قصة قصيرة : السيرة العطرة لإمراة ونخلة
مضى علي رحيلها عام، مبروكة الزوجة الحبيبة رفيقة صالح ، لازلت الذكريات تتدفق بحضورها. يفيض الفؤاد حنينا لروحها العفيفة ، تغمر الخاطر كل لحظة من لحظات الهناء والعتاب، تتلفع بالليل ، تأتيه في المنام تناجيه:
"أتبكي يا صالح ! "
"ابكي يا مبروكة ، أبكي يا غالية "
"البكاء يغسل مشاعري يعزيها في فراقك الطويل، الطويل"
"هذه نجمة الصبح ، أنا وأنت في السانية، اشغل أنا مضخة الماء، نتفقد نحن الاثنين الجداول العطشى، نتابع معا سريان الماء وسط الجريد والسعف المتشابك، الجريد المصفر و القليل الأخضر المتهدل من هامات النخيل السامق".
" اسمع نبضك وصوتك الحنون الهادئ،كعصفورين يستنشقان رائحة الأرض ونسائم الصباحات، الوظيفة الرتيبة التي تنتظرني في مكان أخر تقتلعني من هذة اللحظات الهانئة".
"أذا كان الوقت غروبا، تنظرين إلى الشمس الغاربة التي يركض خلفها الشفق محاولا التشبث بردائها الوهاج، تستغرقين في تفكير عميق كأنك تخافين من مجهول قادم".
"إذا أطلنا المكوث في السانية في ليالي الصيف المقمرة، تغرينا مؤانسة النخيل ،ننعم بلحظات ملئ بأشياء رائعة وحنونة أتذكر دلاك "،"هيا يا طفلي المدلل، أطلق سراح غاليتك هيا القمر سيفضحنا".
"نرجع إلي البيت، تلفنا حياة سعيدة ، لم اترك اية فرصة تمر الا وكنت لك في كل المواسم امتطي غيمة خريفية محملة بالندي أو مقشعرا بشتاء شديد البرودة، في كلتا الحالتين يغطيني فؤادك ".
"حينما يزعل احدنا من الأخر لاتجدين في عيني عتابا مرا، بل تجدين شيئا أخر بين الود والود بين الشهد والعسل".
"إذا طال الزعل، يمتد نهر عذب يسيل متدفقا يصب في فؤادك ، أسابقك إلى العراجين المدلاة من النخلة التي تحبينها".
" التقط الثمرة المبقعة ، أضع في فمك الجزء المرطب، أخطف الجزء المبلح مرددا لك الرطب ولصالح البلح".
"تختلج عندئذ النبضات ، يخال كلانا النخيل يبتسم، تهز نخلتك احدى عراجينها، تهصر سعفة من سعفها".
" تغرد العصافير عند السواقي، تقيم مهرجاناتها الغزلية، يسقط عصفورا ذكرا مشاغبا في الجابية الساكنة، يغرق .. يغرق، بسهام عينين والهتين،أصيب، فلقي حتفه، طفقت أنثاه محدقة مليا في صفحة الماء، تطير، تهاجم صفحة الماء، تفر ، تكر ، تستنجد....".
"تنطلق تغريدة حزينة من أعماقها، يهمد رفيف الجناحين، لقد غاب الحبيب، بخاطر كئيب تطير العصفورة تاركه ريشة من جناحها فوق صفحة الماء".
مبروكة بمشاعر واثقة أوصلت جوابها لصالح يوم أن تقدم لخطبتها، فرفضه أبوها.
"لاتتركني لليل والشماته يا صالح ، لا تندم".
قالتها ومثل العصفورة فعلت، غير أنها لم تترك صالحها يغرق، مبروكة أهدته نهرا دافقا، رأى صالح في منامه أ نه يبحر علي متن قارب من خشب النخيل.
أبحر عبر النهر الأمل، نهر يصب في صحراء الأيام فتجعلها بساطا أخضر، نهر تشرب منه جميع العصافير الجنوبية الفقيرة، وحتى الطيور الجارحة تنقع مناقيرها المتسخة ببقيا فرائسها فيه.
يهز القرية حدث فوق العادة، إمرأة تفجر ثورة، إمرأة تحب النخيل، إمرأة من واحات الجنوب، أبت الاستسلام لعملية زواج قسري علي فراش وثير، صالح في تلك الليلة وجد تفسيرا لمنامه وهو يعتلي ظهر قارب من خشب النخيل في خضم نهر وهو الذي لم يشاهد البتة في حياته نهرا حقيقيا قي صحاري الجنوب الرحبة.
مبروكة رفضت أن تتزوج من رجل لا يزقزق حنينه في جوانحها، طردته وهو يحاول الفتك بحياتها المفعمة بالود لصالح في ليلة زفاف قسرية.
أنا لست لك يا هذا !
أنا اعشق رجلا غيرك !
لم يأبه صالح يومئذ للشائعات الرخيصة، لم تجتاح عواطفه الريب والشكوك، أخرس كل الأفواه الحسودة التي تتجاهل طهر علاقته بمبروكة.
(2)
يتذكر صالح كيف انسحبت التقاليد السيئة ، تجر أسمالها عن قيم القربة، يتتدكر كيف انقشعت فلول الظلام تاركة مشهدا منيرا، ولادة حكاية ود، أشرقت في ربوع الواحة في تلك الليلة ، كل نخيل الواحات أحتفل ، أقسم كل النخيل أن عراجين الموسم القادم ستكون أكثر روعة، لم يمض شهر علي انتفاضة مبروكة حتى زف صالح الى مبروكة وزفت مبروكة إلي صالحها علي سنة الله ورسوله، ذاقت القرية طعما جديدا لنبل العلاقات الإنسانية .
تندلع مشاعر غير اعتيادية في النفوس التي ران عليها الإحساس بالدونية، صالح ومبروكة صارا مثلها الأعلى.
صالح الشاب الجنوبي الفقير الذي كان قد ورث سانية صغيرة عن أبيه،تعشقه مبروكة الفتاة بنت العائلة الغنية، تصد لآجل عينيه رجلا ينتمي إلي قريتها قادما إليها من مدن الشمال، تفوح منه النعمة، توشحه ألقاب الفخامة.
يثمر زواج صالح من مبروكة، مبروكة تحبل ، يعم الفرح والسرور البيت، تبتهج عصافير السواني مثلها نفوس الإقران العطشانين لحنان الأمومة والأبوة ،النخلة التي تحبها مبروكة تبارك هذا الحبل .
"يا صالح العمل في الوظيفة لا يربي صغارنا، يا صالح السانية المهملة والجريد الظامي يحتاجون الي عنايتك"، "يا صلوحة تفرغ للسانية"
يوعد صالح زوجته مبروكة بمفاجأة يوم ولادتها بالسلامة، يبدأ صالح في مشروع إعمار السانية غير أنه لم يتخل عن الوظيفة كموظف محفوظات .
يفرح البئر والسانية بهذا التحول المبهج ، يزداد ماءه غزارة، يعم االفرح أرجاء السانية في انتظار الوفاء بالعهد، أحاسيس الود كالنهر المترقرق الرهو تشد ألأبوين بالجنين، يكبر الجنين، موعد الولادة صار اكثر قربا .
صالح يوم ان ابلغ وهو منهمكا في مشاغل الوظيفة بمخاض زوجته التي نقلت الى المستشفي تملكته سعادة لا حدود لها يهرع غير آبه بتحذير رئيسه المباشر، إلا انه يصعق حين استقبلته الوجوه واجمة أمام غرفة العمليات ،علم ان الولادة عسيرة، أخته زهرة كانت الأكثر تبرما وحزنا بين الحضور ، الطبيب الذي أتجه إليه صالح يعتري وجهه خوف لم يستطع إخفاءه، يصبر صالح بقوله: "وكل أمرك الي الله".
اجتاحت صالح أمور غامضة وهو يرى الحبيبة مستلقية علي السرير وقد غاب وعيها، ممتقعة الوجه ، لم يدرك بعد حدود الخطر فهو ينتظر لحظة فرح بصراخ المولود القادم، لم بتوقف عن الحركة جيئة وذهابا أمام غرفة العمليات، يغيب هنيهة في الخارج ، تطفح خواطره بالترقب.
أعماقه مواقد جمر تنتظر أن تنهض مبروكة معا فاة، وضاحة الوجه مزدهرة السوالف مشرقة الثغر بالابتسامات العذبة، ملوحة بعينيها السوداوين، مباركة بالمولود، تذكره بالعهد الذي قطعه على نفسه.
غير أنه على نحو مفجع يجهش بالبكاء لحظة ان انطلقت أخته زهرة في نحيب حاد وهستيري؛"ان قد غابت مبروكة الزوجة، المولودة ألأبنة في وضع حرج".
عم الحزن يومئذ كل القرية، كل الأشياء أكتسحها أ لآسى، خيمت الكآبة، غابت الشمس ولن يجد صراخ الشفق خلفها، لن يهصر صالح سعف النخيل المتشابك الذي كان يمنع عينيه من رؤيتها إذا أقبلت ، قليتهدل السعف فهي لن تأتي.
فرج الجطيلاوي طرابلس ليبيا خريف 2008
مضى علي رحيلها عام، مبروكة الزوجة الحبيبة رفيقة صالح ، لازلت الذكريات تتدفق بحضورها. يفيض الفؤاد حنينا لروحها العفيفة ، تغمر الخاطر كل لحظة من لحظات الهناء والعتاب، تتلفع بالليل ، تأتيه في المنام تناجيه:
"أتبكي يا صالح ! "
"ابكي يا مبروكة ، أبكي يا غالية "
"البكاء يغسل مشاعري يعزيها في فراقك الطويل، الطويل"
"هذه نجمة الصبح ، أنا وأنت في السانية، اشغل أنا مضخة الماء، نتفقد نحن الاثنين الجداول العطشى، نتابع معا سريان الماء وسط الجريد والسعف المتشابك، الجريد المصفر و القليل الأخضر المتهدل من هامات النخيل السامق".
" اسمع نبضك وصوتك الحنون الهادئ،كعصفورين يستنشقان رائحة الأرض ونسائم الصباحات، الوظيفة الرتيبة التي تنتظرني في مكان أخر تقتلعني من هذة اللحظات الهانئة".
"أذا كان الوقت غروبا، تنظرين إلى الشمس الغاربة التي يركض خلفها الشفق محاولا التشبث بردائها الوهاج، تستغرقين في تفكير عميق كأنك تخافين من مجهول قادم".
"إذا أطلنا المكوث في السانية في ليالي الصيف المقمرة، تغرينا مؤانسة النخيل ،ننعم بلحظات ملئ بأشياء رائعة وحنونة أتذكر دلاك "،"هيا يا طفلي المدلل، أطلق سراح غاليتك هيا القمر سيفضحنا".
"نرجع إلي البيت، تلفنا حياة سعيدة ، لم اترك اية فرصة تمر الا وكنت لك في كل المواسم امتطي غيمة خريفية محملة بالندي أو مقشعرا بشتاء شديد البرودة، في كلتا الحالتين يغطيني فؤادك ".
"حينما يزعل احدنا من الأخر لاتجدين في عيني عتابا مرا، بل تجدين شيئا أخر بين الود والود بين الشهد والعسل".
"إذا طال الزعل، يمتد نهر عذب يسيل متدفقا يصب في فؤادك ، أسابقك إلى العراجين المدلاة من النخلة التي تحبينها".
" التقط الثمرة المبقعة ، أضع في فمك الجزء المرطب، أخطف الجزء المبلح مرددا لك الرطب ولصالح البلح".
"تختلج عندئذ النبضات ، يخال كلانا النخيل يبتسم، تهز نخلتك احدى عراجينها، تهصر سعفة من سعفها".
" تغرد العصافير عند السواقي، تقيم مهرجاناتها الغزلية، يسقط عصفورا ذكرا مشاغبا في الجابية الساكنة، يغرق .. يغرق، بسهام عينين والهتين،أصيب، فلقي حتفه، طفقت أنثاه محدقة مليا في صفحة الماء، تطير، تهاجم صفحة الماء، تفر ، تكر ، تستنجد....".
"تنطلق تغريدة حزينة من أعماقها، يهمد رفيف الجناحين، لقد غاب الحبيب، بخاطر كئيب تطير العصفورة تاركه ريشة من جناحها فوق صفحة الماء".
مبروكة بمشاعر واثقة أوصلت جوابها لصالح يوم أن تقدم لخطبتها، فرفضه أبوها.
"لاتتركني لليل والشماته يا صالح ، لا تندم".
قالتها ومثل العصفورة فعلت، غير أنها لم تترك صالحها يغرق، مبروكة أهدته نهرا دافقا، رأى صالح في منامه أ نه يبحر علي متن قارب من خشب النخيل.
أبحر عبر النهر الأمل، نهر يصب في صحراء الأيام فتجعلها بساطا أخضر، نهر تشرب منه جميع العصافير الجنوبية الفقيرة، وحتى الطيور الجارحة تنقع مناقيرها المتسخة ببقيا فرائسها فيه.
يهز القرية حدث فوق العادة، إمرأة تفجر ثورة، إمرأة تحب النخيل، إمرأة من واحات الجنوب، أبت الاستسلام لعملية زواج قسري علي فراش وثير، صالح في تلك الليلة وجد تفسيرا لمنامه وهو يعتلي ظهر قارب من خشب النخيل في خضم نهر وهو الذي لم يشاهد البتة في حياته نهرا حقيقيا قي صحاري الجنوب الرحبة.
مبروكة رفضت أن تتزوج من رجل لا يزقزق حنينه في جوانحها، طردته وهو يحاول الفتك بحياتها المفعمة بالود لصالح في ليلة زفاف قسرية.
أنا لست لك يا هذا !
أنا اعشق رجلا غيرك !
لم يأبه صالح يومئذ للشائعات الرخيصة، لم تجتاح عواطفه الريب والشكوك، أخرس كل الأفواه الحسودة التي تتجاهل طهر علاقته بمبروكة.
(2)
يتذكر صالح كيف انسحبت التقاليد السيئة ، تجر أسمالها عن قيم القربة، يتتدكر كيف انقشعت فلول الظلام تاركة مشهدا منيرا، ولادة حكاية ود، أشرقت في ربوع الواحة في تلك الليلة ، كل نخيل الواحات أحتفل ، أقسم كل النخيل أن عراجين الموسم القادم ستكون أكثر روعة، لم يمض شهر علي انتفاضة مبروكة حتى زف صالح الى مبروكة وزفت مبروكة إلي صالحها علي سنة الله ورسوله، ذاقت القرية طعما جديدا لنبل العلاقات الإنسانية .
تندلع مشاعر غير اعتيادية في النفوس التي ران عليها الإحساس بالدونية، صالح ومبروكة صارا مثلها الأعلى.
صالح الشاب الجنوبي الفقير الذي كان قد ورث سانية صغيرة عن أبيه،تعشقه مبروكة الفتاة بنت العائلة الغنية، تصد لآجل عينيه رجلا ينتمي إلي قريتها قادما إليها من مدن الشمال، تفوح منه النعمة، توشحه ألقاب الفخامة.
يثمر زواج صالح من مبروكة، مبروكة تحبل ، يعم الفرح والسرور البيت، تبتهج عصافير السواني مثلها نفوس الإقران العطشانين لحنان الأمومة والأبوة ،النخلة التي تحبها مبروكة تبارك هذا الحبل .
"يا صالح العمل في الوظيفة لا يربي صغارنا، يا صالح السانية المهملة والجريد الظامي يحتاجون الي عنايتك"، "يا صلوحة تفرغ للسانية"
يوعد صالح زوجته مبروكة بمفاجأة يوم ولادتها بالسلامة، يبدأ صالح في مشروع إعمار السانية غير أنه لم يتخل عن الوظيفة كموظف محفوظات .
يفرح البئر والسانية بهذا التحول المبهج ، يزداد ماءه غزارة، يعم االفرح أرجاء السانية في انتظار الوفاء بالعهد، أحاسيس الود كالنهر المترقرق الرهو تشد ألأبوين بالجنين، يكبر الجنين، موعد الولادة صار اكثر قربا .
صالح يوم ان ابلغ وهو منهمكا في مشاغل الوظيفة بمخاض زوجته التي نقلت الى المستشفي تملكته سعادة لا حدود لها يهرع غير آبه بتحذير رئيسه المباشر، إلا انه يصعق حين استقبلته الوجوه واجمة أمام غرفة العمليات ،علم ان الولادة عسيرة، أخته زهرة كانت الأكثر تبرما وحزنا بين الحضور ، الطبيب الذي أتجه إليه صالح يعتري وجهه خوف لم يستطع إخفاءه، يصبر صالح بقوله: "وكل أمرك الي الله".
اجتاحت صالح أمور غامضة وهو يرى الحبيبة مستلقية علي السرير وقد غاب وعيها، ممتقعة الوجه ، لم يدرك بعد حدود الخطر فهو ينتظر لحظة فرح بصراخ المولود القادم، لم بتوقف عن الحركة جيئة وذهابا أمام غرفة العمليات، يغيب هنيهة في الخارج ، تطفح خواطره بالترقب.
أعماقه مواقد جمر تنتظر أن تنهض مبروكة معا فاة، وضاحة الوجه مزدهرة السوالف مشرقة الثغر بالابتسامات العذبة، ملوحة بعينيها السوداوين، مباركة بالمولود، تذكره بالعهد الذي قطعه على نفسه.
غير أنه على نحو مفجع يجهش بالبكاء لحظة ان انطلقت أخته زهرة في نحيب حاد وهستيري؛"ان قد غابت مبروكة الزوجة، المولودة ألأبنة في وضع حرج".
عم الحزن يومئذ كل القرية، كل الأشياء أكتسحها أ لآسى، خيمت الكآبة، غابت الشمس ولن يجد صراخ الشفق خلفها، لن يهصر صالح سعف النخيل المتشابك الذي كان يمنع عينيه من رؤيتها إذا أقبلت ، قليتهدل السعف فهي لن تأتي.
فرج الجطيلاوي طرابلس ليبيا خريف 2008