشكيل بصري ممتد، ليؤكّد استمرار الحزن في قلبه استمراراً غير منقطع، وهذا الانتشار للحزن على مساحة الورق، قد أظهر الفجيعة وأبرز الألم بشكلٍ مكثفٍ.

لقد طغت ظاهرة الحذف على نصوص محمود سعيد، عمد إلى الإفادة من تقنيّة البياض والسّواد التي تضع القارئ أمام تجربة شعريّة لديها القدرة على توظيف الدلالات، وقراءة السّواد، وتأويل البياض، بمقتضي السّياق العام للنّص ف" البياض ليس فعلاً بريئاً أو عملاً محايداً، أو فضاءً مفروضاً على النّص من الخارج بقدر ما هو عمل واعٍ ومطهر من مظاهر الإبداعيّة، وسبب لوجود النّص وحياته" (7)، يعمل على إنتاج دلالات وايحاءات تداعب مخيلة القارئ، مما يجعل النّص الشّعري أكثر استفزازاً وتشويقاً وامتاعاً، ويفتح باب التّأويل واتساع الدّلالة، فقد ترك محمود سعيد للقارئ محاولة ملء الصفحة التي عجز أنين النّفس عن تكملتها، فالمعاناة قتلت الكلمات في حنجرته، فجاء فضاء البياض الواسع يلمح لهذه المعاناة، فالبياض علامة وقف تحجب الحديث المستفيض، والتي بالإمكان قرأتها عبر الصّمت .

وفي نهاية قراءتي توصلت إلى أهم المقتطفات..
*يعدُّ الحزن ملمحاً أساسياً في شعر محمود سعيد، فلا تخلو قصيدة من قصائدِه من رائحةِ الحزن، فقد شكّل الحزن رؤية الشَّاعر للعالم..
*لم يكن محمود سعيد رقماً إضافياً في قائمة الشُّعراء، ولم تأتِ قصائده بمحض الصدفة، بل تناول ظاهرة إنسانيّة وجدانيّة أزليّة، استوجبت أن نطلق عليه (شاعر الحزن) .
* الباعث الحقيقي للحزن عند محمود سعيد هو تجربته،الشّعورية الصّادقة التي مرّ بها، فعكست رؤيته على كل ما حوله، فغدا الحزن الظل والقرين له.
*جاءت العناوين تعكس قلباً وقالباً مضمون النُّصوص، حيث مثلت بوابة النّص الأولى.
*كان لظاهرة الحذف حضورها القوي مما يفتح باب التّأويل أمام المتلقي، بمقتضي السّياق العام للنّص.

1. إشكالية العنونة بين القصد وجمالية التّلقي، محمد صابر عبيد، مجلة الموقف الأدبي، ع374، دمشق، 2002،د.ص
2. سيمائية العنوان في قصيدتي "شب كير" لأحمد شامبو و"ليل يفيض من الجسد"، (دراسة مقارنة)، ص:25.
3. الخطيئة والتّفكير،عبدالله الغذامي، منشورات النادي الثقافي، جدة، السعودية، ط١، 1985،ص:251
4. السّيموطيقا والعنونة، جميل حمداوي، مجلة عالم الفكر، مج25، ع3، 1997.
5. العنوان في الشّعر العربي المعاصر، أنماطه ووظائفه، ضياء الثامري، مجلة القادسية والعلوم التربويةر، مج9، ع2، 2010، ص:15
6. معادلة الحياة والموت موضوعاً شعرياً، ليلى الهنداوي، دراسات تربوية، ع8، الكرخ الثانية، 2009، ص:184
7.الخطاب الشّعري الحديث من اللغوي إلى التّشكيل البصري، رضا ابن حميد، ص:100، نقلا عن الانحراف الكتابي، ص:101
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف