الأخبار
إعلام إسرائيلي: إسرائيل تستعد لاجتياح رفح "قريباً جداً" وبتنسيق مع واشنطنأبو عبيدة: الاحتلال عالق في غزة ويحاول إيهام العالم بأنه قضى على فصائل المقاومةبعد جنازة السعدني.. نائب مصري يتقدم بتعديل تشريعي لتنظيم تصوير الجنازاتبايدن يعلن استثمار سبعة مليارات دولار في الطاقة الشمسيةوفاة العلامة اليمني الشيخ عبد المجيد الزنداني في تركيامنح الخليجيين تأشيرات شنغن لـ 5 أعوام عند التقديم للمرة الأولىتقرير: إسرائيل تفشل عسكرياً بغزة وتتجه نحو طريق مسدودالخارجية الأمريكية: لا سبيل للقيام بعملية برفح لا تضر بالمدنييننيويورك تايمز: إسرائيل أخفقت وكتائب حماس تحت الأرض وفوقهاحماس تدين تصريحات بلينكن وترفض تحميلها مسؤولية تعطيل الاتفاقمصر تطالب بتحقيق دولي بالمجازر والمقابر الجماعية في قطاع غزةالمراجعة المستقلة للأونروا تخلص إلى أن الوكالة تتبع نهجا حياديا قويامسؤول أممي يدعو للتحقيق باكتشاف مقبرة جماعية في مجمع ناصر الطبي بخانيونسإطلاق مجموعة تنسيق قطاع الإعلام الفلسطينياتفاق على تشكيل هيئة تأسيسية لجمعية الناشرين الفلسطينيين
2024/4/27
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

الشخصيات الرئيسية في روايات صبحي فحماوي بقلم: أمين دراوشة

تاريخ النشر : 2020-09-23
الشخصيات الرئيسية في روايات صبحي فحماوي بقلم: أمين دراوشة
الشخصيات الرئيسية في روايات صبحي فحماوي
أمين دراوشة- رام الله- فلسطين.

عرّف "مجدي وهبه" مصطلح الشخصية بقوله: إن الشخصية هي "أحد الأفراد الخيالين أو الواقعيين الذين تدور حولهم أحداث القصة أو المسرحية"(2).

فالشخصية هي كل من له دور في أحداث الرواية سلباً أو إيجاباً، والذي لا يشارك في أدوار معينة، يكون جزءاً من الوصف. وتأتي لخدمة أيديولوجيا الروائي، فيطرحها من خلال تصوير الشخصيات بأفكارها وأفعالها، والشخصيات هي التي تفجر الأحداث وتربطها، فهي صفات متكاملة تميّز الإنسان عن غيره، "وهي ليست قاصرة على الصفات الاجتماعيّة والخلقيّة"(3). ولا تأتي صدفة؛ فالروائي يستنبطها من أشخاص يعيشون حوله، وهي التي تربط أطراف الأحداث وتمزجها بين الواقعي والخيالي، فلا رواية من دون شخصيات.

ولقد جسّد صبحي فحماوي من خلال شخصياته أحوال وطنه، وهمّ شعبه، إذ عبّر بشخوصه "عن أفكاره ومبادئه وآماله هو شخصياً، والتي يجسدها تعبيراً عن آمال شعب برمته"(4). فكانت الشخصيات في الروايات متنوعة ومختلفة؛ فهناك الشخصية الإيجابية والوطنية، والشخصية السلبية، وشخصيات يهودية إسرائيلية وإنْ لم تظهر بشكل وافٍ، ما عدا في روايته"صديقتي اليهودية"،  إلا أَن الاحتلال وتصرفاته الهمجية كانت في كل أجواء الرواية.. وتُعد الرواية من الأدب الواقعي؛ فالشخصيات واقعية، ومعبّرة عن شعب تحت الاحتلال، "ومجسّدة للواقع الفلسطيني الممزّق بصورة حادة، كل منها يمثّل جيلاً برمته، وتتحرّك كل شخصية على حدة، ... ينطلق من خلالها كل واحد عبر ماضيه وحاضره، والمستقبل الذي يحمل آماله بين ضلوعه، من أجل إيجاد حياة جديدة لشعب بأكمله"(5).

ومن هذه الشخصيات؛ "عماد" والرجوع إلى حضن الحبيبة (الوطن)

صوّر الروائي الشخصيات بآلامها وطموحاتها، وهذه الشخصية حاول فيها الروائي أنْ يجد "دور ثوري للمثقف في الرواية، لكي يدافعوا بشكل غير مباشر عن دورهم في حركة النضال الوطني الفلسطيني"(6).

إِنَّ تجربة اغتراب عماد، هي تجربة نفسية، تأخذ موقف عدم القبول بالواقع، هذه التجربة تولد عادة من "الإحساس أن هوّة فسيحة تفصل عالم الواقع عن عالم المثال الذي يصبو إليه الفرد. وتزداد مشاعر عدم الرضى والرفض وما يرافقها من غضب ونفور ويأس وقلق، وبازدياد الشعور باتساع هذه الهوّة"(7). فالمغترب يعيش في صراع مع مجتمعه، ويرفض الركائز التي يقوم عليها من اتجاهات ومنطلقات وطرق حياة، وبهذا "فقد يغترب الإنسان عن المجتمع كله"(8).

إن الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي كان يرزح تحتها اللاجئون، تشعرهم بالعقم والعجز، وإن لا مفر بالعيش في ظل الهزائم، إلا أن غالبية شخصيات الرواية ترفض الواقع، وتثور وتتمرد عليها، فمنهم من ينجح، ومنهم من يسقط في هاوية سحيقة.

وسنرى كيف يغرق عماد في وحل الاغتراب، ومحاولاته التي لا تفتر في النهوض بنفسه، لأن "عذبة" ولا شك بانتظاره.

هو الراوي الوحيد، يعرف كل شخصيات الرواية، وقصصها العلنية والسرية، ويدخل إلى أدق التفاصيل المتعلقة بالشخصيات، وهو الشخصية التي اختبأ خلفها الروائي، ليسرد لنا حكاية ضياع فلسطين، وتشرد أهلها، وتيه بعضهم في البلاد العربية، وإرادة البعض الآخر التي تكسر الصخر!

كانت طفولته صعبة، وبدأ عمله الشاق بصناعة المكانس وبيعها وهو في التاسعة من عمره. ويضطر أحياناً النوم مع أخيه إذا تأخر الوقت كثيراً في أحد المساجد، أو ساحة أحد البيوت. يقول لعذبه وقد شطحت به الطريق إليها: "خمس سنوات كانت كفيلة ليعرف الناس أن الإقامة في المعسكر صارت دائمة، وأن العودة إلى فلسطين أصبحت مستحيلة، وشرعت الوكالة ببناء بيوت من الطوب الإسمنتي في المعسكر، وانتقل أصحاب الخيم إلى بيوت إسمنتية صغيرة كل بيت مكون من غرفتين، وتطورت المدرسة أيضاً بعد أن انتقلت إلى مبنى كان يستخدمه الإنجليز. وظهرت مشكلة لعماد، لأنهم رصفوا الشارع المؤدي إلى المدرسة، بالحجارة المسننة المكسورة، وهذه الأحجار المسننة جعلته يتوقف عن الذهاب إلى المدرسة وعندما سأله والده عن السبب، قال له: "لأنني حافي القدمين، وشارع المدرسة مرصوف بشحف الصوان المسنن كالشفرات، ولا سبيل للوصول إلى المدرسة دون حذاء" (ص198). ويقول موجهاً حديثه لعذبة: "شعور بالخزي والعار، وكابوس فقر لا ينتهي، وسلاسل تربط أقدامنا في مسيرة الهجرة البائسة.

وكان حبه للتعليم أقوى من الظروف، فاستمر في المدرسة، وتخرج من الثانوية، وسافر إلى مصر للدراسة، ودرس في كلية المعلمين، بجامعة جمال عبد الناصر. ويتطرق إلى نكسة حزيران 1967م، والهزيمة الساحقة للعرب ولعبد الناصر شخصياً، ونهوض عبد الناصر بمصر كما نهض هو بها، عاد جمال عبد الناصر، وقال مخاطباً جماهير مصر والأمة العربية: "لا تحصل هزيمة عندما تُحتل أرض، ولكن الهزيمة تتأكد عندما يستسلم الشعب، ونحن لم نستسلم، ولن نستسلم، ولذلك فنحن لم ننهزم، ولن ننهزم. قاوموهم بأظافركم وبأسنانكم" (ص164). وهكذا رجعت روح المقاومة للشعب العربي، وقامت حرب الاستنزاف التي أنهكت العدو، ولا يزال الشعب الفلسطيني يقاوم.

أنهى دراسته، ووفق بالتعاقد مع بعثة عربية للتدريس في ولاية صحرائستان، ويصف لعذبة رحلته وحياته في تلك البلاد الحارة.

عيّن في مدرسة ابتدائية طينية وسط العاصمة، يعلم فيها اللغة العربية. وخلال شهور من تواجده اشتاق لرؤية امرأة (وهو لا يعشق سوى عذبة)، يقول: "ولكنني في هذه المدينة المتصحِّرة، رجل محتاج من ناحية إنسانية إلى مشاهدة وجه امرأة، كي أشعر أنني ابن آدم! إنسان طبيعي، ولست وحشاً كاسراً تخافه كل نساء المدينة! ولكنهم أخفوا عني كل وجوه النساء، خوفاً من أَنْ افترسهن، أو أنْ أنهش لحومهن! كنت أتحرك في مدينة أنصار 330، فأراها موحشة مقفرة. وأشعر أنني داخل سجن عظيم مترامي الأطراف" (ص 172).

ويحدثها عن غرفته الصغيرة التي عاش فيها معاناة الغربة، فمع قدوم الصيف، ومع حلاوة بلح النخيل، تصبح غرفته مليئة بالذباب الذي يبحث عن مكان ظليل في عز لهيب الحر، الذباب الذي لا يمل من الطرد، ويشاركهم الطعام. وعند الطعام لا حديث لزملائه الفلسطينيين إلا عن المعارك التي لا تنتهي، التي يعيشها الفلسطينيون، فخبزهم دائماً مبلول بالدموع والدم. وتمر السنون، ويكبر الألم، وينمو الشقاء، ولا سلوى له سوى ذكرياته الطفولية، لتكون صورة عذبة هي الواحة وسط صحراء لاهبة لا ترحم.

وصل إلى فلسطين، واستقل سيارة أجرة صغيرة من العفولة، "مروراً بوادي الملح، باتجاه أم الفحم، وقبل وصولها عرجت إلى اليمين، وصعدت جبال الكرمل، وغرقت في غاباتها الداكنة الخضرة، حيث مرت على آثار قرية أم الزينات المهبطة جهة اليمين، فعبقت روائح الصنوبر والبلوط والسنديان أنفه فأنعشت رئتيه، واستمتع بمشاهدة تربة أرضها الحمراء، التي لا يختلف لونها كثيراً عن الحناء الذي يخضِّب أيدي صبايا الريف الطاهرات، ودغدغت أعصابه، فاسترخى في جلسته وانتشى برائحة الوطن. دخلت السيارة قرية دالية الكرمل..." (ص206).

وفي طريقه شاهد "منخفض ساحل ومدينة وسهل عكا، ثم قرية الزيب المنقوعة بمياه البحر، ومن بعده قمم جبال رأس الناقورة، وحتى مرتفعات جبال لبنان الخضراء. ونظر شرقاً، فشاهد جبال الجليل وتحتها سهل البطّوف، وعلى يمينها مرتفعات الناصرة المعتقة، وبعدها مرتفعات صفد، فمرتفعات الجولان السورية الأسيرة. وفي الجنوب كانت قبة الصخرة المشرفة المجاورة للمسجد الأقصى تتلألأ بذهبها البراق. بقي مذهولاً وهو يتأمل الدنيا من حوله. إنها بانوراما ساحرة!" (ص206-207).

"انتبه إلى السائق، وقال له: هل تستطيع تخيل شعوري وأنا أرجع إلى وطني بعد خمس وأربعين سنة. وكمية الذكريات والألم الذي أحمله؟

بكى عماد لذكريات لن تعود، وطلب من السائق أن يقود سيارته في شوارع حيفا الرئيسة، يميناً وشمالاً لبعض الوقت، فهو يبحث عن رائحة البحر المتدفقة من بين البيوت القديمة، فمرت السيارة بـ"حارة الحليصة، وشارع الملوك، ووادي النسناس، ووادي الصليب، حتى وصل إلى حواسة شرقاً، وكانت في المدى تقبع قرى شفا عمرو وطمرة شمالاً، وجهة الشرق تجلس صفورية والرينة على واجهة جبال البطوف، وبعدهما تعتلي الناصرة عرشها، فتتوّج على المدى البعيد! عاد السائق باتجاه البحر، ومرَّ من تحت جسر الشل، فشاهد "البور"، واستمرت السيارة منطلقة نحو غرب حيفا، باتجاه الطيرة. وعلى شاطئ البحر المتوسط، حيث بيارات الموز والبرتقال المحتمية بين رطوبة البحر من الغرب، وغابات السنديان، والصنوبر من الشرق، وجبل الكرمل الباسط نفوذه من علٍ" (ص208).

"يتمعّن عماد بالمناظر الخلابة، والأمكنة الحميمية، ويحس بالذكريات تتقافز في قلبه، ويشعر "أنه مسطول بسبب الدخول في اللامعقول" (ص207).

وصل إلى المنحدر، حلقة الوصل بين الغابة والبحر، وذهل عندما "انبلجت قرية الفريديس، جالسة على عتبة الشاطئ، على الرصيف، بانتظار القادم من بعيد، بانتظار المغترب، المستشرق، المهجّر، اللاجئ، النازح، المبُعد، المنكوب، العائد الفلسطيني" (ص208)، وكانت عذبة هناك بالانتظار الذي طال، تبتسم، وتلوِّح له بيديها مرحِّبة، ليولد الفرح. إن شخصية عماد تمثل الرفض والغضب والاعتراض بقوة على كل أشكال الاستلاب والحصار وطمس الهوية أو تشويهها.

وفي الرواية لم "يخضع الروائي لما ترسمه يد السياسيّ في الخريطة الجغرافية"(9)، وتم تأسيس هذا الفكر على يد الروائي إميل حبيبي في "أخطية" و"سرايا بنت الغول"، وتبعه وليد أبو بكر في "الوجوه". و"الهدف تثبيت المكان الفلسطيني وأسمائه للحفاظ على الذاكرة للأجيال القادمة"(10). وهذا ما فعله صبحي فحماوي من خلال ذكر الكثير من الأمكنة، ووصفها. إن استخدام الكاتب لأسلوب التذكّر، وربطه الماضي بالحاضر، لا شك منح النص الدفء والحركة.

"عنان" والأحلام المبتورة

الابن البكر للعائلة، تعلم من العجوز (أبو الفهد) مهنة صناعة المكانس البلدية، المصنوعة من قش السنام النابت في البر، أو من عيدان الذرة الحمراء. وتعلّم عماد من أخيه الصنعة، فكان موسم صناعة المكانس يبدأ مع موسم العطلة الصيفية. يصحو مع أخيه مع أذان الفجر، وينطلقا في القرى المجاورة لبيع ما يصنعونه.

يتصف عنان بشخصية قوية ومتماسكة، ويعرف ماذا يريد، وكان له مقدرة على إيقاع الفتيات في حبه. فقد استطاع أن يثير إعجاب الممرضة في المستشفى الذي تعالج فيه أخوه، كما أقام علاقة غرامية مع رغدة صاحبة البيت الذي كان يصنع فيه المكانس، في قرية أنصار 37، وهي زوجة قدري ابن صاحب مقهى القرية، كانت عروساً، تركها قدري وسافر بحثاً عن عمل في مدينة أنصار 850، في ولاية نفطستان.

يتناول الروائي قضية خطيرة، وهي ترك الأزواج لزوجاتهم والسفر فترة طويلة، تاركين زوجاتهم الشابات عرضه للمشاكل والمصاعب، فـ"رغدة" التي لم ترَ زوجها منذ سنتين، وكان عمل البيت كله عليها، فهي تقوم على خدمة (أبو قدري) وأمه المريضة.

كانت ترزح تحت إرهاق جسدي ونفسي، وحرمان جنسي، لذا وجدت في عنان الشاب الصغير، الرجل الموعود ليشبع رغباتها المكبوتة.

ولأن عنان يرى في نفسه القدرة على تحقيق مستقبل مزهر، فإنه قرر ترك المدرسة والسفر إلى ولاية "بحرستان النفطية". وحتى يدخل إلى هذه الولاية كان لا بُدَّ أنْ يصلَ أولا إلى مدينة أنصار 390، "وهي آخر معقل يمكن أنْ يصل إليه عربي أجنبي دون تأشيرة مرور، فالولايات العربية غير المتحدة، بينها حدود قاتلة، وكأنها حدود مكهربة بأسلاك شائكة وكهربائية. كانت أسلاك الكهرباء تصل إلى الحدود، قبل أنْ تصل إلى بيوت المواطنين!" (ص134). وكانت ذات بيوت طينية مهلهلة، وشوارعها محفورة، وتتراكم فيها النفايات. وفيها سيتفق عنان مع دليل ليأخذه إلى حدود بحرستان، وقطع الأسلاك الشائكة، وفي ليل الصحراء المخيف يختفي الدليل بعد أنْ قبض بعض الدولارات تاركاً عنان وسط صحراء "ليس فيها طريق، ولا زرع ولا ضرع، سوى الرمال تتلو الرمال، وارتفع كثيب وانخفضت قاع، وبين كثبانها وعرصاتها، لم يكن يشاهد سوى الرمال.. !" (ص135).

وتاه عنان في الصحراء، وبعد وقت غير قصير، شاهد نوراً فاستبشر خيراً، سار باتجاه النور فوجد بيت شعر، استقبله أصاحبه وأكرموه ودلوه على الطريق، وحذروه من الموت عطشاً أو برصاص حرس الحدود.

واصل سيره بهمة، بين كثبان الرمال ووديان الصحراء، جفّ حلقه، واقترب من الموت، فالشمس تضرب رأسه، الذي أخذ يدور، فيقع على الرمال، وينهض ويستمر في المسير، حتى جاءت لحظة الفرج، وشاهد أنوار بحرستان. تشجع وسار بحذر حتى دخل الولاية. وارتمى بجسده المتعب في أول مسجد صادفه، وفي صباح اليوم التالي، انطلق صوب المدينة، ليفتش عن عمل، ووفق بالعمل في مصنع مواسير حديدية. وبعد بعض الوقت وأثناء مراجعة مديرية الأمن لأمر يخص الشغل، عرض عليه مسؤول الشركات الأجنبية أنْ يعمل شرطيّاً براتب كبير، وإمكانية حصوله على الجنسية البحرستانية، كونه يعمل في الشرطة. وافق عنان دون تردد، وبدأ في العمل.

عمل في سلك الشرطة، جاءه الحظ السعيد في محاولة لاغتيال والي بحرستان، استطاع عنان إنقاذه من موت محتم، فكافأه الوالي برفع رتبته إلى عقيد، وعيَّنه مديراً للأمن لشؤون الأجانب في الولاية، ومنحه الجنسية البحرستانية. بعد ذلك، تغير عنان شكلاً ومضموناً، "صار له كرش برميلي، وشكل كبرميل النفط" (ص151)، وانهالت عليه الولائم والعزائم والهدايا، وصار يأخذ "الإتاوات مقابل إعطاء تأشيرات العمل للمغتربين، والعرب الذين يسمونهم هناك "أجانب"، وبالمقابل؛ فمن لم يكن يدفع بالتي هي أحسن، وعلى الأخص منهم الفلسطينيين، فلقد صار يعاملهم أسوأ معاملة، ليثبت لنفسه ولجماعته، أنه بحرستاني قلباً وقالباً!" (ص151).

ومع مرور الوقت، ترفَّع عنان إلى رتبة لواء، أصبح عنان باشا المنذر. وشعر أنه آن الأوان ليبني له قصراً يناسب وضعه الاجتماعي الجديد. وبنى قصراً فخماً يطل على البحر، "كان القصر يرتفع ويتضخم، جاثماً على ربوة صغيرة، تقعد على شاطئ البحر. وأخذ القرميد الأحمر يُتوِّج سماءه بواجهات لونها معاكساً للون البحر، لدرجة تلفت نظر المشاهدين، فتبهج المعجبين من جهة، ومن جهة أخرى، تثير سخط الحُسّاد، الذين أخذوا يتزايدون متكالبين حوله" (ص196).

وكلما زاد ثراؤه، زاد حسّاده من دون أَنْ ينتبه الذين أَخذوا يرسلون إشارات إلى الوالي عن تجاوزاته، واستغلاله للسلطة، ولم تمض سوى سنتين منذ سكنه في قصره الجديد، حتى صدر كتاب مُوقّع من الوالي نفسه، بإحالته إلى التقاعد، وإخراجه من ملاك الأمن العام! صدم في البداية، إلا أنه وهو الشخصية الواثقة بنفسها وإمكاناتها، قرر العمل بالتجارة، فهو يملك شبكة علاقات واسعة مع أصحاب النفوذ، وجاءت الصدمة الكبرى، عندما سحبت منه الجنسية كونه أنهى عمله في سلك الشرطة، وأُعيدت له وثيقة السفر التي كان قد جاء بها قبل ثلاثين سنة. وطلب منه مغادرة البلاد لانتهاء إقامته، باع كل ما يملك بسعر بخس، وبعد أنْ خسر كل شيء، حتى من لقب الباشاوية! رجع لنفسه، وشعر أنه يعيش من جديد حالة حصار الفلسطيني. عاد يفكر بحيفا والعودة، مع أولاده وبناته الذين لا يعرفون فلسطين، ولا ينتمون إلا للمال. رجع عنان لنفسه، فوجدها تحثه على العودة.

كيف السبيل إلى العودة والوطن ضاع كله، وجدران الحدود تقف كالطود وتحيل بينه وبين وطنه؟ لذا قرر السكن في مكان مجاور لحدود فلسطين، "فلعلهم عند الحدود يشمُّون رائحة البرتقال، فتمحو من أنوفهم رائحة الضباع الكريهة! أو يشاهدون خضرة، أو يتنفسون ريحاً طرية، أو يشاهدون على الأقل، مرتفعاتها ومنخفضاتها المواجهة لهم!" (ص199).

عندما عجز عن الرجوع لوطنه، جاءته فكرة غريبة، جلس مع أخيه عماد، وقال له: "ما رأيك يا عماد، لو زوّجنا كل أولادنا وبناتنا، إلى بنات وأولاد أهلنا في الأرض المحتلة؟ ما رأيك بشبابنا وصبايانا المنزرعات بمنازلهن؛ في حيفا ويافا والجليل والقدس؟ ما رأيك في أنْ يلتقي الشباب والشابات على سنة الله ورسوله بالأحضان، فيتزوجون" (ص199). لا بدَّ من أنْ أزوج أولادي من داخل فلسطين 48 ليعيشوا هناك ويخلّفوا أبناء وبنات. وكان عماد سعيداً بهذه الفكرة، قائلاً لنفسه: ألست أنا من انتظر حبيبته منذ أكثر من خمس وأربعين سنة؟
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف