بقلم : بدر فواز رشواني
دراسة تحليلية لرواية " الثلج يأتي من النافذة " للأديب حنا مينة على وفق المنهج الواقعي :
الواقعية مذهبٌ أدبيٌّ و نقديٌّ يعتمد على الوثائق و الواقع ، و تعني تصوير أحوال الطبقة الكادحة في المجتمع ، و الواقعية أصبحت اصطلاحاً نقديَّاً تعني طريقة التبنِّي من الفلسفة ، و هذا يعني أنَّها تَصدرُ عن الفلسفة ، و تصفُ غرضاً هو بلوغ الحقيقة .
و يضع جورج لوكاتش تعريفاً للواقعيَّة : " تصوير الملامح الكليَّة للواقع ، و الكليَّة سمة من سمات الواقعيَّة ؛ لأنَّ الأديب الواقعي يريد أن يكتبَ رواية واقعية ، و يجب أن نجد فيها نظرة واقعيَّة كاملة " .
أ- نبذة عن حنا مينة :
إنَّهُ واحد من الروائيين القلائل الذينَ احترفوا الفن الروائي ، فكانت الرواية أداته الرئيسة و همَّهُ الأخيرة : " إمَّا أن أكونَ روائيَّاً أو لا أكون " ، يقول متحدِّثاً عن تجربتِهِ : " لقد بدأتُ حياتي الأدبيَّة بكتابةِ القصة القصيرة عام 1945م ، و نشرتُ أقاصيص في صحفٍ و مجلاتٍ سورية و لبنان و لكنَّني لم أجمعها ، و بعضها ضاع " .
إنَّ مسيرَته الخاصة معروفة فهو ينتمي إلى وسط فقير ، توقَّفَ عن الدراسة في نهاية الحلقة الابتدائية و التحقَ بمهن مختلفة قبل أن يتمَّ الاعتراف بموهبتهِ الأدبية و يبدأ العمل في المجال الثقافي و في الحوارات العديدة التي أجريتْ معَهُ .
ب- ملخَّص الرواية :
إنَّ حنا مينة من الكتَّاب الذينَ يُعدُّونَ في إطار المدرسة الواقعيَّة ، و قد برزَ في الرواية السورية منذ روايته الأولى " المصابيح الزرق " عام 1945 م .
"الثلج يأتي من النافذة" رواية بطل يهرب في البداية عن مواجهة الاستبداد و لكن في المراحل المختلفة ، تعلَّمَ مبادئ النضال و اجتازَ مراحل الوعي ، و يطوَّر شخصيته من مستوى الشخص العادي إلى مستوى البطل الثوري و المناضل .
و حنا مينة يقدِّم رؤية للعالم تختلف عن الأمثلة التي رأيناها من قبل و حتى الآن ، تتَّخذ هذه الرواية من البيئات الشعبية المسحوقة إطاراً مكانيَّاً لأحداثِها و شخوصها ، فتبرز بذلك رؤيتها غير التقليديَّة للإنسان العادي حيث نراه يعي مستقبله و يسهم في الثورة على الواقع .
هذه الرواية ترصد أحداث عامين من عمر شاب مناضل التجأَ إلى خارج حدود بلده ، و إنَّهَ لأمرٍ جديد و طيِّب أن تعالجَ رواية عربية مثل هذه الهموم لدى مناضل عصامي هو إلى ذلك مثقَّفٌ مرهف الحس .
يتسلَّلُ فيَّاض من الحدود السورية اللبنانية سيراً على الأقدام بعد أن أخذت السلطات الرجعيَّة الحاكمة في سورية ذلك العهد تطارد التقدميين ، لقد لوحقَ في دمشق بوصفِهِ كاتباً يساريَّاً معارضاً فاضطرَّ إلى الانقطاع عن مدرستِهِ – و هو المعلّم – متوارياً عن الأنظار فترة إلى أنْ نصحَهُ رفاق لهُ مغادرة البلاد و مواصلة المعركة من الخارج ، فالتجأ إلى لبنان .
و في بيروت يقيم بينَ أفراد أسرة رفيقه اللبناني خليل غزالة فترةً ، و يشغل بعدها عاملاً في مطعم الجبل متنكِّراً باسم " ميشيل " ، بيد أنَّهُ ما يلبث حتى يترك العمل عائداً إلى بيت رفيق النضال " خليل " ، ثمَّ يُراد لهُ تحت الخوف من اكتشاف مقرَّهُ ، أن ينتقل إلى بيت رفيق آخر ليسَ لهُ بهِ معرفة سابقة ، هو " جوزيف بو عبده " ، و هنا ينعم فياض بمستوى لين من العيشة يهيئ لهُ فرص المطالعة و الكتابة ، و لكن مضيفهُ يخسر في يوم قريب عمله فيرحل عنهُ ليعثرَ على عملٍ في بناء يشيَّدُ ، متخفياً تحت اسم " سليمان " ، ثمَّ يعود إلى " جوزيف " و هناك يوافيه أحد الرفاق ليصحبه إلى حيث لا نعلم ، فإنَّهُ يجب أن يغادر هذه المنطقة .
هذا بإيجاز بالغ ، ما وقعَ لفيَّاض خلال الأشهر الأولى من التجائهِ إلى خارج البلاد .
أمَّا القسم الخامس و الأخير من الرواية فيحدّثنا عما وقعَ لمناضلنا الشاب في مراحل أخرى من حياتهِ و هو في منفاه الاختياري ، و نعرفُ أنَّ فيَّاض قد أُلقِيَ القبض عليه بعد عام ، ثمَّ نعرِفُ أنَّهُ قد أُطْلِقَ سراحهُ بعد أن أمضى في السجن نحو أشهر ستة .
ثمَّ يقرر بعد هذا الاغتراب الطويل العودة إلى وطنهِ ، و يجتاز الحدود الفاصلة ، الموضع ذاته الذي تسلَّلَ منهُ قبلَ عامين ، ...........يُقبِّل تراب الوطن ........ ، و يستقبل دمشق هاتفاً و كأنَّهُ يؤدِّي قَسماً : " أبداً لن أهرب بعدَ الآن " .
ج- الواقعيَّة عند حنا مينة :
إنَّ حنا مينة يُصنَّفُ في إطار التقليد الواقعي في الأدب السوري و يعتقد بإمكان الواقعية أن تتضمَّنُ التيارات المعروفة مثل الرومانسية و الرمزية ، و هذا الرأي يفسِّرُ و يبرِّرُ استخدام الرمز أو تقنيَّات عصرية في رواياته .
إنَّ رواية " الثلج يأتي من النافذة " صوَّرت حركة المجتمع و تطوره بالرؤية الواقعية الاشتراكية ، و لا شك أنَّ هذه الرؤية تفرض على حنا مينة الغوص في جذور المشكلات و الكشف عن أسباب الفوضى و القهر و الارتباك التي تسود المجتمع ، كما تفتح أمامه مجال رسم طريق الخلاص حسب رؤيته ، و لئن كانَ حنا مينة على حدِّ قوله كاتب الفرح و الكفاح الإنسانيين ؛ لأنَّهُ يعرف كيفَ يُصغي إلى دبيب الحياة في قلب الجماد ، فإنَّهُ كذلك الروائي الذي يعرف كيف يوظِّف الجماد في خدمةِ الحياة ، حياة أبطاله ، و هذا أحد أسرار تقنيات الرواية الحديثة .
و أهم الموضوعات التي تتحدَّثُ عنها الروايات الواقعية هي الأحداث السياسية الكبرى و انعكاسها ، و تؤكد الواقعية على الانطلاق من إيديولوجيَّة محدَّدة للحياة و للإنسان و مفهوم للفن ، و ذلك يجعل رؤية الفنان أكثر عمقاً و شمولية و تماسكاً .
و المهم من هذا كله ، أنَّ حنا مينة يفيض علينا بصورِ الواقع و الصراع الاجتماعي و الشخصيات الإنسانية المختلفة عاماً بعَدَ عامٍ .
د- السمات الواقعية للرواية :
إنَّ إقناع القارئ يشكل أحد شروط الكتابة الواقعيَّة ، و على النص أن يتوصَّل إلى إقناعه بأنَّ العالمَ الذي يقدِّمَهُ يمكن أن يكون لهُ وجود في الواقع ، و أنَّهُ يتطابق مع الواقع المعاش ، و في سبيل هذا الهدف على الكاتب تبرير العرض لأقصى درجة و جعل عناصر القصَّة يتظافر بعضها مع بعض .
و من السمات البارزة في الرواية :
1- النموذجيَّة :
إنَّ أشخاص الرواية هم نماذج بالتأكيد ، و لكنَّهم مميَّزون أيضاً بأفكارهم و أنشطتهم ، دون اهتمام بصفاتهم الجسدية .
إنَّ لهم ماضياً و تاريخاً و لا ينبثقون من العدم ليختفوا من حيث أتوا ، حيث يتوقفونَ عن تأدية وظيفة في البرنامج السردي ، فمواقفهم و أفعالهم و أفكارهم معلنة بواسطة الأشخاص الآخرين أو الراوي ، كما أنَّهم يملكون الحيوية ، و من النادر ألَّا يبدي أحد الأشخاص دليلاً على مشاعر نبيلة أو لا يثير تعاطف القارئ و لو جرى تقديمه بطريقة سلبية في لحظات أخرى ، و لكن الشخصيات توزَّعت ما بين النجاح و الفشل ، و ما يُلاحَظْ أنَّ الإخفاق كله كان من نصيب أولئكَ الذين أسبغَ عليهم المؤلف لبوس النضال في حينَ أصابت الشخصيات الأخرى اللا منتمية و الساذجة و الطيِّبة معاً حظاً أوفى من النجاح ، و إنَّ خطأً ما في تكوين الشخص الروائي يجعل منه نموذجاً غير مقنع شبحاً يروح و يغدو أمامَ القارئ على غير مقتضى العقل و منطق الأشياء .
2- الارتباط بتجارب الحياة :
إنَّ المحيط الذي يتطور فيه الأفراد شديد الارتباط بتجربة من تجارب الحياة و هؤلاء الأشخاص يمكن تمييزهم و تعريفهم بدرجة رئيسة من خلال أنشطة يوميَّة : الأكل ، الفسحة المسائية ، و الحديث مع المعارف ، و المشاركة في عرس ، و العمل ، و هذه الرواية من الروايات التي تُعنى بطبائع أبطالها و بالمناخ الاجتماعي و الروحي الذي ينتمون إليه ، و إنَّ أبطال روايتنا هذه : المناضل ، و العاشق ، و الطامع ، و المخذول ، و البرجوازي و الرأسمالي و البغى العاهرة .
3- الصراع و سمو البطل إلى مرحلة المناضل الثوري :
إنَّ الروايات الملتزمة بالرؤية الاشتراكية تنطلق من إيديولوجيَّة تحدد مفهوماً معيَّناً للإنسان و تصوراً خاصاً للعلاقات الداخلية التي يتفاعل معها عبرَ صراعه مع القوى التي تحاول أن تقيّد تطوره و تقدمه .
إنَّ رواية " الثلج يأتي من النافذة " عبارة عن همزة وصل بين المناضل و نضاله ، فهي بعبارة أخرى تصف كيف يسمو البطل من مرتبةِ الإنسان العادي إلى مرتبة المناضل الثوري عن طريق التجربة الشخصية و الصراع مع النفس و الخارج ، و نستطيع إذ ذاك أن نميِّزَ عدَّة مراحل في درب فيَّاض الثوري :
أ- مرحلة التعلم في المغارة على ضوء الشموس : هنا حيث لا نوافذ و لا أبواب تعلَّمَ خليل النضال .
أمَّا فيَّاض فإنَّهُ كان يافعاً و لم يستطع في هذه المرحلة سوى أن يتلقَّن المبادئ الثورية الأولى ، و هذه المرحلة إضافةً إلى العمل النضالي و السجن في الوطن ، ثمَّ قرار الهرب إلى لبنان ، تقع على خط الزمن قبل بدء الرواية .
ب- مرحلة التردد و التخفِّي في بيت أبو خليل : يبدو البطل في البدء رافضاً ، إنَّ هرب فيَّاض من بلدِهِ و لجوئهِ إلى لبنان يعنيان أنَّ روح النضال لم تنضج عنده بعد ، يقول له أبو خليل : "" كان عليك ألَّا تفعل هذا ، كان عليك أن تصمدَ أكثر "" ، و يذوق فياض مرارة السجن و الغربة ، مرارة الإغراء و الدِّعة .
تلعب النافذة الدور الأساسي في هذه المرحلة ، فهي تكاد تُنسي البطل سجنه و غربته و تغريه بالعودة إلى حياة ما قبل التجربة ، حياة المثقَّف البرجوازي ( زواج ، أولاد ، هموم عائلية بسيطة ، مغامرات ، .......... ) ، و يضطر عندئذٍ أن يقارن بين خليل و جوزيف فيختار أن يعيش كخليل ، مناضلاً ثوراً يكدح و يعمل .
تُعدُّ هذه المرحلة حلقة رئيسة يتقرَّر فيها مصير البطل ، إنَّها مرحلة تحول فياض من هارب متردد إلى عامل مناضل .
ج- مرحلة العمل اليدوي الشاق : إنَّ العمل قيمة إنسانيَّة و تجربة ضرورية للاندماج في الواقع ، لذلك يصمم فياض على العمل بيديه ليثبت إنسانيته و يدفع عنها الفساد و إذا كان هربه إلى بيت خليل تعبيراً عن أزمةِ انتمائهِ كمثقَّف برجوازي صغير إلى الثورة ، فإنَّ تصميمه على العمل يعدُّ بمنزلةِ انتصار على ما تبقَّى في نفسِهِ من آثار الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها .و ينخرط في عداد العمال البائسين الذينَ تمصُّ البرجوازية دماءهم ، يركز حنا مينة على الصراع الطبقي و البحث عن عالم جديد ، فإنَّهُ يرى أنَّ الإرادة الإنسانيَّة هي الفصل في تحقيق الآمال و حل الكثير من المشاكل .
د- مرحلة النضال الفعلي : و تعدُّ هذه المرحلة ذروة تجربة المناضل فياض ، يعمل في كتابةِ منشورات ثورية و طبعها ، فهو قد تعدَّى مرحلة العمل الفردي (المعانة الشخصية) إلى نشر المبادئ الثورية ( الكفاح السرِّي و العمل القيادي ) ، فالعمل إلى جانب الثقافة (فياض) و الثقافة إلى جانب العمل (خليل) ، هما طريق صنع المناضلين الثوريين ، و هما طريق الخلاص من الحيرة و التردّد ، بل الخلاص من الغربة ، لذلك يشعر فيَّاض الآن بأنَّ البرد ليس من الثلج و إنَّما " البرد كانَ من الغربة و التجربة ، و الآن وداعاً للغربة " .
فمن القضايا الهامة التي بحثها النقد الواقعي العربي هي ظاهرة الحداثة الشعرية العربية ، نرى أنَّ الحداثة التي برزت في روايات حنا مينة بشكل عام ، و رواية ( الثلج يأتي من النافذة ) بشكل خاص ، هي نتاج اجتماعي طبقي سببهُ صعود البرجوازية العربية الصغيرة ، و لا يتعلق ذلك بالمضمون بل يتناول الشكل الجديد أيضاً ، و يفسر أيضاً أنَّ الشكل محافظٌ و المضمون ثوري ، و أنَّ المضمون الثوري الجديد يتطلّب بالضرورة شكلاً جديداً .
و نذهب في تفسير الرواية إلى أنَّها اتصفت بعدةِ سمات رأيناها عند خليل و فياض و الشخصيات الأخرى ، و الأكثر تجسيداً ظهرت في تصوير النافذة الذي صورها الأديب ( حنا مينة ) :
" إنَّ النافذة تواكب البطل الفيَّاض طيلة إقامته في لبنان ، أي فعلياً من بداية الرواية إلى آخرها ، و هي من العناصر الأساسية التي تكوِّن التجربة النضالية التي عاشها ، ففي بادئ الأمر كانت النافذة كوَّةٌ في جدار تطلُّ على الخارج عندما كان فيَّاض يقع فريسة صراعه الداخلي و عندما كانت تستغرقه أفكاره ، فليس للنافذة في هذا المعنى أيةَ وظيفة روائية ، فوظيفتها هنا عملية لا تتعدَّى السماح للبطل بإطالة لا مبالية نحو الخارج ، ثمَّ تتطور النافذة عنده فيصبح هناك نافذة أخرى مقابلة لنافذته ، يطلُّ منها رأس صغير جميل يرنو إلى فياض بعينين برَّاقين ، فتصبح النافذة عنده هي المنفذ الوحيد للخروج من سجنِهِ ، فهو لا يستطيع مغادرة غرفته نهاراً حتى لو كان ذلك للذهاب إلى المرحاض ، فبسبب هذا الرأس الصغير ترتعش أوصاله ، و تصيح غرائزه و يحسُّ أنَّهُ يسكن الغرفة للمرَّة الأولى ، ففي النافذة المقابلة رأى وجهاً و ابتسامة و دعوة إلى الحبِّ " و هذا كله يكشف عن حب فيَّاض الأفلاطوني لفتاة النافذة المقابلة و اسمها دينيز " .
يتبيَّن لنا مما تقدَّمَ أنَّ النافذة عنصر من عناصر المجابهة بين المناضل و العالم الموضوعي الخارجي ، أي بين الذات و الموضوع ، فحيث توجد النافذة يوجد الإغراء بالتخلِّي عن سبيل النضال ، فهي إذن مرحلة من مراحل تكوين الذات و الوسيلة التي يحدِّد البطل بواسطتها شخصيته النضالية .
و السؤال الذي يتبادر إلى أذهاننا الآن هو : هل تحافظ النافذة في هذه المرحلة النهائية على وظائفها التي رأيناها ؟؟؟
في الحقيقة لا يتغيَّر عمل النافذة ، المعاني المكافح الذي يعيش تجربة الثورة المعذِّبة ، و التغير الأساسي و الوحيد الذي يطرأ على وظيفة النافذة هو أنَّها لم تعد إغراءً بالتخلِّي عن طريق الكفاح و النضال على العكس من ذلك إنَّها تصرف فيَّاضاً عن اجترار ذكريات الماضي و تدفعه إلى الأمل في مستقبلٍ أفضل يملؤُهُ دفء الحياة و نار المحبَّةِ .
بقلم : بدر فواز رشواني
دراسة تحليلية لرواية " الثلج يأتي من النافذة " للأديب حنا مينة على وفق المنهج الواقعي :
الواقعية مذهبٌ أدبيٌّ و نقديٌّ يعتمد على الوثائق و الواقع ، و تعني تصوير أحوال الطبقة الكادحة في المجتمع ، و الواقعية أصبحت اصطلاحاً نقديَّاً تعني طريقة التبنِّي من الفلسفة ، و هذا يعني أنَّها تَصدرُ عن الفلسفة ، و تصفُ غرضاً هو بلوغ الحقيقة .
و يضع جورج لوكاتش تعريفاً للواقعيَّة : " تصوير الملامح الكليَّة للواقع ، و الكليَّة سمة من سمات الواقعيَّة ؛ لأنَّ الأديب الواقعي يريد أن يكتبَ رواية واقعية ، و يجب أن نجد فيها نظرة واقعيَّة كاملة " .
أ- نبذة عن حنا مينة :
إنَّهُ واحد من الروائيين القلائل الذينَ احترفوا الفن الروائي ، فكانت الرواية أداته الرئيسة و همَّهُ الأخيرة : " إمَّا أن أكونَ روائيَّاً أو لا أكون " ، يقول متحدِّثاً عن تجربتِهِ : " لقد بدأتُ حياتي الأدبيَّة بكتابةِ القصة القصيرة عام 1945م ، و نشرتُ أقاصيص في صحفٍ و مجلاتٍ سورية و لبنان و لكنَّني لم أجمعها ، و بعضها ضاع " .
إنَّ مسيرَته الخاصة معروفة فهو ينتمي إلى وسط فقير ، توقَّفَ عن الدراسة في نهاية الحلقة الابتدائية و التحقَ بمهن مختلفة قبل أن يتمَّ الاعتراف بموهبتهِ الأدبية و يبدأ العمل في المجال الثقافي و في الحوارات العديدة التي أجريتْ معَهُ .
ب- ملخَّص الرواية :
إنَّ حنا مينة من الكتَّاب الذينَ يُعدُّونَ في إطار المدرسة الواقعيَّة ، و قد برزَ في الرواية السورية منذ روايته الأولى " المصابيح الزرق " عام 1945 م .
"الثلج يأتي من النافذة" رواية بطل يهرب في البداية عن مواجهة الاستبداد و لكن في المراحل المختلفة ، تعلَّمَ مبادئ النضال و اجتازَ مراحل الوعي ، و يطوَّر شخصيته من مستوى الشخص العادي إلى مستوى البطل الثوري و المناضل .
و حنا مينة يقدِّم رؤية للعالم تختلف عن الأمثلة التي رأيناها من قبل و حتى الآن ، تتَّخذ هذه الرواية من البيئات الشعبية المسحوقة إطاراً مكانيَّاً لأحداثِها و شخوصها ، فتبرز بذلك رؤيتها غير التقليديَّة للإنسان العادي حيث نراه يعي مستقبله و يسهم في الثورة على الواقع .
هذه الرواية ترصد أحداث عامين من عمر شاب مناضل التجأَ إلى خارج حدود بلده ، و إنَّهَ لأمرٍ جديد و طيِّب أن تعالجَ رواية عربية مثل هذه الهموم لدى مناضل عصامي هو إلى ذلك مثقَّفٌ مرهف الحس .
يتسلَّلُ فيَّاض من الحدود السورية اللبنانية سيراً على الأقدام بعد أن أخذت السلطات الرجعيَّة الحاكمة في سورية ذلك العهد تطارد التقدميين ، لقد لوحقَ في دمشق بوصفِهِ كاتباً يساريَّاً معارضاً فاضطرَّ إلى الانقطاع عن مدرستِهِ – و هو المعلّم – متوارياً عن الأنظار فترة إلى أنْ نصحَهُ رفاق لهُ مغادرة البلاد و مواصلة المعركة من الخارج ، فالتجأ إلى لبنان .
و في بيروت يقيم بينَ أفراد أسرة رفيقه اللبناني خليل غزالة فترةً ، و يشغل بعدها عاملاً في مطعم الجبل متنكِّراً باسم " ميشيل " ، بيد أنَّهُ ما يلبث حتى يترك العمل عائداً إلى بيت رفيق النضال " خليل " ، ثمَّ يُراد لهُ تحت الخوف من اكتشاف مقرَّهُ ، أن ينتقل إلى بيت رفيق آخر ليسَ لهُ بهِ معرفة سابقة ، هو " جوزيف بو عبده " ، و هنا ينعم فياض بمستوى لين من العيشة يهيئ لهُ فرص المطالعة و الكتابة ، و لكن مضيفهُ يخسر في يوم قريب عمله فيرحل عنهُ ليعثرَ على عملٍ في بناء يشيَّدُ ، متخفياً تحت اسم " سليمان " ، ثمَّ يعود إلى " جوزيف " و هناك يوافيه أحد الرفاق ليصحبه إلى حيث لا نعلم ، فإنَّهُ يجب أن يغادر هذه المنطقة .
هذا بإيجاز بالغ ، ما وقعَ لفيَّاض خلال الأشهر الأولى من التجائهِ إلى خارج البلاد .
أمَّا القسم الخامس و الأخير من الرواية فيحدّثنا عما وقعَ لمناضلنا الشاب في مراحل أخرى من حياتهِ و هو في منفاه الاختياري ، و نعرفُ أنَّ فيَّاض قد أُلقِيَ القبض عليه بعد عام ، ثمَّ نعرِفُ أنَّهُ قد أُطْلِقَ سراحهُ بعد أن أمضى في السجن نحو أشهر ستة .
ثمَّ يقرر بعد هذا الاغتراب الطويل العودة إلى وطنهِ ، و يجتاز الحدود الفاصلة ، الموضع ذاته الذي تسلَّلَ منهُ قبلَ عامين ، ...........يُقبِّل تراب الوطن ........ ، و يستقبل دمشق هاتفاً و كأنَّهُ يؤدِّي قَسماً : " أبداً لن أهرب بعدَ الآن " .
ج- الواقعيَّة عند حنا مينة :
إنَّ حنا مينة يُصنَّفُ في إطار التقليد الواقعي في الأدب السوري و يعتقد بإمكان الواقعية أن تتضمَّنُ التيارات المعروفة مثل الرومانسية و الرمزية ، و هذا الرأي يفسِّرُ و يبرِّرُ استخدام الرمز أو تقنيَّات عصرية في رواياته .
إنَّ رواية " الثلج يأتي من النافذة " صوَّرت حركة المجتمع و تطوره بالرؤية الواقعية الاشتراكية ، و لا شك أنَّ هذه الرؤية تفرض على حنا مينة الغوص في جذور المشكلات و الكشف عن أسباب الفوضى و القهر و الارتباك التي تسود المجتمع ، كما تفتح أمامه مجال رسم طريق الخلاص حسب رؤيته ، و لئن كانَ حنا مينة على حدِّ قوله كاتب الفرح و الكفاح الإنسانيين ؛ لأنَّهُ يعرف كيفَ يُصغي إلى دبيب الحياة في قلب الجماد ، فإنَّهُ كذلك الروائي الذي يعرف كيف يوظِّف الجماد في خدمةِ الحياة ، حياة أبطاله ، و هذا أحد أسرار تقنيات الرواية الحديثة .
و أهم الموضوعات التي تتحدَّثُ عنها الروايات الواقعية هي الأحداث السياسية الكبرى و انعكاسها ، و تؤكد الواقعية على الانطلاق من إيديولوجيَّة محدَّدة للحياة و للإنسان و مفهوم للفن ، و ذلك يجعل رؤية الفنان أكثر عمقاً و شمولية و تماسكاً .
و المهم من هذا كله ، أنَّ حنا مينة يفيض علينا بصورِ الواقع و الصراع الاجتماعي و الشخصيات الإنسانية المختلفة عاماً بعَدَ عامٍ .
د- السمات الواقعية للرواية :
إنَّ إقناع القارئ يشكل أحد شروط الكتابة الواقعيَّة ، و على النص أن يتوصَّل إلى إقناعه بأنَّ العالمَ الذي يقدِّمَهُ يمكن أن يكون لهُ وجود في الواقع ، و أنَّهُ يتطابق مع الواقع المعاش ، و في سبيل هذا الهدف على الكاتب تبرير العرض لأقصى درجة و جعل عناصر القصَّة يتظافر بعضها مع بعض .
و من السمات البارزة في الرواية :
1- النموذجيَّة :
إنَّ أشخاص الرواية هم نماذج بالتأكيد ، و لكنَّهم مميَّزون أيضاً بأفكارهم و أنشطتهم ، دون اهتمام بصفاتهم الجسدية .
إنَّ لهم ماضياً و تاريخاً و لا ينبثقون من العدم ليختفوا من حيث أتوا ، حيث يتوقفونَ عن تأدية وظيفة في البرنامج السردي ، فمواقفهم و أفعالهم و أفكارهم معلنة بواسطة الأشخاص الآخرين أو الراوي ، كما أنَّهم يملكون الحيوية ، و من النادر ألَّا يبدي أحد الأشخاص دليلاً على مشاعر نبيلة أو لا يثير تعاطف القارئ و لو جرى تقديمه بطريقة سلبية في لحظات أخرى ، و لكن الشخصيات توزَّعت ما بين النجاح و الفشل ، و ما يُلاحَظْ أنَّ الإخفاق كله كان من نصيب أولئكَ الذين أسبغَ عليهم المؤلف لبوس النضال في حينَ أصابت الشخصيات الأخرى اللا منتمية و الساذجة و الطيِّبة معاً حظاً أوفى من النجاح ، و إنَّ خطأً ما في تكوين الشخص الروائي يجعل منه نموذجاً غير مقنع شبحاً يروح و يغدو أمامَ القارئ على غير مقتضى العقل و منطق الأشياء .
2- الارتباط بتجارب الحياة :
إنَّ المحيط الذي يتطور فيه الأفراد شديد الارتباط بتجربة من تجارب الحياة و هؤلاء الأشخاص يمكن تمييزهم و تعريفهم بدرجة رئيسة من خلال أنشطة يوميَّة : الأكل ، الفسحة المسائية ، و الحديث مع المعارف ، و المشاركة في عرس ، و العمل ، و هذه الرواية من الروايات التي تُعنى بطبائع أبطالها و بالمناخ الاجتماعي و الروحي الذي ينتمون إليه ، و إنَّ أبطال روايتنا هذه : المناضل ، و العاشق ، و الطامع ، و المخذول ، و البرجوازي و الرأسمالي و البغى العاهرة .
3- الصراع و سمو البطل إلى مرحلة المناضل الثوري :
إنَّ الروايات الملتزمة بالرؤية الاشتراكية تنطلق من إيديولوجيَّة تحدد مفهوماً معيَّناً للإنسان و تصوراً خاصاً للعلاقات الداخلية التي يتفاعل معها عبرَ صراعه مع القوى التي تحاول أن تقيّد تطوره و تقدمه .
إنَّ رواية " الثلج يأتي من النافذة " عبارة عن همزة وصل بين المناضل و نضاله ، فهي بعبارة أخرى تصف كيف يسمو البطل من مرتبةِ الإنسان العادي إلى مرتبة المناضل الثوري عن طريق التجربة الشخصية و الصراع مع النفس و الخارج ، و نستطيع إذ ذاك أن نميِّزَ عدَّة مراحل في درب فيَّاض الثوري :
أ- مرحلة التعلم في المغارة على ضوء الشموس : هنا حيث لا نوافذ و لا أبواب تعلَّمَ خليل النضال .
أمَّا فيَّاض فإنَّهُ كان يافعاً و لم يستطع في هذه المرحلة سوى أن يتلقَّن المبادئ الثورية الأولى ، و هذه المرحلة إضافةً إلى العمل النضالي و السجن في الوطن ، ثمَّ قرار الهرب إلى لبنان ، تقع على خط الزمن قبل بدء الرواية .
ب- مرحلة التردد و التخفِّي في بيت أبو خليل : يبدو البطل في البدء رافضاً ، إنَّ هرب فيَّاض من بلدِهِ و لجوئهِ إلى لبنان يعنيان أنَّ روح النضال لم تنضج عنده بعد ، يقول له أبو خليل : "" كان عليك ألَّا تفعل هذا ، كان عليك أن تصمدَ أكثر "" ، و يذوق فياض مرارة السجن و الغربة ، مرارة الإغراء و الدِّعة .
تلعب النافذة الدور الأساسي في هذه المرحلة ، فهي تكاد تُنسي البطل سجنه و غربته و تغريه بالعودة إلى حياة ما قبل التجربة ، حياة المثقَّف البرجوازي ( زواج ، أولاد ، هموم عائلية بسيطة ، مغامرات ، .......... ) ، و يضطر عندئذٍ أن يقارن بين خليل و جوزيف فيختار أن يعيش كخليل ، مناضلاً ثوراً يكدح و يعمل .
تُعدُّ هذه المرحلة حلقة رئيسة يتقرَّر فيها مصير البطل ، إنَّها مرحلة تحول فياض من هارب متردد إلى عامل مناضل .
ج- مرحلة العمل اليدوي الشاق : إنَّ العمل قيمة إنسانيَّة و تجربة ضرورية للاندماج في الواقع ، لذلك يصمم فياض على العمل بيديه ليثبت إنسانيته و يدفع عنها الفساد و إذا كان هربه إلى بيت خليل تعبيراً عن أزمةِ انتمائهِ كمثقَّف برجوازي صغير إلى الثورة ، فإنَّ تصميمه على العمل يعدُّ بمنزلةِ انتصار على ما تبقَّى في نفسِهِ من آثار الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها .و ينخرط في عداد العمال البائسين الذينَ تمصُّ البرجوازية دماءهم ، يركز حنا مينة على الصراع الطبقي و البحث عن عالم جديد ، فإنَّهُ يرى أنَّ الإرادة الإنسانيَّة هي الفصل في تحقيق الآمال و حل الكثير من المشاكل .
د- مرحلة النضال الفعلي : و تعدُّ هذه المرحلة ذروة تجربة المناضل فياض ، يعمل في كتابةِ منشورات ثورية و طبعها ، فهو قد تعدَّى مرحلة العمل الفردي (المعانة الشخصية) إلى نشر المبادئ الثورية ( الكفاح السرِّي و العمل القيادي ) ، فالعمل إلى جانب الثقافة (فياض) و الثقافة إلى جانب العمل (خليل) ، هما طريق صنع المناضلين الثوريين ، و هما طريق الخلاص من الحيرة و التردّد ، بل الخلاص من الغربة ، لذلك يشعر فيَّاض الآن بأنَّ البرد ليس من الثلج و إنَّما " البرد كانَ من الغربة و التجربة ، و الآن وداعاً للغربة " .
فمن القضايا الهامة التي بحثها النقد الواقعي العربي هي ظاهرة الحداثة الشعرية العربية ، نرى أنَّ الحداثة التي برزت في روايات حنا مينة بشكل عام ، و رواية ( الثلج يأتي من النافذة ) بشكل خاص ، هي نتاج اجتماعي طبقي سببهُ صعود البرجوازية العربية الصغيرة ، و لا يتعلق ذلك بالمضمون بل يتناول الشكل الجديد أيضاً ، و يفسر أيضاً أنَّ الشكل محافظٌ و المضمون ثوري ، و أنَّ المضمون الثوري الجديد يتطلّب بالضرورة شكلاً جديداً .
و نذهب في تفسير الرواية إلى أنَّها اتصفت بعدةِ سمات رأيناها عند خليل و فياض و الشخصيات الأخرى ، و الأكثر تجسيداً ظهرت في تصوير النافذة الذي صورها الأديب ( حنا مينة ) :
" إنَّ النافذة تواكب البطل الفيَّاض طيلة إقامته في لبنان ، أي فعلياً من بداية الرواية إلى آخرها ، و هي من العناصر الأساسية التي تكوِّن التجربة النضالية التي عاشها ، ففي بادئ الأمر كانت النافذة كوَّةٌ في جدار تطلُّ على الخارج عندما كان فيَّاض يقع فريسة صراعه الداخلي و عندما كانت تستغرقه أفكاره ، فليس للنافذة في هذا المعنى أيةَ وظيفة روائية ، فوظيفتها هنا عملية لا تتعدَّى السماح للبطل بإطالة لا مبالية نحو الخارج ، ثمَّ تتطور النافذة عنده فيصبح هناك نافذة أخرى مقابلة لنافذته ، يطلُّ منها رأس صغير جميل يرنو إلى فياض بعينين برَّاقين ، فتصبح النافذة عنده هي المنفذ الوحيد للخروج من سجنِهِ ، فهو لا يستطيع مغادرة غرفته نهاراً حتى لو كان ذلك للذهاب إلى المرحاض ، فبسبب هذا الرأس الصغير ترتعش أوصاله ، و تصيح غرائزه و يحسُّ أنَّهُ يسكن الغرفة للمرَّة الأولى ، ففي النافذة المقابلة رأى وجهاً و ابتسامة و دعوة إلى الحبِّ " و هذا كله يكشف عن حب فيَّاض الأفلاطوني لفتاة النافذة المقابلة و اسمها دينيز " .
يتبيَّن لنا مما تقدَّمَ أنَّ النافذة عنصر من عناصر المجابهة بين المناضل و العالم الموضوعي الخارجي ، أي بين الذات و الموضوع ، فحيث توجد النافذة يوجد الإغراء بالتخلِّي عن سبيل النضال ، فهي إذن مرحلة من مراحل تكوين الذات و الوسيلة التي يحدِّد البطل بواسطتها شخصيته النضالية .
و السؤال الذي يتبادر إلى أذهاننا الآن هو : هل تحافظ النافذة في هذه المرحلة النهائية على وظائفها التي رأيناها ؟؟؟
في الحقيقة لا يتغيَّر عمل النافذة ، المعاني المكافح الذي يعيش تجربة الثورة المعذِّبة ، و التغير الأساسي و الوحيد الذي يطرأ على وظيفة النافذة هو أنَّها لم تعد إغراءً بالتخلِّي عن طريق الكفاح و النضال على العكس من ذلك إنَّها تصرف فيَّاضاً عن اجترار ذكريات الماضي و تدفعه إلى الأمل في مستقبلٍ أفضل يملؤُهُ دفء الحياة و نار المحبَّةِ .
بقلم : بدر فواز رشواني