الأخبار
نتنياهو: هدفنا القضاء على حماس والتأكد أن غزة لن تشكل خطراً على إسرائيلالصفدي: نتنياهو يحاول صرف الأنظار عن غزة بتصعيد الأوضاع مع إيرانمؤسسة أممية: إسرائيل تواصل فرض قيود غير قانونية على دخول المساعدات الإنسانية لغزةوزير الخارجية السعودي: هناك كيل بمكياليين بمأساة غزةتعرف على أفضل خدمات موقع حلم العربغالانت: إسرائيل ليس أمامها خيار سوى الرد على الهجوم الإيراني غير المسبوقلماذا أخرت إسرائيل إجراءات العملية العسكرية في رفح؟شاهد: الاحتلال يمنع عودة النازحين إلى شمال غزة ويطلق النار على الآلاف بشارع الرشيدجيش الاحتلال يستدعي لواءين احتياطيين للقتال في غزةالكشف عن تفاصيل رد حماس على المقترح الأخير بشأن وقف إطلاق النار وتبادل الأسرىإيران: إذا واصلت إسرائيل عملياتها فستتلقى ردّاً أقوى بعشرات المرّاتإعلام الاحتلال: نتنياهو أرجأ موعداً كان محدداً لاجتياح رفحإصابة مطار عسكري إسرائيلي بالهجوم الصاروخي الإيرانيالجيش الإسرائيلي: صفارات الانذار دوت 720 مرة جراء الهجوم الإيرانيالحرس الثوري الإيراني يحذر الولايات المتحدة
2024/4/16
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

إشكاليّة المصطلح الإجرائيّ في رواية "أخناتون ونيفرتيتي الكنعانية"

تاريخ النشر : 2020-08-12
إشكاليّة المصطلح الإجرائيّ في رواية "أخناتون ونيفرتيتي الكنعانية"
إشكاليّة المصطلح الإجرائيّ
في رواية "أخناتون ونيفرتيتي الكنعانية" لصبحي فحماوي

أ.د. محمد صابر عبيد- جامعة الموصل

ينقسم الراوي في نظريات السرد المعروفة والمتداولة في مدوّنات السرديين الكبار على قسمين رئيسين هما "الراوي الذاتيّ" و"الراوي كليّ العلم"، وثمّة من يضيف أنواعاً أخرى مثل "الراوي المشارِك" أو "الراوي الشاهد" الذي يقوم بدور المُخرِج الذي ينقل الأحداث كما يراها أو يسمعها، ويمكن أن نضيف هنا نوعاً آخر نقترحه هنا هو "الراوي الذاتي كليّ العلم" الذي يجمع بين الرواية الذاتيّة بوصفه الشاهد، والرواية الموضوعيّة بوصفه العارف الكليّ بالأحداث ضمن مرحلة التخطيط الابتدائيّ للكتابة، حيث يكون قريب قرباً شديداً من المؤلّف الحقيقيّ ويمكن أن يتماس معه ولا يكونه على نحوٍ قطعيّ مؤكّد.

ففي رواية "أخناتون ونفرتيتي الكنعانية"[1] للروائيّ صبحي فحماوي يتقدّم هذا النوع من الراوي الذي يجمع بين أنواع الرواة السرديين الثلاثة، ليهيمن على مُقدّرات السرد منذ بداية الحكاية ويسلّط كاميرا ذات طبقة مُعلَنة، وأخرى خفيّة، يرصد بها ما يرى ويشاهد ويسمع في معادلة سرديّة تتحرّك على بساط الرواية بنسق أفقيّ واحد تقريباً، يتحرّى فيه الراوي نقل الأحداث إلى مرويّ لهم يجلسون داخل مسرح التلقّي في أعلى درجات الإصغاء.

وهذا النوع من الراوي هو أقرب إلى المؤلّف الحقيقيّ من أنواع الرواة الآخرين لأنّه يفيد من المعلومات التاريخيّة التي زوّده بها، وعلى أساسها بدأ يروي الأحداث على وفق ما يرى ويشاهد ويسمع انطلاقاً من عتبة هذه المعلومات، وهو يسهم في توجيهها وسردنتها كي تخضع لمنطق التخييل السرديّ من دون أن تتخلّى عن متخيّلها التاريخيّ، فثّمة تنازع واضح في سرد أحداث الرواية بين المرجع والمتخيّل.

يمكن وصف الراوي الذاتيّ كليّ العلم هنا على أنّه راصد يقف على منصّة المحكي لينقل مرئياته ومسموعاته التي توفّرها له كاميرا الرصد السرديّ، وهو لا يتدخّل فيما يرويه إذ يعتقد أنّ المروي ينبغي أن يتوفّر على أعلى درجات الأمانة التاريخيّة داخل الفضاء العام للحدث، وبما أنّ قصة الحبّ الشهيرة تاريخياً بين أخناتون ونفرتيتي الكنعانية هي بؤرة الحدث السرديّ، وتتشظّى منها شبكة من الحكايات والمرويات والأحداث ذات المرجعيّة التاريخيّة، وتلعب بها تصوّرات الراوي التخييليّة على نحوٍ لا يؤثّر في المدوّنة التاريخيّة للأحداث العسكريّة على وجه الخصوص، بما يسمح للراوي التحكّم بقصّة الحب وفتحها على آفاق سرديّة تخدم الواقعة التاريخيّة وتمنحها طاقة إنسانيّة أعلى وأعمق. 

عتبة الاستهلال: الحيلة السرديّة

تعدّ عتبة الاستهلال من أهم عتبات التشكيل النصيّ وأخطرها فهي التي يستثمرها الروائيّ الحاذق لأجل أن يصرّح بمقولته أو أطروحته السرديّة المركزيّة في العمل، فهي عتبة مهارة وخبرة ينبغي ضبطها ومعرفة حدودها وقوّة تأثيرها فيما يأتي من المتن النصيّ، بمعنى أنّها "ضرب من ضروب الصنعة التي يقدّمها أمراء البيان ونقّاد الشعر وجهابذة الألفاظ بأن يبدأ المتكلّم بمعنى ما يريد تكميله وإن وقع في أثناء الكلام"[2]، فالتركيز يكون على المعنى المُرادُ بثّه فيما يأتي من الكلام القادم داخل طبقات المتن النصيّ، إذ "إنّ حسن الافتتاح داعية الانشراح ومطيّة النجاح، وتزداد براعة المطلع حسناً إذا دلّت على المقصود بإشارة لطيفة، وتسمّى براعة الاستهلال إذا أتى الناظم أو الناثر في ابتداء كلامه بما يدلّ على مقصوده منه بالإشارة لا بالتصريح"[3]، بحيث يكون مدخلاً مناسباً وحيوياً وضرورياً للدخول إلى جوهر الأطروحة التي يشتغل عليها الكتاب ويسعى إلى تكريسها في متنه.

تعبّر عتبة الاستهلال في الرواية على نحو خاصّ عن رؤية متكاملة مشحونة بإيحاءات مكتنزة تحكي المسار العام للرواية، وتعمل على إغراء المتلقّي وإغوائه في متابعة القراءة والاستمرار بها لما تنطوي عليه من فعاليّة إثارة تدفعه باتجاه البحث عن المزيد، وكلّما كانت هذه العتبة ملتهبة وكثيفة وخصبة انعكس هذا على اهتمام المتلقين وشجّعهم على مواصلة القراءة في الطبقات الأخرى من الرواية، وعتبة الاستهلال في هذه الرواية "أخناتون ونيفرتيتي الكنعانية" هي عتبة ظاهرة وبارزة حتى على صعيد التشكيل الكتابيّ.

يضع الروائيّ لها عنوناً رئيساً نابعاً من جوهر الحدث السرديّ يتقدّم مشاهد المتن الروائيّ هو "منظار الزمن"، بحيث يتضمّن الاستهلال شرح تفصيليّ تخييليّ لهذا العنوان الاستهلاليّ يقوم به الراوي على نحوٍ تفصيليّ، يبدأ من اللحظة التي أدرك فيها صوغ هذه الحيلة السرديّة للدخول إلى صُلب الحدث السرديّ، إذ تشتبك عتبة الاستهلال بعتبة الحيلة السرديّة في سياق استعارة منجزات العلم الحديث للوصول إلى اختراع باهر بهذا الاسم "منظار الزمن"، يتيح للراوي استرجاع الزمن في منطقة تاريخية منتخَبَة تسمح له أن يرى حقبة تاريخيّة معيّنة ويروي أحداث روايته منها:

"لا أعرف السبب الذي دعا إدارة "منظار الزمن" الصينية لإعطائي أنا وليس أحداً غيري فرصة الاطلاع على هذا المنظار الزمني، الذي يجعلك تستطيع مشاهدة أيّ زمن ماضٍ تريد استرجاعه، وذلك ببرمجة علمية لا يعرف تفاصيلها غير مخترعيه، بحيث تستطيع الآن مشاهدة أحداث ما، كانت قد تمت في التاريخ القديم، فانتقلت صورها بسرعة الضوء إلى الفضاء الخارجي، في أوقات، وإلى أماكن محددة، وبناء على طلبك، يحسبها المنظار رقمياً، ويعرضها لك."

فالراوي يزعم لأجل تمرير الخدعة السرديّة أنّ العالم الصينيّ اختاره بصفته روائياً معلوماتياً عربياً، كي يتصرّف بهذا الجهاز لتصوير رواية عن ذلك الزمن القديم، ولعلّ صفة "روائيّ معلوماتيّ" تجعل من فضاء المرجعيّات التاريخيّة والعلميّة من أولويّات العمل على الرواية لديه، والعبارة تشير إلى الروائيّ وليس إلى الراوي، بمعنى أنّ المؤلّف الحقيقيّ "صبحي فحماوي" هو من يتميّز بهذه الصفة الروائيّة المعلوماتيّة ويتطابق أو يندمج مع الراوي الذاتيّ، بحيث يصبح هذا الراوي الذاتيّ كليّ العلم ويستند في كلّيته العلمية من طبيعته السرديّة المعلوماتيّة التي تنهض على مرجعيّة علميّة وتاريخيّة معلوماتيّة:

"قال لي العالِم الصيني المسؤول؛ أنني بصفتي روائياً معلوماتياً عربياً، أستطيع بهذا المنظار أن أشاهد ما أريد من أحداث الماضي، وكأنها تتم أمامي الآن، فأكتب رواية معلوماتية، تسرد ما أبحث عنه من أحداث الزمن السّحيق، ممّا كان يشغل فكري، فتدهش القراء متابعته.. قال إنني أستطيع استعادته الآن برمشة عين."

وثمّة اعتراف هنا بأنّ هذه الرواية المكتوبة بفعل ما رآه الروائيّ/الراوي من أحداث هي "رواية معلوماتية"، لها هدف محدّد هو "أن أشاهد ما أريد من أحداث الماضي"، بالمعنى الذي يؤكّد ويقرّر وجود نيّة مسبقة للحصول على معلومات تاريخيّة دقيقة عن مرحلة معيّنة من التاريخ القديم، تصلح بحسب رؤية الروائيّ المعلوماتيّ لأن تتحوّل إلى "رواية معلوماتيّة" تحكي قصة منتخَبَة من هذا التاريخ.

تبدأ خطوط الحيلة السرديّة داخل عتبة الاستهلال بالظهور في إيهام المتلقّي بصحّة هذه الرواية عن " منظار الزمن"، لكي يتحقّق الميثاق السرديّ بين المؤلّف والقارئ على نحوٍ يسهّل مرور المحكي من عتبة الاستهلال نحو طبقات المتن النصيّ، ويبدأ صوت الراوي بالبروز على حساب صوت المؤلّف الحقيقيّ حين يتشكّل هذا الصوت داخل بنية السرد وليس خارجها، ولاسيما بعد أن يطلب من المروي له أن يصدّقه فيما يشاهد ويرى ويسمع ويصوّر إذ يمسك بكاميرا السرد بقوة ووضوح ليرصد وينقل:

"نعم.. صدقني، صرت أشاهد الحياة القديمة التي طلبت– صوتاً وصورة- في وادي النيل الأخضر، وفي بلاد كنعان الجميلة، وهي تمر أمامي، وكأنني أقف فيها الآن. أنت بهذا تشاهد مناظر مذهلة.. مشاعر ساحرة تنتابك، وأنت تعيش الأحداث بالألوان بكل جوارحك، وذلك بتقنيات اتصالات لم أفهم كيف تتم، ولم أتخيلها في سابع خيال."

وهو يختار الزمن المطلوب ويحدّده بدقّة بناءً على أطروحة الرواية الأساسيّة التي انتخبها المؤلّف كي يروي حكايته السردية من بؤرتها:

"طلبتُ منه أن نعود إلى عصر الإمبراطور أمنحتب الثالث، وزوجته الملكة تيي، وابنه أخناتون عاشق الجميلة نيفرتيتي، وذلك للتعرف على قصة حبهما، ولمشاهدة معركة مجدو الشهيرة، والتعرف على مسبباتها وبداياتها، ونهاياتها.."

وهذا التحديد الزمنيّ التاريخيّ يتيح للراوي اللعب السرديّ داخل هذا المضمار ومن وحيه واستناداً إلى معطياته، وهنا تنفصل العلاقة بين الراوي الذاتيّ والمؤلّف الحقيقيّ "الروائيّ"، ويستعير الراوي الذاتيّ من المؤلّف الحقيقيّ ما لديه من قدرة معلوماتيّة حول موضوع الحكاية كي يمرّرها إلى مجتمع القراءة بوساطة هذه الحيلة السرديّة، فموقع الراوي ثابت وراء المنظار بعد أن تيقّن من أنّ الزمن المطلوب استعادته قد أصبح تحت سلطته، واستعيدت الساحة السرديّة الحكائية التي طلبها كي يؤلّف حكايته الروائيّة على أساسها:

"البث المباشر من المنظار للحياة الحيّة الموسّعة أمامي، يُلوِّع قلبي على تاريخنا الفرعوني الكنعاني الحضاري الجميل، وهو يُنَقِّلني بين المناطق المنْوي مراقبتها، حيث توجهه عقول آلية، لا يتدخل فيها بشر. هكذا أفهمنى منظار الزمن، الذي لم أتوقع بأي حال من الأحوال أن أنتقل برمشة عين إلى ذلك العصر الكنعاني الفرعوني المجيد، وهو يمر أمامي الآن مر السحاب.. وذلك حسب التاريخ المدون هنا على الزاوية السفلى اليمنى لشاشة هذا المرقاب 1350 ق. م."

تبدأ فعاليّة السرد من نقطة عين الراوي الراصد بوصفها شاشة عرش شاسعة تنقل لمجتمع التلقّي والقراءة ما تراه على نحوٍ كليّ وشامل، وحين إنّ المكان هو العنصر السرديّ الأوّل والأبرز فقد استدعاه الراوي كي يؤثّثه بعناصر المحكي على النحو المطلوب:

"وبمزيد من التركيز.. وصلنا إلى مدينة طِيبة العظيمة، حيث قصر الفرعون "أمنحتب الثالث" المكون من عدة طبقات هرمية، تطلّ من طوابقه شرفات تجعل الفرعون وجماعته يركبون على النيل، ويدوسون فوقه بأقدامهم وهم في عليّين، ليشاهدوا ما يحيط به من خضرة يانعة، وحدائق غناء.. شرفات تطلُّ بشكل متدرج على بحيرة  يدفعُ نهر النيل بأمواجها السطحية، لتفيض باتجاهه.. وبلقطة أُخرى بعيدة، ومفاجئة، أجدني أشاهد تلة مرتفعة قليلاً عن البحر الكنعاني العظيم، يقول لي منظار الزمن أنها مملكة مجدو.. أراها ناهضة ببيوتها الحجرية القديمة، وسط سهول واسعة من الأعشاب الخضراء، والنباتات السطحية، والشجيرات، وغابات الأشجار التي لا أعرف أسماءها."

تشتغل آلة الوصف هنا لتمنح المكان حساسيّة سرديّة قابلة لاستقبال جوهر الحكاية على النحو الذي يخطّط الراوي لسردها، وهذه الرؤية الوصفية التي تنتشر على مساحة واسعة من الراوية تأخذ من المرجعيّة الواقعيّة التاريخيّ للمكان قدراً معيّناً، وتستعين بفضاء التخييل السرديّ كي تستكمل القدر الآخر منه، وهذا المزج يعتمد على حساسيّة الراوي الذاتيّ كلّي العلم في انتقاء عناصر مكانيّة تاريخيّة منتخَبَة وضخّها بما تيسّر من إضافات تخييليّة محدّدة، تسهّل مرور الحكاية نحو أرض الحدث الروائيّ:

"يا لها من بلاد خضراء..إنه عمق فلسطين الحبيبة، أرض الرباط إلى يوم الدين. أقول أرض الرباط، لأن جيوشا جرارة أشاهدها في ذلك الوقت، وربما كانت مستمرة بشكل أو بآخر، حتى هذا اليوم، تتقدم هنا وهناك، فتتجمع في سهول مدينة مجدو الوارد اسمها في كتب الكنعانيين، لتحمي أعاليها غير المرتفعة عن السهول الواسعة. والتي تعتبر أحد أهم المواقع العسكرية القريبة من البحر الكنعاني الكبير، إذ شهدت معارك فاصلة أثرت في مستقبل المنطقتين؛ الكنعانية والفرعونية معاً، وإن إحدى هذه المعارك المهمة، كانت قد حصلت على سهول هذه المدينة، وهي المعركة الشهيرة التي انتصر فيها تحتمس الثالث، فرعون مصر، بمواجهة ملك قادش، وممالك الكنعانيين السورية.. سأتجاهل تصويرها هنا، لأنّ دماءً غزيرة سُفكت فيها بين الأخوين."

الراوي الذاتيّ كليّ العلم يهيمن على حركة السرد الآن هيمنة مطلقة، ويحرّك أدوات المحكي الروائيّ بناءً على متطلبات الرؤية السرديّة التي يشتغل عليها، ويتحكّم في مساراتها بآليّة شبه قاطعة يمكن أن تؤثّر نسبياً على سيولة الحراك السرديّ في المشاهد، فهو يستحضر ما يريد من أمكنة وحوادث تاريخيّة تتعلّق بالمعارك داخل محيط المنطقتين "الكنعانية والفرعونية"، وينتقي من المشاهد ما يتلاءم مع هويّة السياق السرديّ وإشكاليته الموضوعاتيّة التي يشتغل عليها تحديداً في هذه المنطقة الزمنية، فهو غير معنيّ إلا بما يخدم الأطروحة السردية التي بنى عمله عليها ويتركّز معظمها حول "معركة مجدو" التاريخيّة، وهي تمثّل جوهر القضية التي يزمع الراوي الذاتيّ كليّ العلم سردها بهذه الحيلة السرديّة:

"وأما معركة مجدو التي يتم الاستعداد لها حالياً، فأنني أشاهد رافائيل، ملك مجدو يتزعم جيوش الحلفاء، من أمراء الممالك الكنعانية في بلاد الشام، والذين وصل عددهم حتى الآن إلى ثلاثة وعشرين جيشا، يتحركون بنشاطات مختلفة، قبل بدء المعركة.. بعضهم يسير معاً يتناقش بأحاديث، أو يروي مغامرات، والبعض ينتظم في كتائب تستعد للتحرر من ضغوطات الإمبراطورية الفرعونية، وذلك لإبعاد هيمنتها على هذه الممالك.. وها هو قائدٌ مَجدِّي من المملكة يدربهم، ويشحذ هممهم للمعركة الفاصلة، التي ستكون بينهم وبين جيش مصر الذي يتوقع أن يصل بالسفن عبر النيل."

تتسلّط كاميرا الراوي هنا على التفاصيل وهي تستعين بالمرجعية التاريخيّة الخاصّة بصدد الفضاء التاريخيّ العام للحادثة التاريخيّة، وهي تفاصيل ضروريّة لتشييد الهيكل السرديّ العام الذي لا يمكن للفضاء الروائيّ أن يكتمل من دونها، وبعد أن تستقرّ الصورة العامة التي يحتاجها الراوي للبدء بحركة السرد الروائيّ يلتفت نحو حيلته السرديّة، وقد أقامها على أساس بناء الشكل السرديّ انطلاقاً من حضور الراوي وراء المنظار ونقل ما يجري تحت سلطة الكاميرا، بآليّات فعليّة تختصر المرئيّات "أشاهد/أرى/أنظر/أسمع" وغيرها:

"كل الذي عملته أنني اختليت برأسي بعيداً عن رؤوس البشر، واضعاً إياه على باب هذا المنظار الجبار، ورحت أتفرج مستمتعاً منذهلاً، محزوناً على هذه السنوات الفرعونية الكنعانية التي بصمها اخناتون ونفرتيتي ببصمات غيّرت وجه الدنيا آنذاك.. وها أنا أنطق بصوت عال، فيكتب الهاتف الخلوي الذي يقف على إصبعي كل ما أنطق به، ليجمعه فأنشره مفصلاً في هذه الرواية.

هنا ينتهي عمل الحيلة السرديّة بانتهاء عتبة الاستهلال، لتبدأ فعاليّات رواية الأحداث بحيث يكون مجتمع التلقّي رهينة لعيني الراوي وهو ينقل بأمانة ما يتيح له المنظار أن يرى، أو ما يريد هو أن يرى، على وفق الرؤية السرديّة


 التي تشكّل من عنصري الزمان والمكان السرديين الفضاءَ الروائيَّ المطلوب تحديداً.

[1] صدرت الرواية عن دار الأهلية للطباعة والنشر في طبعتها الأولى، بيروت-عمّان، 2020.

[2] ابن أبي أصيبعة، تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر، تحقيق د. حفني محمد شرف، الجمهورية العربية المتحدة، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، لجنة إحياء التراث، القاهرة، 2010، ص 168. 

[3] السيد أحمد الهاشمي، جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، ط1، بيروت، 2008، ص 419.
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف