
رواية المستقبل
تفاؤل أم تشاؤم؟!
د. حسين المناصرة
من الأوهام الثقافية أن يكون هناك حديث ما عن موت بعض الأجناس الأدبية؛ كالحديث عن موت النقد، وموت الشعر، وموت الرواية ...إلخ. سواء أكان هذا الحديث في إطار تهميش هذه الأجناس الأدبية، أم في إطار ضعفها لغة وفكرًا وتلقيًا!! فالإبداع لا يموت، ولا يتلاشى، لكن من الممكن أن يهمّش أو يغيّب في ظروف طارئة أو خاصة!!
كذلك هناك رهانات على مستقبل هذه الأجناس، فالبعض يرى أن المستقبل للقصة القصيرة جدًا، وآخرون يرون أن الشعر هو حصان المستقبل، وفريق ثالث يرى المستقبل للرواية أو هي ديوانه، وفريق رابع يجعل المستقبل للفنون السمعية والبصرية..إلخ؟! هؤلاء كلهم محقون في إطار اهتماماتهم؛ لذلك لا يعيب الفنون والآداب أن يبرز بعضها ويتقدم في ظاهرة الاهتمام على غيره. لكن المؤكد أن الرواية هي المستقبل، خاصة أنها وقود السينما التي قد تختزل حكاية الرواية في ساعتين أو أقل، إضافة إلى إمكانية اختزالها وتكثيفها في حكاية قصيرة تسهم في سرعة انتشارها.
إن أي استشراف لإشكالية الرواية العربية والمستقبل أو في المستقبل، ينبغي له أن يحدد إطار هذه الإشكالية في سياقين رئيسين:
أولهما: خريطة الكتابة الروائية في أنساقها الأربعة ، هي :
1. نص الرواية أو متنها في الرؤى والجماليات.
2. مرجعيات الرواية التاريخية والاجتماعية والثقافية وغيرها.
3. كاتب الرواية أو منشئها.
4. تلقي الرواية .
وثانيهما، الذي ينطلق من نص الرواية ، مستوى أبعاد العملية الأدبية الرئيسة الأربعة أيضًا، وهي :
1. الشخصية.
2. اللغة.
3. المكان.
4. الزمان.
• السارد (المؤلف):
هو أهم أبعاد العملية الأدبية (أي البعد الأول)؛ لأنه منتج النص السردي الروائي، وفيه تتحقق الأبعاد الثلاثة الأخرى؛ لكونه منتِجًا للنص (البعد الثاني) في ضوء مرجعياته الاجتماعية والثقافية (البعد الثالث)، وهو -بكل تأكيد¬¬- القارئ الأول ضمنيًا لنصه (البعد الرابع).
فمن هو مؤلف الرواية مستقبلاً؟!
سيهيمن وجود الرواية بصفتها جنسًا أدبيًا من الناحية الثقافية والإعلامية، ومن ثم يغدو السارد اسمًا من بين أسماء كثيرة، لا يهم كثيرًا أن يُذكرَ أو يَحضرَ في الذاكرة الثقافية، وفي الإعلام، خاصة أن عدد الروائيين سيكون كمًا كبيرًا، يفتقد للتكوّن أو الوجود النوعي في المشهد الثقافي؛ لذلك يصعب أن تُذكرَ أسماء الروائيين بصفتها نماذج مميزة، حتى أولئك الذين سيحصلون على جوائز محلية أو إقليمية سيبقون أسماء في الهامش، على عكس أولئك الذين يحصلون على جوائز عالمية، ربما يحظون ببعض الاهتمام الواضح الآني نسبيًا، وهم فئة نادرة على أية حال.
أما بالنسبة إلى كثرة أعداد الروائيين والروائيات، وخاصة الروائيات، فهذا يعود إلى سهولة النشر أولاً، خاصة النشر الرقمي، الذي يمكن أن يتم في دقائق إن لم يكن في ثوانٍ. وثانيًا: إلى سهولة امتلاك كل إنسان لرواية أو روايات هي سيرته الذاتية المعقدة نسبيًا، في ظروفها النفسية والاجتماعية والثقافية، وتساعده على الكتابة الروائية مشاركاته في وسائل التواصل الاجتماعي ذات الطفرة التكنولوجية على الكتابة بيسر وسهولة.
وإذا كانت الحرية هي المعيار الأكثر أهمية في ممارسة الكتابة، فأعتقد أنَّ روائيَّ المستقبل سيكون أكثر حريةً وتحررًا في مواجهة تابو المقدس ( المحرمات الثلاثة: الدين، والجنس، والسياسة)؛ لهذا تبدو الساردة النسائية عامة، وخاصة الساردة النسوية؛ أكثر تفشيًا في الوسط السردي؛ لما تمتلكه المرأة من قدرة سردية عليا، تبدو متفوقة على الرجل، في إثراء الحكي بصفته عالمًا أو مملكة خاصة بها، تمارس فيها سلطاتِها المبدعةَ في مواجهة استمرارية الهيمنة الذكورية على البنيات الاجتماعية المختلفة( مثل: الأسرة، والمدرسة، والجامعة، والمؤسسة الرسمية، والقبيلة، والدولة...إلخ).
من جهة الوعي، يبدو المؤلف أكثر ثقافة، وأقل عمقًا في وعيه، من أجداده؛ فحياته صارت أكثر تسطحًا وعزلة، لذلك تصبح الأجهزة الإلكترونية وسيلته الوحيدة المتاحة في كل لحظة، وهي عمومًا وسيلة استهلاكية، لا تعمق التفكير والتأمل، إضافة إلى أنها تساعد كثيرًا على الكتابة أو الكلام استجابة للحياة العادية والمألوفة، ومن ثم التجميع والتلفيق لهذه اللغة للنشر باسم الرواية التي تغدو أقرب إلى كونها مذكرات وذكريات لحياة كاتبها وعلاقاته عمومًا!!
إن روائيّ المستقبل يعيش في ظروف نفسية ومادية قاسية، تجعله أكثر توحشًا في علاقاته، ومن ثمّ في كتابته، وكذلك أكثر تشاؤمًا من أجداده الذين عاشوا في القرن عشرين وثلث الفرن العشرين، ربما يعود السبب في ذلك إلى كونه شخصية يائسة بائسة، تميل إلى البوهيمية الجوانية، وإن كان المظهر الخارجي يوحي بالتحضر، وامتلاك ناصية التكنولوجيا المخيفة!!
• المرجعيات
الإنسان ابن بيئته، في ماضيها وحاضرها ومستقبلها، والمستقبل دائمًا هو الأكثر حضورًا في الوعي السردي الاستشرافي أو الحَدْسي الاستبصاري؛ لكون السارد يعيش في مجتمع يبدو أكثر تعقيدًا من أي تخيل مركب ممكن من منطلق مرجعيات النص؛ وكأننا هنا أمام مقولة غسان كنفاني المشهورة في وصف الواقع الفلسطيني بأنه أكثر خيالية من الخيال؛ أي أن العالم العربي اليوم أصبح واقعيًا في هذه الدرجة من عنف التخييل!! من هنا تصبح مرجعيات النص العديده: الاجتماعية، والنفسية، والتاريخية، والثقافية، والدينية، ...إلخ، في المرتبة الثانية في مستوى أبعاد العملية الإبداعية.
لستُ مع نظرية الانعكاس التقليدية التي تنص على أن الإنسان، ومن ثم الأدب، انعكاس أو محاكاة للبيئة أو المرجعيات... أنا مع فكرة تبئير المرجعيات؛ أي أعطاء وجهة نظر الشخصية في التعبير عن هذه المرجعيات، ما يعني تعميقًا للفردية أو الذاتية في التموقع المرجعي، وتشكل زاوية الرؤية الضيقة في تذويتها، ولا بد أن يصدر عنها مواقف مزاجية أو انطباعية أو نزقة، تفضي إلى علاقات اجتماعية سردية متناقضة، ذات رؤى ثقافية متشككة ومأزومة، بدوافع نفسية مرضية عمومًا؛ لأسباب كثيرة مادية ومعنوية!!
هكذا، تبدو مرجعيات العالم، بعد خمسين عامًا -مثلاً- أكثر سوءًا مما نحن فيه الآن: فتن، وحروب، وتشرذم، وصراعات محلية وعالمية... إلخ، فإذا كنا اليوم نتحدث عن فضائل الاستعمار قبل مئة عام وأكثر في بلادنا، وأنه السبب في نهضتنا الثقافية والإبداعية، فلا بدّ أن يتحدث أحفادنا عن كثير من الإيجابيات التي يرونها في حياتنا اليوم، فيصبح الربيع العربي، الذي تحول إلى جحيم في أيامنا، من الإيجابيات التي يذكرها الأحفاد للأجداد، قياسًا إلى المقولة الدارجة :" القادم أعظم"؛ أي أسوأ!!
سيكون هناك ميلٌ واضحٌ إلى تفعيل الذاتية أكثر من الواقعية، وهذا ما يجعلنا نصف الرواية بصفة رواية الذكريات والمذكرات المرجعية، التي يهيمن فيها العالم الافتراضي أو الرقمي النفسي، أكثر من حضور الواقعي أو التسجيلي.
من المتوقع أن تكون مرجعية الأزمة الاقتصادية، وقلة الموارد الطبيعية، وتفشي ظاهرة البطالة المقنعة، من أهم السبل إلى إنتاج روائي سوداوي؛ تبدو معاناة مناجم الفحم قبل عشرات السنين التي جسدتها الواقعية النقدية والطبيعية، أفضل حالاً مما ينتظر الأجيال القادمة التي ستعيش إرهابًا ممنهجًا، على طريقة إرهاب الكورونا اليوم، فاتحة البوابة لحروب عالمية جرثومية مديدة!!
ولعلي أشير إلى مرجعيات الكتابة النسوية التي ستتغير إلى حد ما ؛ فهي إن بدت اليوم مسكونة بإيديولوجيا الصراع مع البطرياركية الذكورية في المجتمع؛ فإنها في المستقبل تزيد من درجة صراعاتها، فتغدو أكثر من أي وقت مضى احتفالاً بثقافة الصراع مع الآخر الحضاري، في مستوى الدفاع عن الذات المجتمعية المحلية في مواجهاتها الحضارية والإنسانية، وخاصة ضد العنصرية العرقية أو اللونية.
• النص أو المتن:
هذا هو البعد الثالث، الذي ينجز من التعالق بين المؤلف والمرجعيات، ولن يكون هناك في المستقبل إغفال للمؤلف أو إيجاد قطيعة بينه وبين نصه على طريقة (موت المؤلف)، ولا اهتمام بشكلانية النص في ذاته على طريقة البنيوية في استنطاق نصوصية النص بعيدًا عن أية مرجعيات خارجه... فالنص هو إحالة حقيقية على الذات المنتجة، وعلى عوالمها المرجعية الواقعية والتخييلية.
وقد أشرت في الملحوظات السابقة إلى ميل النص الروائي إلى الذاتية، وكأنه يغدو "ثرثرة" ذاتية مأزومة بمنولوجاتها الداخلية أو تيارات الوعي الذاتي (المناجاة)، وأنه مذكرات وذكريات متداخلة ومتناقضة؛ لذلك تبدو الكتابة مسطحة في اهتمامها بشأن وصف العادي والمألوف في الحياة، مع بث المفارقات الناتجة من السخرية والتهكم والنادرة، وكأنه نص مفكك، نتيجة لتفكك تفاعل الذات مع عالمها الافتراضي المتشكل في عزلة هذه الذات في استخدامها لأجهزتها الإلكترونية المختلفة رخيصة الثمن!!
بالنسبة إلى مساحة المتن الروائي، تبدو المساحة محدودة أو قصيرة جدًا؛ فجل الروايات لا يتجاوز عدد صفحاتها مئة صفحة؛ أي في حدود عشرين ألف كلمة، تخرج فنيًا بمسافات وفراغات لافتة. وهنا قد نجد حضورًا واضحًا للروايات التفاعلية المنتجة رقميًا، والمشبعة بروابط وأشكال عديدة، تحد من المساحة اللغوية في المتن الروائي عمومًا.
سيكون النشر ورقيًا محدودًا جدًا، إن لم يكن معدومًا؛ لأن النشر الإلكتروني هو الأساس، وهو غير مكلف، إذ لا تتجاوز التكلفة قيمة الإخراج الفني. وكذلك تداول الكتب سيكون مجانيًا؛ وربما يدفع للقراء مبالغ يسيرة لقراءة الروايات، وإبداء الملحوظات التي يمكن إجراؤها دوريًا في المتن، وإعادة نشره بصيغة جديدة، تلغي الصيغة القديمة!!
في الجزء الثاني من هذه المقاربة، سيدور الكلام في إطار استبصار عناصر النص الروائي الرئيسة؛ لأننا معنيون بهذا الجانب في استبصار أو استشراف مستقبل الرواية، في ضوء بعض عناصرها أو مكوناتها، وخاصة اللغة، والشخصية، والزمان، والمكان!!
• المتلقي (القارئ)
أفق التوقع منخفض جدًا في هذا البعد؛ إذ يبدو التلقي ينقسم قسمين: الأول: القسم العام الخاص بمتلقي الفضاء الافتراضي، وهؤلاء يتفاعلون وفق العلاقات الخاصة بهم في وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، وقد ينتج عنهم ومنهم كثير من كتاب الرواية الجديدة ونقادها؛ أعني الرواية التفاعلية القصيرة جدًا، كما أسلفت.
والقسم الآخر النخبوي، وهم القراء المختصون في مجال الرواية، أو نقاد الأدب، وهؤلاء أيضًا محترفون في وسائل التواصل الاجتماعي الإلكترونية؛ لكنهم تجاوزوا ثقافة القراء العامين؛ ليصبحوا نقادًا في مجالات أكاديمية، والتحكيم والمراجعة، وغير ذلك مما يسهم في احترافية الكتابة النقدية التي قد لا تقرأ عادة في سياق القراء العامين أو العاديين.
ومع ذلك، يبقى للرواية تلقيها الخاص، وربما المميز، لدى المشهد الثقافي، قياسًا إلى تلقي الأجناس الأدبية الأخرى، والسبب في رأيي هو كثرة كتابها، إلى درجة أن يصبح كل ممارس للكتابة الأدبية في العالم الافتراضي، كاتبًا للرواية أو راغبًا في كتابتها. ومن هذه الناحية تبدو الرواية في العلاقات التواصلية المختلفة أسهل الطرق إلى تحقيق الرغبة في الكتابة الإبداعية الأكثر حظوة بين المتلقين في ذلك الزمن المستقبلي البعيد نسبيًا!!
لا نستطيع التيقن من فكرة أهمية الرواية لدى المتلقين في ذلك الزمن، الذي يبدو أنه زمن كتابي لا زمن إبداعي؛ وزمن سماعي أو مشاهدي لا زمن قراءة... فالكتاب بصفتيه الرقمية والورقية محدود التداول، ولا يكاد يتجاوز التداول الثقافي النخبوي؛ أي أن الكتاب يقرؤون بعضهم لبعض؛ لتبقى هذه الثقافة خارج إطار محيطها العام، الذي يعرف عن بهرجة الغناء والرياضة كل شيء، ولا يعرف عن ثقافته الكتابية التي يفترض أن تكون طليعية، أي شيء يستحق الذكر أو الاهتمام!!
من يقرأ الرواية؟
سألت مرة طلاب قسم اللغة العربية في شعبة مقرر النثر العربي الحديث(2)، الذين هم في مستوى التخرج، وكان عدد في حدود مئة طالب: من قرأ منكم، رواية سعودية، أو عربية، أوعالمية؟!
كانت الإجابة: لم يقرؤوا جميعًا أية رواية؟!
حتى بعض النقاد الأكاديميين المختصين في الرواية، لا يقرؤون الروايات للكتابة عنها، ويكتبون في مجال الشعر الأسهل للقراءة.
أحد الأصدقاء المختصين في الرواية، خريج جامعة غربية، كان يكتب مقالاته عن الشعر، وكنت أكتب عن الرواية، فسألته مرة مستغربًا؛ فقال لي: " هل أنا مجنون مثلك أقرأ الرواية في شهر، وأكتب عنها مقالة في جريدة؟! أنا أقرأ القصيدة في نصف ساعة، وأكتب عنها مقالة في ساعة"!! وعندما قدم قراءة لرواية "الموت يمر من هنا" لعبده خال، وذكر عبده خال في الصحافة أنه لم يقرأ أكثر من ثلاثين صفحة، قال لي : كلامه صحيح، ما قرأت أكثر من أربعين صفحة"!!
• خلاصة
لعلي أخلص إلى أن استشراف مستقبل الرواية العربية يختلف عن أي جنس أدبي آخر؛ لأنّ الرواية في أهم توصيف لها هي " جنس الأجناس الأدبية"؛ بمعنى أنها قادرة على أن تستوعب كل الأجناس الأدبية والفنية الأخرى، والمعارف المختلفة، والكتابة العادية في درجاتها الصفرية؛ لذلك ستبقى الرواية ديوان العرب في القرن الحادي والعشرين في أقل تقدير، كما كانت ديوان العرب في القرن العشرين.
ولعل أهم غاية لدى أي كاتب أو أديب تكمن في أن يصل إلى درجة أن يكون روائيًا، خاصة أن كتابة الرواية أسهل من أية كتابة أخرى تحتاج إلى معايير فنية خاصة. في حين تكتفي الرواية بأن يكتب على غلافها رواية، ولا يمكن مصادرة مشروعية هذه الكتابة، وإن كانت هزيلة، تبدو نهايتها مغبرة على رفوف المكتبات، حتى هذه (الغبرة) تغدو افتراضية في واقع النشر الرقمي أو الإلكتروني.
في تصوري، هناك علاقة قوية ومتماسكة بين هذه الأبعاد الأربعة المتشابكة في وسائلها وأهدافها أو غاياتها؛ إذ إنَّ أفقَ التوقع يَصْعبُ في حال إغفال أي بعد ؛ فلا يمكنُ الحديثُ عن النص السردي الروائي منفصلاً عن مبدعه، ومرجعياته، ومتلقيه...؛ لهذا يغدو الانتقال إلى القسم الآخر من هذه المقاربة منطقيًا؛ في الالتفات إلى لغات الرواية، وشخصياتها، وزمكانياتها...؛ لكون الرواية بحسب تعريف باختين خطابًا حواريًا، متعدد اللغات والأصوات والرؤى!!
***
• لغات الرواية:
في كل الأحوال، كانت لغات الرواية، وما زالت، وستبقى مجالاً للحوار والاختلاف، في مستويات مراعاة الكتابة للمنطوق الدارج أو للثقافي الفصيح، للغة الوسطى أو لثرثرات التواصل الاجتماعي بعلاتها، لغة الحوار أو لغة الوصف، لغة تيار الوعي / المناجاة أو الترقيم الكتابي..إلخ. وهذا يعني أن قدرات الكتّاب متعددة ومتنوعة، ولعلّ أفضلها ما ينتجه الكتاب المختصون في مجال اللغة العربية، أو الذين لديهم ثقافة لغوية مدرسية جيدة. فيما عدا ذلك، تحتاج أية كتابة إلى مراجعة أو تدقيق يحسنها كثيرًا قبل النشر؛ لأنّ النشر بدون إعطاء أهمية خاصة للغة، يعني كتابة كارثية بطريقة أو بأخرى!!
أتوقع أن تكون لغة الرواية - عمومًا- في أدنى تقنياتها السليمة، يتخللها ركاكة في المفردات والتراكيب، وتميل إلى السردية العادية أكثر من ميلها إلى الشاعرية، ولا تحتفي بالصور والمجازات، وينتابها ضعف واضح في الترقيم والتماسك، وتكثر فيها الأخطاء الإملائية والنحوية والشائعة، وتستبعد تقطيع السرد بالوصف أو الحوار ... وكل هذا يعني أن سهولة الكتابة والنشر في مجال الرواية يسهم في ضعف بنائها اللغوي!!
ستغزو اللغات الدارجة، بما فيها المبتذلة، والعربيزية لغة السرد، والوضوح والمباشرة في الحكي والرؤى. ولكن هذا لا يعني أن تختفي اللغة الإبداعية المكثفة والشاعرية ذات المستويات أو الطبقات اللغوية المتعددة بتعدد أصوات الرواية.
اللغة هي الثقافة والفكر والهوية، فإلى أية درجة تمثل لغة الرواية هذه العناصر الثلاثة في سيادة فاعليتي: تكنولوجيا التواصل الإلكتروني من جهة، وعولمة الحياة البشرية من جهة ثانية؟!
أظن أن وعي المثقف العربي المستقبلي تجاه لغته يسير في انحدار تفاعلي! ولعلّ الانحدار الكتابي، وخاصة السردي هو الأسوأ من غيره؛ لذلك لا نستبعد تفشي الركاكة اللغوية في الرواية؛ خاصة لدى الفئة التي تتجرأ على الكتابة، بدون أن تؤسس نفسها في قراءة كثير من الروايات الجيدة، خاصة الروايات التراثية!!
في المحصلة؛ تعد لغة الرواية البوابة الحقيقية لنجاحها إبداعيًا؛ وأن ضعف اللغة مقبرة الكتابة، وفي هذا المجال تحديدًا، لا يمكن التنازل عن قيم اللغة الجمالية التقليدية، خاصة عن سلامة اللغة في المفردات والتراكيب، وعن اللغة الأدبية التي تعني أنها لغة فوق اللغة أو لغة مكثفة مجازية!! ومن ثم تجاوز العامية، كون انتشارها العامية يهدد مستقبل الرواية العربية عمومًا.
• شخصيات الرواية
تعيش الشخصيات عالمًا مفككًا... تتقزم فيه الروح الإنسانية المنعزلة في مواجهة تغوّل الماديات، وكسرها للمشاعر الذاتية الباحثة عن كينونتها؛ وكأن الرواية مسيرة من التوتر والقلق والبحث عن الذات المهمّشة المقموعة!!
لا توجد بطولات فردية أو جماعية... فقط حالة ضياع مسكونة بذاكرة الهزائم والذكريات المرة في المسيرة نحو مستقبل يَعِد بكثير من الآلام والأوجاع؛ لهذا تبدو الشخصيات في المشاهد السردية كأنها أشباح في رؤية سردية شبحية للعالم؛ فما قيمة الإنسان في مستقبل يمكن اختزاله في مطحنتي العولمة والرقمنة؟!
النتيجة هي قيمة الإنسان المطحون نفسيًا واجتماعيًا بامتياز؛ ما يشكل شخصيات الرواية ليس في سياقاتها التخييلية فحسب، وإنما في أنساقها الواقعية، التي وصفناها بأنها أكثر خيالية من التخييل!! وبذلك ينتهي مفهوم "التجريب" الذي ينعش تحولات الرواية؛ أي تحولات شخصياتها؛ وكأننا في ذلك الزمان نعود إلى الكتابة الأدبية الميتة، كما كانت في أدب الدول المتتابعة، قبل النهضة الكتابية الحديثة في مطلع القرن العشرين.
يهيأ لي أن الاهتمام بالأحداث والكوارث والصراعات والأفكار ستكون له الأولوية على حساب بناء الشخصيات؛ فاللافت حينئذ هو ما يدور في العالم خارج إطار الذات ؛ لذلك ستكون الظاهرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ...إلخ، هي المحرك الرئيس للبنيات السردية، مما يجعل الشخصيات أكثر بعدًا عن دائرة الاهتمام بصفتها شخصيات اجتماعية تواصلية، مع عدم إغفال التيار السردي الذي يركز على ثرثرة الذات الساردة في إبداء رؤيتها ( وجهة نظرها) تجاه العالم، وهو تيار عزلة الذات وثقافتها الانتحارية التشاؤمية في محيطها..
• زمكانية الرواية
زمن الرواية ومكانها عنصران متداخلان؛ فالزمن ملاصق للفضاء المكاني... وفي حال توقعنا للعالم السردي آنذاك؛ فلعلنا نتوقع الزمكانية كابوسية، كل شيء يتعايش مع السرعة، وتقارب الأمكنة ؛ فالعالم يغدو أكثر كثافة من قرية صغيرة، ربما هو بيت واحد.
ومع المكان تتشكل عزلة الفرد، مع السرعة في الزمن ؛ لذلك قد تسيطر الفانتازيا على العلاقات بين الشخصيات في أماكنها وأزمنتها الرقمية المتقاربة!
ستبقى المدينة اليوتيبية الفاضلة، كما وجدت فكرتها لدى أفلاطون هي مقصد الساردين الباحثين عن عالم آخر مستقر وآمن، يخلصهم من عالمهم الموبوء بكثير من الممارسات الشيطانية... لذلك تبقى نافذة الأمل مفتوحة على مصراعيها ؛ لأن الكتابة من غير هذا الأمل الباحث عن السعادة البشرية في الكون، تبدو كتابة متصحرة وقاحلة ومرعبة!!
• خلاصة أخرى:
هل هذه الكتابة متفائلة، أم متشائمة، أم متشائلة في توصيف رمادية العلاقة بين التشاؤم والتفاؤل؟!
إن مستقبل الرواية في ظل المعطيات الحالية، يجعل أفق التوقع لدينا مسكونًا بكثير من التوقعات السلبية لكتابة سردية ضعيفة نسبيًا لدى كثير من كتاب الرواية العربية، ولا يعني هذا التوقع وجود روايات بلغة إبداعية مميزة ؛ لكتاب يتقنون هذه اللغة، ويراعون قواعدها الكتابية في سياق حساسية اللغة أو الكتابة عبر النوعية كما عبر عن ذلك إدوارد الخراط في كتابين من كتبه.
رواية المستقبل
تفاؤل أم تشاؤم؟!
د. حسين المناصرة
من الأوهام الثقافية أن يكون هناك حديث ما عن موت بعض الأجناس الأدبية؛ كالحديث عن موت النقد، وموت الشعر، وموت الرواية ...إلخ. سواء أكان هذا الحديث في إطار تهميش هذه الأجناس الأدبية، أم في إطار ضعفها لغة وفكرًا وتلقيًا!! فالإبداع لا يموت، ولا يتلاشى، لكن من الممكن أن يهمّش أو يغيّب في ظروف طارئة أو خاصة!!
كذلك هناك رهانات على مستقبل هذه الأجناس، فالبعض يرى أن المستقبل للقصة القصيرة جدًا، وآخرون يرون أن الشعر هو حصان المستقبل، وفريق ثالث يرى المستقبل للرواية أو هي ديوانه، وفريق رابع يجعل المستقبل للفنون السمعية والبصرية..إلخ؟! هؤلاء كلهم محقون في إطار اهتماماتهم؛ لذلك لا يعيب الفنون والآداب أن يبرز بعضها ويتقدم في ظاهرة الاهتمام على غيره. لكن المؤكد أن الرواية هي المستقبل، خاصة أنها وقود السينما التي قد تختزل حكاية الرواية في ساعتين أو أقل، إضافة إلى إمكانية اختزالها وتكثيفها في حكاية قصيرة تسهم في سرعة انتشارها.
إن أي استشراف لإشكالية الرواية العربية والمستقبل أو في المستقبل، ينبغي له أن يحدد إطار هذه الإشكالية في سياقين رئيسين:
أولهما: خريطة الكتابة الروائية في أنساقها الأربعة ، هي :
1. نص الرواية أو متنها في الرؤى والجماليات.
2. مرجعيات الرواية التاريخية والاجتماعية والثقافية وغيرها.
3. كاتب الرواية أو منشئها.
4. تلقي الرواية .
وثانيهما، الذي ينطلق من نص الرواية ، مستوى أبعاد العملية الأدبية الرئيسة الأربعة أيضًا، وهي :
1. الشخصية.
2. اللغة.
3. المكان.
4. الزمان.
• السارد (المؤلف):
هو أهم أبعاد العملية الأدبية (أي البعد الأول)؛ لأنه منتج النص السردي الروائي، وفيه تتحقق الأبعاد الثلاثة الأخرى؛ لكونه منتِجًا للنص (البعد الثاني) في ضوء مرجعياته الاجتماعية والثقافية (البعد الثالث)، وهو -بكل تأكيد¬¬- القارئ الأول ضمنيًا لنصه (البعد الرابع).
فمن هو مؤلف الرواية مستقبلاً؟!
سيهيمن وجود الرواية بصفتها جنسًا أدبيًا من الناحية الثقافية والإعلامية، ومن ثم يغدو السارد اسمًا من بين أسماء كثيرة، لا يهم كثيرًا أن يُذكرَ أو يَحضرَ في الذاكرة الثقافية، وفي الإعلام، خاصة أن عدد الروائيين سيكون كمًا كبيرًا، يفتقد للتكوّن أو الوجود النوعي في المشهد الثقافي؛ لذلك يصعب أن تُذكرَ أسماء الروائيين بصفتها نماذج مميزة، حتى أولئك الذين سيحصلون على جوائز محلية أو إقليمية سيبقون أسماء في الهامش، على عكس أولئك الذين يحصلون على جوائز عالمية، ربما يحظون ببعض الاهتمام الواضح الآني نسبيًا، وهم فئة نادرة على أية حال.
أما بالنسبة إلى كثرة أعداد الروائيين والروائيات، وخاصة الروائيات، فهذا يعود إلى سهولة النشر أولاً، خاصة النشر الرقمي، الذي يمكن أن يتم في دقائق إن لم يكن في ثوانٍ. وثانيًا: إلى سهولة امتلاك كل إنسان لرواية أو روايات هي سيرته الذاتية المعقدة نسبيًا، في ظروفها النفسية والاجتماعية والثقافية، وتساعده على الكتابة الروائية مشاركاته في وسائل التواصل الاجتماعي ذات الطفرة التكنولوجية على الكتابة بيسر وسهولة.
وإذا كانت الحرية هي المعيار الأكثر أهمية في ممارسة الكتابة، فأعتقد أنَّ روائيَّ المستقبل سيكون أكثر حريةً وتحررًا في مواجهة تابو المقدس ( المحرمات الثلاثة: الدين، والجنس، والسياسة)؛ لهذا تبدو الساردة النسائية عامة، وخاصة الساردة النسوية؛ أكثر تفشيًا في الوسط السردي؛ لما تمتلكه المرأة من قدرة سردية عليا، تبدو متفوقة على الرجل، في إثراء الحكي بصفته عالمًا أو مملكة خاصة بها، تمارس فيها سلطاتِها المبدعةَ في مواجهة استمرارية الهيمنة الذكورية على البنيات الاجتماعية المختلفة( مثل: الأسرة، والمدرسة، والجامعة، والمؤسسة الرسمية، والقبيلة، والدولة...إلخ).
من جهة الوعي، يبدو المؤلف أكثر ثقافة، وأقل عمقًا في وعيه، من أجداده؛ فحياته صارت أكثر تسطحًا وعزلة، لذلك تصبح الأجهزة الإلكترونية وسيلته الوحيدة المتاحة في كل لحظة، وهي عمومًا وسيلة استهلاكية، لا تعمق التفكير والتأمل، إضافة إلى أنها تساعد كثيرًا على الكتابة أو الكلام استجابة للحياة العادية والمألوفة، ومن ثم التجميع والتلفيق لهذه اللغة للنشر باسم الرواية التي تغدو أقرب إلى كونها مذكرات وذكريات لحياة كاتبها وعلاقاته عمومًا!!
إن روائيّ المستقبل يعيش في ظروف نفسية ومادية قاسية، تجعله أكثر توحشًا في علاقاته، ومن ثمّ في كتابته، وكذلك أكثر تشاؤمًا من أجداده الذين عاشوا في القرن عشرين وثلث الفرن العشرين، ربما يعود السبب في ذلك إلى كونه شخصية يائسة بائسة، تميل إلى البوهيمية الجوانية، وإن كان المظهر الخارجي يوحي بالتحضر، وامتلاك ناصية التكنولوجيا المخيفة!!
• المرجعيات
الإنسان ابن بيئته، في ماضيها وحاضرها ومستقبلها، والمستقبل دائمًا هو الأكثر حضورًا في الوعي السردي الاستشرافي أو الحَدْسي الاستبصاري؛ لكون السارد يعيش في مجتمع يبدو أكثر تعقيدًا من أي تخيل مركب ممكن من منطلق مرجعيات النص؛ وكأننا هنا أمام مقولة غسان كنفاني المشهورة في وصف الواقع الفلسطيني بأنه أكثر خيالية من الخيال؛ أي أن العالم العربي اليوم أصبح واقعيًا في هذه الدرجة من عنف التخييل!! من هنا تصبح مرجعيات النص العديده: الاجتماعية، والنفسية، والتاريخية، والثقافية، والدينية، ...إلخ، في المرتبة الثانية في مستوى أبعاد العملية الإبداعية.
لستُ مع نظرية الانعكاس التقليدية التي تنص على أن الإنسان، ومن ثم الأدب، انعكاس أو محاكاة للبيئة أو المرجعيات... أنا مع فكرة تبئير المرجعيات؛ أي أعطاء وجهة نظر الشخصية في التعبير عن هذه المرجعيات، ما يعني تعميقًا للفردية أو الذاتية في التموقع المرجعي، وتشكل زاوية الرؤية الضيقة في تذويتها، ولا بد أن يصدر عنها مواقف مزاجية أو انطباعية أو نزقة، تفضي إلى علاقات اجتماعية سردية متناقضة، ذات رؤى ثقافية متشككة ومأزومة، بدوافع نفسية مرضية عمومًا؛ لأسباب كثيرة مادية ومعنوية!!
هكذا، تبدو مرجعيات العالم، بعد خمسين عامًا -مثلاً- أكثر سوءًا مما نحن فيه الآن: فتن، وحروب، وتشرذم، وصراعات محلية وعالمية... إلخ، فإذا كنا اليوم نتحدث عن فضائل الاستعمار قبل مئة عام وأكثر في بلادنا، وأنه السبب في نهضتنا الثقافية والإبداعية، فلا بدّ أن يتحدث أحفادنا عن كثير من الإيجابيات التي يرونها في حياتنا اليوم، فيصبح الربيع العربي، الذي تحول إلى جحيم في أيامنا، من الإيجابيات التي يذكرها الأحفاد للأجداد، قياسًا إلى المقولة الدارجة :" القادم أعظم"؛ أي أسوأ!!
سيكون هناك ميلٌ واضحٌ إلى تفعيل الذاتية أكثر من الواقعية، وهذا ما يجعلنا نصف الرواية بصفة رواية الذكريات والمذكرات المرجعية، التي يهيمن فيها العالم الافتراضي أو الرقمي النفسي، أكثر من حضور الواقعي أو التسجيلي.
من المتوقع أن تكون مرجعية الأزمة الاقتصادية، وقلة الموارد الطبيعية، وتفشي ظاهرة البطالة المقنعة، من أهم السبل إلى إنتاج روائي سوداوي؛ تبدو معاناة مناجم الفحم قبل عشرات السنين التي جسدتها الواقعية النقدية والطبيعية، أفضل حالاً مما ينتظر الأجيال القادمة التي ستعيش إرهابًا ممنهجًا، على طريقة إرهاب الكورونا اليوم، فاتحة البوابة لحروب عالمية جرثومية مديدة!!
ولعلي أشير إلى مرجعيات الكتابة النسوية التي ستتغير إلى حد ما ؛ فهي إن بدت اليوم مسكونة بإيديولوجيا الصراع مع البطرياركية الذكورية في المجتمع؛ فإنها في المستقبل تزيد من درجة صراعاتها، فتغدو أكثر من أي وقت مضى احتفالاً بثقافة الصراع مع الآخر الحضاري، في مستوى الدفاع عن الذات المجتمعية المحلية في مواجهاتها الحضارية والإنسانية، وخاصة ضد العنصرية العرقية أو اللونية.
• النص أو المتن:
هذا هو البعد الثالث، الذي ينجز من التعالق بين المؤلف والمرجعيات، ولن يكون هناك في المستقبل إغفال للمؤلف أو إيجاد قطيعة بينه وبين نصه على طريقة (موت المؤلف)، ولا اهتمام بشكلانية النص في ذاته على طريقة البنيوية في استنطاق نصوصية النص بعيدًا عن أية مرجعيات خارجه... فالنص هو إحالة حقيقية على الذات المنتجة، وعلى عوالمها المرجعية الواقعية والتخييلية.
وقد أشرت في الملحوظات السابقة إلى ميل النص الروائي إلى الذاتية، وكأنه يغدو "ثرثرة" ذاتية مأزومة بمنولوجاتها الداخلية أو تيارات الوعي الذاتي (المناجاة)، وأنه مذكرات وذكريات متداخلة ومتناقضة؛ لذلك تبدو الكتابة مسطحة في اهتمامها بشأن وصف العادي والمألوف في الحياة، مع بث المفارقات الناتجة من السخرية والتهكم والنادرة، وكأنه نص مفكك، نتيجة لتفكك تفاعل الذات مع عالمها الافتراضي المتشكل في عزلة هذه الذات في استخدامها لأجهزتها الإلكترونية المختلفة رخيصة الثمن!!
بالنسبة إلى مساحة المتن الروائي، تبدو المساحة محدودة أو قصيرة جدًا؛ فجل الروايات لا يتجاوز عدد صفحاتها مئة صفحة؛ أي في حدود عشرين ألف كلمة، تخرج فنيًا بمسافات وفراغات لافتة. وهنا قد نجد حضورًا واضحًا للروايات التفاعلية المنتجة رقميًا، والمشبعة بروابط وأشكال عديدة، تحد من المساحة اللغوية في المتن الروائي عمومًا.
سيكون النشر ورقيًا محدودًا جدًا، إن لم يكن معدومًا؛ لأن النشر الإلكتروني هو الأساس، وهو غير مكلف، إذ لا تتجاوز التكلفة قيمة الإخراج الفني. وكذلك تداول الكتب سيكون مجانيًا؛ وربما يدفع للقراء مبالغ يسيرة لقراءة الروايات، وإبداء الملحوظات التي يمكن إجراؤها دوريًا في المتن، وإعادة نشره بصيغة جديدة، تلغي الصيغة القديمة!!
في الجزء الثاني من هذه المقاربة، سيدور الكلام في إطار استبصار عناصر النص الروائي الرئيسة؛ لأننا معنيون بهذا الجانب في استبصار أو استشراف مستقبل الرواية، في ضوء بعض عناصرها أو مكوناتها، وخاصة اللغة، والشخصية، والزمان، والمكان!!
• المتلقي (القارئ)
أفق التوقع منخفض جدًا في هذا البعد؛ إذ يبدو التلقي ينقسم قسمين: الأول: القسم العام الخاص بمتلقي الفضاء الافتراضي، وهؤلاء يتفاعلون وفق العلاقات الخاصة بهم في وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، وقد ينتج عنهم ومنهم كثير من كتاب الرواية الجديدة ونقادها؛ أعني الرواية التفاعلية القصيرة جدًا، كما أسلفت.
والقسم الآخر النخبوي، وهم القراء المختصون في مجال الرواية، أو نقاد الأدب، وهؤلاء أيضًا محترفون في وسائل التواصل الاجتماعي الإلكترونية؛ لكنهم تجاوزوا ثقافة القراء العامين؛ ليصبحوا نقادًا في مجالات أكاديمية، والتحكيم والمراجعة، وغير ذلك مما يسهم في احترافية الكتابة النقدية التي قد لا تقرأ عادة في سياق القراء العامين أو العاديين.
ومع ذلك، يبقى للرواية تلقيها الخاص، وربما المميز، لدى المشهد الثقافي، قياسًا إلى تلقي الأجناس الأدبية الأخرى، والسبب في رأيي هو كثرة كتابها، إلى درجة أن يصبح كل ممارس للكتابة الأدبية في العالم الافتراضي، كاتبًا للرواية أو راغبًا في كتابتها. ومن هذه الناحية تبدو الرواية في العلاقات التواصلية المختلفة أسهل الطرق إلى تحقيق الرغبة في الكتابة الإبداعية الأكثر حظوة بين المتلقين في ذلك الزمن المستقبلي البعيد نسبيًا!!
لا نستطيع التيقن من فكرة أهمية الرواية لدى المتلقين في ذلك الزمن، الذي يبدو أنه زمن كتابي لا زمن إبداعي؛ وزمن سماعي أو مشاهدي لا زمن قراءة... فالكتاب بصفتيه الرقمية والورقية محدود التداول، ولا يكاد يتجاوز التداول الثقافي النخبوي؛ أي أن الكتاب يقرؤون بعضهم لبعض؛ لتبقى هذه الثقافة خارج إطار محيطها العام، الذي يعرف عن بهرجة الغناء والرياضة كل شيء، ولا يعرف عن ثقافته الكتابية التي يفترض أن تكون طليعية، أي شيء يستحق الذكر أو الاهتمام!!
من يقرأ الرواية؟
سألت مرة طلاب قسم اللغة العربية في شعبة مقرر النثر العربي الحديث(2)، الذين هم في مستوى التخرج، وكان عدد في حدود مئة طالب: من قرأ منكم، رواية سعودية، أو عربية، أوعالمية؟!
كانت الإجابة: لم يقرؤوا جميعًا أية رواية؟!
حتى بعض النقاد الأكاديميين المختصين في الرواية، لا يقرؤون الروايات للكتابة عنها، ويكتبون في مجال الشعر الأسهل للقراءة.
أحد الأصدقاء المختصين في الرواية، خريج جامعة غربية، كان يكتب مقالاته عن الشعر، وكنت أكتب عن الرواية، فسألته مرة مستغربًا؛ فقال لي: " هل أنا مجنون مثلك أقرأ الرواية في شهر، وأكتب عنها مقالة في جريدة؟! أنا أقرأ القصيدة في نصف ساعة، وأكتب عنها مقالة في ساعة"!! وعندما قدم قراءة لرواية "الموت يمر من هنا" لعبده خال، وذكر عبده خال في الصحافة أنه لم يقرأ أكثر من ثلاثين صفحة، قال لي : كلامه صحيح، ما قرأت أكثر من أربعين صفحة"!!
• خلاصة
لعلي أخلص إلى أن استشراف مستقبل الرواية العربية يختلف عن أي جنس أدبي آخر؛ لأنّ الرواية في أهم توصيف لها هي " جنس الأجناس الأدبية"؛ بمعنى أنها قادرة على أن تستوعب كل الأجناس الأدبية والفنية الأخرى، والمعارف المختلفة، والكتابة العادية في درجاتها الصفرية؛ لذلك ستبقى الرواية ديوان العرب في القرن الحادي والعشرين في أقل تقدير، كما كانت ديوان العرب في القرن العشرين.
ولعل أهم غاية لدى أي كاتب أو أديب تكمن في أن يصل إلى درجة أن يكون روائيًا، خاصة أن كتابة الرواية أسهل من أية كتابة أخرى تحتاج إلى معايير فنية خاصة. في حين تكتفي الرواية بأن يكتب على غلافها رواية، ولا يمكن مصادرة مشروعية هذه الكتابة، وإن كانت هزيلة، تبدو نهايتها مغبرة على رفوف المكتبات، حتى هذه (الغبرة) تغدو افتراضية في واقع النشر الرقمي أو الإلكتروني.
في تصوري، هناك علاقة قوية ومتماسكة بين هذه الأبعاد الأربعة المتشابكة في وسائلها وأهدافها أو غاياتها؛ إذ إنَّ أفقَ التوقع يَصْعبُ في حال إغفال أي بعد ؛ فلا يمكنُ الحديثُ عن النص السردي الروائي منفصلاً عن مبدعه، ومرجعياته، ومتلقيه...؛ لهذا يغدو الانتقال إلى القسم الآخر من هذه المقاربة منطقيًا؛ في الالتفات إلى لغات الرواية، وشخصياتها، وزمكانياتها...؛ لكون الرواية بحسب تعريف باختين خطابًا حواريًا، متعدد اللغات والأصوات والرؤى!!
***
• لغات الرواية:
في كل الأحوال، كانت لغات الرواية، وما زالت، وستبقى مجالاً للحوار والاختلاف، في مستويات مراعاة الكتابة للمنطوق الدارج أو للثقافي الفصيح، للغة الوسطى أو لثرثرات التواصل الاجتماعي بعلاتها، لغة الحوار أو لغة الوصف، لغة تيار الوعي / المناجاة أو الترقيم الكتابي..إلخ. وهذا يعني أن قدرات الكتّاب متعددة ومتنوعة، ولعلّ أفضلها ما ينتجه الكتاب المختصون في مجال اللغة العربية، أو الذين لديهم ثقافة لغوية مدرسية جيدة. فيما عدا ذلك، تحتاج أية كتابة إلى مراجعة أو تدقيق يحسنها كثيرًا قبل النشر؛ لأنّ النشر بدون إعطاء أهمية خاصة للغة، يعني كتابة كارثية بطريقة أو بأخرى!!
أتوقع أن تكون لغة الرواية - عمومًا- في أدنى تقنياتها السليمة، يتخللها ركاكة في المفردات والتراكيب، وتميل إلى السردية العادية أكثر من ميلها إلى الشاعرية، ولا تحتفي بالصور والمجازات، وينتابها ضعف واضح في الترقيم والتماسك، وتكثر فيها الأخطاء الإملائية والنحوية والشائعة، وتستبعد تقطيع السرد بالوصف أو الحوار ... وكل هذا يعني أن سهولة الكتابة والنشر في مجال الرواية يسهم في ضعف بنائها اللغوي!!
ستغزو اللغات الدارجة، بما فيها المبتذلة، والعربيزية لغة السرد، والوضوح والمباشرة في الحكي والرؤى. ولكن هذا لا يعني أن تختفي اللغة الإبداعية المكثفة والشاعرية ذات المستويات أو الطبقات اللغوية المتعددة بتعدد أصوات الرواية.
اللغة هي الثقافة والفكر والهوية، فإلى أية درجة تمثل لغة الرواية هذه العناصر الثلاثة في سيادة فاعليتي: تكنولوجيا التواصل الإلكتروني من جهة، وعولمة الحياة البشرية من جهة ثانية؟!
أظن أن وعي المثقف العربي المستقبلي تجاه لغته يسير في انحدار تفاعلي! ولعلّ الانحدار الكتابي، وخاصة السردي هو الأسوأ من غيره؛ لذلك لا نستبعد تفشي الركاكة اللغوية في الرواية؛ خاصة لدى الفئة التي تتجرأ على الكتابة، بدون أن تؤسس نفسها في قراءة كثير من الروايات الجيدة، خاصة الروايات التراثية!!
في المحصلة؛ تعد لغة الرواية البوابة الحقيقية لنجاحها إبداعيًا؛ وأن ضعف اللغة مقبرة الكتابة، وفي هذا المجال تحديدًا، لا يمكن التنازل عن قيم اللغة الجمالية التقليدية، خاصة عن سلامة اللغة في المفردات والتراكيب، وعن اللغة الأدبية التي تعني أنها لغة فوق اللغة أو لغة مكثفة مجازية!! ومن ثم تجاوز العامية، كون انتشارها العامية يهدد مستقبل الرواية العربية عمومًا.
• شخصيات الرواية
تعيش الشخصيات عالمًا مفككًا... تتقزم فيه الروح الإنسانية المنعزلة في مواجهة تغوّل الماديات، وكسرها للمشاعر الذاتية الباحثة عن كينونتها؛ وكأن الرواية مسيرة من التوتر والقلق والبحث عن الذات المهمّشة المقموعة!!
لا توجد بطولات فردية أو جماعية... فقط حالة ضياع مسكونة بذاكرة الهزائم والذكريات المرة في المسيرة نحو مستقبل يَعِد بكثير من الآلام والأوجاع؛ لهذا تبدو الشخصيات في المشاهد السردية كأنها أشباح في رؤية سردية شبحية للعالم؛ فما قيمة الإنسان في مستقبل يمكن اختزاله في مطحنتي العولمة والرقمنة؟!
النتيجة هي قيمة الإنسان المطحون نفسيًا واجتماعيًا بامتياز؛ ما يشكل شخصيات الرواية ليس في سياقاتها التخييلية فحسب، وإنما في أنساقها الواقعية، التي وصفناها بأنها أكثر خيالية من التخييل!! وبذلك ينتهي مفهوم "التجريب" الذي ينعش تحولات الرواية؛ أي تحولات شخصياتها؛ وكأننا في ذلك الزمان نعود إلى الكتابة الأدبية الميتة، كما كانت في أدب الدول المتتابعة، قبل النهضة الكتابية الحديثة في مطلع القرن العشرين.
يهيأ لي أن الاهتمام بالأحداث والكوارث والصراعات والأفكار ستكون له الأولوية على حساب بناء الشخصيات؛ فاللافت حينئذ هو ما يدور في العالم خارج إطار الذات ؛ لذلك ستكون الظاهرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ...إلخ، هي المحرك الرئيس للبنيات السردية، مما يجعل الشخصيات أكثر بعدًا عن دائرة الاهتمام بصفتها شخصيات اجتماعية تواصلية، مع عدم إغفال التيار السردي الذي يركز على ثرثرة الذات الساردة في إبداء رؤيتها ( وجهة نظرها) تجاه العالم، وهو تيار عزلة الذات وثقافتها الانتحارية التشاؤمية في محيطها..
• زمكانية الرواية
زمن الرواية ومكانها عنصران متداخلان؛ فالزمن ملاصق للفضاء المكاني... وفي حال توقعنا للعالم السردي آنذاك؛ فلعلنا نتوقع الزمكانية كابوسية، كل شيء يتعايش مع السرعة، وتقارب الأمكنة ؛ فالعالم يغدو أكثر كثافة من قرية صغيرة، ربما هو بيت واحد.
ومع المكان تتشكل عزلة الفرد، مع السرعة في الزمن ؛ لذلك قد تسيطر الفانتازيا على العلاقات بين الشخصيات في أماكنها وأزمنتها الرقمية المتقاربة!
ستبقى المدينة اليوتيبية الفاضلة، كما وجدت فكرتها لدى أفلاطون هي مقصد الساردين الباحثين عن عالم آخر مستقر وآمن، يخلصهم من عالمهم الموبوء بكثير من الممارسات الشيطانية... لذلك تبقى نافذة الأمل مفتوحة على مصراعيها ؛ لأن الكتابة من غير هذا الأمل الباحث عن السعادة البشرية في الكون، تبدو كتابة متصحرة وقاحلة ومرعبة!!
• خلاصة أخرى:
هل هذه الكتابة متفائلة، أم متشائمة، أم متشائلة في توصيف رمادية العلاقة بين التشاؤم والتفاؤل؟!
إن مستقبل الرواية في ظل المعطيات الحالية، يجعل أفق التوقع لدينا مسكونًا بكثير من التوقعات السلبية لكتابة سردية ضعيفة نسبيًا لدى كثير من كتاب الرواية العربية، ولا يعني هذا التوقع وجود روايات بلغة إبداعية مميزة ؛ لكتاب يتقنون هذه اللغة، ويراعون قواعدها الكتابية في سياق حساسية اللغة أو الكتابة عبر النوعية كما عبر عن ذلك إدوارد الخراط في كتابين من كتبه.
تفاؤل أم تشاؤم؟!
د. حسين المناصرة
من الأوهام الثقافية أن يكون هناك حديث ما عن موت بعض الأجناس الأدبية؛ كالحديث عن موت النقد، وموت الشعر، وموت الرواية ...إلخ. سواء أكان هذا الحديث في إطار تهميش هذه الأجناس الأدبية، أم في إطار ضعفها لغة وفكرًا وتلقيًا!! فالإبداع لا يموت، ولا يتلاشى، لكن من الممكن أن يهمّش أو يغيّب في ظروف طارئة أو خاصة!!
كذلك هناك رهانات على مستقبل هذه الأجناس، فالبعض يرى أن المستقبل للقصة القصيرة جدًا، وآخرون يرون أن الشعر هو حصان المستقبل، وفريق ثالث يرى المستقبل للرواية أو هي ديوانه، وفريق رابع يجعل المستقبل للفنون السمعية والبصرية..إلخ؟! هؤلاء كلهم محقون في إطار اهتماماتهم؛ لذلك لا يعيب الفنون والآداب أن يبرز بعضها ويتقدم في ظاهرة الاهتمام على غيره. لكن المؤكد أن الرواية هي المستقبل، خاصة أنها وقود السينما التي قد تختزل حكاية الرواية في ساعتين أو أقل، إضافة إلى إمكانية اختزالها وتكثيفها في حكاية قصيرة تسهم في سرعة انتشارها.
إن أي استشراف لإشكالية الرواية العربية والمستقبل أو في المستقبل، ينبغي له أن يحدد إطار هذه الإشكالية في سياقين رئيسين:
أولهما: خريطة الكتابة الروائية في أنساقها الأربعة ، هي :
1. نص الرواية أو متنها في الرؤى والجماليات.
2. مرجعيات الرواية التاريخية والاجتماعية والثقافية وغيرها.
3. كاتب الرواية أو منشئها.
4. تلقي الرواية .
وثانيهما، الذي ينطلق من نص الرواية ، مستوى أبعاد العملية الأدبية الرئيسة الأربعة أيضًا، وهي :
1. الشخصية.
2. اللغة.
3. المكان.
4. الزمان.
• السارد (المؤلف):
هو أهم أبعاد العملية الأدبية (أي البعد الأول)؛ لأنه منتج النص السردي الروائي، وفيه تتحقق الأبعاد الثلاثة الأخرى؛ لكونه منتِجًا للنص (البعد الثاني) في ضوء مرجعياته الاجتماعية والثقافية (البعد الثالث)، وهو -بكل تأكيد¬¬- القارئ الأول ضمنيًا لنصه (البعد الرابع).
فمن هو مؤلف الرواية مستقبلاً؟!
سيهيمن وجود الرواية بصفتها جنسًا أدبيًا من الناحية الثقافية والإعلامية، ومن ثم يغدو السارد اسمًا من بين أسماء كثيرة، لا يهم كثيرًا أن يُذكرَ أو يَحضرَ في الذاكرة الثقافية، وفي الإعلام، خاصة أن عدد الروائيين سيكون كمًا كبيرًا، يفتقد للتكوّن أو الوجود النوعي في المشهد الثقافي؛ لذلك يصعب أن تُذكرَ أسماء الروائيين بصفتها نماذج مميزة، حتى أولئك الذين سيحصلون على جوائز محلية أو إقليمية سيبقون أسماء في الهامش، على عكس أولئك الذين يحصلون على جوائز عالمية، ربما يحظون ببعض الاهتمام الواضح الآني نسبيًا، وهم فئة نادرة على أية حال.
أما بالنسبة إلى كثرة أعداد الروائيين والروائيات، وخاصة الروائيات، فهذا يعود إلى سهولة النشر أولاً، خاصة النشر الرقمي، الذي يمكن أن يتم في دقائق إن لم يكن في ثوانٍ. وثانيًا: إلى سهولة امتلاك كل إنسان لرواية أو روايات هي سيرته الذاتية المعقدة نسبيًا، في ظروفها النفسية والاجتماعية والثقافية، وتساعده على الكتابة الروائية مشاركاته في وسائل التواصل الاجتماعي ذات الطفرة التكنولوجية على الكتابة بيسر وسهولة.
وإذا كانت الحرية هي المعيار الأكثر أهمية في ممارسة الكتابة، فأعتقد أنَّ روائيَّ المستقبل سيكون أكثر حريةً وتحررًا في مواجهة تابو المقدس ( المحرمات الثلاثة: الدين، والجنس، والسياسة)؛ لهذا تبدو الساردة النسائية عامة، وخاصة الساردة النسوية؛ أكثر تفشيًا في الوسط السردي؛ لما تمتلكه المرأة من قدرة سردية عليا، تبدو متفوقة على الرجل، في إثراء الحكي بصفته عالمًا أو مملكة خاصة بها، تمارس فيها سلطاتِها المبدعةَ في مواجهة استمرارية الهيمنة الذكورية على البنيات الاجتماعية المختلفة( مثل: الأسرة، والمدرسة، والجامعة، والمؤسسة الرسمية، والقبيلة، والدولة...إلخ).
من جهة الوعي، يبدو المؤلف أكثر ثقافة، وأقل عمقًا في وعيه، من أجداده؛ فحياته صارت أكثر تسطحًا وعزلة، لذلك تصبح الأجهزة الإلكترونية وسيلته الوحيدة المتاحة في كل لحظة، وهي عمومًا وسيلة استهلاكية، لا تعمق التفكير والتأمل، إضافة إلى أنها تساعد كثيرًا على الكتابة أو الكلام استجابة للحياة العادية والمألوفة، ومن ثم التجميع والتلفيق لهذه اللغة للنشر باسم الرواية التي تغدو أقرب إلى كونها مذكرات وذكريات لحياة كاتبها وعلاقاته عمومًا!!
إن روائيّ المستقبل يعيش في ظروف نفسية ومادية قاسية، تجعله أكثر توحشًا في علاقاته، ومن ثمّ في كتابته، وكذلك أكثر تشاؤمًا من أجداده الذين عاشوا في القرن عشرين وثلث الفرن العشرين، ربما يعود السبب في ذلك إلى كونه شخصية يائسة بائسة، تميل إلى البوهيمية الجوانية، وإن كان المظهر الخارجي يوحي بالتحضر، وامتلاك ناصية التكنولوجيا المخيفة!!
• المرجعيات
الإنسان ابن بيئته، في ماضيها وحاضرها ومستقبلها، والمستقبل دائمًا هو الأكثر حضورًا في الوعي السردي الاستشرافي أو الحَدْسي الاستبصاري؛ لكون السارد يعيش في مجتمع يبدو أكثر تعقيدًا من أي تخيل مركب ممكن من منطلق مرجعيات النص؛ وكأننا هنا أمام مقولة غسان كنفاني المشهورة في وصف الواقع الفلسطيني بأنه أكثر خيالية من الخيال؛ أي أن العالم العربي اليوم أصبح واقعيًا في هذه الدرجة من عنف التخييل!! من هنا تصبح مرجعيات النص العديده: الاجتماعية، والنفسية، والتاريخية، والثقافية، والدينية، ...إلخ، في المرتبة الثانية في مستوى أبعاد العملية الإبداعية.
لستُ مع نظرية الانعكاس التقليدية التي تنص على أن الإنسان، ومن ثم الأدب، انعكاس أو محاكاة للبيئة أو المرجعيات... أنا مع فكرة تبئير المرجعيات؛ أي أعطاء وجهة نظر الشخصية في التعبير عن هذه المرجعيات، ما يعني تعميقًا للفردية أو الذاتية في التموقع المرجعي، وتشكل زاوية الرؤية الضيقة في تذويتها، ولا بد أن يصدر عنها مواقف مزاجية أو انطباعية أو نزقة، تفضي إلى علاقات اجتماعية سردية متناقضة، ذات رؤى ثقافية متشككة ومأزومة، بدوافع نفسية مرضية عمومًا؛ لأسباب كثيرة مادية ومعنوية!!
هكذا، تبدو مرجعيات العالم، بعد خمسين عامًا -مثلاً- أكثر سوءًا مما نحن فيه الآن: فتن، وحروب، وتشرذم، وصراعات محلية وعالمية... إلخ، فإذا كنا اليوم نتحدث عن فضائل الاستعمار قبل مئة عام وأكثر في بلادنا، وأنه السبب في نهضتنا الثقافية والإبداعية، فلا بدّ أن يتحدث أحفادنا عن كثير من الإيجابيات التي يرونها في حياتنا اليوم، فيصبح الربيع العربي، الذي تحول إلى جحيم في أيامنا، من الإيجابيات التي يذكرها الأحفاد للأجداد، قياسًا إلى المقولة الدارجة :" القادم أعظم"؛ أي أسوأ!!
سيكون هناك ميلٌ واضحٌ إلى تفعيل الذاتية أكثر من الواقعية، وهذا ما يجعلنا نصف الرواية بصفة رواية الذكريات والمذكرات المرجعية، التي يهيمن فيها العالم الافتراضي أو الرقمي النفسي، أكثر من حضور الواقعي أو التسجيلي.
من المتوقع أن تكون مرجعية الأزمة الاقتصادية، وقلة الموارد الطبيعية، وتفشي ظاهرة البطالة المقنعة، من أهم السبل إلى إنتاج روائي سوداوي؛ تبدو معاناة مناجم الفحم قبل عشرات السنين التي جسدتها الواقعية النقدية والطبيعية، أفضل حالاً مما ينتظر الأجيال القادمة التي ستعيش إرهابًا ممنهجًا، على طريقة إرهاب الكورونا اليوم، فاتحة البوابة لحروب عالمية جرثومية مديدة!!
ولعلي أشير إلى مرجعيات الكتابة النسوية التي ستتغير إلى حد ما ؛ فهي إن بدت اليوم مسكونة بإيديولوجيا الصراع مع البطرياركية الذكورية في المجتمع؛ فإنها في المستقبل تزيد من درجة صراعاتها، فتغدو أكثر من أي وقت مضى احتفالاً بثقافة الصراع مع الآخر الحضاري، في مستوى الدفاع عن الذات المجتمعية المحلية في مواجهاتها الحضارية والإنسانية، وخاصة ضد العنصرية العرقية أو اللونية.
• النص أو المتن:
هذا هو البعد الثالث، الذي ينجز من التعالق بين المؤلف والمرجعيات، ولن يكون هناك في المستقبل إغفال للمؤلف أو إيجاد قطيعة بينه وبين نصه على طريقة (موت المؤلف)، ولا اهتمام بشكلانية النص في ذاته على طريقة البنيوية في استنطاق نصوصية النص بعيدًا عن أية مرجعيات خارجه... فالنص هو إحالة حقيقية على الذات المنتجة، وعلى عوالمها المرجعية الواقعية والتخييلية.
وقد أشرت في الملحوظات السابقة إلى ميل النص الروائي إلى الذاتية، وكأنه يغدو "ثرثرة" ذاتية مأزومة بمنولوجاتها الداخلية أو تيارات الوعي الذاتي (المناجاة)، وأنه مذكرات وذكريات متداخلة ومتناقضة؛ لذلك تبدو الكتابة مسطحة في اهتمامها بشأن وصف العادي والمألوف في الحياة، مع بث المفارقات الناتجة من السخرية والتهكم والنادرة، وكأنه نص مفكك، نتيجة لتفكك تفاعل الذات مع عالمها الافتراضي المتشكل في عزلة هذه الذات في استخدامها لأجهزتها الإلكترونية المختلفة رخيصة الثمن!!
بالنسبة إلى مساحة المتن الروائي، تبدو المساحة محدودة أو قصيرة جدًا؛ فجل الروايات لا يتجاوز عدد صفحاتها مئة صفحة؛ أي في حدود عشرين ألف كلمة، تخرج فنيًا بمسافات وفراغات لافتة. وهنا قد نجد حضورًا واضحًا للروايات التفاعلية المنتجة رقميًا، والمشبعة بروابط وأشكال عديدة، تحد من المساحة اللغوية في المتن الروائي عمومًا.
سيكون النشر ورقيًا محدودًا جدًا، إن لم يكن معدومًا؛ لأن النشر الإلكتروني هو الأساس، وهو غير مكلف، إذ لا تتجاوز التكلفة قيمة الإخراج الفني. وكذلك تداول الكتب سيكون مجانيًا؛ وربما يدفع للقراء مبالغ يسيرة لقراءة الروايات، وإبداء الملحوظات التي يمكن إجراؤها دوريًا في المتن، وإعادة نشره بصيغة جديدة، تلغي الصيغة القديمة!!
في الجزء الثاني من هذه المقاربة، سيدور الكلام في إطار استبصار عناصر النص الروائي الرئيسة؛ لأننا معنيون بهذا الجانب في استبصار أو استشراف مستقبل الرواية، في ضوء بعض عناصرها أو مكوناتها، وخاصة اللغة، والشخصية، والزمان، والمكان!!
• المتلقي (القارئ)
أفق التوقع منخفض جدًا في هذا البعد؛ إذ يبدو التلقي ينقسم قسمين: الأول: القسم العام الخاص بمتلقي الفضاء الافتراضي، وهؤلاء يتفاعلون وفق العلاقات الخاصة بهم في وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، وقد ينتج عنهم ومنهم كثير من كتاب الرواية الجديدة ونقادها؛ أعني الرواية التفاعلية القصيرة جدًا، كما أسلفت.
والقسم الآخر النخبوي، وهم القراء المختصون في مجال الرواية، أو نقاد الأدب، وهؤلاء أيضًا محترفون في وسائل التواصل الاجتماعي الإلكترونية؛ لكنهم تجاوزوا ثقافة القراء العامين؛ ليصبحوا نقادًا في مجالات أكاديمية، والتحكيم والمراجعة، وغير ذلك مما يسهم في احترافية الكتابة النقدية التي قد لا تقرأ عادة في سياق القراء العامين أو العاديين.
ومع ذلك، يبقى للرواية تلقيها الخاص، وربما المميز، لدى المشهد الثقافي، قياسًا إلى تلقي الأجناس الأدبية الأخرى، والسبب في رأيي هو كثرة كتابها، إلى درجة أن يصبح كل ممارس للكتابة الأدبية في العالم الافتراضي، كاتبًا للرواية أو راغبًا في كتابتها. ومن هذه الناحية تبدو الرواية في العلاقات التواصلية المختلفة أسهل الطرق إلى تحقيق الرغبة في الكتابة الإبداعية الأكثر حظوة بين المتلقين في ذلك الزمن المستقبلي البعيد نسبيًا!!
لا نستطيع التيقن من فكرة أهمية الرواية لدى المتلقين في ذلك الزمن، الذي يبدو أنه زمن كتابي لا زمن إبداعي؛ وزمن سماعي أو مشاهدي لا زمن قراءة... فالكتاب بصفتيه الرقمية والورقية محدود التداول، ولا يكاد يتجاوز التداول الثقافي النخبوي؛ أي أن الكتاب يقرؤون بعضهم لبعض؛ لتبقى هذه الثقافة خارج إطار محيطها العام، الذي يعرف عن بهرجة الغناء والرياضة كل شيء، ولا يعرف عن ثقافته الكتابية التي يفترض أن تكون طليعية، أي شيء يستحق الذكر أو الاهتمام!!
من يقرأ الرواية؟
سألت مرة طلاب قسم اللغة العربية في شعبة مقرر النثر العربي الحديث(2)، الذين هم في مستوى التخرج، وكان عدد في حدود مئة طالب: من قرأ منكم، رواية سعودية، أو عربية، أوعالمية؟!
كانت الإجابة: لم يقرؤوا جميعًا أية رواية؟!
حتى بعض النقاد الأكاديميين المختصين في الرواية، لا يقرؤون الروايات للكتابة عنها، ويكتبون في مجال الشعر الأسهل للقراءة.
أحد الأصدقاء المختصين في الرواية، خريج جامعة غربية، كان يكتب مقالاته عن الشعر، وكنت أكتب عن الرواية، فسألته مرة مستغربًا؛ فقال لي: " هل أنا مجنون مثلك أقرأ الرواية في شهر، وأكتب عنها مقالة في جريدة؟! أنا أقرأ القصيدة في نصف ساعة، وأكتب عنها مقالة في ساعة"!! وعندما قدم قراءة لرواية "الموت يمر من هنا" لعبده خال، وذكر عبده خال في الصحافة أنه لم يقرأ أكثر من ثلاثين صفحة، قال لي : كلامه صحيح، ما قرأت أكثر من أربعين صفحة"!!
• خلاصة
لعلي أخلص إلى أن استشراف مستقبل الرواية العربية يختلف عن أي جنس أدبي آخر؛ لأنّ الرواية في أهم توصيف لها هي " جنس الأجناس الأدبية"؛ بمعنى أنها قادرة على أن تستوعب كل الأجناس الأدبية والفنية الأخرى، والمعارف المختلفة، والكتابة العادية في درجاتها الصفرية؛ لذلك ستبقى الرواية ديوان العرب في القرن الحادي والعشرين في أقل تقدير، كما كانت ديوان العرب في القرن العشرين.
ولعل أهم غاية لدى أي كاتب أو أديب تكمن في أن يصل إلى درجة أن يكون روائيًا، خاصة أن كتابة الرواية أسهل من أية كتابة أخرى تحتاج إلى معايير فنية خاصة. في حين تكتفي الرواية بأن يكتب على غلافها رواية، ولا يمكن مصادرة مشروعية هذه الكتابة، وإن كانت هزيلة، تبدو نهايتها مغبرة على رفوف المكتبات، حتى هذه (الغبرة) تغدو افتراضية في واقع النشر الرقمي أو الإلكتروني.
في تصوري، هناك علاقة قوية ومتماسكة بين هذه الأبعاد الأربعة المتشابكة في وسائلها وأهدافها أو غاياتها؛ إذ إنَّ أفقَ التوقع يَصْعبُ في حال إغفال أي بعد ؛ فلا يمكنُ الحديثُ عن النص السردي الروائي منفصلاً عن مبدعه، ومرجعياته، ومتلقيه...؛ لهذا يغدو الانتقال إلى القسم الآخر من هذه المقاربة منطقيًا؛ في الالتفات إلى لغات الرواية، وشخصياتها، وزمكانياتها...؛ لكون الرواية بحسب تعريف باختين خطابًا حواريًا، متعدد اللغات والأصوات والرؤى!!
***
• لغات الرواية:
في كل الأحوال، كانت لغات الرواية، وما زالت، وستبقى مجالاً للحوار والاختلاف، في مستويات مراعاة الكتابة للمنطوق الدارج أو للثقافي الفصيح، للغة الوسطى أو لثرثرات التواصل الاجتماعي بعلاتها، لغة الحوار أو لغة الوصف، لغة تيار الوعي / المناجاة أو الترقيم الكتابي..إلخ. وهذا يعني أن قدرات الكتّاب متعددة ومتنوعة، ولعلّ أفضلها ما ينتجه الكتاب المختصون في مجال اللغة العربية، أو الذين لديهم ثقافة لغوية مدرسية جيدة. فيما عدا ذلك، تحتاج أية كتابة إلى مراجعة أو تدقيق يحسنها كثيرًا قبل النشر؛ لأنّ النشر بدون إعطاء أهمية خاصة للغة، يعني كتابة كارثية بطريقة أو بأخرى!!
أتوقع أن تكون لغة الرواية - عمومًا- في أدنى تقنياتها السليمة، يتخللها ركاكة في المفردات والتراكيب، وتميل إلى السردية العادية أكثر من ميلها إلى الشاعرية، ولا تحتفي بالصور والمجازات، وينتابها ضعف واضح في الترقيم والتماسك، وتكثر فيها الأخطاء الإملائية والنحوية والشائعة، وتستبعد تقطيع السرد بالوصف أو الحوار ... وكل هذا يعني أن سهولة الكتابة والنشر في مجال الرواية يسهم في ضعف بنائها اللغوي!!
ستغزو اللغات الدارجة، بما فيها المبتذلة، والعربيزية لغة السرد، والوضوح والمباشرة في الحكي والرؤى. ولكن هذا لا يعني أن تختفي اللغة الإبداعية المكثفة والشاعرية ذات المستويات أو الطبقات اللغوية المتعددة بتعدد أصوات الرواية.
اللغة هي الثقافة والفكر والهوية، فإلى أية درجة تمثل لغة الرواية هذه العناصر الثلاثة في سيادة فاعليتي: تكنولوجيا التواصل الإلكتروني من جهة، وعولمة الحياة البشرية من جهة ثانية؟!
أظن أن وعي المثقف العربي المستقبلي تجاه لغته يسير في انحدار تفاعلي! ولعلّ الانحدار الكتابي، وخاصة السردي هو الأسوأ من غيره؛ لذلك لا نستبعد تفشي الركاكة اللغوية في الرواية؛ خاصة لدى الفئة التي تتجرأ على الكتابة، بدون أن تؤسس نفسها في قراءة كثير من الروايات الجيدة، خاصة الروايات التراثية!!
في المحصلة؛ تعد لغة الرواية البوابة الحقيقية لنجاحها إبداعيًا؛ وأن ضعف اللغة مقبرة الكتابة، وفي هذا المجال تحديدًا، لا يمكن التنازل عن قيم اللغة الجمالية التقليدية، خاصة عن سلامة اللغة في المفردات والتراكيب، وعن اللغة الأدبية التي تعني أنها لغة فوق اللغة أو لغة مكثفة مجازية!! ومن ثم تجاوز العامية، كون انتشارها العامية يهدد مستقبل الرواية العربية عمومًا.
• شخصيات الرواية
تعيش الشخصيات عالمًا مفككًا... تتقزم فيه الروح الإنسانية المنعزلة في مواجهة تغوّل الماديات، وكسرها للمشاعر الذاتية الباحثة عن كينونتها؛ وكأن الرواية مسيرة من التوتر والقلق والبحث عن الذات المهمّشة المقموعة!!
لا توجد بطولات فردية أو جماعية... فقط حالة ضياع مسكونة بذاكرة الهزائم والذكريات المرة في المسيرة نحو مستقبل يَعِد بكثير من الآلام والأوجاع؛ لهذا تبدو الشخصيات في المشاهد السردية كأنها أشباح في رؤية سردية شبحية للعالم؛ فما قيمة الإنسان في مستقبل يمكن اختزاله في مطحنتي العولمة والرقمنة؟!
النتيجة هي قيمة الإنسان المطحون نفسيًا واجتماعيًا بامتياز؛ ما يشكل شخصيات الرواية ليس في سياقاتها التخييلية فحسب، وإنما في أنساقها الواقعية، التي وصفناها بأنها أكثر خيالية من التخييل!! وبذلك ينتهي مفهوم "التجريب" الذي ينعش تحولات الرواية؛ أي تحولات شخصياتها؛ وكأننا في ذلك الزمان نعود إلى الكتابة الأدبية الميتة، كما كانت في أدب الدول المتتابعة، قبل النهضة الكتابية الحديثة في مطلع القرن العشرين.
يهيأ لي أن الاهتمام بالأحداث والكوارث والصراعات والأفكار ستكون له الأولوية على حساب بناء الشخصيات؛ فاللافت حينئذ هو ما يدور في العالم خارج إطار الذات ؛ لذلك ستكون الظاهرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ...إلخ، هي المحرك الرئيس للبنيات السردية، مما يجعل الشخصيات أكثر بعدًا عن دائرة الاهتمام بصفتها شخصيات اجتماعية تواصلية، مع عدم إغفال التيار السردي الذي يركز على ثرثرة الذات الساردة في إبداء رؤيتها ( وجهة نظرها) تجاه العالم، وهو تيار عزلة الذات وثقافتها الانتحارية التشاؤمية في محيطها..
• زمكانية الرواية
زمن الرواية ومكانها عنصران متداخلان؛ فالزمن ملاصق للفضاء المكاني... وفي حال توقعنا للعالم السردي آنذاك؛ فلعلنا نتوقع الزمكانية كابوسية، كل شيء يتعايش مع السرعة، وتقارب الأمكنة ؛ فالعالم يغدو أكثر كثافة من قرية صغيرة، ربما هو بيت واحد.
ومع المكان تتشكل عزلة الفرد، مع السرعة في الزمن ؛ لذلك قد تسيطر الفانتازيا على العلاقات بين الشخصيات في أماكنها وأزمنتها الرقمية المتقاربة!
ستبقى المدينة اليوتيبية الفاضلة، كما وجدت فكرتها لدى أفلاطون هي مقصد الساردين الباحثين عن عالم آخر مستقر وآمن، يخلصهم من عالمهم الموبوء بكثير من الممارسات الشيطانية... لذلك تبقى نافذة الأمل مفتوحة على مصراعيها ؛ لأن الكتابة من غير هذا الأمل الباحث عن السعادة البشرية في الكون، تبدو كتابة متصحرة وقاحلة ومرعبة!!
• خلاصة أخرى:
هل هذه الكتابة متفائلة، أم متشائمة، أم متشائلة في توصيف رمادية العلاقة بين التشاؤم والتفاؤل؟!
إن مستقبل الرواية في ظل المعطيات الحالية، يجعل أفق التوقع لدينا مسكونًا بكثير من التوقعات السلبية لكتابة سردية ضعيفة نسبيًا لدى كثير من كتاب الرواية العربية، ولا يعني هذا التوقع وجود روايات بلغة إبداعية مميزة ؛ لكتاب يتقنون هذه اللغة، ويراعون قواعدها الكتابية في سياق حساسية اللغة أو الكتابة عبر النوعية كما عبر عن ذلك إدوارد الخراط في كتابين من كتبه.
رواية المستقبل
تفاؤل أم تشاؤم؟!
د. حسين المناصرة
من الأوهام الثقافية أن يكون هناك حديث ما عن موت بعض الأجناس الأدبية؛ كالحديث عن موت النقد، وموت الشعر، وموت الرواية ...إلخ. سواء أكان هذا الحديث في إطار تهميش هذه الأجناس الأدبية، أم في إطار ضعفها لغة وفكرًا وتلقيًا!! فالإبداع لا يموت، ولا يتلاشى، لكن من الممكن أن يهمّش أو يغيّب في ظروف طارئة أو خاصة!!
كذلك هناك رهانات على مستقبل هذه الأجناس، فالبعض يرى أن المستقبل للقصة القصيرة جدًا، وآخرون يرون أن الشعر هو حصان المستقبل، وفريق ثالث يرى المستقبل للرواية أو هي ديوانه، وفريق رابع يجعل المستقبل للفنون السمعية والبصرية..إلخ؟! هؤلاء كلهم محقون في إطار اهتماماتهم؛ لذلك لا يعيب الفنون والآداب أن يبرز بعضها ويتقدم في ظاهرة الاهتمام على غيره. لكن المؤكد أن الرواية هي المستقبل، خاصة أنها وقود السينما التي قد تختزل حكاية الرواية في ساعتين أو أقل، إضافة إلى إمكانية اختزالها وتكثيفها في حكاية قصيرة تسهم في سرعة انتشارها.
إن أي استشراف لإشكالية الرواية العربية والمستقبل أو في المستقبل، ينبغي له أن يحدد إطار هذه الإشكالية في سياقين رئيسين:
أولهما: خريطة الكتابة الروائية في أنساقها الأربعة ، هي :
1. نص الرواية أو متنها في الرؤى والجماليات.
2. مرجعيات الرواية التاريخية والاجتماعية والثقافية وغيرها.
3. كاتب الرواية أو منشئها.
4. تلقي الرواية .
وثانيهما، الذي ينطلق من نص الرواية ، مستوى أبعاد العملية الأدبية الرئيسة الأربعة أيضًا، وهي :
1. الشخصية.
2. اللغة.
3. المكان.
4. الزمان.
• السارد (المؤلف):
هو أهم أبعاد العملية الأدبية (أي البعد الأول)؛ لأنه منتج النص السردي الروائي، وفيه تتحقق الأبعاد الثلاثة الأخرى؛ لكونه منتِجًا للنص (البعد الثاني) في ضوء مرجعياته الاجتماعية والثقافية (البعد الثالث)، وهو -بكل تأكيد¬¬- القارئ الأول ضمنيًا لنصه (البعد الرابع).
فمن هو مؤلف الرواية مستقبلاً؟!
سيهيمن وجود الرواية بصفتها جنسًا أدبيًا من الناحية الثقافية والإعلامية، ومن ثم يغدو السارد اسمًا من بين أسماء كثيرة، لا يهم كثيرًا أن يُذكرَ أو يَحضرَ في الذاكرة الثقافية، وفي الإعلام، خاصة أن عدد الروائيين سيكون كمًا كبيرًا، يفتقد للتكوّن أو الوجود النوعي في المشهد الثقافي؛ لذلك يصعب أن تُذكرَ أسماء الروائيين بصفتها نماذج مميزة، حتى أولئك الذين سيحصلون على جوائز محلية أو إقليمية سيبقون أسماء في الهامش، على عكس أولئك الذين يحصلون على جوائز عالمية، ربما يحظون ببعض الاهتمام الواضح الآني نسبيًا، وهم فئة نادرة على أية حال.
أما بالنسبة إلى كثرة أعداد الروائيين والروائيات، وخاصة الروائيات، فهذا يعود إلى سهولة النشر أولاً، خاصة النشر الرقمي، الذي يمكن أن يتم في دقائق إن لم يكن في ثوانٍ. وثانيًا: إلى سهولة امتلاك كل إنسان لرواية أو روايات هي سيرته الذاتية المعقدة نسبيًا، في ظروفها النفسية والاجتماعية والثقافية، وتساعده على الكتابة الروائية مشاركاته في وسائل التواصل الاجتماعي ذات الطفرة التكنولوجية على الكتابة بيسر وسهولة.
وإذا كانت الحرية هي المعيار الأكثر أهمية في ممارسة الكتابة، فأعتقد أنَّ روائيَّ المستقبل سيكون أكثر حريةً وتحررًا في مواجهة تابو المقدس ( المحرمات الثلاثة: الدين، والجنس، والسياسة)؛ لهذا تبدو الساردة النسائية عامة، وخاصة الساردة النسوية؛ أكثر تفشيًا في الوسط السردي؛ لما تمتلكه المرأة من قدرة سردية عليا، تبدو متفوقة على الرجل، في إثراء الحكي بصفته عالمًا أو مملكة خاصة بها، تمارس فيها سلطاتِها المبدعةَ في مواجهة استمرارية الهيمنة الذكورية على البنيات الاجتماعية المختلفة( مثل: الأسرة، والمدرسة، والجامعة، والمؤسسة الرسمية، والقبيلة، والدولة...إلخ).
من جهة الوعي، يبدو المؤلف أكثر ثقافة، وأقل عمقًا في وعيه، من أجداده؛ فحياته صارت أكثر تسطحًا وعزلة، لذلك تصبح الأجهزة الإلكترونية وسيلته الوحيدة المتاحة في كل لحظة، وهي عمومًا وسيلة استهلاكية، لا تعمق التفكير والتأمل، إضافة إلى أنها تساعد كثيرًا على الكتابة أو الكلام استجابة للحياة العادية والمألوفة، ومن ثم التجميع والتلفيق لهذه اللغة للنشر باسم الرواية التي تغدو أقرب إلى كونها مذكرات وذكريات لحياة كاتبها وعلاقاته عمومًا!!
إن روائيّ المستقبل يعيش في ظروف نفسية ومادية قاسية، تجعله أكثر توحشًا في علاقاته، ومن ثمّ في كتابته، وكذلك أكثر تشاؤمًا من أجداده الذين عاشوا في القرن عشرين وثلث الفرن العشرين، ربما يعود السبب في ذلك إلى كونه شخصية يائسة بائسة، تميل إلى البوهيمية الجوانية، وإن كان المظهر الخارجي يوحي بالتحضر، وامتلاك ناصية التكنولوجيا المخيفة!!
• المرجعيات
الإنسان ابن بيئته، في ماضيها وحاضرها ومستقبلها، والمستقبل دائمًا هو الأكثر حضورًا في الوعي السردي الاستشرافي أو الحَدْسي الاستبصاري؛ لكون السارد يعيش في مجتمع يبدو أكثر تعقيدًا من أي تخيل مركب ممكن من منطلق مرجعيات النص؛ وكأننا هنا أمام مقولة غسان كنفاني المشهورة في وصف الواقع الفلسطيني بأنه أكثر خيالية من الخيال؛ أي أن العالم العربي اليوم أصبح واقعيًا في هذه الدرجة من عنف التخييل!! من هنا تصبح مرجعيات النص العديده: الاجتماعية، والنفسية، والتاريخية، والثقافية، والدينية، ...إلخ، في المرتبة الثانية في مستوى أبعاد العملية الإبداعية.
لستُ مع نظرية الانعكاس التقليدية التي تنص على أن الإنسان، ومن ثم الأدب، انعكاس أو محاكاة للبيئة أو المرجعيات... أنا مع فكرة تبئير المرجعيات؛ أي أعطاء وجهة نظر الشخصية في التعبير عن هذه المرجعيات، ما يعني تعميقًا للفردية أو الذاتية في التموقع المرجعي، وتشكل زاوية الرؤية الضيقة في تذويتها، ولا بد أن يصدر عنها مواقف مزاجية أو انطباعية أو نزقة، تفضي إلى علاقات اجتماعية سردية متناقضة، ذات رؤى ثقافية متشككة ومأزومة، بدوافع نفسية مرضية عمومًا؛ لأسباب كثيرة مادية ومعنوية!!
هكذا، تبدو مرجعيات العالم، بعد خمسين عامًا -مثلاً- أكثر سوءًا مما نحن فيه الآن: فتن، وحروب، وتشرذم، وصراعات محلية وعالمية... إلخ، فإذا كنا اليوم نتحدث عن فضائل الاستعمار قبل مئة عام وأكثر في بلادنا، وأنه السبب في نهضتنا الثقافية والإبداعية، فلا بدّ أن يتحدث أحفادنا عن كثير من الإيجابيات التي يرونها في حياتنا اليوم، فيصبح الربيع العربي، الذي تحول إلى جحيم في أيامنا، من الإيجابيات التي يذكرها الأحفاد للأجداد، قياسًا إلى المقولة الدارجة :" القادم أعظم"؛ أي أسوأ!!
سيكون هناك ميلٌ واضحٌ إلى تفعيل الذاتية أكثر من الواقعية، وهذا ما يجعلنا نصف الرواية بصفة رواية الذكريات والمذكرات المرجعية، التي يهيمن فيها العالم الافتراضي أو الرقمي النفسي، أكثر من حضور الواقعي أو التسجيلي.
من المتوقع أن تكون مرجعية الأزمة الاقتصادية، وقلة الموارد الطبيعية، وتفشي ظاهرة البطالة المقنعة، من أهم السبل إلى إنتاج روائي سوداوي؛ تبدو معاناة مناجم الفحم قبل عشرات السنين التي جسدتها الواقعية النقدية والطبيعية، أفضل حالاً مما ينتظر الأجيال القادمة التي ستعيش إرهابًا ممنهجًا، على طريقة إرهاب الكورونا اليوم، فاتحة البوابة لحروب عالمية جرثومية مديدة!!
ولعلي أشير إلى مرجعيات الكتابة النسوية التي ستتغير إلى حد ما ؛ فهي إن بدت اليوم مسكونة بإيديولوجيا الصراع مع البطرياركية الذكورية في المجتمع؛ فإنها في المستقبل تزيد من درجة صراعاتها، فتغدو أكثر من أي وقت مضى احتفالاً بثقافة الصراع مع الآخر الحضاري، في مستوى الدفاع عن الذات المجتمعية المحلية في مواجهاتها الحضارية والإنسانية، وخاصة ضد العنصرية العرقية أو اللونية.
• النص أو المتن:
هذا هو البعد الثالث، الذي ينجز من التعالق بين المؤلف والمرجعيات، ولن يكون هناك في المستقبل إغفال للمؤلف أو إيجاد قطيعة بينه وبين نصه على طريقة (موت المؤلف)، ولا اهتمام بشكلانية النص في ذاته على طريقة البنيوية في استنطاق نصوصية النص بعيدًا عن أية مرجعيات خارجه... فالنص هو إحالة حقيقية على الذات المنتجة، وعلى عوالمها المرجعية الواقعية والتخييلية.
وقد أشرت في الملحوظات السابقة إلى ميل النص الروائي إلى الذاتية، وكأنه يغدو "ثرثرة" ذاتية مأزومة بمنولوجاتها الداخلية أو تيارات الوعي الذاتي (المناجاة)، وأنه مذكرات وذكريات متداخلة ومتناقضة؛ لذلك تبدو الكتابة مسطحة في اهتمامها بشأن وصف العادي والمألوف في الحياة، مع بث المفارقات الناتجة من السخرية والتهكم والنادرة، وكأنه نص مفكك، نتيجة لتفكك تفاعل الذات مع عالمها الافتراضي المتشكل في عزلة هذه الذات في استخدامها لأجهزتها الإلكترونية المختلفة رخيصة الثمن!!
بالنسبة إلى مساحة المتن الروائي، تبدو المساحة محدودة أو قصيرة جدًا؛ فجل الروايات لا يتجاوز عدد صفحاتها مئة صفحة؛ أي في حدود عشرين ألف كلمة، تخرج فنيًا بمسافات وفراغات لافتة. وهنا قد نجد حضورًا واضحًا للروايات التفاعلية المنتجة رقميًا، والمشبعة بروابط وأشكال عديدة، تحد من المساحة اللغوية في المتن الروائي عمومًا.
سيكون النشر ورقيًا محدودًا جدًا، إن لم يكن معدومًا؛ لأن النشر الإلكتروني هو الأساس، وهو غير مكلف، إذ لا تتجاوز التكلفة قيمة الإخراج الفني. وكذلك تداول الكتب سيكون مجانيًا؛ وربما يدفع للقراء مبالغ يسيرة لقراءة الروايات، وإبداء الملحوظات التي يمكن إجراؤها دوريًا في المتن، وإعادة نشره بصيغة جديدة، تلغي الصيغة القديمة!!
في الجزء الثاني من هذه المقاربة، سيدور الكلام في إطار استبصار عناصر النص الروائي الرئيسة؛ لأننا معنيون بهذا الجانب في استبصار أو استشراف مستقبل الرواية، في ضوء بعض عناصرها أو مكوناتها، وخاصة اللغة، والشخصية، والزمان، والمكان!!
• المتلقي (القارئ)
أفق التوقع منخفض جدًا في هذا البعد؛ إذ يبدو التلقي ينقسم قسمين: الأول: القسم العام الخاص بمتلقي الفضاء الافتراضي، وهؤلاء يتفاعلون وفق العلاقات الخاصة بهم في وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، وقد ينتج عنهم ومنهم كثير من كتاب الرواية الجديدة ونقادها؛ أعني الرواية التفاعلية القصيرة جدًا، كما أسلفت.
والقسم الآخر النخبوي، وهم القراء المختصون في مجال الرواية، أو نقاد الأدب، وهؤلاء أيضًا محترفون في وسائل التواصل الاجتماعي الإلكترونية؛ لكنهم تجاوزوا ثقافة القراء العامين؛ ليصبحوا نقادًا في مجالات أكاديمية، والتحكيم والمراجعة، وغير ذلك مما يسهم في احترافية الكتابة النقدية التي قد لا تقرأ عادة في سياق القراء العامين أو العاديين.
ومع ذلك، يبقى للرواية تلقيها الخاص، وربما المميز، لدى المشهد الثقافي، قياسًا إلى تلقي الأجناس الأدبية الأخرى، والسبب في رأيي هو كثرة كتابها، إلى درجة أن يصبح كل ممارس للكتابة الأدبية في العالم الافتراضي، كاتبًا للرواية أو راغبًا في كتابتها. ومن هذه الناحية تبدو الرواية في العلاقات التواصلية المختلفة أسهل الطرق إلى تحقيق الرغبة في الكتابة الإبداعية الأكثر حظوة بين المتلقين في ذلك الزمن المستقبلي البعيد نسبيًا!!
لا نستطيع التيقن من فكرة أهمية الرواية لدى المتلقين في ذلك الزمن، الذي يبدو أنه زمن كتابي لا زمن إبداعي؛ وزمن سماعي أو مشاهدي لا زمن قراءة... فالكتاب بصفتيه الرقمية والورقية محدود التداول، ولا يكاد يتجاوز التداول الثقافي النخبوي؛ أي أن الكتاب يقرؤون بعضهم لبعض؛ لتبقى هذه الثقافة خارج إطار محيطها العام، الذي يعرف عن بهرجة الغناء والرياضة كل شيء، ولا يعرف عن ثقافته الكتابية التي يفترض أن تكون طليعية، أي شيء يستحق الذكر أو الاهتمام!!
من يقرأ الرواية؟
سألت مرة طلاب قسم اللغة العربية في شعبة مقرر النثر العربي الحديث(2)، الذين هم في مستوى التخرج، وكان عدد في حدود مئة طالب: من قرأ منكم، رواية سعودية، أو عربية، أوعالمية؟!
كانت الإجابة: لم يقرؤوا جميعًا أية رواية؟!
حتى بعض النقاد الأكاديميين المختصين في الرواية، لا يقرؤون الروايات للكتابة عنها، ويكتبون في مجال الشعر الأسهل للقراءة.
أحد الأصدقاء المختصين في الرواية، خريج جامعة غربية، كان يكتب مقالاته عن الشعر، وكنت أكتب عن الرواية، فسألته مرة مستغربًا؛ فقال لي: " هل أنا مجنون مثلك أقرأ الرواية في شهر، وأكتب عنها مقالة في جريدة؟! أنا أقرأ القصيدة في نصف ساعة، وأكتب عنها مقالة في ساعة"!! وعندما قدم قراءة لرواية "الموت يمر من هنا" لعبده خال، وذكر عبده خال في الصحافة أنه لم يقرأ أكثر من ثلاثين صفحة، قال لي : كلامه صحيح، ما قرأت أكثر من أربعين صفحة"!!
• خلاصة
لعلي أخلص إلى أن استشراف مستقبل الرواية العربية يختلف عن أي جنس أدبي آخر؛ لأنّ الرواية في أهم توصيف لها هي " جنس الأجناس الأدبية"؛ بمعنى أنها قادرة على أن تستوعب كل الأجناس الأدبية والفنية الأخرى، والمعارف المختلفة، والكتابة العادية في درجاتها الصفرية؛ لذلك ستبقى الرواية ديوان العرب في القرن الحادي والعشرين في أقل تقدير، كما كانت ديوان العرب في القرن العشرين.
ولعل أهم غاية لدى أي كاتب أو أديب تكمن في أن يصل إلى درجة أن يكون روائيًا، خاصة أن كتابة الرواية أسهل من أية كتابة أخرى تحتاج إلى معايير فنية خاصة. في حين تكتفي الرواية بأن يكتب على غلافها رواية، ولا يمكن مصادرة مشروعية هذه الكتابة، وإن كانت هزيلة، تبدو نهايتها مغبرة على رفوف المكتبات، حتى هذه (الغبرة) تغدو افتراضية في واقع النشر الرقمي أو الإلكتروني.
في تصوري، هناك علاقة قوية ومتماسكة بين هذه الأبعاد الأربعة المتشابكة في وسائلها وأهدافها أو غاياتها؛ إذ إنَّ أفقَ التوقع يَصْعبُ في حال إغفال أي بعد ؛ فلا يمكنُ الحديثُ عن النص السردي الروائي منفصلاً عن مبدعه، ومرجعياته، ومتلقيه...؛ لهذا يغدو الانتقال إلى القسم الآخر من هذه المقاربة منطقيًا؛ في الالتفات إلى لغات الرواية، وشخصياتها، وزمكانياتها...؛ لكون الرواية بحسب تعريف باختين خطابًا حواريًا، متعدد اللغات والأصوات والرؤى!!
***
• لغات الرواية:
في كل الأحوال، كانت لغات الرواية، وما زالت، وستبقى مجالاً للحوار والاختلاف، في مستويات مراعاة الكتابة للمنطوق الدارج أو للثقافي الفصيح، للغة الوسطى أو لثرثرات التواصل الاجتماعي بعلاتها، لغة الحوار أو لغة الوصف، لغة تيار الوعي / المناجاة أو الترقيم الكتابي..إلخ. وهذا يعني أن قدرات الكتّاب متعددة ومتنوعة، ولعلّ أفضلها ما ينتجه الكتاب المختصون في مجال اللغة العربية، أو الذين لديهم ثقافة لغوية مدرسية جيدة. فيما عدا ذلك، تحتاج أية كتابة إلى مراجعة أو تدقيق يحسنها كثيرًا قبل النشر؛ لأنّ النشر بدون إعطاء أهمية خاصة للغة، يعني كتابة كارثية بطريقة أو بأخرى!!
أتوقع أن تكون لغة الرواية - عمومًا- في أدنى تقنياتها السليمة، يتخللها ركاكة في المفردات والتراكيب، وتميل إلى السردية العادية أكثر من ميلها إلى الشاعرية، ولا تحتفي بالصور والمجازات، وينتابها ضعف واضح في الترقيم والتماسك، وتكثر فيها الأخطاء الإملائية والنحوية والشائعة، وتستبعد تقطيع السرد بالوصف أو الحوار ... وكل هذا يعني أن سهولة الكتابة والنشر في مجال الرواية يسهم في ضعف بنائها اللغوي!!
ستغزو اللغات الدارجة، بما فيها المبتذلة، والعربيزية لغة السرد، والوضوح والمباشرة في الحكي والرؤى. ولكن هذا لا يعني أن تختفي اللغة الإبداعية المكثفة والشاعرية ذات المستويات أو الطبقات اللغوية المتعددة بتعدد أصوات الرواية.
اللغة هي الثقافة والفكر والهوية، فإلى أية درجة تمثل لغة الرواية هذه العناصر الثلاثة في سيادة فاعليتي: تكنولوجيا التواصل الإلكتروني من جهة، وعولمة الحياة البشرية من جهة ثانية؟!
أظن أن وعي المثقف العربي المستقبلي تجاه لغته يسير في انحدار تفاعلي! ولعلّ الانحدار الكتابي، وخاصة السردي هو الأسوأ من غيره؛ لذلك لا نستبعد تفشي الركاكة اللغوية في الرواية؛ خاصة لدى الفئة التي تتجرأ على الكتابة، بدون أن تؤسس نفسها في قراءة كثير من الروايات الجيدة، خاصة الروايات التراثية!!
في المحصلة؛ تعد لغة الرواية البوابة الحقيقية لنجاحها إبداعيًا؛ وأن ضعف اللغة مقبرة الكتابة، وفي هذا المجال تحديدًا، لا يمكن التنازل عن قيم اللغة الجمالية التقليدية، خاصة عن سلامة اللغة في المفردات والتراكيب، وعن اللغة الأدبية التي تعني أنها لغة فوق اللغة أو لغة مكثفة مجازية!! ومن ثم تجاوز العامية، كون انتشارها العامية يهدد مستقبل الرواية العربية عمومًا.
• شخصيات الرواية
تعيش الشخصيات عالمًا مفككًا... تتقزم فيه الروح الإنسانية المنعزلة في مواجهة تغوّل الماديات، وكسرها للمشاعر الذاتية الباحثة عن كينونتها؛ وكأن الرواية مسيرة من التوتر والقلق والبحث عن الذات المهمّشة المقموعة!!
لا توجد بطولات فردية أو جماعية... فقط حالة ضياع مسكونة بذاكرة الهزائم والذكريات المرة في المسيرة نحو مستقبل يَعِد بكثير من الآلام والأوجاع؛ لهذا تبدو الشخصيات في المشاهد السردية كأنها أشباح في رؤية سردية شبحية للعالم؛ فما قيمة الإنسان في مستقبل يمكن اختزاله في مطحنتي العولمة والرقمنة؟!
النتيجة هي قيمة الإنسان المطحون نفسيًا واجتماعيًا بامتياز؛ ما يشكل شخصيات الرواية ليس في سياقاتها التخييلية فحسب، وإنما في أنساقها الواقعية، التي وصفناها بأنها أكثر خيالية من التخييل!! وبذلك ينتهي مفهوم "التجريب" الذي ينعش تحولات الرواية؛ أي تحولات شخصياتها؛ وكأننا في ذلك الزمان نعود إلى الكتابة الأدبية الميتة، كما كانت في أدب الدول المتتابعة، قبل النهضة الكتابية الحديثة في مطلع القرن العشرين.
يهيأ لي أن الاهتمام بالأحداث والكوارث والصراعات والأفكار ستكون له الأولوية على حساب بناء الشخصيات؛ فاللافت حينئذ هو ما يدور في العالم خارج إطار الذات ؛ لذلك ستكون الظاهرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ...إلخ، هي المحرك الرئيس للبنيات السردية، مما يجعل الشخصيات أكثر بعدًا عن دائرة الاهتمام بصفتها شخصيات اجتماعية تواصلية، مع عدم إغفال التيار السردي الذي يركز على ثرثرة الذات الساردة في إبداء رؤيتها ( وجهة نظرها) تجاه العالم، وهو تيار عزلة الذات وثقافتها الانتحارية التشاؤمية في محيطها..
• زمكانية الرواية
زمن الرواية ومكانها عنصران متداخلان؛ فالزمن ملاصق للفضاء المكاني... وفي حال توقعنا للعالم السردي آنذاك؛ فلعلنا نتوقع الزمكانية كابوسية، كل شيء يتعايش مع السرعة، وتقارب الأمكنة ؛ فالعالم يغدو أكثر كثافة من قرية صغيرة، ربما هو بيت واحد.
ومع المكان تتشكل عزلة الفرد، مع السرعة في الزمن ؛ لذلك قد تسيطر الفانتازيا على العلاقات بين الشخصيات في أماكنها وأزمنتها الرقمية المتقاربة!
ستبقى المدينة اليوتيبية الفاضلة، كما وجدت فكرتها لدى أفلاطون هي مقصد الساردين الباحثين عن عالم آخر مستقر وآمن، يخلصهم من عالمهم الموبوء بكثير من الممارسات الشيطانية... لذلك تبقى نافذة الأمل مفتوحة على مصراعيها ؛ لأن الكتابة من غير هذا الأمل الباحث عن السعادة البشرية في الكون، تبدو كتابة متصحرة وقاحلة ومرعبة!!
• خلاصة أخرى:
هل هذه الكتابة متفائلة، أم متشائمة، أم متشائلة في توصيف رمادية العلاقة بين التشاؤم والتفاؤل؟!
إن مستقبل الرواية في ظل المعطيات الحالية، يجعل أفق التوقع لدينا مسكونًا بكثير من التوقعات السلبية لكتابة سردية ضعيفة نسبيًا لدى كثير من كتاب الرواية العربية، ولا يعني هذا التوقع وجود روايات بلغة إبداعية مميزة ؛ لكتاب يتقنون هذه اللغة، ويراعون قواعدها الكتابية في سياق حساسية اللغة أو الكتابة عبر النوعية كما عبر عن ذلك إدوارد الخراط في كتابين من كتبه.