الأخبار
إعلام إسرائيلي: إسرائيل تستعد لاجتياح رفح "قريباً جداً" وبتنسيق مع واشنطنأبو عبيدة: الاحتلال عالق في غزة ويحاول إيهام العالم بأنه قضى على فصائل المقاومةبعد جنازة السعدني.. نائب مصري يتقدم بتعديل تشريعي لتنظيم تصوير الجنازاتبايدن يعلن استثمار سبعة مليارات دولار في الطاقة الشمسيةوفاة العلامة اليمني الشيخ عبد المجيد الزنداني في تركيامنح الخليجيين تأشيرات شنغن لـ 5 أعوام عند التقديم للمرة الأولىتقرير: إسرائيل تفشل عسكرياً بغزة وتتجه نحو طريق مسدودالخارجية الأمريكية: لا سبيل للقيام بعملية برفح لا تضر بالمدنييننيويورك تايمز: إسرائيل أخفقت وكتائب حماس تحت الأرض وفوقهاحماس تدين تصريحات بلينكن وترفض تحميلها مسؤولية تعطيل الاتفاقمصر تطالب بتحقيق دولي بالمجازر والمقابر الجماعية في قطاع غزةالمراجعة المستقلة للأونروا تخلص إلى أن الوكالة تتبع نهجا حياديا قويامسؤول أممي يدعو للتحقيق باكتشاف مقبرة جماعية في مجمع ناصر الطبي بخانيونسإطلاق مجموعة تنسيق قطاع الإعلام الفلسطينياتفاق على تشكيل هيئة تأسيسية لجمعية الناشرين الفلسطينيين
2024/4/24
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

وديوان الفتيان مشاعر حكايات أسامة مصاروة بقلم:رائد الحواري

تاريخ النشر : 2020-08-24
وديوان الفتيان  مشاعر حكايات  أسامة مصاروة بقلم:رائد الحواري
وديوان الفتيان
مشاعر حكايات
أسامة مصاروة
نحن في المنطقة العربية نفتقد لأدب الفتيان، حتى أن حاجتنا له تتجاوز حجاتنا لأدب الأطفال، فهناك كم لا بأس به من المنشورات متعلقة بأدب الأطفال، أما أدب الفتيان فهو محدود جدا، وهذا النقص يعود إلى ميل الأدباء والكتاب إلى الفئة الأكثر قراءة، فئة الكبار، لكن هناك بعض الكتاب في فلسطين استطاعوا أن يكتبوا بهذا النوع من الأدب ويتوجهوا لهذه الفئة، منهم "محمود شقير"، "وشريف سمحان" الذي قدم مجموعة من الكتب، تتناسب والفئة المستهدفة، إن كان ذلك متعلق باللغة أو بالفكرة أو بشكل التقديم، وحتى الحجم الكتاب، واعتقد أن تجربة "شريف سمحان" في هذا الاطار تستحق التوقف عندها وجعلها نموذج للآخرين، فهو لم يكتفي بالكتابة، بل عمل على التوجه إلى المدارس، وتقديم كتبه للطلاب مما سهل عملية التواصل واللقاء بين الكاتب وجمهوره.
من يتابع الشاعر والروائي "أسامة مصاروة" يجده مهتم بطلاب وطالبات المدارس الثانوية، حتى أنه يزورها اسبوعيا، وهذا ما جعله يكتشف أهمية هؤلاء الطلاب، وأهمية التوجه إليها بالأسلوب ولغة ومضمون يتوافق مع سنهم وطريقة تفكيرهم، فقد جاءت القصائد في هذا الديوان على شكل حكايات/قصص شعرية، فنجد تعدد الأصوات في القصيدة، وهناك اللغة الغنائية التي يُستمتع بها، فقد جاءت سهلة وبسيطة وهذا ما يحفز القارئ ليتقدم من الديوان، كما أن حرص الشاعر على وضع أسماء الشخصيات في ديوانه اسهم في جذب المتلقي للديوان، فكل من يحمل نفس اسم القصيدة، أو له صديق يحمل أسم القصيدة سيهتم بها، وهذا يحسب للشاعر الذي عرف كيف يقدم ويجذب المتلقين لشعره.
سنخذ نماذج من قصائد الشاعر لتبيان طريقته واسلوبه ولغته والأفكار التي تحملها، يقول في قصيدة "حكاية جدي":
" حكاية جدّي
"جدّي انتَظِرْ!"صرختْ مُحذّرةً نغَمْ
"متوتِّرٌ وضْعُ المدينةِ في الحرم،
لا تخرُجَنَّ لمَ التَنكُّرُ للهَرَم،
يكفيكَ ما بكَ منْ همومٍ أو سقم."
"هيّا اتركيني، لستُ بالمُتخاذِلِ،
لستُ الذي يرضى بأيِّ تنازُلِ،
لا تستهيني، بانتفاضِ مناضلِ،
أوْ تستَخفّي بانبعاثِ مقاتلِ."
"خُذْني إذًا، فهناكً معْ أحرارِنا
نحمي ربوعَ بلادِنا وديارِنا،
فالقدسُ رمزُ كَيانِنا وَفَخارِنا
بالروحِ نفديها وعزمِ قرارِنا.""
فهنا نجد صوت "نغم والجد" والملفت للنظر أن اللغة التي يستخدمها كلا من الجد ونغم يمكننا أن نفرق بينهما، فمها صوتان، يستخدمان لغة مختلفة، يمكننا تميزها، "نغم" متوترة، خائفة، وهذا يعود إلى طبيعة الأنثى/الطفلة التي تبتعد عن كل ما هو قاسي ومؤذي، بينما نجد لغة "الجد" تحمل (المكتفي) من الدنيا، والعارف بالحياة، لهذا جاء صوته يحمل التحدي وروح المواجهة، وكعادة الأديب الفلسطيني الذي يهتم بالمكان، نجد الشاعر "أسامة مصاروة" يذكره لنا من خلال "نغم" التي ذكرته بالتورة "وضْعُ المدينةِ في الحرم " والجد الذي ذكره "فالقدسُ رمزُ كَيانِنا وَفَخارِنا " وهذا يؤكد على قوة وأهمية حضور المكان، وما يحسب لقول الجد أنه جاء يحث على التقدم من المواجهة، ورغم أنه صوت عالي، إلا أنه غير مباشر، فقد جاءت على لسان الجد وليس من الشاعر، وهذا (احتيال) على المتلقي، لكن الفكر تصل وترسخ لأنها جاءت من خلال حكاية/قصة، ومن خلال قصيدة شعرية، بمعنى أنها استكملت كافة عناصر الجمال والفن.
" خرجا معًا حتى انْتَهتْ بِهما الطريقْ
ليشاهِدا الثوارَ في قلبِ الحريقْ
وبنادقًا للموتِ أعياها البريقْ
وقنابلًا للغازِ تحْتَبِسُ الشهيقْ
زرعَ الغريبُ ظلامَهُ في كلِّ بابْ
خُطَطٌ رعاها لا رقيبٌ أو حسابْ
عربٌ! أَتسْأَلُ أيْنَهمْ؟ ماتَ الجوابْ
وَقَضتْ كرامتُهمْ فأحياها الشبابْ
رَفَضوا الخَنا بكبارِهمْ وصغارِهمْ
تَركوا منازلَهمْ ودفءَ دِثارِهِمْ
نَبذوا الأَنا وتّمسّكوا بقرارِهمْ
وَسعوْا لصدِّ الغاصبينَ وَنارِهِمْ
أدّوا الصلاةَ بعزّةٍ وكرامَةِ
وعلى الثرى بِصلابَةٍ وصَرامةِ
رفضوا المذلّةَ وانْحناءَ القامةِ
وتسلّحوا بشجاعةٍ وشهامةِ"
القصة/الحكاية تحتاج إلى راو/قاص يقصها، وهذا ما فعله الشاعر، فهو يتقدم ليروي ما يجري، بعد أن استمعنا إلى "نغم وجد" وإذا ما توقفنا عند الابيات السابقة نجد الشاعر يقدم صورة حقيقية/واقعية لما يجري في القدس، حتى يبدو وكأنه يقدم مشاهد حية، دون أي مغلاة، زيادة أو نقصان، لكنه يتألق من خلال اللغة التي استخدمها، فرغم قسوة المشهد، إلا أن اللغة خففت من حدة المواجهة، ففي بداية حديثة استخدم حرف القاف: "الطريق، الحريق، البريق، الشهيق، قنابلا، بنادقا" والذي يأتي غالبا بصوت يقرع الأذن، وإذا ما توقفنا عند معاني الكلمات، نجدها متعلقة بالمواجهة والشدة، وهذا بحد ذاته يمثل ابداع وتألق من الشاعر، الذي جمع بين معاني الكلمات وبين وقع الحرف معا، وإذا ما أضفنا مضمون الأبيات يمكننا أن نقول أن القارئ/المتلقي ستصله الفكرة من خلال الحرف أو الكلمة أو مضمون الأبيات.

"زرعَ الغريبُ ظلامَهُ في كلِّ بابْ
خُطَطٌ رعاها لا رقيبٌ أو حسابْ
عربٌ! أَتسْأَلُ أيْنَهمْ؟ ماتَ الجوابْ
وَقَضتْ كرامتُهمْ فأحياها الشبابْ"

ثم ينتقل إلى استخدام حرف الباء: "باب، الحساب، رقيب، الجواب، الشباب" والذي يعطي مدلول الحسم والكمال، وكأنه يقول أن وقع الأحداث الشديد بحاجة إلى حسم وقوة الشباب وارادهم، هذا ما نفهمه من خلال حرف الباء والمضمون الذي تحمله الأبيات الشعرية.
" رَفَضوا الخَنا بكبارِهمْ وصغارِهمْ
تَركوا منازلَهمْ ودفءَ دِثارِهِمْ
نَبذوا الأَنا وتّمسّكوا بقرارِهمْ
وَسعوْا لصدِّ الغاصبينَ وَنارِهِمْ"
بعد العنف والحسم والمواجهة يقدمنا الشاعر من الذي يواجهون المحتل: "بكبارهم، صغيرهم، منازلهم، دثارهم، بقرارهم، نارهم" وهذا ما يجعل المكان/القدس و "هم" شيئا واحدا، فالعلاقة بين القدس وهم كعلاقة الروح بالجسد، هكذا ينظر/يفكر/يتعامل الفلسطيني مع المكان.
" أدّوا الصلاةَ بعزّةٍ وكرامَةِ
وعلى الثرى بِصلابَةٍ وصَرامةِ
رفضوا المذلّةَ وانْحناءَ القامةِ
وتسلّحوا بشجاعةٍ وشهامةِ"
يتقدم الشاعر من السرعة، من خلال حرف التاء المربطة: "الصرة، بعزة، كرامة، بصلابة، صرامة، المذلة، القامة، بشجاعة، شهامة" فقد بدأ يتأثر بالأحداث التي جعلته يتغنى بمن ردع المحتل واستطاعوا: "أدوا الصلاة، رفضوا المذلة، وتسلحوا بشجاعة" وهذا التنوع في استخدام الحروف في كلمات تعطي معاني بشكلها المجرد يحسب للشاعر، وهذا ما يجعلنا نقول أن الشاعر والقصيدة متفاعلين معا، حتى أننا لا نستطيع أن نحسم هل كتب الشاعر القصيدة، أم أن القصيدة هي من كتبه، فجاء هذا التناغم بينهما، وخرجت بهذا الشكل الأدبي الجميل.
يقدمنا الشاعر من جديد إلى "نغم" التي خاطبت جدها:
""معْ منْ أيا جدّي هنا تتناغمُ
معْ منْ هنا بمحبّةٍ تتفاهمُ؟
باللهِ عدْ، فالوضعُ قد يتفاقمُ،
وبدونِ عذرٍ رُبّما يتأزّمُ"
صوت نغم صوت أنثى/طفلة لهذا نجدها تحرص على سلامة جدها، وهنا يتدخل الشاعر/الحاكي:
"غضِبَ العجوزُ وقال"
أهمية دخول الشاعر جاءت للمحافظة على سرد القصة، فهو يريدها قصة/حكاية مستوفية شروط القصة/الحكاية، لهذا لا بد من وجود صوت الراوي/الصاص.
"ويلك لم تعِي
ما قلتُهُ لكِ قبلَ أن تأتي معي
إنْ لمْ تعِي فتحمّليني واسمعي
إمّا نناصِرُ بعضَنا أوْ ترْجَعي."
"كيفَ الرجوعُ وَقُدْسُنا مُسْتنْفرَهْ
والعربُ صمتهمو كصمتِ المقْبرَةْ،
برعوا أعادوا قدْسَنا في الثرثرةْ
لا عُذْرَ ينْفُعُهمْ وما من مغفِرَة"
صوت الجد جاء منسجم وطبيعة الأحداث، فهناك احتلال يمارس سطوته علي الناس وفي المدينة المقدسية، فبدت كلمات الجد "ويلك لم تعي" قاسية على نغم، لكنه سرعان ما يتحدث بلغة أخرى، محاولا توصيل حكمته ومعرفته لنغم من خلال شرح وتفصيل ما يجري، فهو العارف الحكيم، ولم يعد يقدر على البقاء متفرجا/منتظر/مشاهدا، لهذا يقدم رؤيته لمجري الاحداث، في القدس وفي المنطقة العربية، فاستخدم صيغة السؤال "إن لم، إما نناصر، كيف الرجوع" ليجعل "نغم" تعرف وتعي حقيقة ما يجري، فصيغة السؤال تدعو "نغم" والقارئ لتفكير بحيث يكون كلام الجد راسخ في العقل وليس مجرد كلمات تلقين.
بعدها جاء كلماته منفعلة وواضحة، تتناسب مع حالته وكبر سنه، فلم يعد يقدر على التحدث (بدبلوماسية) لهذا جاءت ماشرة.
وإذا ما توقفنا عند كلمات الجد والطريقة التي خاطب فيها "نغم" بداية كان منفعل وغاضب، "ويلك"، وبعدها عمل على توضيح ما يجري من خلال أثرة أسئلة، جعلت "نغم" تعرف حقيقة وضرورة وجود الجد ووجدها في قلب المواجهة، كل هذا يجعل القصة/القصيدة محبوكة بطريقة رائعة، فهذه التفاصيل بالتأكيد لن تمر دون ان يتوقف عندها القارئ، من هنا نقول ان الشاعر يتقن فن القصة كما يتقن فن القصيدة.
لكل بداية نهاية، والجد اختار أن تكون نهاية، مواجهة المحتل، وفي المكان المقدس، القدس، يأتنا صوت القاص/الشاعر ليخبرنا بما جري:
"وقفَ العجوزُ يصُدُّ كيدَ الغادِرينْ
وبِدونِ خوفٍ ردَّ شرَّ الماكِرينْ
وبعزّةِ المُتَوكِّلينَ الصابرينْ
سقَطَ العجوزُ سقوطَ قومٍ ظافرينْ"
النهاية كانت موجعة، إلا أنها اعطت القارئ درسا أخلاقيا ومعرفيا، وإذا ما توقفنا عند بنية القصيدة/القصة سنجدها قصة وافية وتمتلك عناصر القصة، وقدمت بشكل جميل وسلس، كما أن اللغة وتعدد الأصوات يحسب لها، كما يتألق القاص/الشاعر من اعطاءنا اكثر من وتيرة للصوات الواحد، فالجد جاء صوته بأكثر من مستوى، فكان شخصية حقيقية، شخصية حية، وليس شخصية مصطنعة، لهذا نقول أن "أسامة مصاروة" قدم لنا قصة شعرية بشكل ولغة وأسلوب متميز.
الإنسان يتفاعل مع محيطه ويتأثر بما يجري حوله، فمشاهد البحر ومآسي المهاجرين التي رأينها تؤثر فينا وبنا، وبما أن الشعراء يمتلكون احاسيس مرهفة، فإن لهم طريقتهم في التعبير عما يشاهدونه ويتأثرون به، الشاعر "أسامة مصاروة" يقدم لنا قصيدة "حكاية لنا وطفلها" تحكي مأساة المهاجرين مع البحر:
" وقفتْ تراقِبُهم وهمْ يتدافعونْ،
وإلى بقايا مركَبٍ يتسارعونْ.
شدّت على يدِ طفْلِها بينّ الزِحامْ،
خافتْ عليهِ، فَحولَها يجثو الظلامْ،
وأمامَها بحرٌ وغدرٌ قد يليهْ،
ووراءَها وطَنٌ تخلّى عن بنيهْ.
فرّتْ من الأرضِ الحبيبةِ كلِّها،
لا شيءَ في يدِها سوى يدِ طفْلِها،"
من خلال هذه الابيات نرى صورة المهاجرين: "يتدافعون، يتسارعون" رغم أن المشهد يتناول مأساة جماعية، ولها أثرها القاسي على المتلقي، إلا أن الشاعر يركز على صورة أم وطفلها، والذي أراد به أن يفجر إنسانيتنا، لنتقدم من تقديم ما نستطيع لهؤلاء المهاجرين، وأيضا ليكشف حقيقة ما يجري في أوطاننا من جرائم، فالأم "لنا" تتماثل حالتها مع "طارق بن زياد" وجنوده حين خاطبهم: "البحر من ورائكم والعدو من امامكم" فأمامها البحر، وخلفها وطن تخلى عن بنيه، والشاعر لم يكتفي بوصف المقدمة/البحر والمؤخرة/وطن، بل تحدث عن المحيط "فحولها يجثو الظلام"، وإذا أخذنا مشهد المهاجرين والقارب والبحر الذي تشاهده الأم "لنا" يمكننا أن نعرف حقيقة ما يجري.
فصورة الازدحام "يتدافعون"، والعجلة في "يتسارعون" جعل "لنا" تشد على يد طفلها" خوفا عليه، وهذا التركيز على يد الأم وهي تمسك بيد طفلها وبشدة، مشهد دقيق وهو كاف لإيصال المأساة الجماعية والفردية معا، وجاءت ردة فعل الأم وهي تشد على يد وطفلها أكثر وقعا على المشاهد، فبدا وكأن الأم والقارئ يشاهدان ويتأثران بعين المقدار.
القاص الجيد لا يكتفي بالحديث فقط، بل يعطي شخصيات قصته ليتحدثوا/يتكلموا عن حالتهم:
" صرختْ: "أيَا بحارُ خذْ طفلي الوحيدْ،
فهُنا رأى ظلمًا وذلًا كالعبيدْ،
أمَّا هُناكَ لعلّهُ يحيا سعيدْ
لا الظلمُ يعرفهُ ولا الذلُّ الشديدْ""
غريزة الام تدفع بطفها للنجاة، حتى لو كانت نجاته موتا لها، ودقة المشهد جاءت من خلال "صرخت" فالأثر الذي تركه مشهد المهاجرين وتدافعهم نحو القارب جعلها تصرخت، وتبدي غضبها وألمها لما يجري، وهذا ظهر من خلال كلماتها "ظلما، ذلا، كالعبيد" فالمشهد العام والألفاظ التي تستخدمها الأم "لنا" تخدم الفكرة التي يراد تقديمها، وهذا يجعلنا نتأكد أن الشاعر لا يتحدث من خارج الصورة، بل أصبح جزء منها، لها يركز على تناول تفاصيل دقيقة، "يد الام" وجاءت "الشخصيات" تتحدث وتلفظ بكلمات تخرج من القلب وليس من اللسان.
"أختاهُ باللهِ العظيمِ ألا اسمعي
هيّا اصعدي،لا ترسليه فقط معي
لكِ مثلما لهُ موضِعٌ في مركَبي
فتقدّمي لا تبطئي هيّا اركبي"
بما أن الحديث موجهة لقائد المركب: فلا بد أن يرد على الأم "لنا"، وما يلفت الانتباه اللغة والسلسة والناعمة التي يستخدما قائد المركب: "أسمعي، أصعدي، معي، مركبي، فتقدمي، تبطئي، اركبي" فلسانه حلو الكلام، ويحسن اختيار ما يتلفظ به من كلام.
الأم "لنا" التي شاهدة تدافع المهاجرين وعجلتهم في صعود القارب، تعلم أن هذا الركوب له ثمن، وما كلام قائد المركب إلا تروج لبضاعة يسوقها:
"لكنّني بصراحةٍ يا سيّدي
لا مالَ عَندي كي تُقدّمُهُ يدي"
إذا ما توقفنا عند ما قاله البائع/صاحب القارب، نجده ضعف ما تحدثت به أكثر الأم "لنا"، وهذا يعكس حالتها ووضعها البائس، فصاحب المركب منتشي بالطلب على بضاعته وبعدد المشترين/الركاب، لهذا نجده يعبر عن هذه النشوة بحدثيه "الطويل"، بينما الذين يرغبون في البضاعة/الهجرة، ولا يملكون نقود/مال، فيختزلون الكلام لتصل حقيقة حالتهم/ما يفكرون به للبائع/صاحب القارب.
التاجر عندما يرى أن الزبون لا يملك النقود يتغير اسلوبه في الكلام، فيظهر على حقيقته:
""لا بأسَ يكفيني سوارُكِ يا""
يكشف صاحب المركب القناع عن وجهه، ويظهر حقيقته كتاجر، يهتم بالمال فقط، لهذا بدا جلف وقذر في طلب سوار "لنا" ثمنا لدخولها القارب.
" لنا
اسمي لنا شكرًا لجمعِك شملَنا"."
تمت الصفقة بين البائع والمشتري، ويتقدم القاص/الشاعر من جديد ليحدثنا عن مجرى القارب:
"أخذَ السوارَ ولم تجدْ بينَ الجموعْ
غيرَ الوقوفِ فمنْ يُفكّرُ بالرجوع،
في مركبٍ متهالكٍ وقفَ الجميعْ
ولنا تَضمُّ محمّدًا كي لا يضيعْ."
يعيدنا الشاعر إلى المشهد العام، مشهد جموع المهاجرين ومن ضمنهم الأم "لنا" وطفلها، فقد ذالت في المجموعة، وأصبحت جزء من مشهد عام، فيبدو وكأن كل ركاب القارب لهم مآسي كما ل"لنا" وطفلها:
" نشرَ القضاءُ شِراعَهُ عندَ الرحيلْ،
وسجا المساءُ بنجمهِ العالي الضئيل،
أرخى الظلامُ سدولَهُ من فوقِهمْ
وكذا الظلامُ بعمقِهِ من تحتِهمْ.
أمَلٌ ورعبٌ، رهبَةٌ وتفاؤُلُ،
حُلُمٌ وشكٌ، رغبةٌ وتساؤُلُ."
الألفاظ المجردة التي استخدمها الشاعر تعطينا صورة التناقض: "العالي، الضئيل" وصورة الصراع بين القارب والبحر: "بعمقه من تحتهم"، وصورة الأمل واليأس: "أمل ورعب" ، وصورة اليقين والشك: "رغبة وتساؤل"، وبهذا يكون الشاعر قد جعلنا ندخل إلى ما يحمله كل مهاجر من معناة وألم ، فهم يتماثلون مع الأم "لنا" في كل شيء.
" ضمّت لنا خوفًا عليهِ مُحمّدا،
فالموجُ قدْ ضربَ الجميعَ مُعرْبِدا،"
هذا الجمع بين الصورة الكاملة للجموع وبين صورة الأم "لنا" تؤكد على محو الفروق الشخصية بينهم، فهم يعيشون مأساة جماعية، وفي ذات الوقت لكلا منهم مأساته الخاصة، وهذا ما جعل الصورة ذات أثر أكبر على المتلقي.
" صفعَ الوجوهَ إذِ التقاها مزبِدا،
فبدا لأضعافِ الحشودِ مُهدِّدا.
مالوا إذا مالَ الشراعُ بلا هُدى،
وَبلا هدىً كم شاسِعًا يبدو المدى.
أينَ الفرارُ من القضاءِ إذا غدا
ليلُ الغريبِ جهنّمًا أوْ قدْ بدا؟"
التقدم من جديد إلى الجموع والقارب والبحر، فالمشهد قيامي، ويقربنا من أهول يوم القيامة، "يوم يفر المرء من أخيه وأمه وابيه، لكل مرء منهم يومئذ شأن يغنيه" هذه النقلة مما هو أرضي إلى ما هو قيامي يشير إلى حجم الهول الذي يعيشه ركاب القارب، فهل أراد الشاعر من تقديم هذه الصور ابداء تعاطفنا مع الركاب؟، أم أن له غاية أخرى؟.
اعتقد أن الإجابتين لهما سندهما، فالشاعر اراد إيصال فكرة التعاطف الإنساني مع هؤلاء الركاب، وأيضا تأكيد على فكرة الموت التي تلاحق المهاجر، فهو يهرب من الموت ليلاقي قابض الأرواح، والصورة السابقة أكدت للمتلقي أن الهجرة تعني الموت وبأكثر من وجه، وأن الهجرة أكثر وجعا وألما من الموت نفسه.
"صرختْ قلوبُ اللاجئينَ: "متى الوصولْ؟
وَمتى يحينُ حقيقةً وقتُ النزولْ؟""
بعد أن شاهدنا هول الصورة السابقة، كان لا بد أن نستمع إلى الركاب انفسهم وبصوتهم، وبما يقولون، فهم ما زالوا متعلقين بأمل الوصول إلى بر الأمان، فالشاعر هنا (يتخلى) عن القصيدة ويركز على عامل التشويق، فهو يسعى لجعل القارئ متماهي مع المشهد، ومنسجم مع الصورة.
" ضجّتْ مخاوِفُهمْ وأنّاتُ الذهولْ،
وَكستْ ملامِحَهمْ علاماتُ الذبولْ،
وَعوتْ رياحُ الغدرِ، وانشلّ الزمانْ،
وَدنتْ وحوشُ البحرِ وانفضّ الأمانْ.
سحقَ الظلامُ بشهوةٍ أجسادَهم،
قتلَ الرجالَ، نساءَهمْ، أولادَهمْ،
جعلَ العشاءَ يطيبُ من أشلائِهمْ،
وشرابُهُ خمرٌ بطعمِ دمائِهمْ.
سحبَ الجميعَ إلى الجحيمِ الأسودِ
من قائدٍ أو لاجئٍ متشرّدِ"
قتامة الصورة وهولها لم يترك مجالا للحديث عن الأم "لنا" وطفلها، فلم يعد هناك مجال للحدث عن الهموم الشخصية، فقد انصهر الجميع في أتون جحيم وهول البحر، ولم يعد هناك فروق بين قائد القارب وبين جموع المهاجرين، فقد محت مياه البحر وامواجه الفوارق بين الناس.
" سقطتْ لنا، لم تستطعْ حتى السؤالْ
أينَ الصغيرُ محمّدٌ؟ أينَ الرجالْ؟"
كقاص يحسن الربط بين فاتحة القصة وخاتمتا، يختم الشاعر/القاص قصة/قصيدة "لنا وطفلها"، بهذه الخاتمة، ليؤكد على وحدة وانسجام القصة/القصيدة، التي جاءت متقنة الحبكة ومتكاملة الصورة.
الديوان من منشورات شركة ابن خلدون للطباعة والنشر، طولكرم، فلسطين
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف