البناء الدرامي في قصص محمد خليل
طارق عبد الفضيل
الدخول إلى عالم محمد خليل القصصي دخول ممتع . و تزداد المتعة إذا كان الدخول عبر بوابة الربط بين القصة القصيرة و الدراما . و سوف نتوقف هنا عند قصص ثلاث اعتمد خليل في كتابتها بناء دراميا أشاد به كثير من الأدباء و الفنانين مثل الفنان المسرحي الكبير عبد الغفار عودة – كان وقتئذ مديرا للمسرح القومي – الذي أبدى رغبته في تقديمها على المسرح القومي ( تصريح للمؤلف محمد خليل ) ؛ كذلك أعجب بها الشعراء أحمد سويلم ( و وصفها بأنها جماع الفنون ) و فاروق جويدة . ( جمل عتاقة ص53 )
و الفرق بين القصة و المسرحية هو الفرق بين السردي و التمثيلي . فالمسرحية في تعريف النقاد هي قصة تمثيلية ، و القصة تحتوي على عناصر درامية ؛ ؟ ! كذلك يمكن أن تحتوي المسرحية على عنصر سردي إذا ما اعتمد الكاتب على الراوي و أعطاه صلاحيات كالتعليق على الأحداث و مخاطبة الجمهور بشكل مباشر .
و " القاص قد يستخدم تقنية واحدة من تقنيات الكتابة مثل السرد و الحوار و المونولوج و الفلاش باك و الراوي ." (ص52 فن كتابة القصة )
و يرى أرسطو أن الكاتب الدرامي يحقق محاكاته بطرق ثلاث: السرد في جزء ، و في جزء آخر يتقمص شخصية أخرى غير شخصيته ، ثم يروي القول على لسانها وإما أن يتكلم بلسانه هو وإما أن يعرض الشخصيات و هي تؤدي كل أفعالها أداء دراميا.( ص72 فن الشعر لأرسطو/ دكتور ابراهيم حمادة / مكتبة الأنجلو المصرية 1989)
و قد توصل فؤاد قنديل إلى تعريف للقصة القصيرة : " نص أدبي نثري يصور موقفا أو شعورا إنسانيا تصويرا مكثفا له أثر أو مغزى " ( فن كتابة القصة ص35 الهيئة العامة لقصور الثقافة 2002)
أما الكاتب المسرحي فيرى أرسطو أنه يعالج في أعماله الحقيقة المثالية و ليس الحقيقة التاريخية . فهو لا يعرض ما حدث ، و لكن سلسلة من الأحداث الممكن وقوعها طبقا لقاعدة الاحتمال و الحتمية . ( فن الشعر)
أما الرؤية السردية في القصة القصيرة فيرى فؤاد قنديل أن " كاتب القصة القصيرة يجلس في غرفة و يطل على شيء ما من ثقب الباب أو من خصاص النافذة "( فن كتابة القصة ص 42)
و قصص محمد خليل التي نتوقف لدراستها جمعت بين السرد و التمثيل بشكل واضح و غير تقليدي حتى نستطيع القول إن خليل كتب ما يمكن تسميته المسرحية القصصية . ثلاثة نصوص تؤكد ما نقول و هي : " مشاهدة تحت السلاح لمشهد في فصل من مسرحية واقعية جدا" و التي نشرت في مجموعته " مملكة الأرانب " و أعاد نشرها في مجموعة " جمل عتاقة " 2016
و القصة الثانية هي " مرثية للحب المخنوق " التي نشرت في مجموعة " نونوات النساء و القطط " ثم أعيد نشرها في مجموعة " جمل عتاقة " الصادرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة 2016.
ثم قصة " خلف حائط صغير و برميل "
يبدأ محمد خليل قصة مشاهدة تحت السلاح كما يلى :
( سيداتي آنساتي سادتي ! من مسرح القتل العمد أحييكم . و دون ترحيب بكم أدعوكم ؛ لمشاهدة مشهد جديد من المسرحية العالمية المعروفة ( اقتلهم قبل أن يقتلوك !) التي بهذا المشهد لم يتم فصلها الأول . و على وعد صادق أن تروا كل مشاهدها أولا فأول )
و قد أعلن أننا بإزاء عرض مسرحي ؛ لكن غير المتوقع هو أن العرض يقدم على مسرح القتل ؛ ثم إن اسم المسرحية ( اقتلهم قبل أن يقتلوك ) ينبيء بعرض دموي ، و يبعث في نفس المشاهد / المتفرج / القاريء مشاعر ترقب شديد لأحداث دامية . ثم يقدم الراوي بعض الإشارات للجمهور : (سدوا آذانكم ) مرة أخرى يصدم الجمهور فيطالبهم بعدم الاستماع ( و افتحوا عيونكم ) مما يعني أن الرؤية البصرية ستكون الحاكمة في هذا العرض .
و يبدأ الراوي في التحول عن الجدية الشديدة إلى بعض السخرية فيمنع قزقزة اللب و الصراخ ( المتوقع من المشاهد الدموية ) و الضحك ( نتوقع ألا يكون له مكان في هذا العرض ) و يدعوهم إلى قرض الأظافر بالأسنان مما يناسب بشاعة المشاهد . و يدعوهم في سخرية إلى البحث عن الإرادة تحت الأقدام . و يسمح لهم بارتعاشات المفاصل و الشفاه ( طبعا مع مشاهد القتل المتوقعة ).
و في "مرثية للحب المخنوق" يبدأ الراوي :" مشاهديّ الأعزاء : وعدناكم منذ سنوات خلت أن نعرض أولا فأول مشاهد مسرحية ( اقتلهم قبل أن يقتلوك) و الليلة حان الوقت لنعرض مشهدا جديدا " و الراوي هنا يطالب المتفرجين بإرهاف السمع . ثم طالبهم أن يضحكوا و يقهقهوا حتى تصطدم الرؤوس الخاوية في الأقفية المفلطحة . و طالبهم ألا يجزعوا و ألا يعبؤوا بآهات المجروحين .
و في " خلف حائط صغير و برميل" يبدأ الراوي : ( سيداتي سيداتي ! أسعد الله بالخير أوقاتكم . وعدناكم سلفا تقديم مشاهد مسرحية " اقتلهم قبل أن يقتلوك !" و هذا الصباح نعرض عليكم المشهد الجديد . )
القصص الثلاث إذا هي ثلاثة مشاهد من مسرحية واحدة هي " اقتلهم قبل أن يقتلوك "
و في كتابه (دعوة للحزن و الضحك ) الصادر 1998، حول صفوت سليمان قصة " مشاهدة تحت السلاح " إلى مسرحية ذات فصل واحد بدأها كالآتي:
ظلام تام – بقعة ضوء مستديرة في المنتصف – الستار مسدل – صوت من الخلف لشخص يبرز بعد قليل
الرجل: سيداتي آنساتي .. سادتي المشهد من مسرحية واقعية جدا ، نشاهدها كل يوم ... من مسرح القتل العمد أحييكم .. و دون ترحيب بكم ، أدعوكم لمشاهدة مشهد من المسرحية العالمية .. اقتلهم قبل أن يقتلوك .. و التي بهذا المشهد لم يتم فصلها الأول .. و على وعد صادق أن تروا كل مشاهدها أولا بأول .... و الآن (( اقتلهم قبل أن يقتلوك )) ( تكرار) .. إظلام ..
الفتاة: ( ضوء مركزي عليها ، في صالة الجمهور ) و لزوم نجاح العرض مجموعة إرشادات و تعريفات أولية .. لكم رجاء هام جدا. ( دعوة للحزن و الضحك ص47) و هكذا وزع دور الراوي على الرجل و الفتاة .
و نري في هذه المعالجة المسرحية إجراء تغييرات جوهرية في نص محمد خليل ؛ فقد اعتمد على مقدمة النص و خاتمته . غير أنه ابتكر شخصيات لا وجود لها في نص خليل مثل سامي و سعيد و جميلة و الأم زبيدة و الأب (أبو سامي )؛ بينما لا وجود في نص خليل إلا لياسر / الابن/ الراوي ؛ و الأب و الأم يرد ذكرهما فقط في حكايته . كذلك فإن الحبكة تختلف تماما عن حبكة خليل .و بالتالي فإن سليمان قطع الحبل السري بين العملين عندما اختار تعدد الأصوات بتعدد الشخصيات . ففقدت مسرحية سليمان الوهج الذي أمتعنا في نص خليل .
فهل كان أرسطو محقا عندما أكد : " و مع أن لعنصر المرئيات المسرحية – في الحقيقة- جاذبية انفعالية خاصة به ، إلا أنه أقل الأجزاء كلها من الناحية الفنية ، و أوهاها اتصالا بفن الشعر . فمن الممكن الشعور بتأثير التراجيديا حتى و لو لم يقم بتقديمها ممثلون في عرض عام ." ( فن الشعر ص99) مما دفع الدكتورة نهاد صليحة للقول " لقد فصل أرسطو النص الدرامي المكتوب عن العرض المسرحي المرئي ، و وضعه في مرتبة أعلى باعتباره أدبا يقرأه المثقفون في أبراجهم العاجية ، و يتأملونه في عزلة هادئة بعيدا عن صخب الحياة و في مأمن من مخالطة العامة و الدهماء ، و اعتبر العرض المسرحي لهذه النصوص الدرامية الأدبية ( الذي يضعها في سياق فنون الفرجة) عنصرا هامشيا ، يشغل أدنى مرتبة في عناصر الدراما ، و يمكن ، بل و من الأفضل الاستغناء عنه تماما . " ( ص14 المسرح بين النص و العرض – الهيئة العامة للكتاب – مكتبة الأسرة 1999)
و يرى داوسن أنه لا غنى عن المزاوجة بي النص و العرض: " المعلق النموذجي على الدراما ينبغي أن يمازج بين اهتمام نقدي مدقق في النص و عناية كاملة قدر الإمكان بضرورات التمثيل الفعلية و إمكاناته . "( ص21 الدراما و الدرامية – ترجمة جعفر صادق الخليلي – منشورات عويدات 1989 )
و قد قام محمد خليل بتحويل القصة إلى مونودراما بعنوان "الولد و البندقية" نشرت في كتاب "إيه الحكاية يا قط ؟!" الصادر عام 2008 عن الهيئة العامة لقصور الثقافة ؛ و قد كان بذلك أكثر التصاقا بنصه و فهما له ؛ فقصة محمد خليل مونودراما بامتياز ؛ وهي " مسرحية يقوم بتمثيلها ممثل واحد يكون الوحيد الذي له حق الكلام على خشبة المسرح . فقد يستعين النص المونودرامي في بعض الأحيان بعدد من الممثلين ، و لكن عليهم أن يظلوا صامتين طول العرض ." ( د. نهاد صليحة – التيارات المسرحية المعاصرة – الهيئة العامة للكتاب 1997 - ص 165) و ترى الدكتورة نهاد صليحة أن المونودراما ارتبطت بالنزعة الفردية و أنها توارت و ابتعدت عن المسرح في فترات المد الثوري الذي يتواءم مع العمل الجماعي. ( التيارات المسرحية ص170)
و صفوت سليمان لم يكتف بالشخصية الواحدة في حضورها على المسرح و لكنه اخترع شخصيات عديدة . بينما مونودراما محمد خليل التزمت بالنص القصصي و الشخصية المفردة على خشبة المسرح و هي ياسر الإبن / الراوي في القصة . حتى حضور الأب و الأم كان عبر المؤثرات الصوتية المسجلة .
في القصة اعتمد محمد خليل اللغة الفصحى ، بينما استخدم العامية المصرية في المونودراما و كأنه توجه كما قال أرسطو بالقصة إلى جمهور المثقفين ، بينما وجه خطابه في المونودراما إلى المتفرجين من العامة .
فيبدأ الراوي / ياسر كالآتي:
" سيداتي آنساتي سادتي .. من غير سلام من غير كلام ندخل في الموضوع .. بدون مقدمات أو ترحيبات أو تكريمات من أساليب أيام السلام إن كان فيه من البداية سلام .. ندخل في الموضوع .. طبعا كل واحد منكم بيسأل نفسه دلوقتي ( يشير إلى الجمهور بإصبعه ) – إنت و انت و انت و انتي هاتسألوني .. أمّال انت باعت جايبنا ليه؟ .. أقول لكم .. أنا جبتكم هنا علشان أوريكم آخر المشاهد الجديدة في المهزلة العالمية الأميركية الإسرائيلية الأوربية ( إقتلهم قبل أن يقتلوك) " ( إيه الحكاية يا قط ص 85-86 )
اعتبر خليل اللغة – إذا - أحد مكونات العرض المسرحي فاستخدم لغة العوام . كان خليل أمينا على نصه فلم نشعر حتى بتغيير اللغة ؛ احتفظ نص المونودراما بروح و جسد النص القصصي . على النقيض من صفوت سليمان الذي – رغم استخدامه اللغة الفصحى – أنشأ نصا / عرضا مغايرا لنص / عرض محمد خليل .
المكان في " مشاهدة تحت السلاح " غرقة ضيقة واطئة باهتة باردة في سجن من نار بلا أسوار. و في " مرثية للحب المخنوق " غابة عربية عبرية غربية . سنية شيعية ، كردية أردية ، تاهت بين أجماتها العزة الإسلامية . و في " خلف حائط صغير و برميل " المكان ميدان المسجد الأقصى ، و ما حوله . و يبدو جليا أن مكان محمد خليل غير تقليدي ؛ و أنه صب جام غضبه و سخريته حتى في وصف المكان. كما يبدو أن هذا المكان سيكون مسرحا لأحداث بشعة . و عن مكان القصة القصيرة :" فطبيعة زمانها و شخصياتها و حدثها الوحيد البسيط لا تحتمل إلا مكانا واحدا و ربما لا تتناول غير جانب منه ... و أحيانا لا يكون على الإطلاق ، إذ لا تتاح الفرصة و نحن نغوص في نفسية الشخصية التي تعاني من أزمة ، و نركز على همومها المصيرية ، كي نفرغ لوصف مكان ما . ( فن كتابة القصة ص50-51 )
لكن محمد خليل لم يفته أن يصف المكان/ ديكور و خلفية العرض المسرحي وصفا يغني عن كثير من الكلام ؛ فكأنه اختار لغة إشارية تساعد الشخصية الواحدة في نقل أفكارها و مشاعرها .
فالديكور في " مشاهدة تحت السلاح : " أنا و أمي وأبي . و الخلفية : هواء راكد ، شمس غاضبة غائبة غاربة في محيط من الثلج ، و قمر حزين ، جنين يأبى أن يخرج من رحم الشمس . " و الإضاءة نيران المدفعية . و بقعة ضوء خفيفة واهنة كومضة أمل في قلب فقد الأمل .
و في " مرثية للحب المخنوق " الديكور : " أنا و زوجتي ، و ولدي و ابنتي . و الخلفية ابتسامة من الوجه و عناق للرأس ، و خنجر في الظهر ، و نشوة بلحم شقيق مقتول . " و الإضاءة نيران المدفعية ، تشتعل الآبار . ترتفع النار . تضيء الطريق ؛ لدمار الديار .
و في " خلف حائط صغير و برميل " الرقاب المجذوذة ، و الأشلاء المبتورة ، و بقايا الأجساد المتناثرة ! و الخلفية بيوت و شوارع القدس المحتلة . و الإضاءة شمس النهار.
و إصرار محمد خليل على الشخصية المفردة له ما يبرره سواء في القصة أو المونودراما . " إن ظهور ممثل واحد على خشبة المسرح لمدة ساعة أو أكثر يخلق الإحساس( بالعزلة) لدى المتفرج مهما كان موضوع المسرحية ، " ( التيارات المسرحية ص171) أما القصة " معنية بتصوير شخصية واحدة أو على الأكثر اثنتين في موقف بسيط دون أن تعبأ بغيرهما ، " ( فن كتابة القصة ص44 -45 )
و القصة كما يرى فؤاد قنديل" قد تصور موقفا يستغرق دقائق أو ساعة و ربما ساعات أو يوما كاملا " ( فن كتابة القصة ص44 )
" إن المونودراما تبرر بصورة غير مباشرة انتفاء القدرة على الفعل – اللهم إلا إذا كان فعلا انتحاريا و هذا ملمح آخر من ملامحها . "(التيارات المسرحية ص171)
و عجز ياسر في " مشاهدة تحت السلاح " لا يحتاج إلى دليل . فهو لا يستطيع التصويب بالبندقية التي يحملها منذ الطفولة . كذلك يعجز الأب في " مرثية للحب المخنوق " عن عمل أي شيء لعائلته إلا الدفن ! و يستوحي خليل في " خلف حائط صغير و برميل " قصة محمد الدرة الذي قتل بين يدي أبيه الذي عجز عن حمايته و إنقاذه .
وأما الزمن في " مشاهدة تحت السلاح " فهو الماضي و الحاضر و المستقبل . و في " مرثية للحب المخنوق " الزمن هو الحاضر و المستقبل و المجهول . و في " خلف حائط صغير وبرميل" الزمن أية ساعة في أي يوم في أي شهر في أية سنة . عمد محمد خليل إلى فتح أفق الزمن فلم يحدده بفترة زمنية و ذلك لأن القضية التي يعالجها ممتدة عبر الزمن من الماضي إلى المستقبل مرورا بالحاضر .
نقل لنا خليل مأساة البطل بشكل مكثف جدا " و غالبا ما تتمتع المونودراما كشكل فني بالكثافة الشعورية الشديدة النابعة من تركيز الحدث الدرامي في شخصية واحدة تلح على وجدان المتفرج طول العرض . و ربما كانت هذه الكثافة الشعورية أحد عوامل الجذب الرئيسية فيها "(التيارات المسرحية ص172)
" أما القصة القصيرة فهي نص مكثف إلى أقصى درجة ، لا حشو فيه و لا تأكيد و لا تكرار " ( فن كتابة القصة ص49 )
و ترك خليل الباب مفتوحا أمام القضية فهي مستمرة . و بطل خليل غير قادر على حلها "لا تطرح المونودراما كشكل فني إمكانية التغيير الاجتماعي ، و أقصى إنجاز إيجابي يتحقق من خلالها هو تعرية البطل الفرد ( الذي يصبح بحكم الشكل الذي يطرحه وحده على المسرح لمدة ساعة أو أكثر رمزا للإنسانية جمعاء ، دون أن تستشرف طريقا لرأب الصدع الذي تعريه . "(التيارات المسرحية ص172 -173)
نجح محمد خليل في التعبير عن قضيته و توصيل رسالته في كل من القصة و المونودراما ؛ بنجاحه في اختيار الشكل الفني الملائم ؛ و قدرته الفائقة ككاتب .
.
طارق عبد الفضيل
الدخول إلى عالم محمد خليل القصصي دخول ممتع . و تزداد المتعة إذا كان الدخول عبر بوابة الربط بين القصة القصيرة و الدراما . و سوف نتوقف هنا عند قصص ثلاث اعتمد خليل في كتابتها بناء دراميا أشاد به كثير من الأدباء و الفنانين مثل الفنان المسرحي الكبير عبد الغفار عودة – كان وقتئذ مديرا للمسرح القومي – الذي أبدى رغبته في تقديمها على المسرح القومي ( تصريح للمؤلف محمد خليل ) ؛ كذلك أعجب بها الشعراء أحمد سويلم ( و وصفها بأنها جماع الفنون ) و فاروق جويدة . ( جمل عتاقة ص53 )
و الفرق بين القصة و المسرحية هو الفرق بين السردي و التمثيلي . فالمسرحية في تعريف النقاد هي قصة تمثيلية ، و القصة تحتوي على عناصر درامية ؛ ؟ ! كذلك يمكن أن تحتوي المسرحية على عنصر سردي إذا ما اعتمد الكاتب على الراوي و أعطاه صلاحيات كالتعليق على الأحداث و مخاطبة الجمهور بشكل مباشر .
و " القاص قد يستخدم تقنية واحدة من تقنيات الكتابة مثل السرد و الحوار و المونولوج و الفلاش باك و الراوي ." (ص52 فن كتابة القصة )
و يرى أرسطو أن الكاتب الدرامي يحقق محاكاته بطرق ثلاث: السرد في جزء ، و في جزء آخر يتقمص شخصية أخرى غير شخصيته ، ثم يروي القول على لسانها وإما أن يتكلم بلسانه هو وإما أن يعرض الشخصيات و هي تؤدي كل أفعالها أداء دراميا.( ص72 فن الشعر لأرسطو/ دكتور ابراهيم حمادة / مكتبة الأنجلو المصرية 1989)
و قد توصل فؤاد قنديل إلى تعريف للقصة القصيرة : " نص أدبي نثري يصور موقفا أو شعورا إنسانيا تصويرا مكثفا له أثر أو مغزى " ( فن كتابة القصة ص35 الهيئة العامة لقصور الثقافة 2002)
أما الكاتب المسرحي فيرى أرسطو أنه يعالج في أعماله الحقيقة المثالية و ليس الحقيقة التاريخية . فهو لا يعرض ما حدث ، و لكن سلسلة من الأحداث الممكن وقوعها طبقا لقاعدة الاحتمال و الحتمية . ( فن الشعر)
أما الرؤية السردية في القصة القصيرة فيرى فؤاد قنديل أن " كاتب القصة القصيرة يجلس في غرفة و يطل على شيء ما من ثقب الباب أو من خصاص النافذة "( فن كتابة القصة ص 42)
و قصص محمد خليل التي نتوقف لدراستها جمعت بين السرد و التمثيل بشكل واضح و غير تقليدي حتى نستطيع القول إن خليل كتب ما يمكن تسميته المسرحية القصصية . ثلاثة نصوص تؤكد ما نقول و هي : " مشاهدة تحت السلاح لمشهد في فصل من مسرحية واقعية جدا" و التي نشرت في مجموعته " مملكة الأرانب " و أعاد نشرها في مجموعة " جمل عتاقة " 2016
و القصة الثانية هي " مرثية للحب المخنوق " التي نشرت في مجموعة " نونوات النساء و القطط " ثم أعيد نشرها في مجموعة " جمل عتاقة " الصادرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة 2016.
ثم قصة " خلف حائط صغير و برميل "
يبدأ محمد خليل قصة مشاهدة تحت السلاح كما يلى :
( سيداتي آنساتي سادتي ! من مسرح القتل العمد أحييكم . و دون ترحيب بكم أدعوكم ؛ لمشاهدة مشهد جديد من المسرحية العالمية المعروفة ( اقتلهم قبل أن يقتلوك !) التي بهذا المشهد لم يتم فصلها الأول . و على وعد صادق أن تروا كل مشاهدها أولا فأول )
و قد أعلن أننا بإزاء عرض مسرحي ؛ لكن غير المتوقع هو أن العرض يقدم على مسرح القتل ؛ ثم إن اسم المسرحية ( اقتلهم قبل أن يقتلوك ) ينبيء بعرض دموي ، و يبعث في نفس المشاهد / المتفرج / القاريء مشاعر ترقب شديد لأحداث دامية . ثم يقدم الراوي بعض الإشارات للجمهور : (سدوا آذانكم ) مرة أخرى يصدم الجمهور فيطالبهم بعدم الاستماع ( و افتحوا عيونكم ) مما يعني أن الرؤية البصرية ستكون الحاكمة في هذا العرض .
و يبدأ الراوي في التحول عن الجدية الشديدة إلى بعض السخرية فيمنع قزقزة اللب و الصراخ ( المتوقع من المشاهد الدموية ) و الضحك ( نتوقع ألا يكون له مكان في هذا العرض ) و يدعوهم إلى قرض الأظافر بالأسنان مما يناسب بشاعة المشاهد . و يدعوهم في سخرية إلى البحث عن الإرادة تحت الأقدام . و يسمح لهم بارتعاشات المفاصل و الشفاه ( طبعا مع مشاهد القتل المتوقعة ).
و في "مرثية للحب المخنوق" يبدأ الراوي :" مشاهديّ الأعزاء : وعدناكم منذ سنوات خلت أن نعرض أولا فأول مشاهد مسرحية ( اقتلهم قبل أن يقتلوك) و الليلة حان الوقت لنعرض مشهدا جديدا " و الراوي هنا يطالب المتفرجين بإرهاف السمع . ثم طالبهم أن يضحكوا و يقهقهوا حتى تصطدم الرؤوس الخاوية في الأقفية المفلطحة . و طالبهم ألا يجزعوا و ألا يعبؤوا بآهات المجروحين .
و في " خلف حائط صغير و برميل" يبدأ الراوي : ( سيداتي سيداتي ! أسعد الله بالخير أوقاتكم . وعدناكم سلفا تقديم مشاهد مسرحية " اقتلهم قبل أن يقتلوك !" و هذا الصباح نعرض عليكم المشهد الجديد . )
القصص الثلاث إذا هي ثلاثة مشاهد من مسرحية واحدة هي " اقتلهم قبل أن يقتلوك "
و في كتابه (دعوة للحزن و الضحك ) الصادر 1998، حول صفوت سليمان قصة " مشاهدة تحت السلاح " إلى مسرحية ذات فصل واحد بدأها كالآتي:
ظلام تام – بقعة ضوء مستديرة في المنتصف – الستار مسدل – صوت من الخلف لشخص يبرز بعد قليل
الرجل: سيداتي آنساتي .. سادتي المشهد من مسرحية واقعية جدا ، نشاهدها كل يوم ... من مسرح القتل العمد أحييكم .. و دون ترحيب بكم ، أدعوكم لمشاهدة مشهد من المسرحية العالمية .. اقتلهم قبل أن يقتلوك .. و التي بهذا المشهد لم يتم فصلها الأول .. و على وعد صادق أن تروا كل مشاهدها أولا بأول .... و الآن (( اقتلهم قبل أن يقتلوك )) ( تكرار) .. إظلام ..
الفتاة: ( ضوء مركزي عليها ، في صالة الجمهور ) و لزوم نجاح العرض مجموعة إرشادات و تعريفات أولية .. لكم رجاء هام جدا. ( دعوة للحزن و الضحك ص47) و هكذا وزع دور الراوي على الرجل و الفتاة .
و نري في هذه المعالجة المسرحية إجراء تغييرات جوهرية في نص محمد خليل ؛ فقد اعتمد على مقدمة النص و خاتمته . غير أنه ابتكر شخصيات لا وجود لها في نص خليل مثل سامي و سعيد و جميلة و الأم زبيدة و الأب (أبو سامي )؛ بينما لا وجود في نص خليل إلا لياسر / الابن/ الراوي ؛ و الأب و الأم يرد ذكرهما فقط في حكايته . كذلك فإن الحبكة تختلف تماما عن حبكة خليل .و بالتالي فإن سليمان قطع الحبل السري بين العملين عندما اختار تعدد الأصوات بتعدد الشخصيات . ففقدت مسرحية سليمان الوهج الذي أمتعنا في نص خليل .
فهل كان أرسطو محقا عندما أكد : " و مع أن لعنصر المرئيات المسرحية – في الحقيقة- جاذبية انفعالية خاصة به ، إلا أنه أقل الأجزاء كلها من الناحية الفنية ، و أوهاها اتصالا بفن الشعر . فمن الممكن الشعور بتأثير التراجيديا حتى و لو لم يقم بتقديمها ممثلون في عرض عام ." ( فن الشعر ص99) مما دفع الدكتورة نهاد صليحة للقول " لقد فصل أرسطو النص الدرامي المكتوب عن العرض المسرحي المرئي ، و وضعه في مرتبة أعلى باعتباره أدبا يقرأه المثقفون في أبراجهم العاجية ، و يتأملونه في عزلة هادئة بعيدا عن صخب الحياة و في مأمن من مخالطة العامة و الدهماء ، و اعتبر العرض المسرحي لهذه النصوص الدرامية الأدبية ( الذي يضعها في سياق فنون الفرجة) عنصرا هامشيا ، يشغل أدنى مرتبة في عناصر الدراما ، و يمكن ، بل و من الأفضل الاستغناء عنه تماما . " ( ص14 المسرح بين النص و العرض – الهيئة العامة للكتاب – مكتبة الأسرة 1999)
و يرى داوسن أنه لا غنى عن المزاوجة بي النص و العرض: " المعلق النموذجي على الدراما ينبغي أن يمازج بين اهتمام نقدي مدقق في النص و عناية كاملة قدر الإمكان بضرورات التمثيل الفعلية و إمكاناته . "( ص21 الدراما و الدرامية – ترجمة جعفر صادق الخليلي – منشورات عويدات 1989 )
و قد قام محمد خليل بتحويل القصة إلى مونودراما بعنوان "الولد و البندقية" نشرت في كتاب "إيه الحكاية يا قط ؟!" الصادر عام 2008 عن الهيئة العامة لقصور الثقافة ؛ و قد كان بذلك أكثر التصاقا بنصه و فهما له ؛ فقصة محمد خليل مونودراما بامتياز ؛ وهي " مسرحية يقوم بتمثيلها ممثل واحد يكون الوحيد الذي له حق الكلام على خشبة المسرح . فقد يستعين النص المونودرامي في بعض الأحيان بعدد من الممثلين ، و لكن عليهم أن يظلوا صامتين طول العرض ." ( د. نهاد صليحة – التيارات المسرحية المعاصرة – الهيئة العامة للكتاب 1997 - ص 165) و ترى الدكتورة نهاد صليحة أن المونودراما ارتبطت بالنزعة الفردية و أنها توارت و ابتعدت عن المسرح في فترات المد الثوري الذي يتواءم مع العمل الجماعي. ( التيارات المسرحية ص170)
و صفوت سليمان لم يكتف بالشخصية الواحدة في حضورها على المسرح و لكنه اخترع شخصيات عديدة . بينما مونودراما محمد خليل التزمت بالنص القصصي و الشخصية المفردة على خشبة المسرح و هي ياسر الإبن / الراوي في القصة . حتى حضور الأب و الأم كان عبر المؤثرات الصوتية المسجلة .
في القصة اعتمد محمد خليل اللغة الفصحى ، بينما استخدم العامية المصرية في المونودراما و كأنه توجه كما قال أرسطو بالقصة إلى جمهور المثقفين ، بينما وجه خطابه في المونودراما إلى المتفرجين من العامة .
فيبدأ الراوي / ياسر كالآتي:
" سيداتي آنساتي سادتي .. من غير سلام من غير كلام ندخل في الموضوع .. بدون مقدمات أو ترحيبات أو تكريمات من أساليب أيام السلام إن كان فيه من البداية سلام .. ندخل في الموضوع .. طبعا كل واحد منكم بيسأل نفسه دلوقتي ( يشير إلى الجمهور بإصبعه ) – إنت و انت و انت و انتي هاتسألوني .. أمّال انت باعت جايبنا ليه؟ .. أقول لكم .. أنا جبتكم هنا علشان أوريكم آخر المشاهد الجديدة في المهزلة العالمية الأميركية الإسرائيلية الأوربية ( إقتلهم قبل أن يقتلوك) " ( إيه الحكاية يا قط ص 85-86 )
اعتبر خليل اللغة – إذا - أحد مكونات العرض المسرحي فاستخدم لغة العوام . كان خليل أمينا على نصه فلم نشعر حتى بتغيير اللغة ؛ احتفظ نص المونودراما بروح و جسد النص القصصي . على النقيض من صفوت سليمان الذي – رغم استخدامه اللغة الفصحى – أنشأ نصا / عرضا مغايرا لنص / عرض محمد خليل .
المكان في " مشاهدة تحت السلاح " غرقة ضيقة واطئة باهتة باردة في سجن من نار بلا أسوار. و في " مرثية للحب المخنوق " غابة عربية عبرية غربية . سنية شيعية ، كردية أردية ، تاهت بين أجماتها العزة الإسلامية . و في " خلف حائط صغير و برميل " المكان ميدان المسجد الأقصى ، و ما حوله . و يبدو جليا أن مكان محمد خليل غير تقليدي ؛ و أنه صب جام غضبه و سخريته حتى في وصف المكان. كما يبدو أن هذا المكان سيكون مسرحا لأحداث بشعة . و عن مكان القصة القصيرة :" فطبيعة زمانها و شخصياتها و حدثها الوحيد البسيط لا تحتمل إلا مكانا واحدا و ربما لا تتناول غير جانب منه ... و أحيانا لا يكون على الإطلاق ، إذ لا تتاح الفرصة و نحن نغوص في نفسية الشخصية التي تعاني من أزمة ، و نركز على همومها المصيرية ، كي نفرغ لوصف مكان ما . ( فن كتابة القصة ص50-51 )
لكن محمد خليل لم يفته أن يصف المكان/ ديكور و خلفية العرض المسرحي وصفا يغني عن كثير من الكلام ؛ فكأنه اختار لغة إشارية تساعد الشخصية الواحدة في نقل أفكارها و مشاعرها .
فالديكور في " مشاهدة تحت السلاح : " أنا و أمي وأبي . و الخلفية : هواء راكد ، شمس غاضبة غائبة غاربة في محيط من الثلج ، و قمر حزين ، جنين يأبى أن يخرج من رحم الشمس . " و الإضاءة نيران المدفعية . و بقعة ضوء خفيفة واهنة كومضة أمل في قلب فقد الأمل .
و في " مرثية للحب المخنوق " الديكور : " أنا و زوجتي ، و ولدي و ابنتي . و الخلفية ابتسامة من الوجه و عناق للرأس ، و خنجر في الظهر ، و نشوة بلحم شقيق مقتول . " و الإضاءة نيران المدفعية ، تشتعل الآبار . ترتفع النار . تضيء الطريق ؛ لدمار الديار .
و في " خلف حائط صغير و برميل " الرقاب المجذوذة ، و الأشلاء المبتورة ، و بقايا الأجساد المتناثرة ! و الخلفية بيوت و شوارع القدس المحتلة . و الإضاءة شمس النهار.
و إصرار محمد خليل على الشخصية المفردة له ما يبرره سواء في القصة أو المونودراما . " إن ظهور ممثل واحد على خشبة المسرح لمدة ساعة أو أكثر يخلق الإحساس( بالعزلة) لدى المتفرج مهما كان موضوع المسرحية ، " ( التيارات المسرحية ص171) أما القصة " معنية بتصوير شخصية واحدة أو على الأكثر اثنتين في موقف بسيط دون أن تعبأ بغيرهما ، " ( فن كتابة القصة ص44 -45 )
و القصة كما يرى فؤاد قنديل" قد تصور موقفا يستغرق دقائق أو ساعة و ربما ساعات أو يوما كاملا " ( فن كتابة القصة ص44 )
" إن المونودراما تبرر بصورة غير مباشرة انتفاء القدرة على الفعل – اللهم إلا إذا كان فعلا انتحاريا و هذا ملمح آخر من ملامحها . "(التيارات المسرحية ص171)
و عجز ياسر في " مشاهدة تحت السلاح " لا يحتاج إلى دليل . فهو لا يستطيع التصويب بالبندقية التي يحملها منذ الطفولة . كذلك يعجز الأب في " مرثية للحب المخنوق " عن عمل أي شيء لعائلته إلا الدفن ! و يستوحي خليل في " خلف حائط صغير و برميل " قصة محمد الدرة الذي قتل بين يدي أبيه الذي عجز عن حمايته و إنقاذه .
وأما الزمن في " مشاهدة تحت السلاح " فهو الماضي و الحاضر و المستقبل . و في " مرثية للحب المخنوق " الزمن هو الحاضر و المستقبل و المجهول . و في " خلف حائط صغير وبرميل" الزمن أية ساعة في أي يوم في أي شهر في أية سنة . عمد محمد خليل إلى فتح أفق الزمن فلم يحدده بفترة زمنية و ذلك لأن القضية التي يعالجها ممتدة عبر الزمن من الماضي إلى المستقبل مرورا بالحاضر .
نقل لنا خليل مأساة البطل بشكل مكثف جدا " و غالبا ما تتمتع المونودراما كشكل فني بالكثافة الشعورية الشديدة النابعة من تركيز الحدث الدرامي في شخصية واحدة تلح على وجدان المتفرج طول العرض . و ربما كانت هذه الكثافة الشعورية أحد عوامل الجذب الرئيسية فيها "(التيارات المسرحية ص172)
" أما القصة القصيرة فهي نص مكثف إلى أقصى درجة ، لا حشو فيه و لا تأكيد و لا تكرار " ( فن كتابة القصة ص49 )
و ترك خليل الباب مفتوحا أمام القضية فهي مستمرة . و بطل خليل غير قادر على حلها "لا تطرح المونودراما كشكل فني إمكانية التغيير الاجتماعي ، و أقصى إنجاز إيجابي يتحقق من خلالها هو تعرية البطل الفرد ( الذي يصبح بحكم الشكل الذي يطرحه وحده على المسرح لمدة ساعة أو أكثر رمزا للإنسانية جمعاء ، دون أن تستشرف طريقا لرأب الصدع الذي تعريه . "(التيارات المسرحية ص172 -173)
نجح محمد خليل في التعبير عن قضيته و توصيل رسالته في كل من القصة و المونودراما ؛ بنجاحه في اختيار الشكل الفني الملائم ؛ و قدرته الفائقة ككاتب .
.