الأخبار
إعلام إسرائيلي: إسرائيل تستعد لاجتياح رفح "قريباً جداً" وبتنسيق مع واشنطنأبو عبيدة: الاحتلال عالق في غزة ويحاول إيهام العالم بأنه قضى على فصائل المقاومةبعد جنازة السعدني.. نائب مصري يتقدم بتعديل تشريعي لتنظيم تصوير الجنازاتبايدن يعلن استثمار سبعة مليارات دولار في الطاقة الشمسيةوفاة العلامة اليمني الشيخ عبد المجيد الزنداني في تركيامنح الخليجيين تأشيرات شنغن لـ 5 أعوام عند التقديم للمرة الأولىتقرير: إسرائيل تفشل عسكرياً بغزة وتتجه نحو طريق مسدودالخارجية الأمريكية: لا سبيل للقيام بعملية برفح لا تضر بالمدنييننيويورك تايمز: إسرائيل أخفقت وكتائب حماس تحت الأرض وفوقهاحماس تدين تصريحات بلينكن وترفض تحميلها مسؤولية تعطيل الاتفاقمصر تطالب بتحقيق دولي بالمجازر والمقابر الجماعية في قطاع غزةالمراجعة المستقلة للأونروا تخلص إلى أن الوكالة تتبع نهجا حياديا قويامسؤول أممي يدعو للتحقيق باكتشاف مقبرة جماعية في مجمع ناصر الطبي بخانيونسإطلاق مجموعة تنسيق قطاع الإعلام الفلسطينياتفاق على تشكيل هيئة تأسيسية لجمعية الناشرين الفلسطينيين
2024/4/25
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

ميشيل فوكو بين نظام الحداثة واختلاف ما بعد الحداثة بقلم: د. الغزيوي بوعلي

تاريخ النشر : 2020-08-23
ميشيل فوكو بين نظام الحداثة واختلاف ما بعد الحداثة بقلم: د. الغزيوي بوعلي
ميشيل فوكو بين نظام الحداثة واختلاف ما بعد الحداثة
الى د ادريس لكريني في محرابه الابداعي

عرفت العلوم الإنسانية تطورا مهما في عصرنا الحالي, بحيث كشفت عن وجود اختلاف و تنوع في الرؤية, وفي المنهج, و في التوظيف. حيث تحطمت معه مركزية العقل الغربي, لتكشف لذاتها عنصرا متناهيا في شبكة الثقافات المتنوعة في الوجود, الشيء الذي جعل كانط يطرح السؤال التالي: ما حاضرنا؟ فأستشعر فوكو بوجود الفراغ, بداية مع لحظة النقد النتشوي, ومنتهيا مع امتداداتإثنولوجية للمعرفة الغربية. فهذه القراءة جعلته ينفلت من النموذج الهيكلي (الصيرورة, و الغائية, و الشمولية). حيث كتب تقاطعات في خطية التاريخ الوهمي, معتبرا أن الإنسان لم يكن موضوعا للمعرفة إلا مع بداية القرن 19, لأن هدف العلوم الإنسانية هو البحث عن الانسان الحر بعد إعلان موت الله. لكن ما أن استمرت هذه العلوم الإنسانية, حتى تم اكتشاف الأنساق المتحكمة في الفعالية الإنسانية ليعلن فوكو موت الانسان معارضا كل النزعات الغربية التي كانت قريبة من عصره, فألف كتاب "الكلمات والاشياء" داعيا الظاهراتيين إلى الاستيقاظ من السبات الأنثروبولوجي. لأن الاعتماد على الذات في المعرفة لم يكن سوى نتيجة تبدل عرفه الفضاء الغربي في انتقاله من الابستيمية الكلاسيكية إلى الإبستيمية الحديثة.

قبل القرن 19, أصبح الانسان مركز الدراسة, ليس في العلوم الإنسانية وحدها, بل في الاقتصاد السياسي, وفقه اللغة, و البيولوجيا. حسب فوكو, لكن مع بداية القرن 19 حيث تم ترجمة كتاب" مدخل إلى العلوم الإنسانية". عملت البنيوية بترك مكانها للعلوم الإنسانية التي كانت تعيش عصرها الذهبي في الاثنولوجيا, و الأنثروبولوجيا, و اللسانيات, و التحليل النفسي, و التاريخ. و أن لاكان الذي قدم بديلا للهيجلية و للفلسفة, طارحاالتحليل النفسي هو الجوهر و اللب في كل التحليلات.

لهذا اندثر "أنا أفكر"الكوجيطي, فلا وجود للذات, و للوعي, و لا للمعنى مع حضور العلوم الإنسانية البنيوية, و الوجود كل الوجود للبنية, للنسق وللاوعي, حيث أصبحت الذات فجوة لمرور الخطاب, فالوجودية تركز على الذاتية و الوعي كمحاور أساسية. مما يبعد عنها كل الموضوعية المنشودة من طرف العلوم الإنسانية.

و سبينوزا أبعد الغائية و الحرية الإلهية عن الظواهر الطبيعية, لتنشأ المعرفة العلمية, و ليفي ستراوس, و سوسور أبعدا أيضا الحرية عن الظواهر اللغوية و الاتنولوجية , و ركزا على البنية غير المتأثرة بأي عوامل خارجية, أي أن العلومالإنسانية إما أن تكون بنيوية, و إما أنها لن تكون أبدا. (الطاهر أوعزيز "البنيوية" ص 33.

وليفي ستراوس, يرى أن العلوم الإنسانية لم تستطع أن تؤسس لنفسها علمية, بل تعمل على تقييم الواقع, وتبحث أيضا عن الثابت, و هذا الفراغ سيسده بالبحث عن الثابت وراء الكثرة و التنوع (فرانسوا دوز " تاريخ البنيوية" ص 41), فقد أبتعد عن أي رجوع إلى وعي الذات المتكلمة . (فرانسوا دوس, ص 41). و أما العالم النفساني جاك لاكان, فقد عمل على نقد مركزيةالغرب. و أما جاك ديريدا, فقد انتقد سوسير في إقصائه للكتابة, مؤكدا على حضور الصوت كرمز لحضور المركز, و أن دلالات الوحدات اللغوية لا تتأسس على اختلاف معانيها فقط, و إنما على اختلاف طريقة كتابة الوحدات الصوتية, و أن العلوم الإنسانية هي نصوص فقط, و انسياج مركز العقل يحدد ليس فقط تاريخ الفلسفة, و انما حركة العلوم الإنسانية (الكتابة و الاختلاف) ص 246. و ديريدا لا يريد الغاء صفحة الفلسفة, بل الاستمرار في قراءة الفلاسفة بطريقة ما (ص 422, نفس المرع). أما فوكو فيرى أن الإنسان ليس سوى ابتكار قريب, و وجه لا يزيد عمره عن قرنين ثانية في معرفتنا, و أنه سيختفي ما أن تجد هذه المعرفة صورة جديدة. (الكلمات و الأشياء, ص 26).

إن فوكو يحاول أن ينفلت من هيجل, و من استاذه الهيجلي, هيبولت جون, و يرى أن ميرلوبونتي, و سارتر لم يكونا محللين يقظين للجهاز الهيجلي. و ما زلنا نتفلسف خارج دائرة هيجل, إذن هل يتجلى بالضرورة في نظرتنا؟ لقد عمل جورج باطاي و موربسبلانشو على القطيعة مع الهيجلية و الارتماء في أحضان النتشوية من أجل الانفلات من التاريخ الشامل أو العقل الذي يتحقق عبر التاريخ, او الغائية, او الصيرورة و الوعي, أو بناء الذات. لذا استعان فوكو بالمنهج الجنيالوجي من أجل تبعثر لحظات القوة و الضعف و إلغاء أوهام الثبات, و سيادة الذات (أنظر الباحث "السيد ولد أباه) – التاريخ والحقيقة لدى فوكو, ص 70. فالمؤسسات المهيمنة ينبغي تعرية تحولاتها و تغيراتها كما يقول نيتشه, لأنالإبستيمولوجيا الانفصالية أو التاريخ الجديد جعلت هؤلاء (غارودي, و سارتر, و لوفيفر) لا يفهمون ماركس العلمي. لهذاأكد على القطيعة بين ماركس الشاب و ماركس الناضج (أنظر "حفريات المعرفة", ص 13), كما يقول فوكو. فالانتقال من ماركس الهيجلي إلى ماركس العلمي هو انتقال من المدني إلى الإيديولوجي, إلى الحاضر العلمي (حفريات المعرفة, ص 7). و هذه الإبستيمولوجية الانفصالية هي تحول دون أي تصور لبنيات الذات, أو الوعي. و يقول فوكو في كتابه (نظام الخطاب): "ليست الأخطاء رواسب أو أجساما غريبة, بل لها وظائف إيجابية و فعالية تاريخية و دور لا يمكن فصله عن دور الحقائق". (نظام الخطاب, ص 14) ,فاللاشعور, إذن هو حديث عن النسق , و إلغاء لكل اقراح حول المعنى, و الوعي و الذات. لذا عمل فوكو بدراسة أركيولوجية ذلك الصمت (مقدمة تاريخ الجنون).

و هذه الخطاطة تظهر لنا, أن فوكو يطرح عدة مفاهيم كبؤر متنوعة من أجل إبراز الخصائص المعرفية التي لا تعتمد الخطية, بل تتخذ القطيعة الباشلاروية هي العتبة هي الأساس. لذا يرى فوكو في هذا المقام أن عملية الاتصال و الاستمرار, مفترضا لا ينقص الا وصفه و تنظيميه. أما (ديريدا) يرى أن المسألة تتعلق بإقامة السلاسل, لأن التاريخ كان يفترض و يسلم بوجود هذه السلاسل, و أن الأصل يتحول عبر التاريخ مع القوى المهيمنة التي تؤوله حسب أهدافها (كما يقول نيتشه). لأن المعارف تخضع لضرورة الصيرورة التي بها و معها تتأسس المعارف, و تنبني نحو الاكتمال كما تقول الميتافيزيقا, لا نها تدعي امتلاك الحقيقة كما يرى عبد السلام بنعبد العالي ("أسس الفكر الفلسفي المعاصر", ص 63). إذن فيما يفكر فوكو؟ أو كيف استطاع أن ينفلت من قبضة هيجل؟ هل عن طريق الابستيمولوجيا؟ أو عن طريق ماركس او نتشه؟ إن هذه الأسئلة لا تركن إلى نموذج واع,بل هناك حقيقة متغيرة تتحقق عبر الصيرورة, وأن ثمة تاريخا شاملا, يوحد البشر. (زكريا إبراهيم, "دراسات في الفلسفة المعاصرة", ص 495). فتأثر سارتر بالديالكتيك, و خاصة كتابه "فينومينولوجيا الروح" ص 51, جعلنا نعيد هذه الخطاطة لمعرفة موقف فوكو:

و انطلاقا من هذه الخطاطة الوجودية, ندرك أنها خطاطيه مرتبطة بالذات المدركة لذاتها, و في ذاتها, لكن فوكو عبر قراءته الحفرية رفض هذا المكون.

فمع نهاية ق. 16 و بداية ق. 17, توارى التشابه        لم تعد الكلمات تشبه الأشياء, بل حتى تشابه أشياء العالم توقف         هذا راجع الى بيكون, حيث قال           إن العقل الإنساني محمولبالطبع على أنه يفترض في الأشياء نظاما و تشابها أكثر مما يحدث فيه, في حين أن الطبيعة مليئة الاستثناءات و الاختلافات, فإن العقل يرى الانسجام و الاتفاق و التشابه في كل مكان. فهذه الإحالة لا تعني الذات التي تساهم في القطائع و البني الفكرية, لكن في عصر النهضة تتكرر الأشياء.أما العصر الكلاسيكي سيعرف تمرق الأشياء و الكلمات و هذا التبعثر هو الذي يفرض على القارئ بفرز المفارقات بين التشابهات, حيث لا يمكن الارتكان الى المناهج السائدة و كل من يرى التشابهات في الأشياء فهو مجنون, كما يقول فوكو. إذن فهذا الأخير عمل على استنطاق اللغة في إستيمية النهضة التي كانت مندمجة في التشابه اللانهائي, و أن الانسان قبل ق. 19 لم يكن يفكر فيه كموضوع تجريبي. لهذا أصبح الإنسان مع الابستيمية الحديثة متناهيا, لأن مفاهيم الحياة و اللغة والعمل, تحده و تحدده في نفس الوقت, و لا يمكن الوصول إليه إلا باعتباره حيا منتجا و متكلما, فما أن تخفي هذه القبليات التي تحدد وجوده, من فضاءات المعرفة حتى يستحيل علينا الإمساك به, و يستنتج أبعاده التجريبية و كموضوع للمعرفة. لأن غياب الذات عن فكر العصر الكلاسيكي تزامن مع غياب للحياة, و اللغة, و العمل. و أكتشف الإنسان أنه خاضع بدون إرادة منه لوظائف الجسد لا يتدخل في سيرها و قوانين عملها بتاتا, و لرغبة لا يدري عللها, و تحت رحمة لغة لها قوانينها الخاصة, إنه خاضع للحياة, و العمل و اللغة التي تحدد وجوده الواقعي, فلا يمكن الوصول إليه إلا من خلال كلام جسده و السلع التي يصنعها, كما أنها هي التي تمسك الحقيقة, ص 260.

فالإنسان في العصر الكلاسيكي يبدو حسب فوكو كذات و كموضوع للمعرفة, لأن التمثيل كان يملك السلطة, تتجاوز الانسان كذات ممكنة للمعرفة, حيث كان عنصرا في الأشياء, و الموجودات الأخرى, لكن مع التطورات المعرفية انسحب التمثيل, كما تراجع الفكر و اللغة من فضاء المعرفة, و لم يعد يكلمنا عبر الأشياء و لا عبر الكلمات, بل أصبحت المعرفة من اختصاص الانسان, لذا دعا فوكو الاستيقاظ من السبات الأنثروبولوجي, لأنه أصبح وجه مع حديثي الولادة, و ربما قريب الاختفاء (الكلمات = الأشياء) ص 267. و أن المجتمع الصناعي الي فرض المعايير أدى إلى ظهور البيكولوجيا, و أن اختلال التوازنات الاجتماعية التي أحدثتها الثورة الفرنسية و أدت إلى ظهور السوسيولوجيا. ففوكو يؤكد على أن العلوم الإنسانية تبدأ حيثما يقيم الانسان كتمثلات عن نفسه و ككائن حي, ينمو له جسد و يحافظ على وظائفه و حاجاته, فالعلم الانسان يبدأ حيثما يكون الانسان ممثلا عن الحياة ذاتها, ولكن الاقتصاد رغم دراسته للإنسان لا يدخل ضمن العلوم الإنسانية, نفس الشيء بالنسبة للغة, و البيولوجيا, و هذا ما نراه في الخطاطة.

إن فوكو لم يستنتج هذا المعطى الوجودي و الأنثروبولوجي و لا البيولوجي, بل عمل على إخضاعها لقطائع معرفية, مما جعله يعيد النظر في كل حقبة دون ارتباط عضوي, كما أن بروز الانسان كمؤسس للمعرفة لم يكن إلا نتيجة تراجع شامل للتمثيل من فضاء المعرفة, فما أن تحمل إبستيمية القادم و المؤسس للمعرفة, حتى يسحب من الانسان الدور المنوط به في الابستيمية الحديثة, لان ظهوره كذات و موضوع للمعرفة, كأن حقيقة تبدل طرأ على الجاهزية الأساسية للمعرفة, فالإنسان اختراع يظهر اركيولوجيا فكرنا بسهولة حداثة عهده و ربما نهايته القريبة" (الكلمات و الاشياء ص 303).

إن مصطلح ما بعد الحداثة هو مرحلة زمنية لاحقة, متغايرة مع الحداثة من حيث الخصائص و البناء, و كأنها مرحلة تاريخية جديدة تعزز حضورها الانطولوجي عبر ماهيتها الأصل. من هنا نطرح التساؤل: هل "ما بعد" حالة وعي حضاري؟ و ما هو الاختلاف بينهما؟ و هل الما بعد هي مرحلة جديدة لزمن الحداثة؟ إن هذه الأسئلة ليست سهلة التناول, فهي تمارس حقها في النقد و التخطي, بعدما كانت الحداثة تمارس بدورها حقها في بناء الذات, و الكشف عن الحقائق, و إبداع القيم التنويرية العقلية. و يرى جيلباراوتو, أن مصطلح ما بعد غير محدد و أن مرجعيته ملتبسة, و لكنها تجمعها خصائص معينة كما عند فرانسوا ليوطار, و جياني فاثيمو (الإيطالي). فالما بعد يحاول جاهدا الخروج من أسطورة الحداثة, فهي بناء مفهومي ينظر إلى مسلمات الذات, و يعمل على نقدها من أجل تحويل إلى انطولوجية مغايرة. فلهذا التجاوز للميتافيزيقية الحداثية: (فكرة الحقيقة, العقل و الهوية) هي نسف الذات, و الحقيقة, و إزالة الحجب و الأقنعة, و تفكيك المجال التداولي (السلطة, المعرفة) و هذا ما ذكره في كتابه "الكلمات و الأشياء" ص 56. فقراءة فوكو لهذه المرحلة قد اختلفت من مفكر إلى مفكر, فوجد نفسه امام أنماط مختلفة من العلاقة بين الفلسفة و العلوم الإنسانية, (هيجل, هيبوليت, ماركس و ميرلوبنتي ...). و امام اشكال مفاهيمية (الماهيات- الانا- الذات- الوعي- الماهية- الكل- الواحدة- التطابق بين الروح او العقل ...) , فهذا كله, جعله يعيد النظر في هذه الحقول المعرفية من أجل الخروج من دائرة هيجل, ص 13.

فهذا الخروج جعل فوكو يفكك المشروع الثقافي, ويبدد كل المعارف الممارستية من اجل الكشف عن المقولات التي تحرك هذه المعارف, لأن مهمته (المنهج الحفري) تكمن في إبراز التمفصلاتالخطابية, كما ليس من صلاحيته الحكم او التأويل, كما انه منهج يرفض أن يتخذ صفة العلمية (فوكو "مسيرة فلسفية") ترجمة أبي صالح- ص 21. لذا أحس فوكو كمؤرخ و كفيلسوف بالفراغ بداية مع النبش النتشوي كما قلت سابقا. فاعتمد المعطى التوثيقي مع الترقب و التحليل من اجل الوصول الى منطلق التي كانت منه المعارف و النظريات ممكنة (الكلمات و الأشياء) ص 25. فالحفر إذن, هو اخراج كل الطبقات المترسبة الماضية, و النظام المؤسساتي الذي انشأها (الحقبة) لمقارنتها بالفلسفات, و العقلانية السائدة. و هذه المقاربة هي دعوة إلى معرفة القطائع التي سيجت الفكر الغربي, كما سيجت الفكر العربي حسب تعبير الجابري في كتابه بنية العقل العربي, ص 96. فالجابري بدوره حاول قراءة العقل العربي انطلاقا من السياسة, الاخلاق, السلطة, الاستبداد. فخلص إلى أن (العقيدة, و الغنيمة, والقبيلة) هي بنى لا شعورية شكلت بنية العقل العربي و من أجل البحث عن الآليات الأيديولوجية التي انتجته, و لا بد من الوقوف عند العقل من نقد موضوعه, ومن نقد ذاته أيضا, (العقل السياسي العربي, ص 7, فولدت هذه الوضعيات أربعة محددات. نجد دولة الملك السياسي مع الامويين و ظهور أيديولوجيا الجبر و ميثولوجيا الامامة مع الشيعة و ظهور البعد العرفاني, و أيضا الحركة التنويرية مع بني العباس, و ظهور العقلانية الإعتزالية, و أخيرا الأيديولوجيا السلطانية, و فقه السياسة مع الدولة العباسية. فالجابري يقربنا من عالم فوكو من اجل فهم دورة الانسان, ونهايته, و أفقه الوجوديكما يرى. 

ففلسفة الحضور كانت تعتبر نفسها هي صورة الماضي بكل صدق, فهي ذاكرة تحفظ الماضي. أما فوكو فلا يتعامل مع هذا الحضور إلا على أساس الاختلاف, لأن الحاضر هو من يسأل, لأن له رهاناته الخاصة, كما أن أرضيته ارتبطت مع مطلع ق 19 كموضوع للمعرفة التجريبية. لكن اللغة هي التي اكتشفت أنها هي التي تستعمل الإنسان و تسييره, إنها نظام و نسق خلفي و ضمني لا يستطيع هذا الكائن أن يبدع فيه الاستثناء. لذا قال نتشه "إن الإنسان يكمل اختفاءه", (الكلمات والاشياء, ص 267). من هنا نطرح السؤال هل بامكاننا أن تتفلسف فنيا خارج دائرة جاك ديريدا, و فوكو, و ادورنو, و زيمل؟

إن الابتعاد عن هذه الفئة هو إعادة الأسئلة حول نهاية العالم المادي و حضور العوالم الفنية و الرمزية, لأن الانسان لم يعد يفكر وحيدا, بل ينتمي إلى القطيع كما يرى نتشه, إنه أكبر عابر لهذا الكون يتراء في كل الأنظمة و لا ينفلت من دائرة الإشكالية التي تهدده. إذن, كيف نتحدث عن التاريخ و نهايته, و الفلسفة و نهايتها, و موت الميتافيزيقا و نهايتها, و موت الادب, و موت الانسان. إذن, ما بقي في هذا الكوكب, صحيح أن الفن هو الأصل ينفلت من الفرع و العكس, و هذا بالضبط ما اهتمت به العلوم الأدبية و الفنية, وما ارتكنت اليه بعض الدراسات لتجعل من هذا الكائن الغائب الحاضر أصلاً و فرعا, بينما أكد فوكو في حفريات المعرفة, أن كل المحاولات الانفلاتية من دائرة إشكالية العقل جعلت فوكو يؤكد على أن التاريخ لمؤسسة او لحقبة معينة, امر ينبغي أن يتعرض للحفر و للتغيير, و ذلك حسب القوى الادانية المهيمنة من مرحلة إلى مرحلة أخرى, و يؤكد فوكو في كتابه "حفريات المعرفة" أننا نجد اصل المحاولات الانقلابية التي قام بها التاريخ الجديد, و الابستيمولوجيا الانفصالية على التاريخ الهيجيلي, ص 13. فالاصغاء الى نصوصه يعني البحث عن التقاطع و التوافق النظرية و الغموض الاصطلاحي الذي ساد الساحة الغربية, و هذا الاصغاء هو بمثابة خلق معازل جديدة لأن المفاهيم مثل القطيعة و العائق أصبحت مفاهيم مبحوثة فيها, بعدما كانت مع التاريخ المعرفي العمومي شذوذا, ينبغي ادماجهما في الكل, و إيجاد مكان لهما في السيرورة العامة, لذا اعتبر أن مفهوم القطيعة هو حدث جوهري, لأن التقدم العلمي الذي يظهر دوما, يتجلى لنا عبر قطيعة او قطائع دائمة, لآن ابسيمولوجيا القطيعة هي عبارة عن تحول دون أي تصور لبناء الذات, و تقدم الوعي بالمفهوم السارتري لهذا ليس باشلار ببعيد عن عالم فوكو عندما أعلن في كتابه "نظام الخطاب" ان ليست الأخطاء رواسب او اجسام غريبة, بل لها وظائف إيجابية و فعالية تاريخية, و دور لا يمكن فصله عن دور الحقائق, ص 14. إذن, يحاول أن ينفتح على المعارف المتعددة من أجل تجاوز إبراز الكتابات الخطية من أجل إبراز الكتابات البطيئة الموجودة خلف التاريخ السياسي, فهذا الحفر المتسم بالانفصال جعلت هذه فلسفته تستنطق المحجب و المنسي, فهي اللاشعور الذي يعيد لنا ذاكرة التاريخ, و يوحد بين الوظائف العضوية اللامادية و بين الإنسانية, انها نزعة سريالية لا تخاطب البساطة بل تتمرد عن كل ما هو موجود تابت, لتفرز العناوين كبؤر ايحائية, و كذاكرة موسومة بأسئلة حوارية: لماذا الكتابة؟ هل الخوف من الضعف الوجودي؟ ام الرغبة في الانتماء الى الجماعة؟ ام هو إحساس بلحظة البوح عن النفس؟ 

إن هذا الإبداع هو جزء من بنية أوسع, هو ذهنية الجماعة التي أمست بدورها جزءا مكونا, و لغة تتخطى الوظيفة البيانية إلى مستوى دلالي ايحائي و حدسي, لغة داخل لغة تتجاوز ذاتها و تتحرر من السائد كما يقول اندري بروتون, إنها رؤيا تعيد لنا اركان الإبداع (الاستعارة- الرمز- الأسطورة- الخيال- الإيحاء- التضمين- المجاز...) و تؤسس لمعرفة المكان, و الشخصيات و بعض المواقف. فهذه الرؤيا المضادة تلغي المعاناة الإنسانية يتقطر في اذن المشاهدين همسا, و تغمر اللسان جهرا.

و خلاصة القول, أن فوكو عمل على تكسير اللاشعور الفكري الغربي, ليقرأ الصفحات التي تضمر التداخل التاريخ و الثقافة المهيمنة على الشعوب المستعمرة دون أية ممارسة نقدية. إذن, هي وصفة تبعية للمركز, سواء في بعده اللغوي, او المعرفي, او السياسي. لذا نطالب ان نعيد قراءة التراث العربي قراءة حفرية لمعرفة علاقة السلطة بالمثقف, و أيضا علاقة المؤسسات الأيديولوجية الرمزية بالكائنات البشرية من أجل التبشير بالحرية و التأويل و التعليق. و في النهاية اشكر محمد بلمو.

إنجاز: د الغزيوي بوعلي
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف