اللقاء الأخير
#قصة_قصيرة
لم يكن معنا في تلك الغرفة المتربعة وسط الغابات الفاصلة بين الحدود السورية التركية سوى شمعة تقتل الظلام الذي أحاط بنا بعد أن التقيت بزيدٍ في منتصف ليلة سفره.
اشتدّ النقاش بيننا، كان يريد مني السفر معه وترك ما أنا فيه.
كان دائماً يعيد نفس الكلام على مسامعي، ولم يكن لديّ سوى جوابي الدائم، أن اتركني وشأني فلكلٍّ منا هدف يسعى لتحقيقه.
لكن كلماته تلك الليلة كان لها وقعً مختلف، وقبل أن يرحل قال لي:
- يامعاذ نحن لم نُخلق ضِعاف، ولم نُخلق لنكون فِداءً لغيرنا، عش حياتك كأنت ليس كما يُريدون أن تكون.
لعنة الحرب أحاطت بنا منذ سنين، قد تربينا على غبار قذائفهم، وترعرعنا بين حطام منازلنا، لكن لا ذنب لنا بما نحن فيه الآن فلا ترغم نفسك على تحمل مسؤولية لا ذنب لك فيها.
تحرر مما أنت فيه، أترك خلفك أمجادك المزيفة هذه، انتصاراتك التي لم تحقق منها أي شيء.
لقد رعاك الله بحفظه سنواتٍ، وأعطاك إشاراتٍ كثيرة ينهيكَ فيها عما أنت فيه.
تريد الحق؟ أنا أولى منك بمكانك هذا، فقدت أمي وأخوتي الصغار، وعليَّ كما تفكرون أن أنتقم لهم، لكن ممن؟ لِما نحلُّ مشاكلنا بمشكلةٍ أعظم؟ لما علينا أن نصبح مجرمين كي ننعم ببعض الرضا حسبَ ما تزعمون.
فأجبته:
- بالله عليك أصمت، أمجنون أنت يا زيد؟
كيف تريد مني أن أضرب بعرض الحائط تلك المجازر التي حصلت والتي تحصل هنا وهناك.
ما الحل برأيك؟
إن فكر كلٌ منّا كما تفكر أنت إذاً لِما خرجنا للشوارع منذ عشرة أعوام.
فقال:
- أنا لم أقل أن نسكت عن حقنا وأن نجلس مكتوفي الأيدي ننتظر قدراً ما ينتشلنا من بين أنياب هذه الحرب، أردت منك أن تخرج بنفسك وبدموع أمك وحيرة أبيك مما أنت فيه.
هل تعتقد أنك إن متّ الآن فداءً لهذه الثورة ستنتهي؟
مات الآلاف من قبل ولم يتأثر أحداً لموتهم.
الحرية التي تطلبونها لن تولد من عقم بنادقكم ومن أرحام فوهات مدافعكم.
العيش الذي تسعون إليه لن يأتيكم من فوق جثث الأطفال المترامية هنا وهناك، لن يُعصر رحيق انتصاراتكم من عيون أمهاتكم، فهيَ لا تعتصر إلا دماً.
أتدري ما الحرية؟
الحرية يامعاذ عندما تمسح دمعة أمك وأنت بين يديها، الحرية عندما تعمل لتعين والدك بلقمة عيش تضعها في معدة أخوتك الفارغة، الحرية عندما تقف كساريةٍ خلف ظهر أختك لكي تتكئ عليها حين تتعب،
الحرية هيا عندما تتنفس هواء خالٍ من أي شوائب خلفتها بنادقكم، هيا عندما تسجد شاكياً وشاكراً ما كتبه الله لك دون أن يكون الدم حاجزاً بينك وبين الوضوء.
هذه كلماتي لك ولا أدري هل أتحدث معك غيرها أم لا.
لكني ما أعلمه أني سألقاك يوماً ما في مكانٍ ما، فأنا أثق إن الله سيغير حالنا إلى أحسن حال.
(( لروحك السلام يا زيد...
عندما وصلني خبر وفاتك وأنت في طريقك لتوزيع مخصصات الفقراء، أيقنت حينها بأنك أنت المنتصر الوحيد بيننا.
أيقنت أنك وحدك من نلت حريةٍ كنا نقتل بعضنا لأجلها.
سيذكرك التاريخ أكثر مما سيذكرنا، وسَينتقمُ لك أكثر منا.
نلتُ حريتي أخيراً يا زيد، وها أنا أنعم بها بعد أن غفلتُ عنها سنين طويلة.
حريةً تجعلني أنا، تجعلني ملك ذاتي، تجعل روحي تتحرر من قيود لم يفرضها عليَّ أحد، حرية سلام يزرع الياسمين وإن طال النبت.
لم يكن ما أسعى إليه حرية ولا حتى من أشباهها، كنت أركض دون اتجاهات، وأمضي دون سبيل.
اليوم فقط أدركت ماتعني بقولك "لم نُخلق لنكون فداءً لغيرنا."
هنيئاً لك ما نلت من حريةٍ كانت بين يديَّ وكنت أبحث عنها، وتباً للحظة كنت أرجو لقائك فيها فأجدني الآن أروي تراب قبرك بدموع قهرٍ وعجزٍ لا تنبتُ إلا ألما.))
مصطفى المفتي
#قصة_قصيرة
لم يكن معنا في تلك الغرفة المتربعة وسط الغابات الفاصلة بين الحدود السورية التركية سوى شمعة تقتل الظلام الذي أحاط بنا بعد أن التقيت بزيدٍ في منتصف ليلة سفره.
اشتدّ النقاش بيننا، كان يريد مني السفر معه وترك ما أنا فيه.
كان دائماً يعيد نفس الكلام على مسامعي، ولم يكن لديّ سوى جوابي الدائم، أن اتركني وشأني فلكلٍّ منا هدف يسعى لتحقيقه.
لكن كلماته تلك الليلة كان لها وقعً مختلف، وقبل أن يرحل قال لي:
- يامعاذ نحن لم نُخلق ضِعاف، ولم نُخلق لنكون فِداءً لغيرنا، عش حياتك كأنت ليس كما يُريدون أن تكون.
لعنة الحرب أحاطت بنا منذ سنين، قد تربينا على غبار قذائفهم، وترعرعنا بين حطام منازلنا، لكن لا ذنب لنا بما نحن فيه الآن فلا ترغم نفسك على تحمل مسؤولية لا ذنب لك فيها.
تحرر مما أنت فيه، أترك خلفك أمجادك المزيفة هذه، انتصاراتك التي لم تحقق منها أي شيء.
لقد رعاك الله بحفظه سنواتٍ، وأعطاك إشاراتٍ كثيرة ينهيكَ فيها عما أنت فيه.
تريد الحق؟ أنا أولى منك بمكانك هذا، فقدت أمي وأخوتي الصغار، وعليَّ كما تفكرون أن أنتقم لهم، لكن ممن؟ لِما نحلُّ مشاكلنا بمشكلةٍ أعظم؟ لما علينا أن نصبح مجرمين كي ننعم ببعض الرضا حسبَ ما تزعمون.
فأجبته:
- بالله عليك أصمت، أمجنون أنت يا زيد؟
كيف تريد مني أن أضرب بعرض الحائط تلك المجازر التي حصلت والتي تحصل هنا وهناك.
ما الحل برأيك؟
إن فكر كلٌ منّا كما تفكر أنت إذاً لِما خرجنا للشوارع منذ عشرة أعوام.
فقال:
- أنا لم أقل أن نسكت عن حقنا وأن نجلس مكتوفي الأيدي ننتظر قدراً ما ينتشلنا من بين أنياب هذه الحرب، أردت منك أن تخرج بنفسك وبدموع أمك وحيرة أبيك مما أنت فيه.
هل تعتقد أنك إن متّ الآن فداءً لهذه الثورة ستنتهي؟
مات الآلاف من قبل ولم يتأثر أحداً لموتهم.
الحرية التي تطلبونها لن تولد من عقم بنادقكم ومن أرحام فوهات مدافعكم.
العيش الذي تسعون إليه لن يأتيكم من فوق جثث الأطفال المترامية هنا وهناك، لن يُعصر رحيق انتصاراتكم من عيون أمهاتكم، فهيَ لا تعتصر إلا دماً.
أتدري ما الحرية؟
الحرية يامعاذ عندما تمسح دمعة أمك وأنت بين يديها، الحرية عندما تعمل لتعين والدك بلقمة عيش تضعها في معدة أخوتك الفارغة، الحرية عندما تقف كساريةٍ خلف ظهر أختك لكي تتكئ عليها حين تتعب،
الحرية هيا عندما تتنفس هواء خالٍ من أي شوائب خلفتها بنادقكم، هيا عندما تسجد شاكياً وشاكراً ما كتبه الله لك دون أن يكون الدم حاجزاً بينك وبين الوضوء.
هذه كلماتي لك ولا أدري هل أتحدث معك غيرها أم لا.
لكني ما أعلمه أني سألقاك يوماً ما في مكانٍ ما، فأنا أثق إن الله سيغير حالنا إلى أحسن حال.
(( لروحك السلام يا زيد...
عندما وصلني خبر وفاتك وأنت في طريقك لتوزيع مخصصات الفقراء، أيقنت حينها بأنك أنت المنتصر الوحيد بيننا.
أيقنت أنك وحدك من نلت حريةٍ كنا نقتل بعضنا لأجلها.
سيذكرك التاريخ أكثر مما سيذكرنا، وسَينتقمُ لك أكثر منا.
نلتُ حريتي أخيراً يا زيد، وها أنا أنعم بها بعد أن غفلتُ عنها سنين طويلة.
حريةً تجعلني أنا، تجعلني ملك ذاتي، تجعل روحي تتحرر من قيود لم يفرضها عليَّ أحد، حرية سلام يزرع الياسمين وإن طال النبت.
لم يكن ما أسعى إليه حرية ولا حتى من أشباهها، كنت أركض دون اتجاهات، وأمضي دون سبيل.
اليوم فقط أدركت ماتعني بقولك "لم نُخلق لنكون فداءً لغيرنا."
هنيئاً لك ما نلت من حريةٍ كانت بين يديَّ وكنت أبحث عنها، وتباً للحظة كنت أرجو لقائك فيها فأجدني الآن أروي تراب قبرك بدموع قهرٍ وعجزٍ لا تنبتُ إلا ألما.))
مصطفى المفتي