الله يا زمن السراج!
د. محمد عبدالله القواسمة
وأنا أهيئ عقلي لسماع قصيدة "الله يا زمن السراج!" للشاعر راشد عيسى، التي أرسلها إليَّ عبر الواتساب، وهي موجودة الآن على اليوتيوب، تبادر إلى ذهني أنه يتحسر على زمن معاين ومحدد، ويتمنى أن يعود ما تحقق له باستعادته من سعادة وهناء. ويظهر هذا التحسر والتمني قويًا بتوظيف لفظ الجلالة" الله" وحرف "يا" الذي يستخدم في حالات الانفعال واستدعاء الآخر من نداء واستغاثة وندبة وتوجع.
وبدت كلمة" السراج" بإضافتها إلى مفردة "زمن" محملة رموزًا ودلالات ومعانيَ كثيرة تجعل من هذا الزمن زمنًا، ربما يشير إلى زمن النبوة، حيث يصف الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بأنه السراج المنير الذي جاء بدعوته لينقل الناس من الظلمات إلى النور، كما في قوله تعالى من سورة الأحزاب:" (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً). وقد يحمل السراج رمز الحرص على المال العام، كما تجلى في السراج الخاص لعمر بن عبد العزيز الخليفة الذي كان يطفئ الشمعة التي من مال المسلمين، ويضيء بدلًا منها سراجه الضعيف عندما ينشغل بأموره الخاصة. وربما يشير السراج إلى سطوع نور العلم في العصر العباسي بما فيه من تقدم علمي، أو لعله يرمز إلى المعرفة التي تجلت عند المتصوفين كابن عربي والنفري، والمكزون السنجاري، وغيرهم من أقطاب التصوف. في المجمل فإن هذا الزمن الذي يتوق إليه الشاعر زمن جميل يستعيده من الذاكرة؛ كي يخفف باستدعائه ما يعانيه من قسوة اللحظة الحاضرة.
كانت المفاجأة بعد سماع القصيدة وفهمها أن الشاعر يتحسر على زمن خبرتُه، وعرفته جيدًا، وعايشته، تمامًا كما خبره الشاعر وعرفه وعايشه؛ فما زمن السراج الذي يحن إليه الشاعر في قصيدته، إلا الزمن الذي أعقب النكبة الفلسطينية عام 1948م، وامتد حتى خمسينيات القرن الماضي وستينياته. إنه زمن السراج، ذلك السراج الملعون الذي عشت معه ليالي طويلة في فترة الطفولة والصبا. وهو أداة إضاءة شعبية كنا نصنعها من تنكة صغيرة، نجعل لها غطاءً مثقوبًا، ثم نملأ التنكة بالكاز، ونُخرج من ثقب الغطاء قطعة قماش مبرومة جيدًا نسميها الفتيلة وهي الجزء الذي نشعله. كنا نقرأ ونحل واجباتنا المدرسية على ضوء السراج، وفي الصباح ننهض وأنوفنا ملأى بالسناج، ويبدو منخرا كل منا كفتحتي بندقية خرطوش مغلقتين بالفحم. ونمضي اليوم في وضع تنفسي صعب من أثر ذلك الدخان الذي نفثه السراج في أنوفنا.
هل هذا الزمن يستحق التحسر عليه وتمني عودته؟ هل كان هذا الزمن على وجه الحقيقة كما صوره الشاعر؟ هل تحمل القصيدة صورة للبيئة التي يعكسها ذلك الزمن، زمن السراج؟ للشاعر أن يتحسر على أي زمن يشاء سواء أكان خياليًا أم افتراضيًا أم حقيقيًا، لكن دون أن ينسى أنه يقدم عالمًا منسجمًا يجمع بين صدق الفن وصدق الواقع.
لقد اجتمع في قصيدة "الله يا زمن السراج!" في آن واحد عالم القرية والبادية واللجوء؛ ففقدت الانسجام بين عناصر عالمها، واختفى صدقها الفني والواقعي بين الصور الشعرية الباهرة. لقد ظهرت مناقضة للواقع؛ الذي تجلى فيه السراج عنصرًا مهمًا من عناصر تشكيل القصيدة، ولم يكن في هذا الزمن، الذي قدمته حياة هادئة يربي فيها الناس الأرانب والديوك والنعاج، وتصهل فيها الخيول لاستقبال الضيوف، وتصدح الربابة. ليس من ذلك الزمن الذي صورته القصيدة غير ما ذكرته الذات الشاعرة من أم تجمع الحطب وتخبز على الصاج. إنه الواقع المعاين الذي يلتصق بالشاعر من خلال استخدام ضمير المتكلم، وكان للسراج فيه أهمية كبيرة لأبناء جيله، وبخاصة لأبناء المخيمات الفلسطينية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. فلا داعي للتحسر أو التمني لعودة ذلك الزمن، زمن السراج الذي يذكرنا بالبؤس والفاقة، وبعالم فجائعي يجعل الإنسان:
يبكي ويضحك لا حزنًا ولا فرحًا كعاشق خط سطرًا في الهوى ومحا
[email protected]
د. محمد عبدالله القواسمة
وأنا أهيئ عقلي لسماع قصيدة "الله يا زمن السراج!" للشاعر راشد عيسى، التي أرسلها إليَّ عبر الواتساب، وهي موجودة الآن على اليوتيوب، تبادر إلى ذهني أنه يتحسر على زمن معاين ومحدد، ويتمنى أن يعود ما تحقق له باستعادته من سعادة وهناء. ويظهر هذا التحسر والتمني قويًا بتوظيف لفظ الجلالة" الله" وحرف "يا" الذي يستخدم في حالات الانفعال واستدعاء الآخر من نداء واستغاثة وندبة وتوجع.
وبدت كلمة" السراج" بإضافتها إلى مفردة "زمن" محملة رموزًا ودلالات ومعانيَ كثيرة تجعل من هذا الزمن زمنًا، ربما يشير إلى زمن النبوة، حيث يصف الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بأنه السراج المنير الذي جاء بدعوته لينقل الناس من الظلمات إلى النور، كما في قوله تعالى من سورة الأحزاب:" (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً). وقد يحمل السراج رمز الحرص على المال العام، كما تجلى في السراج الخاص لعمر بن عبد العزيز الخليفة الذي كان يطفئ الشمعة التي من مال المسلمين، ويضيء بدلًا منها سراجه الضعيف عندما ينشغل بأموره الخاصة. وربما يشير السراج إلى سطوع نور العلم في العصر العباسي بما فيه من تقدم علمي، أو لعله يرمز إلى المعرفة التي تجلت عند المتصوفين كابن عربي والنفري، والمكزون السنجاري، وغيرهم من أقطاب التصوف. في المجمل فإن هذا الزمن الذي يتوق إليه الشاعر زمن جميل يستعيده من الذاكرة؛ كي يخفف باستدعائه ما يعانيه من قسوة اللحظة الحاضرة.
كانت المفاجأة بعد سماع القصيدة وفهمها أن الشاعر يتحسر على زمن خبرتُه، وعرفته جيدًا، وعايشته، تمامًا كما خبره الشاعر وعرفه وعايشه؛ فما زمن السراج الذي يحن إليه الشاعر في قصيدته، إلا الزمن الذي أعقب النكبة الفلسطينية عام 1948م، وامتد حتى خمسينيات القرن الماضي وستينياته. إنه زمن السراج، ذلك السراج الملعون الذي عشت معه ليالي طويلة في فترة الطفولة والصبا. وهو أداة إضاءة شعبية كنا نصنعها من تنكة صغيرة، نجعل لها غطاءً مثقوبًا، ثم نملأ التنكة بالكاز، ونُخرج من ثقب الغطاء قطعة قماش مبرومة جيدًا نسميها الفتيلة وهي الجزء الذي نشعله. كنا نقرأ ونحل واجباتنا المدرسية على ضوء السراج، وفي الصباح ننهض وأنوفنا ملأى بالسناج، ويبدو منخرا كل منا كفتحتي بندقية خرطوش مغلقتين بالفحم. ونمضي اليوم في وضع تنفسي صعب من أثر ذلك الدخان الذي نفثه السراج في أنوفنا.
هل هذا الزمن يستحق التحسر عليه وتمني عودته؟ هل كان هذا الزمن على وجه الحقيقة كما صوره الشاعر؟ هل تحمل القصيدة صورة للبيئة التي يعكسها ذلك الزمن، زمن السراج؟ للشاعر أن يتحسر على أي زمن يشاء سواء أكان خياليًا أم افتراضيًا أم حقيقيًا، لكن دون أن ينسى أنه يقدم عالمًا منسجمًا يجمع بين صدق الفن وصدق الواقع.
لقد اجتمع في قصيدة "الله يا زمن السراج!" في آن واحد عالم القرية والبادية واللجوء؛ ففقدت الانسجام بين عناصر عالمها، واختفى صدقها الفني والواقعي بين الصور الشعرية الباهرة. لقد ظهرت مناقضة للواقع؛ الذي تجلى فيه السراج عنصرًا مهمًا من عناصر تشكيل القصيدة، ولم يكن في هذا الزمن، الذي قدمته حياة هادئة يربي فيها الناس الأرانب والديوك والنعاج، وتصهل فيها الخيول لاستقبال الضيوف، وتصدح الربابة. ليس من ذلك الزمن الذي صورته القصيدة غير ما ذكرته الذات الشاعرة من أم تجمع الحطب وتخبز على الصاج. إنه الواقع المعاين الذي يلتصق بالشاعر من خلال استخدام ضمير المتكلم، وكان للسراج فيه أهمية كبيرة لأبناء جيله، وبخاصة لأبناء المخيمات الفلسطينية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. فلا داعي للتحسر أو التمني لعودة ذلك الزمن، زمن السراج الذي يذكرنا بالبؤس والفاقة، وبعالم فجائعي يجعل الإنسان:
يبكي ويضحك لا حزنًا ولا فرحًا كعاشق خط سطرًا في الهوى ومحا
[email protected]