الأخبار
"عملية بطيئة وتدريجية".. تفاصيل اجتماع أميركي إسرائيلي بشأن اجتياح رفحالولايات المتحدة تستخدم الفيتو ضد عضوية فلسطين الكاملة بالأمم المتحدةقطر تُعيد تقييم دورها كوسيط في محادثات وقف إطلاق النار بغزة.. لهذا السببالمتطرف بن غفير يدعو لإعدام الأسرى الفلسطينيين لحل أزمة اكتظاظ السجوننتنياهو: هدفنا القضاء على حماس والتأكد أن غزة لن تشكل خطراً على إسرائيلالصفدي: نتنياهو يحاول صرف الأنظار عن غزة بتصعيد الأوضاع مع إيرانمؤسسة أممية: إسرائيل تواصل فرض قيود غير قانونية على دخول المساعدات الإنسانية لغزةوزير الخارجية السعودي: هناك كيل بمكياليين بمأساة غزةتعرف على أفضل خدمات موقع حلم العربغالانت: إسرائيل ليس أمامها خيار سوى الرد على الهجوم الإيراني غير المسبوقلماذا أخرت إسرائيل إجراءات العملية العسكرية في رفح؟شاهد: الاحتلال يمنع عودة النازحين إلى شمال غزة ويطلق النار على الآلاف بشارع الرشيدجيش الاحتلال يستدعي لواءين احتياطيين للقتال في غزةالكشف عن تفاصيل رد حماس على المقترح الأخير بشأن وقف إطلاق النار وتبادل الأسرىإيران: إذا واصلت إسرائيل عملياتها فستتلقى ردّاً أقوى بعشرات المرّات
2024/4/20
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

المناسبات بين الآيات والسور بقلم: د. سامي عطا الجيتاوي

تاريخ النشر : 2020-08-10
يوسف الصديق في دائرة الضوء - الحلقة الرابعة المناسبات بين الآيات والسور
فوائدها .. وأنواعها.. وموقف العلماء منها
قال يوسف غير الصديق تحت عنوان : إسلام الطقوس يعزز العنف - بتاريخ : 25 يناير، 2018 في حوار له .. المصحف هو عمل سياسي بشري، هو عمل اختاره عثمان بن عفان، يقول لنا التراث إنها طرق بدائية، جمع الطوال مع الطوال والقصار مع القصار، بينما يقول آخرون: لا، إن جبريل عليه السلام هو الذي رتبه.( وهو الراجح ) ، ويقول آخرون : ابن كثير يقول "كنا نقرأ سورة الفيل وسورة قريش سورة واحدة، حتى جاء عثمان فأراد أن يجعل سورة باسم قريش ففرقهما"،( رواية كاذبة مخترعة ) وهذا معقول من ناحية اللغة. لذا لابد من أن نراجع سياسة وأيديولوجية صناعة المصحف.....ونقول له كذبت أيها الجهول .. يا مسيلمة الكذاب التونسي .. واليك الدليل ...
لقد نهج القرآن الكريم منهجا فريدا في عرضه للقضايا التي عرض لها ، خالف به سائر المناهج السابقة واللاحقة ، التي اصطلحت في مناهجها أن تبنى على مقدمات ومباحث متسلسلة ، أو أبواب ، وفصول ، إلى غير ذلك من تقسيمات ، في إطار مقاصد محدودة ، ونتائج مرسومة .
فتراه يذكر طرفا من الشيء ، ثم يتركه ، ثم يعود إلى إتمامه ، بطريقة لا تسأم النفوس هديه ، ولا تستثقل حديثه ، مراعيا في تسلسل نصوصه أن يقارب بين أفرادها ، فتجد الآية متسقة في كلماتها ، متآزرة مع أخواتها من الآي ، وتلتقي السورة بالتي بعدها ، والتي قبلها ، برابط لا يجعل منها جنسا غريبا عنها ، بل تبدو فيه كعقد نظمت حباته ، ورتبت أبدع ترتيب ، فكان بذلك معجزا بنظمه ، بديعا في اتساقه ، متناسبا في آياته ، وسوره ، وأجزائه .
هذا المنهج الفريد استرعى قلة من العلماء والمفسرين – قديما وحديثا – ، فانكبوا على دراسته ، وأفردوا له علما مستقلا ، يدرس خصائصه ، ويحدد معالمه ، أطلقوا عليه اسم : ( علم المناسبة ) . فما المناسبة ..؟وما أنواعها ..؟ وما فوائدها ..؟ وما موقف العلماء منها ..؟ وما المصنفات التي تكلمت عنها .. ؟ ومن اهتم بذكرها من المفسرين .
المناسبات : معناها ، أنواعها ، وموقف العلماء منها
المناسبة لغة : قال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة : ( النون ، والسين ، والباء ، كلمة واحدة ، قياسها اتصال شيئ بشيئ ، منه النسب ، سمي لاتصاله ، وللاتصال به تقول : نسبت أنسب . وهو نسيب فلان. والنسيب : الطريق المستقيم ، لاتصال بعضه من بعض .) ( )
وقال في لسان العرب : ( وتقول : ليس بينهما مناسبة ، أي : مشاكلة )( )
والمشاكلة بمعنى : المماثلة . ثقول : هذا شكل هذا ، أي : مثله .
فالمناسبة لغة تعني : الإتصال ، والمقاربة ، والمماثلة .
وقال في القاموس المحيط :المناسبة تعني المقارنة والمشاكلة ، الِّنسبة ،

والنُّسبة ، النسب ، القرابة وفلان يناسب فلانا فهو نسيبه أو قريبه . ( )
والمناسبة في اصطلاح المفسرين : ( هو علم تعرف منه علل ترتيب أجزائه ، وهو سر البلاغة لأدائه ...) ( )
وعرفه ابن العربي بقوله : ( ارتباط آي القرآن بعضها ببعضتكون كالكلمة الواحدة ، متسقة المعاني ، منتظمة المباني .. )( )
وقال الدكتور مصطفى مسلم : ( هي الرابطة بين شيئين بأي وجه من الوجوه ، وفي كتاب الله تعني : ارتباط السورة بما قبلها وما بعدها ، وفي الآيات تعني وجه الارتباط في كل آية بما قبلها وما بعدها ..) ( ). ومن خلال هذه التعريفات يمكن القول بأن علم المناسبات علم يعنى بالبحث في أسرار ترابط الآيات وأجزائها ، وترابط السور ببعضها ، انطلاقا من مقاصدها وأغراضها ، للوصول إلى إتساق معانيها ، وانتظام مبانيها .
ويبدو توافق المعنى اللغوي للمعنى الاصطلاحي للمناسبة ، فكلاهما يعني : أن الآية وجارتها شقيقتان ، يربط بينهما رباط من نوع ما ، كما يربط النسب بين المتناسبين ، غير أن ذلك لا يعني أن تكون الآيتان أو الآيات متماثلة كل التماثل ، بل ربما يكون بينها تضاد ، أو تباعد في المعنى ، المهم أن هناك صلة ، أو رابط ما يربط بين الآيتين ، أو يقارب بينهما ،سواء توصل إليها العلماء أم لا ، فقد تظهر أحيانا ، وتختفي أحيانا أخرى ، وفي هذا مجال لتسابق الأفهام .
فوائد معرفتها : إذا كان لمعرفة سبب النزول أثر في فهم المعنى ، وتفسير الآية ، فمعرفة المناسبة بين الآيات تساعد كذلك على حسن التأويل ، ودقة الفهم ، وإدراك اتساق المعاني بين الآيات ، وترابط أفكارها ، وتلاؤم ألفاظها فالقرآن الكريم فيه كثير من فنون العقائد ، والأحكام ، والأخلاق ، والوعظ ، والقصص ، وغيرها من مقاصد القرآن التي جعلها الله سبحانه هداية للبشر ، والتي تدور جميعها على الدعوة إلى الله ، والقرآن يبث هذا المعنى من خلال المقاصد ، والأغراض الموزعة على كافة الآيات والسور ، فلو جمع كل نوع على حدة ، لفقد القرآن بذلك أعظم مزايا هدايته المقصودة
قال محمد رشيد رضا : ( وقد خطر لى وجه ، وهو الذي يطرد في أسلوب القرآن الخاص ، في مزج مقاصد القرآن بعضها ببعض ، من عقائد ، وحكم ، ومواعظ ، وأحكام تعبدية ومدنية ، وغيرها ، وهو نفي السآمة عن القارئ والسامع من طول النوع الواحد منها ، وتجديد نشاطها ومنهجها .)( )
فمن عادة القرآن أن يجمع بين الفنون المختلفة في سورة واحدة ، في تنسيق بديع ، يصل بها إلى الذروة في الإعجاز البلاغي، والإحكام البياني وروعة الأسلوب ، ( كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير )( سورة هود : آية/ 1)
وقال الإمام الزركشي : ( واعلم أن المناسبة علم شريف ، تحرز بها العقول ، ويعرف به قدر القائل فيما يقول ... ثم يقول : وفائدته : جعل أجزاء الكلام بعضها آخذ بأعناق بعض ، فيقوى بذلك الارتباط ، ويصير التأليف حاله حال البناء المحكم المتلائم الأجزاء .)( ) وقال الشيخ أبو بكر النيسابوري : ( إن إعجاز القرآن البلاغي لم يرجع إلا إلى هذه المناسبات الخفية ، والقوية بين آياته وسوره ،حتى كأن القرآن كله كالكلمة الواحدة ، ترتيبا وتماسكا )( )
ويقول الزمخشري في كشافه : ( وهذا الإحتجاج ، وأساليبه العجيبة التي ورد عليها ، مناد على نفسه بلسان ذلق ، أنه ليس من كلام البشر ، لمن عرف ، وأنصف من نفسه .
وقال في موضع آخر : فانظر إلى بلاغة هذا الكلام ، وحسن نظمه ، ومكانة أضماده ، ورصافة تفسيره ، وأخذ بعضه بحجز بعض ، كأنما أفرغ إفراغا واحدا ، ولأمر ما أعجز القوى ، وأخرس الشقاشق .)( )
وقال فخر الدين الرازي : ( علم المناسبات علم عظيم ، أودعت فيه أكثر لطائف القرآن وروائعه ، وهو أمر معقول إذا عرض على العقول تلقته بالقبول .. وقال في ختام تفسيره لسورة البقرة : ( ومن تأمل في لطائف نظم هذه السورة ، وفي بدائع ترتيبها ، علم أن القرآن كما أنه معجز بحسب ألفاظه وشرف معانيه ، فهو ايضا بسبب ترتيبه ونظم آياته ، ولعل الذين قالوا : إنه معجز بسبب اسلوبه أرادوا ذلك . )( )
وقال البقاعي في نظم الدرر : ( وبهذا العلم يرسخ الايمان في القلب ، ويتمكن في اللب ، وذلك أنه يكشف أن للإعجاز طريقين ، أحدهما : نظم كل جملة على حيالها بحسب التركيب، والثاني: نظمها مع أختها بالنظر على الترتيب ) ( )
وبين الأستاذ سيد قطب في كتابه ( التصوير الفني في القرآن ) أن جمال القرآن الكريم ليس في كونه أجزاء وتفاريق ، وإن كان للأجزاء جمال وسحر ، ولكن جماله في كونه جملة موحدة ، تقوم على قاعدة خاصة فيها التناسق العجيب ، ما لا يدركه إلا من عرف قيمته ، وعانى قراءته ومدارسته ، ووقف على صميم النسق القرآني الذي هو منيع التأثير والسحر ( ) ولهذا فإن القرآن الكريم حكى لنا من خلال قول الكفار ( وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغَوا فيه لعلكم تغلبون ) ( فصلت : 25) ما أصيبوا به من ذعر كان يضطرب في نفوسهم ، من تأثير القرآن فيهم وفي نفوس أتباعهم ، فهرعوا لتحذير قومهم عندما أحسوا في أعماقهم روعة هزتهم هزا عنيفا ، فقالوا مستكبرين متظاهرين بالغلبة والظهور على سحر القرآن وهم يخفون العجز ، ( وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين ) ( الأنفال : 31) . ( بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر فليأتنا بآية كما أرسل الأولون ) ( الأنبياء : 5 )
أنواع المناسبات :
أولا : - المناسبة بين أجزاء الآية الواحدة :
إذا تدبرنا سورة من سور القرآن الكريم ، أخذتنا روعة ألفاظها في سهولتها نطقا ، وقرب مأخذها معنى ، ومجيئها على قدر المعنى الذي صيغت له . والمتأمل لألفاظ القرآن الكريم ، يجدها وضعت في موضعها من النظم الكريم ، فهي مفردات مختارة منتقاة ، واللفظ في موضعه متناسب من حيث اللفظ أو المعنى ، وجاء على قدر المعنى الذي صيغ له ، بحيث لو رفعت اللفظ من الآية ، أو استبدلته بآخر ، لاختل نظامها ، وضاع المراد منها .
يقول ابن عطية : ( وكتاب الله لو نزعت منه لفظة ، ثم أدير لسان العرب على لفظة غيرها لم يوجد ،ونحن يتبين لنا البراعة في أكثره ، ويخفى علينا وجهها في مواضع ، لقصورنا عن مرتبة العرب –يومئذ – في سلامة الذوق ، وجودة القريحة ) ( )
والتناسب بين أجزاء الآية ، يكون من حيث اللفظ أو المعنى : أما من حيث اللفظ : ونعني به مناسبة اللفظ لألفاظ الآية : وذلك مثل قوله تعالى : ( قالوا تالله تفتؤا تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين . ) (سورة يوسف : آية / 85 ) . فقد جاءت الألفاظ بحيث يلائم بعضها بعضا ، وذلك بأنه أتى في الآية بألفاظ متناسبة في الغرابة .
فالتاء : أغرب ألفاظ القسم ، وذلك لأنها أقل استعمالا من الواو ، والباء.
وأتى بـ( تفتؤا) ، وفتئ : أغرب صيغ الأفعال التي تفيد الاستمرار من أخوات(كان).
وأتى بلفظ ( حَرَضا ) : وهو أغرب ألفاظ الهلاك . فاقتضى حسن الوضع في النظم ، أن تجاور كل لفظة بلفظة من جنسها توخيا في حسن الجوار ، ورعاية في ائتلاف المعنى بالألفاظ ، ولتتعادل الألفاظ في الوضع ، وتتناسب في النظم . وجاءت هذه الألفاظ غريبة لتتوافق مع حال يعقوب - عليه السلام - التي وصل إليها، وإشفاق أبنائه على حاله ، وخشيتهم عليه من الهلاك .
وأما تناسب اللفظ من حيث المعنى :
1- ففي مثل قوله تعالى : ( ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ..) ( سورة هود : آية : 113) فإنه تعالى لما نهى عن الركون إلى الظالمين وهو الميل إليهم ، والاعتماد عليهم ، وكان ذلك دون مشاركتهم في الظلم ، أخبر أن العقاب على ذلك ، دون العقاب على الظلم.. 2 - ومن ذلك قوله تعالى:-(ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ) (سورة الأنعام : آية : 151) وقوله سبحانه :( ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم ..)(الإسراء: 31 ) فقدم رزق الآباء في آية الأنعام على الأبناء ، وفي آية الإسراء قدم رزق الأبناء على الآباء ، وذلك أن الكلام في الآية الأولى ، موجه إلى الفقراء دون الأغنياء ، فهم يقتلون أولادهم من الفقر الواقع بهم ، لا أنهم يخشونه ، فأوجبت البلاغة تقديم عدتهم بالرزق ، وتكميل العدة برزق الأولاد .
وفي الآية الثانية ( آية الإسراء ) ، الخطاب لغير الفقراء ، وهم الذين يقتلون أولادهم خشية الفقر ، لا أنهم مفتقرون في الحال ، وذلك أنهم يخافون أن تسلبهم كلف الأولاد ما بأيديهم من الغنى،فوجب تقديم العدة برزق الأولاد،فيأمنوا ما خافوه من الفقر ، فقال :لا تقتلوهم فإنا نرزقهم وإياكم ، أي أن الله جعل معهم رزقهم ،فهم لا يشاركونكم في رزقكم ، فلا تخشوا الفقر ( ).
ومن المناسبات بين أجزاء الآية :
1- مراعاة ما يقتضيه التعبير والمعنى والسياق ، مع مراعاة الانسجام في فواصل الآيات ، لما لذلك من تأثير كبير على السمع ، ووقع مؤثر في النفس . من ذلك قوله تعالى : - ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار )( إبراهيم : 34 ) .
وقوله سبحانه : - ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم ) ( النحل : 18 ) . ولا شك أن خاتمة كل من الآيتين تنسجم مع الآيات فيهما ، ولكن السياق أيضا يقتضي الفاصلة التي ختمت فيها كل آية من الآيتين ، ذلك أن الآية في سورة إبراهيم ، في سياق وصف الإنسان وذكر صفاته ، فختم الآية بصفة الإنسان . وأن الآية الثانية في سورة النحل : في سياق صفات الله تعالى ، فذكر صفاته . ( )
2- ومن ذلك قوله تعالى : - ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم )( سورة المائدة : آية / 38 ) .
ففي الآية أن جزاء السارق والسارقة قطع أيديهما ، والتنكيل بهما جزاء سرقتهما وخيانتهما . قال الأصمعي : [ كنت أقرأ سورة المائدة ، ومعي أعرابي ، فقرأت هذه الآية : ( والسارق والسارقة ..) فقلت : (والله غفور رحيم ) سهوا ، فقال الأعرابي: كلام من هذا ..؟ فقلت : كلام الله ، قال : أعد ، فأعدت ( والله غفور رحيم ) ثم تنبهت ، فقلت : ( والله عزيز حكيم ) ، فقال : الآن أصبت ، فقلت : كيف عرفت ..؟ قال : يا هذا ، عز ، فحكم ، فأمر بالقطع ، فلو غفر ورحم ، لما أمر بالقطع . ] ( )
ويدخل في باب المناسبة بين أجزاء الآية : التذييل : وهو باب من أبواب البديع ، وهو ضرب من التعقيب على ما سبق في الآية ، وهو أن يؤتى بعد تمام الكلام بكلام مستقل في معنى الأول تحقيقا لدلالة منطوق الأول أو مفهومه ، ليكون معه كالدليل ليظهر المعنى عند من لا يفهم ، ويكمل عند من فهمه.. قال الأستاذ الدكتور فضل حسن عباس في تعريفه : ( بأنه تعقيب الجملة بجملة أخرى متفقة معها في المعنى ، تأكيداً للجملة الأولى ) . ( ) وهو ضربان :
1- ضرب جار مجرى المثل :
وذلك إذا كانت جملة التذييل مستقلة بمعناها ، مستغنية عما قبلها ، بحيث تتضمن حكما كليا ، فتجري مجرى المثل في الاستقلال ، وكثرة الاستعمال . من ذلك قوله تعالى : (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) (الإسراء: 81) فالمعنى الأصلي تم عند قوله : (وَزَهَقَ الْبَاطِلُ) ، ثم جاء التذييل بقوله : (إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ) لتأكيد معنى الجملة السابقة ، مع أنه مستقل بمعناه ، لا يتوقف فهمه على فهم ما قبله ، ومثل هذا التذييل يقال له : إنه جار مجرى المثل .
2 - وضرب غير جار مجرى المثل :
وذلك إذا كانت الجملة غير مستقلة بمعناها ، فلا يفهم الغرض منها إلا بمعونة ما قبلها ، ومن ذلك قوله تعالى : (ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ) (سبأ: 17 .).
فالمعنى الأصلي تم عند الجملة الأولى ، ثم أعقبها جملة التذييل : ( وهل نجازي إلا الكفور ) لتأكيد مفهومها . والتذييل هنا يتوقف مدلوله على الجملة السابقة عليه ، إذ لا يفهم المقصود منه إلا بمعونتها ، ومثل هذا يقال له : إنه غير جار مجرى المثل .
وإذا كان التذييل على ضربين ، فإن التأكيد به على ضربين كذلك :
( أ ) - ضرب يكون التذييل فيه تأكيداً لمنطوق الكلام السابق عليه ، وهذا يتحقق باشتراك ألفاظ الجملتين في موادهما ، ومثل ذلك قوله تعالى : (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) (سورة الإسراء : 81.) فألفاظ جملة التذييل مشتركة مع الجملة السابقة عليها في مادتها، مع أن الجملة الأولى فعلية، والثانية : اسمية
( ب ) - وضرب يكون التذييل فيه مؤكداً لمفهوم الكلام السابق عليه فلا اشتراك بين الجملتين في الألفاظ ، ومنه قوله سبحانه : (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) (سورة يوسف : آية : 53 .) فالجملة الأولى تدل بمفهومها على أن النفس بطبيعتها ميالة للسوء ، نزاعة للهوى ، بحيث لا تبرأ من الميل عن الجادة ، وهذا المعنى الذي فهم يؤكده التذييل .
ومنه قول الحطيئة :
قومٌ هُمُ الأنف والأذناب غيرهم ......... ومن يُسَوي بأنف الناقة الذنبا .
ومن كل ما سلف يتبين أن التذييل يقع في آخر الكلام ، والملاحظ أن بين مضمون الآية ومضمون التذييل انسجاما ، فلا تجد آية عقاب تُذيل َبآية رضوان ، فإن البيان القرآني بقيمه وأدواته يتجه نحو رعاية مطالب المعنى ، وتناسب الصدور والخواتيم ، ومن الشواهد على عبارات التذييل قوله تعالى ( والله ذو فضل على المؤمنين ) ( آل عمران : 152) وبعدها ( والله خبير بما تعملون ) ( آل عمران : 153)..وقوله : ( إن الله عليم بذات الصدور ) ( آل عمران : 119) وقوله : ( إن الله غفور رحيم ) ( آل عمران : 155) وكل آية من هذه الآيات وردت في سياق التذييل لما قبلها ، بعد تمام المعنى .
ويدخل في المناسبة أيضا باب من أبواب البديع وهو التتميم .. قال ابن أبي الاصمع االمصري: (هو أن تأتي في الكلام كلمة إذا طرحت من الكلام، نقص معناه في ذاته أ و صفاته ولفظه تام ،وإن كان في الموزون نقص وزنه مع نقص معناه،فيكون الإتيان به لتتميم الوزن والمعنى معاً ، ولا يخلو إما أن يرد على معنى تام في ذاته ، أو صفاته ، أو لا ، فإن كان الأول : فهو التكميل . وإن كان الثاني فهو : التتميم .
وقد غلط كثير من المؤلفين في هذا الموضع ، ولم يفرقوا بين التتميم والتكميل
( ) قال الاستاذ الدكتور فضل حسن عباس : ( هو أن يؤتى في كلام لا يوهم خلاف المقصود بفضلةٍ لنكتة ) ( )
أي : أن التتميم لا يكون بجملة مستقلة أولاً ، ولا يكون بركن رئيس في الجملة ثانيا ، لأن الفضلة لا تشمل هذين الأمرين . ويكون لنكتة بيانية كالمبالغة ،
ومن أمثله التتميم قوله سبحانه : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) ( البقره:177) فقوله سبحانه : (عَلَى حُبِّهِ) له معنيان،لأن الضمير إما أن يعود إلى الله تبارك وتعالى ، أي : على حب الله تبارك وتعالى ، فهم يعطون المال من أجل الله وحده، لا رياء ولا سمعة ، وعلى هذا المعنى لا يكون قوله تعالى (عَلَى حُبِّهِ) من التتميم في شيء لأنه من تمام معنى الاية الكريمة.. وإما أن يعود الضمير على المال ، أي :يؤتون المال على حبهم له ،والتتميم يتم على هذا التفسير، لأن المعنى انتهى عند قوله سبحانه : (وَآَتَى الْمَالَ) ، ثم قال : (عَلَى حُبِّهِ) وهذه فضله ،لأنها ليست جملة مستقلة ، وليست ركناً رئيساً في الجملة ، وجيء بها للمبالغة ،فهم يعطون المال رغم حبهم له ( )
ويدخل في المناسبة أيضا باب من أبواب البديع التكميل (الاحتراس):
قال الاستاذ الدكتور فضل حسن عباس:- ( الاحتراس هو المحافظة على المعنى من كل ما يفسده ويٌغَيِّره ، وهذا ما ترشد إليه عبارة القوم ، فلقد قالوا في تعريفه : هو أن يؤتى في كلام يوهم خلاف المقصود مما يدفعه. ومعنى هذا التعريف : أن يدل الكلام على معنى لا يقصده المتكلم ، فيأتي بما يزيل هذا الفهم ، ويبدد هذا الوهم " ( ) ويكون التكميل (الاحتراس) في ثلاثة مواضع :-
1 - في أول الكلام:-
كقول المتنبي في (أبي دلف)عندما بلغه وهو في سجن حمص أنه ذمه عند واليها ، وكان قد أهدى إليه طعاماً ، فكتب إليه بقصيدة من السجن يقول فيها :-
غير اختيار قبلتُ بِرَّكَ بي ....... والجوع يُرضي الأسود بالجيف
فقوله:( غير اختيار) أتى به لدفع ما قد يتوهم من أنه قبل البر طواعيه
2- أن يتوسط الكلام ،كقول ابن المعتز:-
صَبَبنا عليه ظالمين سياطنا .......... فطارت بها أيدٍ سراعٍ وأرجل( )
فلو أسقطنا كلمة (ظالمين )لتوهم السامع أن فرس الشاعر كانت بليدة تستحق الضرب،وهذا خلاف القصد،فوجود هذه الكلمه (ظالمين)أبعدَ هذا الوهم .
3 -أن يقع في آخر الكلام:-
كقوله تعالى : (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.)(هود:44)
فإنه سبحانه كما أخبر بهلاك من هلك بالطوفان أعقبه بالدعاء على الهالكين، ووصفهم بالظلم ، ليعلم أن جميع من هلك كان مستحقاً للهلاك ، احتراساً من ضعيف يتوهم ، أن الهلاك بعمومه قد شمل من لا يستحق العذاب .

ومن بديع المناسبة .. اختيار الفاصلة :
1- قوله تعالى : ( فإذا جاء أمر الله قضي بالحق وخسر هنالك المبطلون ) (غافر : 78 ).
2 - وقوله سبحانه : ( وخسر هنالك الكافرون )( غافر : 85 ) .
فقد ختم الآية الأولى بقوله : ( المبطلون ) ، وختم الآية الثانية بقوله ( الكافرون )، وذلك لأن كل كلمة مناسبة للسياق الذي وردت فيه ، فالأولى وردت في سياق الحق ، ونقيض الحق الباطل. والثانية في سياق الإيمان ، ونقيض الإيمان الكفر . فما أجله من كلام ، وما أعظمه من تعبير .( )
ثانيا : - المناسبة بين الآيات :
أما ارتباط الآية بالآية ، فينقسم إلى قسمين :
القسم الأول : - أن يظهر الارتباط بين الآية الثانية والآية الأولى ، بأن كانت الآية الثانية سببا للأولى ، أو مفسرة لها ، أو مؤكدة ، أو بدلا ، أو جاءت معترضة ، إلى غير ذلك من وسائل الارتباط . وهذا النوع لا يتطلب كثير جهد في استخراج المناسبة ، ما دام الطالب لمعرفتها ، واستخراجها ، مستوفيا للشروط التي يجب توافرها في المفسر ، لأن الترابط واضح .
ومن أمثلة هذا القسم :
1- أن تكون الآية الثانية سببا للأولى : وذلك مثل قوله تعالى : ( ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون . ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون )( آل عمران : الآيتان: 23 . 24 ) .
ووجه النظم : أنه تعالى لما قال في الآية الأولى : ( ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون ) ، قال في الآية الثانية : ( ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات ) أي : ذلك التولي والإعراض إنما حصل بسبب أنهم قالوا : ( لن تمسنا النار إلا أياما معدودات ) ( )
2- أن تكون الآية الثانية تفسيرا للأولى : - وذلك مثل قوله تعالى : - ( وقال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبل الرشاد . يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار)( غافر: 38، 39 ).
قال الآلوسي : ( وترك العطف في النداء الثاني وهو : (يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع ..) لأنه تفسير لما أجمل في النداء قبله من الهداية إلى سبيل الرشاد ، فإنها التحذير من الإخلاد إلى الدنيا ، والترغيب في إيثار الآخرة على الأولى ، وقد أدى ذلك فيه على أتم وجه وأحسنه . )( )
ومثله قوله تعالى :( إن الإنسان خلق هلوعا . إذا مسه الشر جزوعا .وإذا مسه الخير منوعا .)( المعارج : 19 ، 20 ، 21 ) .
[ فقوله : ( إذا مسه الشر … الآيات ) تفسير لقوله : هلوعا . ويؤتى بالتفسير إذا كان في الكلام خفاء يحتاج إلى ما يكشفه ويبينه] 2- أن تكون الآية الثانية تأكيدا للأولى : مثل قوله تعالى : - ( ويا قوم مالي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار . تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار . )( سورة غافر : الآيتان : 41 ، 42 ) فقوله : ( ويا قوم ما لي أدعوكم ..) تأكيد لما قبله ، فقد كرر نداءهم إيقاظا لهم عن سنة الغفلة، واهتماما بالمنادى له ، ومبالغة في توبيخهم على ما تقابلون به دعوته ( ).
3 - أن تكون الآية الثانية بدلا من الأولى : مثل قوله تعالى : ( إهدنا الصراط المستقيم . صراط الذين أنعمت عليهم .)( سورة الفاتحة : الآيتان : 6، 7 ) وقوله تعالى :(وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم . صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض .) (سورة الشورى : الآيتان ، 52، 53 ) . فإن لفظ ( الصراط ) الثانية في الآيتين بدل من الأولى فيهما ، والبدل موضح ، ومبين للمبدل منه ( ).
4 - أن تكون الآية معترضة : -
فبالإضافة إلى أن الاعتراض يقع مؤكدا لمفهوم الكلام الذي وقع فيه ، ومقررا له في نفوس السامعين ، فإنه يأتي لأغراض بلاغية ، . منها : أنه يأتي لتعظيم المقسم به ، وتفخيمه ، وذلك كما في قوله تعالى : ( فلا أقسم بمواقع النجوم . وإنه لقسم لو تعلمون عظيم . إنه لقرآن كريم . )( الواقعة: 75-77)
ففي هذا الكلام اعتراضان : أحدهما قوله : ( وإنه لقسم لو تعلمون عظيم ) ، لأنه اعتراض بين القسم الذي هو : ( فلا أقسم بمواقع النجوم ) ، وبين جوابه : ( إنه لقرآن كريم ) .
والثاني : قوله :( لو تعلمون ) ، وهو اعتراض بين الموصوف الذي هو : ( قسم )، وبين صفته ، الذي هو :( عظيم ) ، وفائدة الاعتراض : هو تعظيم شأن المقسم به في نفس القارئ ، أو السامع ، أي : أنه من عظم الشأن وفخامة الأمر ، بحيث لو علم ذلك لوفى حقه من التعظيم( ) .
فالاعتراض ليس وسيلة للتحسين فحسب ، وليس حشوا يمكن الإستغناء عنه ، بل إنه إذا وقع موقعه المناسب ، كان من مقتضيات النظم ، ومن مقتضيات المقام ، ولو أسقط من السياق سقط معه جزء أصيل من المعنى ، فهو يحمل بجانب كونه جزءا من المعنى الأصلي ، معاني فرعية أخرى ، تلتحم جميعا في تكوين معنى كلي القسم الثاني : - وهو ما لا يظهر الارتباط فيه بين الآيتين :
لقد جرت عادة القرآن إذا ذكر أحكاما ، أن يذكر بعدها وعدا أو وعيدا ، ليكون باعثا على العمل ، ثم يذكر آيات توحيد ، وتنزيه ، ليعلم عظم الآمر والناهي . فتبدو - في الظاهر - كل آية مستقلة عن الأخرى ، وأنها خلاف النوع المبدوء به .
وينقسم هذا القسم إلى قسمين : - أ – أن تكون الآية الثانية معطوفة على ما قبلها بحرف من حروف العطف ، فتشاركها في الحكم ، ولا بد أن تكون بينهما جهة جامعة ، إذ لا بد منها عند العطف ، كقوله تعالى : ( والله يقبض ويبصط ) ( البقرة : 245) .
فالجهة الجامعة هي : التضاد . وأمثلة هذا القسم تظهر في : الطباق( )، والمقابلة ( ).
أما الطباق : - فهو أن يجمع بين متضادين مع مراعاة التقابل ، مثل : البياض ، والسواد ، والليل ، والنهار. وهو قسمان : لفظي ، ومعنوي .
فاللفظي ، مثل قوله تعالى : - ( فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون )( سورة التوبة: آية / 82 ) .
وكقوله تعالى : - ( قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير )( سورة آل عمران : آية / 26 )
وأما الطباق المعنوي ، فمثل قوله تعالى : ( قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيئ إن أنتم إلا تكذبون. قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون ) ( سورة يس : الآيتان : 15، 16 ) . ومعناه : ربنا يعلم إنا لصادقون .( )
وأما المقابلة : - وهي ذكر الشيء مع ما يوازيه في بعض صفاته ، ويخالفه في بعضها . وهي قريبة من الطباق ، ويفرق بينهما من وجهين : أحدهما : أن الطباق لا يكون إلا بين الضدين غالبا .
والمقابلة : تكون لأكثر من ذلك غالبا .
ثانيهما : الطباق لا يكون إلا بالأضداد . والمقابلة تكون بالأضداد وغيرها . فالمقابلة أعم من الطباق ، وعليه فكل طباق مقابلة ، وليس العكس .
مثال المقابلة : قوله تعالى : ( فلا صدق ولا صلى . ولكن كذب وتولى ) ( القيامة:31-32 ) فقابل بين : صدق ، وكذب . وبين صلى : الذي هو الإقبال على الله تعالى ، وتولى : الذي هو الإعراض عنه ( ).
ب : - ألا تكون الآية الثانية معطوفة على الأولى : -
إذا لم يكن هناك عطف بين الجملتين ، فلا بد إذن من دعامة يعتمد عليها في الربط وتؤذن بارتباط الكلام ، وهي قرينة معنوية يدركها المستنبط ببصيرته النفاذة ، كإلحاق النظير بالنظير ، كما في قوله تعالى من سورة الأنفال : ( يسئلونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين )( الأنفال : 1) ثم بين أوصافهم ، وختم ذلك بقوله : ( أولئك هم المؤمنون حقا )( الأنفال : 4) . وذكر جزاءهم فقال : ( لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم )( الأنفال : 4) .
والنظير هنا : في أن الغنائم لما انتزعت من أيدي المجاهدين في أول الأمر ، وجعلت لله والرسول - صلى الله عليه وسلم - ، تألم بعضهم لحرمانه منها ، فألحق الله ذلك بكراهيتهم للخروج إلى الجهاد في أول الأمر ، وتبينهم بعد ذلك أن في الخروج الغنيمة والنصر ، وعز الإسلام ، وهلاك الأعداء ، كأنه يقول : ( وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم ) ( البقرة: 216) ( )
ومن الروابط التي تدخل في باب المناسبة : الإستطراد ( ):-
ومثاله : قصة آدم في سورة الأعراف ، وفيها بدو السوأة ، واستطرادا في هذا الباب قال : ( يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا ، ولباس التقوى ذلك خير ، ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون )( الأعراف : 26 ) إظهارا للمنة فيما خلق من اللباس ، ولما في العري وكشف العورة من المهانة والفضيحة ، وإشعارا بأن الستر باب عظيم من أبواب التقى . ثم رجع إلى تكملة القصة فقال : ( يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة .. ) ( الأعراف : 27 )
ومن أوجه الربط : الانتقال من حديث إلى حديث تنشيطا للسامع ، والربط بين الحديثين باسم الإشارة . ومثاله : أنه – سبحانه – لما تحدث عن بعض الأنبياء في سورة ( صّ ) ، ختم هذا الحديث بقوله : ( واذكر اسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الأخيار . هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مآب ) ( ص : : 48 ، 49) فقوله : هذا ذكر : يشير إلى ذكر الأنبياء ، ثم يشرع في ذكر الجنة ، وبعد ذلك يشرع في ذكر النار ، فيقول : ( هذا وإن للطاغين لشر مآب. جهنم يصلونها فبئس المهاد. ) ( سورة ص : الآيتان : 55، 56 )
ومن الروابط ومن الروابط التي تدخل في باب المناسبة: حسن التخلص: كأن يصل إلى غرضه أثناء الحديث عن شيء ، إلى شيء آخر ، كالحديث عن موسى - عليه السلام - في سورة الأعراف في أكثر من أربعين آية ، ثم يصل إلى الحديث عن محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وبعد ذلك يعود لإتمام الحديث عن موسى - عليه السلام - قال تعالى : ( ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون . الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل .. الآيات )( سورة الأعراف : الآيات / 156-158 ) . وبعد ذلك يعود فيقول : ( ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ) ( سورة الأعراف : آية / 159 ) ( )
أنواع المناسبات :
إن التآلف والترابط والتناسب كما هو حاصل بين آيات القرآن الكريم في السورة الواحدة ، حاصل بين سور القرآن ، فأنت لا تقرأ سورة من سور القرآن بإمعان ، إلا وتجد بينها وبين سابقتها مناسبة ورابطة ، تظهر سر الإعجاز في ترتيب سوره ...وهو على ثلاثة أقسام :-
القسم الأول : مناسبة فواتح السور لخواتمها : - من ذلك ما في سورة القصص ، فقد بدأت بقصة موسى عليه السلام ، والوعد برده إلى أمه ، ودعائه ألا يكون ظهيرا للمجرمين . ثم ختم الله السورة بتسلية رسولنا – صلى الله عليه وسلم - بخروجه من مكة ، ووعده بالرجوع إليها ، ( إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد )( القصص: 85) وقد عاد إليها فاتحا منتصرا ، وقيل له : ( فلا تكونن ظهيرا للكافرين ) ( القصص: 86) وسورة ( المؤمنون ) افتتحت بقوله تعالى :(قد أفلح المؤمنون ) ( المؤمنون : 1) ، وورد قبل آخرها بآية : ( إنه لا يفلح الكافرون )( المؤمنون : 117) .. وسورة ( صّ ) بدأها بالذكر في قوله تعالى : ( صّ والقرآن ذي الذكر ) ( ص: 1) وقال قبل آخرها بآية : ( إن هو إلا ذكر للعالمين ) ( ص: 87) . وفي سورة ( القلم ) نفى في أولها ما رمي به – صلى الله عليه وسلم - من الجنون ، فقال : ( ما أنت بنعمة ربك بمجنون )( القلم: 2) . وفي آخرها حكى قول المشركين ، فقال : ( ويقولون إنه لمجنون )( القلم : 51)( ) . فسبحان من نفى عن رسوله التهمة قبل حكايتها .
القسم الثاني : مناسبة افتتاح السورة لخاتمة ما قبلها :
إن وجود المناسبات بين السور ، يدل على أن ترتيب السور في المصحف توقيفي لا اجتهادي ... قال الزركشي : ( إذا اعتبرت افتتاح كل سورة ، وجدته في غاية المناسبة لما ختمت به السورة قبله ، ثم هو يخفى تارة ويظهر أخرى ) ( ). كقوله سبحانه في آخر سورة ( الطور ) : ( ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم )( الطور: 49) . ثم قال في السورة التي تليها :( والنجم إذا هوى ) ( النجم : 1) .
وافتتاح سورة الحديد بالتسبيح بقوله تعالى :( سبح لله ما في السموات والأرض ) ( الحديد: 1) ( ) فإنه في غاية المناسبة لختام سورة الواقعة التي قبلها ، والتي أمرت به بقوله ( فسبح باسم ربك العظيم . ) ( الواقعة: 99) .
ونهاية سورة الضحى ( وأما بنعمة ربك فحدث ) ( الضحى : 11) وبداية سورة الشرح : ( ألم نشرح لك صدرك ) ( الشرح : 1) وآخر سورة الفيل : ( فجعلهم كعصف مأكول ) ( الفيل : 5) وبداية سورة قريش : ( لإيلاف قريش ..) ( قريش : 1 )
يقول الفيلسوف والأنتروبولوجي التّونسي يوسف الصديق : وأنا فكرت مرة في سورة القمر وقوله :" (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ " (سورة القمر الآيات 54 و55 ) وقلت لماذا لا تتواصل هاتين الآيتين مع سورة "الرحمن" التي تليها والتي مبتدأها " الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ " ( الآية 1 و2 ) وإذا كان ذلك كذلك لما استنكف في ذلك أحد ، ولاعتقدنا أن هذا المليك المقتدر هو الرحمن..؟؟ وكلامك هذا أيها البروفيسور يدل على أنك فعلا لم تقرأ القرآن ، وهذا ما اعترفت به في كتابك ( لم نقرأ القرآن أبدا) ولم تسمع بالتناسب بين الآيات والسور أيها العبقري ؟! وأضرب لك مثالا آخر يبين الارتباط بين الفاتحة والبقرة ... ففي آخر الفاتحة قال : ( إهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) قال بعده في مفتتح سورة البقرة : ( ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين ) أي : يا من أردت الهداية إلى الصراط المستقيم .. لم يقل هذا الكتاب باسم الإشارة للقريب .. بل قال : ذلك الكتاب باسم الإشارة للبعيد للدلالة على بُعد هذا الكتاب في الهداية .. وأنه بعيد ومغرق في الهداية ..!!. وما من سورة إلا ولها ارتباط بالسورة التي قبلها والتي بعدها ...ومثال هذه الصورة ما ذكره البقاعي في حديثه عن تناسب فاتحة سورة الكهف لخاتمة سورة الاسراء ( الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا ) ( الكهف :1) . وفي آخر سورة الاسراء قال تعالى :( وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا ) ( الاساء : 111) حيث قال : ( لما ختمت تلك بأمر الرسول – صلى الله عليه وسلم – بالحمد عن التنزه عن صفات النقصأعلم الخلق بذلك ، بدئت هذه بالإخبار باستحقاقه سبحانه الحمد على صفات الكمال التي منها البراءة عن كل نقص . ) ( ) وإن من طالب بإعادة ترتيب سور القرآن الكريم حسب النزول ، لينتقل بعدها إلى إعادة ترتيب الآيات في سور القرآن حسب النزول بغية التلاعب بالنص الكريم، وإزالة قدسيته من القلوب.
وذكرنا أن كثيرا من المستشرقين دعوا إلى ترتيب القرآن حسب النزول أو حسب الموضوعات، وقد حاول المستشرق الفرنسي (جول لابوم) أن يجمع الآيات حسب الموضوعات في كتاب( تفصيل آيات القرآن) وقد زعم أن عمله هذا أنه تيسير للباحثين لجمع الآيات المتعلقة بموضوع واحد. ولكن الدوافع الحقيقية لم يعلن عنها، وربما كانت محاولة منه لترسيخ الدعوة إلى إعادة ترتيب آيات القرآن من جديد على غير ترتيب المصحف.كما دعا المستشرق ( غريم) ومثله المستشرقون ( نودلكه، ووليم موير، وبل، ورود ويل) إلى إعادة ترتيب المصاحف حسب ترتيب النزول. كما قام المستشرق الفرنسي ريجي بلاشير (1900-1973)بترجمة القرآن الكريم للفرنسية عام 1950 ، ورتب الترجمة بحسب ترتيب النزول . ثم أعادها بعد سبع سنوات ورتبها بحسب ترتيب المصحف المعروف لأنه ثبت له عدم صواب طريقته الأولى إن ترتيب الآيات في سورها توقيفي ثابت بالوحي ، وبأمر رسول الله– صلى الله عليه وسلم - ، وكانت الآيات تتنزل عليه ، ويأمر كتاب الوحي بوضعها في مكانها من السور بتبليغ من جبريل -عليه السلام - . وقد ترادفت النصوص على كون ترتيب الآيات توقيفياً ، ووقع الإجماع على ذلك.. فالترتيب المصحفي على غير ترتيب النزول ، ولكن لا يعني أن ذلك غير مرتب ، لأن ترتيبه توقيفي .. ومن ثم فهو سر من أسرار إعجاز القرآن ، إذ أن مجيئ السورة بعد سابقتها دال على ارتباط وصلة وإحكام ما بين السورتين ، وقد يكون من حيث الموضوع ، وقد يكون من حيث اللفظ ، وقد يكون من حيث الموضوع واللفظ معا ، فالمكية تتناسب مع المدنية التي تجاورها ، وكذا المكية مع المكية ، والمدنية مع المدنية ، هكذا تأتي هذه السور كلها بهذا الترتيب المصحفي متناسقة كسلسلة واحدة ، فيها انسجام وتناسق ..
القسم الثالث : مناسبة افتتاح السورة لمقاصدها :
افتتحت سورة الإسراء بالتسبيح بقوله تعالى : ( سبحان الذي أسرى بعبده ..) ( الإسراء: 1) .
وسورة الكهف - وهي تالية لها في الترتيب - افتتحت بالحمد ، بقوله تعالى : ( الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا )(الكهف: 1) قال ابن الزملكاني : ( إن سورة ( سبحان ) لما اشتملت على الإسراء الذي كذب المشركون به النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وتكذيبه تكذيب لله سبحانه وتعالى ، أتى بـ ( سبحان ) لتنزيه الله تعالى عما نسب إلى نبيه من الكذب . وسورة الكهف لما أنزلت بعد سؤال المشركين عن قصة أصحاب الكهف ، وتأخر الوحي ، نزلت مبينة أن الله لم يقطع نعمته عن نبيه ، ولا عن المؤمنين ، بل أتم عليهم النعمة بإنزال الكتاب ، فناسب افتتاحها بالحمد على هذه النعمة . )( ) . وهذا باب واسع ، يحتاج إلى بحث مستقل ، أكتفي منه بهذا القدر.( )
موقف العلماء من التناسب ، ومصنفاتهم في هذا العلم :
أ - المؤيدون لوجود التناسب بين الآيات والسور :
تعد مناسبة الآيات والسور ، وارتباط مبانيها ، من وجوه إعجاز القرآن الكريم ، وهو علم لم يكتب له الظهور إلا في أوائل القرن الرابع الهجري ، ويعد أبو بكر النيسابوري أول من سبق إلى هذا العلم في بغداد ( ) ، وكان متفقها في الشريعة والأدب ، وكان يقول على الكرسي : ( لم جعلت هذه الآية إلى جنب هذه ..؟ وما الحكمة في جعل هذه السورة ملاصقة للأخرى .؟ وكان يلقي باللائمة على علماء بغداد لإهمالهم علم المناسبات )( ) . والمتدبر لكتاب الله يجد أنه بالرغم من نزوله مفرقا منجما ، لكنه تم مترابطا محكما ..
قال أبو بكر بن العربي في كتابه ( سراج المريدين ) : ( ارتباط آي القرآن بعضها ببعض حتى تكون كالكلمة الواحدة ، متسقة المعاني ، منتظمة المباني ، علم عظيم ، لم يتعرض له إلا عالم واحد عمل فيه سورة البقرة ، ثم فتح الله عز وجل لنا فيه ، فلما لم نجد له حملة ، ورأينا الخلق بأوصاف البطلة ختمنا عليه ، وجعلناه بيننا وبين الله ، ورددناه إليه . )( )
وقد حظي هذا العلم باهتمام الإمام فخر الدين الرازي( توفي سنة 606 هـ ) ، الذي وصفه بقوله : ( إن أكثر لطائف القرآن مودعة فيه .)( )
وقال محيي الدين ابن عربي ( لا بد من مناسبة بين آي القرآن ، وإن كان بينهما بعد ظاهر ، ولكن لا بد من وجه جامع بين الآيتين مناسب ، هو الذي أعطى أن تكون هذه الآية مناسبة لما جاورها من الآيات ، لأنه نظم إلهي ، وما رأينا أحدا ذهب إلى النظر في هذا إلا الرماني ( توفي سنة 386هـ) من النحويين ، فإن له تفسيرا للقرآن ، أخبرني من وقف عليه أنه نحا في القرآن هذا المنحى .. ثم يقول : إن مسمى الآية إذا لزمتها أمور من قبل أو بعد ، يظهر من قوة الكلام أن الآية تطلب تلك اللوازم ، فلا تكمل الآية إلا بها ،وهو نظر الكامل من الرجال ، فمن ينظر في كلام الله علىهذا النمط ، فإنه يفوز بعلم كبير ، وخير كثير ، فإن الحق سبحانه لا يعين لفظا ، ولا يقيد أمرا ، إلا وقد أراد من عباده أن ينظروا فيه ، من حيث ما خصصه وأفرده لتلك الحالة ، أو عينه بتلك العبارة ، ومتى لم ينظر الناظر في هذه الأمور بهذه العين ، فقد غاب عن الصواب المطلوب . ) ( )
وقال الإمام برهان الدين ابراهيم بن عمر البقاعي : ( علم مناسبات القرآن : علم تعرف منه علل ترتيب أجزائه ، وهو سر البلاغة لأدائه إلى تحقيق مطابقة المعاني لما اقتضاه الحال ،وتتوقف الإجادة فيه على معرفة مقصود السورة المطلوب ذلك فيها ، ويفيد ذلك معرفة المقصود من جميع جملها ، فلذلك كان هذا العلم في غاية النفاسة ، وكانت نسبته من علم التفسير ، نسبة علم البيان من النحو .)( )
ب - المعارضون لوجود التناسب بين الآيات والسور :
ورد عن بعض العلماء إنكار لهذا الفن ، بزعم أنه تكلف محض ، وكان من أبرزهم : سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام ، والإمام المفسر محمد بن علي الشوكاني .... قال سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام : ( واعلم أن من الفوائد أن من محاسن الكلام أن يرتبط بعضه ببعض ، ويتشبث بعضه ببعض ، لئلا يكون مقطعا متبرا ، وهذا بشرط أن يقع الكلام في أمر متحد ، فيرتبط أوله بآخره ، فإن وقع على أسباب مختلفة ، لم يشترط فيه ارتباط أحد الكلامين بالآخر، ومن ربط ذلك فهو متكلف ، لما لم يقدر عليه إلا بربط ركيك ، يصان عن مثله حسن الحديث ، فضلا عن أحسنه ، فإن القرآن نزل على الرسول – صلى الله عليه وسلم - في نيف وعشرين سنة ، في أحكام مختلفة ، شرعت لأسباب مختلفة غير مؤتلفة وما كان كذلك لا يتأتى ربط بعضه ببعض، إذ ليس يحسن أن يرتبط تصرف الإله في خلقه وأحكامه بعضه ببعض ،مع اختلاف العلل والأسباب. ثم أخذ يضرب أمثلة لذلك )( ) فسلطان العلماء : - كما يظهر من كلامه - ، لم يعارض وجود المناسبة والترابط بين الكلام ، لكنه اشترط أن يقع الكلام في أمر متحد ، وما عدا ذلك فهو يراه أمر متكلفا . أما الإمام محمد بن علي الشوكاني : - فقد أنحى باللوم ، بل بالتقريع على أئمة التفسير القائلين بالتناسب في القرآن الكريم ، وأطال في الإستدلال لرأيه ، وذلك عند تفسيره لقوله تعالى في سورة البقرة - : ( يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم ..) (سورة البقرة : 40 ).وقال : ( اعلم أن كثيرا من المفسرين جاءوا بعلم متكلف ، وخاضوا في بحر لم يكلفوا سباحته ، واستغرقوا أوقاتهم في فن لا يعود عليهم بفائدة ، بل أوقعوا أنفسهم في التكلم بمحض الرأي المنهي عنه ، في الأمور المتعلقة بكتاب الله سبحانه ، وذلك أنهم أرادوا أن يذكروا المناسبة بين الآيات القرآنية ،المسرودة على هذا الترتيب الموجود في المصاحف ، فجاءوا بتكلفات وتعسفات يتبرأ منها الإنصاف ، ويتنزه عنها كلام البلغاء ، فضلا عن كلام الرب سبحانه .)( )
ونرد عليه بأن للمناسبة فائدة وأي فائدة ، إذ أنها تساعد في ترجيح رأي على آخر إذا تساويا في القوة ، وكان أحدهما أليق بارتباط أجزاء الآية ، أو الآيات ، فإن العقل يتوجه بداهة لترجيح ما هو الأولى بنظم الكلام .
أما قوله بأن فن المناسبة ( كلام بمحض الرأي المنهي عنه ) فغير مقبول ، لأن الرأي المنهي عنه هو الرأي الناشئ عن الهوى ، أو غير الملتزم بضوابط التفسير قال الإمام الشاطبي : ( إن إعمال الرأي في القرآن جاء ذمه ، وجاء أيضا ما يقتضي إعماله ، فما كان موافقا كلام العرب ، والكتاب والسنة ، فهذا لا يمكن إهمال مثله لعالم بهما ، أماالرأي غير الجاري على موافقة العربية ، أو غير الجاري على الأدلة الشرعية ، فهذا هو الرأي المذموم ، المنهي عنه .)( )
كما أن ذكر المناسبة بين الآيات والسور : ليس تكلما بمحض الرأي ، بل هو يبرز الوحدة المعنوية بين آيات وسور الكتاب العزيز ، ويرسخ الاعتقاد بإعجاز القرآن الكريم ، لما يبديه هذا العلم من لطائف القرآن وأسراره ، كما أنه يعزز رأي العلماء الذين يرون أن ترتيب السور توقيفي ، لا اجتهاد فيه . أما قوله : ( فقد جاءوا بتكلفات وتعسفات ..الخ ) : ففيه حيف على المفسرين
فما أكثر المناسبات الذكية التي يقبلها العقل ، ويطرب لها الذوق ، وإذا قمنا برفض أي علم لأخطاء وقعت فيه ، لما بقي لنا علم ، ولا تفسير الشوكاني نفسه ، لما فيه من روايات ضعيفة ، وموضوعة ، يوردها دون أن ينبه عليها( ) وتابعهما في هذا الرأي ( من المحدثين ) الدكتور : صبحي الصالح ، حيث قال : ( فإن وقع – أي التناسب – في أمور متحدة ، مرتبطة أوائلها بآخرها ، فهذا تناسب معقول مقبول ، وإن وقع على أسباب مختلفة ، وأمور متنافرة ، فما هذا من التناسب في شيء .)( )
وقد خالف جمهور الأمة أصحاب هذا الرأي ، ووهموا قائليه ، وأكدوا وجود التناسب بين الآيات والسور . ومن هؤلاء : الشيخ ولي الله محمد بن أحمد الملوي المنفلوطي الشافعي ، حيث قال :
( قد وهم من قال : لا يطلب للآي الكريمة مناسبة ، لأنها على حسب الوقائع المفرقة ، وفصل الخطاب : أنها على حسب الوقائع تنزيلا ، وعلى حسب الحكمة ترتيبا وتأصيلا ، مرتبة سوره كلها ، وآياته بالتوقيف . إلى أن يقول : . والذي ينبغي في كل آية أن يبحث أول كل شيئ عن كونها مكملة لما قبلها ، أو مستقلة ، ثم المستقلة : ما وجه مناسبتها لما قبلها ، ففي ذلك علم جم ، وهكذا في السور يطلب وجه اتصالها بما قبلها ، وما سيقت له.)( ) وأشار الإمام الشاطبي إلى تعدد القضايا في السورة الواحدة ، وأكد أن هذا التعدد لا يمنع من وجود الترابط والتناسب بين الآيات ، فقال : ( غير أن الكلام المنظور فيه ، تارة يكون واحدا بكل اعتبار ، بمعنى : أنه أنزل في قضية واحدة ، طالت أو قصرت ، وعليه أكثر سور المفصل . وتارة يكون متعددا في الاعتبار ، بمعنى : أنه أنزل في قضايا متعددة ، كسورة البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، واقرأ باسم ربك وأشباهها ، ولا علينا أنزلت السورة بكمالها دفعة واحدة ، أم نزلت شيئا بعد شيء . ويقول : فسورة البقرة مثلا كلام واحد باعتبار النظم ، واحتوت على أنواع من الكلام بحسب ما بث فيها ، منها ما هو كالمقدمات والتمهيدات بين يدي الأمر المطلوب ، ومنها ما هو كالمؤكد والمتمم ، ومنها ما هو المقصود في الإنزال … ثم يقول : وسورة المؤمنين نازلة في قضية واحدة ، وإن اشتملت على معان كثيرة ، فإنها من المكيات ، وغالب المكي أنه مقرر لثلاثة معان ، أصلها معنى واحد ، وهو : الدعاء إلى عبادة الله تعالى ... إلى أن يقول : فالقرآن كله كلام واحد بهذا الإعتبار .)( )
وإضافة لما سبق يمكنني القول : بأن التعدد والتنوع في القضايا والأغراض ، هو نفسه الدافع إلى تلمس وجه المناسبة بين الآية وجارتها ، أما إذا كان المعنى واحدا في آيات السورة ، فلماذا نلتمس المناسبة ..؟ وهل تعقد مناسبة بين الشيء ونفسه ..؟
ثم إن العرب الذين نزل القرآن بلغتهم ، وتحداهم أن يأتوا بمثله ، وتدرج معهم في التحدي ، إلى أن اقتصر التحدي على سورة واحدة : ( وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله ..)( سورة البقرة : آية / 22 ).
لم يقولوا إنه مختلف القضايا والأغراض ، لا رابطة تربطها ، ولا سياق يجمعها ولو كان في وسعهم - وهم أرباب الفصاحة ، وفرسان البيان – ، أن يجدوا ثغرة للنفاذ منها لقول مثل ذلك لما ترددوا . كما أن من الواضح ، أن كل من ألف كتابا مشتملا على مطالب متفرقة ، وقضايا مختلفة، يلاحظ في ترتيبها مناسبة وارتباطا، فكيف بالحكيم المتعال ..؟
المفسرون وعلم المناسبات :
اعتنى كثير من المفسرين بعلم مناسبات القرآن الكريم في تفاسيرهم ، على اختلاف مشاربهم ،وكما دندنوا حول المناسبة بين الآيات ، بحثوا عن الصلة ، والمناسبة ، بين سور القرآن عامة ، وكانوا بين مقل ومكثر . وكان أبو بكر النيسابوري :أول من سبق إلى هذا العلم في بغداد ، وكان يلقي باللائمة على علماء بغداد لإهمالهم علم المناسبات ، والكلام في هذا الشأن .
وتعرض أحمد بن عمار المهدوي للوحدة المعنوية بين آيات القرآن الكريم ، وساق بعض الشواهد على التناسب بين آيات القرآن ، منها : قوله عند تفسيره لقوله تعالى : ( واتخذ الله إبراهيم خليلا )( النساء: 125) وما بعدها ، وهو قوله : ( ولله ما في السماوات والأرض ) ( النساء: 126) ووجه التناسب : ( إنما اتخذ إبراهيم خليلا لحسن طاعته ، لا لحاجته إليه ، لأن له ما في السموات والأرض )( )
وعرض الزمخشري في تفسيره الكشاف ، لإعجاز وأسرار الجمال القرآني ، وفيه يقول ( وهذه الأسرار والنكت ، لا يبرزها إلا علم النظم ، وإلا بقيت محتجبة في أكمامها )( ) وكان للمناسبة في كتابه حظ أوفى ممن سبقه من المفسرين وصنف ابن عطية كتابه في التفسير : ( المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ) وتعرض فيه للوحدة المعنوية بين آيات القرآن الكريم ، التي يرى أكثر البلاغيين والمفسرين أنها مظهر من مظاهر الإعجاز البياني في كتاب الله . فهو يقول في الإنتظام الوارد بين قوله تعالى : ( ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله ) ( البقرة: 115) ، وبين الآية التي قبلها : ( هذه الآية منتظمة في معنى التي قبلها ، أي : لا يمنعكم تخريب مسجد من أداء العبادات ، فإن المسجد المخصوص للصلاة إن خرب ، فثم وجه الله موجود حيث توليتم ) ( ).
وكان فخر الدين الرازي أكثر المفسرين اعتناء بعلم المناسبات ، قال الزركشي : ( وقد قل إعتناء المفسرين بهذا العلم ، وممن أكثر منه الإمام فخر الدين الرازي ، وقال في تفسيره : أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط .) ( )، والشواهد في تفسيره : ( التفسير الكبير) كثيرة .
واهتم ابن جزي الكلبي اهتماما بالغا بعلم المناسبة بين الآيات والسور في تفسيره : ( التسهيل لعلوم التنزيل ) ، اقتداء بشيخه : ابن الزبير الغرناطي . وعند تعرضه لتفسير آية مصارف الزكاة : ( إنما الصدقات للفقراء والمساكين ..) ( التوبة: 60) ، يطرح سؤالا عن سبب ذكر مصارف الزكاة في تضاعيف ذكر المنافقين ، ويجيب عنه بقوله : ( إنه حصر مصارف الزكاة في تلك الأصناف ، ليقطع طمع المنافقين فيها ، فاتصلت هذه الآية في المعنى بالآية التي سبقتها ، وهي قوله تعالى : ( ومنهم من يلمزك في الصدقات . )( )
ويعد أبو حيان الأندلسي ، من المفسرين القلائل الذين أولوا عناية للتناسب بين آيات وسور القرآن الكريم ، وتفسيره ( البحر المحيط ) حافل بالشواهد على ذلك ومن أمثلة ذلك : ما ذكره عند تفسير قوله تعالى من أول سورة الأنبياء : ( اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون . )( سورة الأنبياء : آية / 1) . فقد ذكر التناسب بين أول هذه السورة ، وآخر سورة طه ، وقال :[ مناسبة هذه السورة لما قبلها : أنه لما ذكر قوله : ( قل كل متربص فتربصوا ..)(طه:135) ، قال مشركوا مكة : محمد يهددنا بالمعاد ، والجزاء على الأعمال ، وليس بصحيح ، وإن صح ففيه بُعد ، فأنزل الله تعالى : ( اقترب للناس حسابهم )] ( )
وذكر مناسبة أول سورة عبس ، وهو قوله تعالى : ( عبس وتولى . أن جاءه الأعمى . ) (عبس: 1-2) للسورة التي قبلها - وهي سورة النازعات – فقال : مناسبتها لما قبلها أنه لما ذكر قوله : ( إنما أنت منذر من يخشاها . ) ( النازعات : 45) ، ذكر في هذه من ينفعه الإنذار ، ومن لم ينفعه الإنذار ، وهم الذين كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يناجيهم في أمر الإسلام ، كعتبة بن ربيعة ، وأبي جهل ، وأمية بن خلف، وأُبي ( )
وقد أورد أبو حيان شواهد كثيرة على التناسب المعنوي بين آيات القرآن الكريم ، من ذلك قوله : وهو يفسر آية التحدي في سورة البقرة عند قوله تعالى : ( وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا .. الآية ) ( البقرة: 23) قال : ( مناسبة هذه الآية لما قبلها : أنه لم يحتج عليهم بما يثبت الوحدانية ، ويبطل الشرك ، وعرفهم أن من جعل لله شريكا فهو بمعزل من العلم والتمييز ، ويحتج على من شك في النبوة بما يزيل شبهته ، وهو كون القرآن معجزة ، ويبين لهم كيف يعلمون أنه من عند الله ، أم من عنده ، أن يأتوا هم ، ومن يستعينون به بسورة )( )
وعند تفسيره لقوله تعالى : ( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم .. الآية )(النساء: 97) يبرز التناسب بين هذه الآية وما قبلها فيقول : ( مناسبة هذه الآية لما قبلها هي : أنه تعالى لما ذكر ثواب من أقدم على الجهاد ، أتبعه بعقاب من قعد عن الجهاد ، وسكن في بلاد الكفار )( ) . ويظهر الثواب الذي ذكره في قوله تعالى قبل هذه الآية : ( وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما . درجات منه ومغفرة ورحمة ..) (النساء: 95-96) ، ولا يتوقف في هذه السورة عند ذكر تناسب آياتها ، بل يورد التناسب بين أول السورة وآخرها ، فيقول : ( ختمت هذه السورة (يعني سورة النساء ) بهذه الآية ، ( يعني آية الكلالة ) ، كما بدئت أولا بأحكام الأموال في الإرث وغيره ، ليشاكل المبدأ المقطع ، وكثيرا ما وقع ذلك في السور . )( )
واهتم بها كذلك عدد من المفسرين ، منهم : الشهاب الخفاجي ، في حاشيته على تفسير البيضاوي . والإمام نظام الدين الحسن بن محمد النيسابوري ، في تفسيره : غرائب القرآن ، ورغائب الفرقان . والعلامة أبو السعود ، محمد بن محمد العمادي في تفسيره : إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم . والآلوسي ، شهاب الدين محمود في تفسيره روح المعاني . وغيرهم الكثير . وتفاسيرهم حافلة بالشواهد والأمثلة..
كما حاول بعض العلماء والمفسرين من القدامى والمعاصرين ، أن يحددوا للسورة القرآنية أهدافا ومقاصد عامة تعنى بها السورة ، وقد أعانت هذه الأهداف والمقاصد على تبين أوجه الربط بين آيات السورة القرآنية .
ومن العلماء الذين لهم إسهامات في هذا المجال كل من : شيخ الإسلام ابن تيمية في تفسيره لسورتي الفاتحة ، والإخلاص( ) .. وتلميذه : ابن القيم في تفسيره لسورتي الفاتحة والمعوذتين ( ) . وحاول الدكتور محمد أحمد السنباطي أن يجعل من : الإمام ابن القيم رائدا لهذا الاتجاه ( ) ، وتابعه في ذلك الدكتور : زاهر بن عوض الألمعي ، في كتابه ( دراسات في التفسير الموضوعي للقرآن الكريم )( ) . وتعرض ( الفيروزآبادي ) لبيان الأهداف والمقاصد لسور القرآن الكريم ، في كتابه ( بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز ) ( )
واهتم صاحب تفسير المنار ببيان أهداف السورة القرآنية ، حيث كان يضع في خاتمة تفسير كل سورة ، ملخصا لأهم موضوعاتها ، وقضاياها ( ).
وألف الدكتور : عبد الله شحاتة ، كتابا متخصصا في هذا الموضوع تحت عنوان : أهداف كل سورة ، ومقاصدها في القرآن الكريم ( ).
وقال الشيخ الطاهر بن عاشور : ( وقد اهتممت في تفسيري هذا ببيان وجوه الإعجاز ، ونكت البلاغة العربية ، وأساليب الاستعمال ، واهتممت أيضا ببيان تناسب اتصال الآي بعضها ببعض ، وهو منزع جليل ...) ( )
ويرى الشيخ سعيد حوى في مقدمة تفسيره : ( أن علماءنا دندنوا حول ضرورة البحث عن الصلة والمناسبة بين الآيات في السورة الواحدة ، وعن الصلة والمناسبة بين سور القرآن عامة ، ثم يقول : ولكن وإن عرج بعض المفسرين على هذا الموضوع ، فإن أحدا لم يستوعب القرآن كله بذكر الربط والمناسبة بين الآيات في السورة الواحدة ، وبين سور القرآن بعضها مع بعض على ضوء نظرية شاملة .)( )
كما حاول بعض العلماء إبراز الوحدة الموضوعية والتناسب بين آيات السورة القرآنية ، مثل : نابغة الأزهر : الدكتور محمد عبد الله دراز ، وتحدث عن ذلك في كتابه العظيم : ( النبأ العظيم ) فقال : ( واعلم أنه ليس من همنا الآن أن نكشف لك عن جملة الوشائج اللفظية والمعنوية التي تربط أجزاء هذه السورة الكريمة بعضها ببعض ، فتلك دراسة تفصيلية لها محلها من كتب التفسير ، وإنما نريد أن نعرض عليك السورة عرضا واحدا ، نرسم به خط سيرها إلى غايتها ، ونبرز به وحدة نظامها المعنوي في جملتها ، لكي ترى في ضوء هذا البيان كيف وقعت كل حلقة في موقعها من تلك السلسلة العظمى …. ثم يبين أهمية تحديد عمود السورة قبل الخوض في بيان المناسبات بين أجزائها فيقول : بيد أننا قبل أن نأخذ فيما قصدنا إليه ، نحب أن نقول كلمة ساق الحديث إليها ، وهي : أن السياسة الرشيدة في دراسة النسق القرآني ، تقضي بأن يكون هذا النحو من الدرس هو الخطوة الأولى فيه فلا يتقدم الناظر إلى البحث في الصلات الموضعية بين جزء جزء منه - وهي تلك الصلات المبثوثة في مثاني الآيات ومطالعها ومقاطعها - إلا بعد أن يحكم النظر في السورة كلها ، بإحصاء أجزائها ، وضبط مقاصدها ، على وجه يكون معوانا له على السير في تلك التفاصيل عن بينة …… إلى أن يقول : وبهذا تعرف مبلغ الخطأ الذي يتعرض له الناظرون في المناسبات بين الآيات ، حين يعكفون على بحث تلك الصلات الجزئية بينها بنظر قريب إلى القضيتين أو القضايا المتجاورة ، غاضين أبصارهم عن هذا النظام الكلي الذي وضعت عليه السورة في جملتها : فكم يجلب هذا النظر القاصر لصاحبه من جور عن القصد .؟ وكم ينأى به عن أروع نواحي الجمال في النظم .)( )
ومن المهتمين والمبرزين في هذا الجانب : الشهيد سيد قطب ، في تفسيره ( في ظلال القرآن ) ( ) فقد استوعب جميع سور القرآن الكريم ، في بيان وحدتها الموضوعية ، والجرس الموسيقي المتناسب مع الآيات والمعاني .
وقد اهتم الشيخ محمود شلتوت – شيخ الجامع الأزهر – ببيان مقاصد السورة ، ووحدتها الموضوعية ، من خلال تفسيره الذي فسر فيه عشر سور من القرآن الكريم ، يقول في تفسيره لسورة آل عمران : ( ونحن إذ نقرأ السورة ، نجدها قد برزت فيها العناية بأمرين عظيمين ، لهما خطرهما في سعادة الأمم وشقائها :
الأول : تقرير الحق في قضية العالم الكبرى ، وهي مسألة الألوهية ، وإنزال الكتب وما يتعلق بها من أمر الدين ، والوحي ،والرسالة .
والثاني : تقرير العلة التي من أجلها ينصرف الناس في كل زمان ومكان ، عن التوجه إلى معرفة الحق ، والعمل على إدراكه ، والتمسك به )( ) ثم يشرع في تفصيل الأمرين .
كما اهتم بها الشيخ عبد العزيز جاويش ، ودعا إلى تلمس الوحدة الموضوعية في السورة القرآنية ، التي تبين بصورة جلية ارتباط الآي بعضها ببعض ، فتتناسق آياتها ، وتتلاحم ، حتى تكون كالسبيكة الواحدة ، فقال : ( قد يغفل المفسر عما بين آيات القرآن من الارتباط ، والتناسب ، وما قد يفيد بعضها بعضا من البيان ، أو التقييد ، فيأخذها بالتأويل ، مفككة العرى ، مبددة النظم ، حتى إذا استعصى عليه أمرها ، ونبا عقله عن فهمها ، لا يزال يركب في تأويلها صعاب المراكب ، ويلتمس بلوغ معانيها بتسنم الجبال ، وقطع السباسب ، وقلما سلمت أقدامهم من العثار ، أو استطاعوا إبراز ما فيها من الآثار ) ( )
المصنفات في علم المناسبات :
لم يظهر التصنيف في هذا العلم - على عظيم فوائده - ، إلا في أواخر القرن الثامن الهجري ، حينما ألف ابن الزبير الغرناطي مصنفه ( البرهان في ترتيب سور القرآن )( ). وقد رأى أنه لم يسبق إليه ، فقال : ( ولم أر في هذا الضرب شيئا لمن تقدم وغبر ، وإنما ندر لبعضهم توجيه ارتباط آيات في مواضع متفرقات .) ( ) وهو يعني بذلك أن هناك محاولات قبله في معرفة أسرار ترتيب الآيات ، أما ترتيب السور ، فيرى أنه : (لم يقرع أحد هذا الباب قبله ، ممن تأخر أو تقدم .) ( )
وبعد ابن الزبير ألف الإمام برهان الدين إبراهيم بن عمر البقاعي المتوفى كتابه : ( نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ) ( ) ، وكتابه مشهور في هذا الفن ، اعتنى فيه بأوجه المناسبات . وكان من أوائل الكتب التي استوعبت آيات القرآن وسوره ، ببيان وتطبيق المناسبة عليها ، بل إنه كان نقطة التحول التي لفتت الانتباه إلى وحدة السورة القرآنية ، بعد أن كان الحديث عن المناسبات مجرد إشارات لبعض المفسرين . ، فكان مرجعا ضخما ، عول عليه كل من جاء بعده .
وصنف جلال الدين السيوطي ، ثلاثة كتب في هذا الفن :
الأول : أسرار التنزيل ، وقال عنه : إنه جامع لمناسبة السور والآيات ( )
الثاني : تناسق الدرر في تناسب السور، لخصه من كتابه ( أسرار التنزيل)( )
الثالث : مراصد المطالع في تناسب المقاطع والمطالع . وهو يتناول التناسب بين فواتح السور القرآنية وخواتمها( ) .
وتحدث الزركشي في كتابه البرهان في علوم القرآن عن التناسب ..( )
وممن أفرد هذا العلم بالتصنيف : - من المحدثين - : عبد الله الصديق الغماري ، فوضع كتابه : (جواهر البيان في تناسب سور القرآن )( )
كما تحدث نابغة الأزهر الشيخ الدكتور محمد عبد الله دراز في كتابه ( النبأ العظيم ) عن المناسبات بين آيات سورة البقرة . .
وكتب الدكتور محمد أحمد يوسف القاسم رسالته العالمية ( الدكتوراه ) في ( المناسبات في ترتيب آيات القرآن الكريم وسوره ) ونوقشت في كلية أصول الدين بالأزهر الشريف .( )
ونوقشت رسالة ماجستير في جامعة أم القرى بمكة المكرمة ، للباحث : محمد مصطفى آيدين ، تحت عنوان : (المناسبات بين الأسماء الحسنى والآيات التي ختمت بها )، وقد أشرف عليها الدكتور سمير عبد العزيز شيلوة ( ) ... كما نوقشت عدة رسائل بحثت في التناسب بين السور في عدة جامعات . .مثل : فواتح السور ومناسبتها لمقاصد السور ، لمنال بنت منصور محمد القرشي ، رسالة ماجستير ، حامعة أم القرى . والمناسبات في القرآن الكريم ، دراسة تطبيقية في سورتي الفاتحة والبقرة ، لعبد الله بن مقبل القرني . جامعة أم القرى . والبيان في الإعجاز والتناسب في القرآن الكريم ، والمناسبات القرآنية ، دراسة لغوية بيانية : وكلاهما : للأستاذ الدكتور . عقيد خالد حمودي العزاوي .. وغيرها الكثير .
الهوامش
- ابن فارس : معجم مقاييس اللغة ، دار الجيل ، بيروت ، ج5/ ص 423، 424
- ابن منظور : لسان العرب ، ج14 / ص 119 .
- انظر القاموس المحيط : فصل النون ، باب الياء .
- انظر نظم الدرر في تناسب الآيات والسور : 1: 5 . وبديع القرآن 1: 149 .
- البرهان في علوم القرآن 1: 36 .
- انظر : مباحث في التفسير الموضوعي : د. مصطفى مسلم : ص 58.
- محمد رشيد رضا : تفسير النار ، ج2/ ص445 .
- الزركشي : البرهان في علوم القرآن ، ج1/ ص35-36. .
- د. بسيوني عرفة : الفصل والوصل : ص 39 .
- الزمخشري : الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل . ج1/ ص 497 ، و ج2/ ص 153 .
- انظر : مباحث في التفسير الموضوعي ص 58. ، والسيوطي : الإتقان : ج3/ ص323 .
- نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ، للبقاعي : 1: 6 .
- الحمصي ، د. نعيم: فكرة إعجاز القرآن منذ البعثة النبوية حتى عصرنا الحاضر ، مؤسسة الرسالة ،بيروت ص 95 . وانظر د . فضل حسن عباس : إعجاز القرآن ص 170 .

- انظر : د. فاضل صالح السامرائي : التعبير القرآني ، ص 60-61
- انظر : السامرائي، د. فاضل صالح : التعبير القرآني ( مرجع سابق ) : ص 19
-فخر الدين الرازي : مفاتيح الغيب ، ( الشهير بالتفسير الكبير ) ج6 / ص 236 .
- د. فضل حسن عباس : البلاغة فنونها وأفنانها - علم المعاني . ص 492.
- ابن أبي الاصبع المصري : بديع القرآن : ص 45-46.
- د. فضل حسن عباس : 459، 498، 499.
- أ. د فضل حسن عباس ، اللاغة فنونها وأفنانها ، علم المعاني : ص 499.
- المرجع السابق : ص 495.
- ابن رشيق : العمدة : ج2: 69.
- انظر : ، د . فاضل صالح السامرائي: التعبير القرآني ص 201 .

- الرازي، فخر الدين محمد بن عمر : ج4 / ص234 . و عبد العزيز ، د. سمير: الإيضاح والتبيين في علوم القرآن الكريم : ص 110 .
- الآلوسي : روح المعاني: ج24/ ص 70 ، 71 . وانظر : عبد العزيز ، سمير: الإيضاح والتبيين ( مرجع سابق ) ص 110 .
- انظر : الآلوسي : روح المعاني : ج24 / ص 71 .
- انظر : عبد العزيز ، سمير : الإيضاح والتبيين ( مرجع سلبق ) ص 111.

- انظر : ابن القيم : الفوائد المشوق إلى علوم القرآن : ص 95.
- الطباق : - هو الجمع بين الشيئ وضده في جزء من أجزاء الرسالة أ الخطبة أو البيت من بيوت القصيد انظر : العسكري، أبو هلال العسكري : الصناعتين، الكتابة والشعر ، ص238 ، والزركشي : البرهان ج3/ ص512
- المقابلة : إيراد الكلام ثم مقابلته بمثله في المعنى واللفظ على جهة الموافقة أو المخالفة . انظر أبوهلال العسكري ، : الصناعتين : ص 264 . والزركشي : البرهان، ج3/ ص515.

- انظر : د. سمير عبد العزيز: الإيضاح والتبيين ، ص 113
- الزركشي : البرهان : 3: 515-516.
- انظر : الزركشي : البرهان : 1: 75.
- الإستطرد هو: أن يأخذ المتكلم في معنى ، فبينا يمر فيه يأخذ في معنى آخر .. العسكري ، ابو هلال : الصناعتين ( مرجع سابق ) : ص 316 . وانظر السيوطي : الإتقان ( مرجع سابق ) : ج3/ ص 32

- انظر : القيعي ، د . محمد عبد المنعم : الأصلان في علوم القرآن : ص 62 .

- انظر : الأصلان في علوم القرآن : 63.
- البرهان : 1: 64.
- البرهان : 1: 64.
- انظر : البقاعي ، نظم الدرر 4: 441.
- السيوطي : الإتقان : ج3/ ص 337 .
- انظر: السيوطي : تناسق الدرر في تناسب السور ، والغماري ، عبد الله الصديق: جواهر البيان في تناسب سور القرآن . .
- انظر : د. عبد الحكيم الأنيس ، مجلة الأحمدية ، العدد الحادي عشر ، جمادى الأولى 1423ه، ص 59.
- الزركشي : البرهان ( مرجع سلبق ) : ج1/ ص 62-63 .
- انظر : الزركشي : البرهان : ج1/ ص62 .
- انظر: الزركشي : البرهان : ج1/ ص62 .
- محيي الدين ابن عربي : رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن جمعه: محمود الغراب : ج1/ ص 13- 14. (باختصار)
- البقاعي : نظم الدرر : ج1/ ص 15-16 .
- عز الدين عبد العزيز ابن عبد السلام : الإشارة إلى الإيجاز في بعض أنواع المجاز : ص 221 .

- الشوكاني : فتح القدير : ج1/ ص 85- 87 .
- انظر : الشاطبي : الموافقات : ح3/ ص421 .
- انظر : الذهبي : التفسير والمفسرون : ج2 / ص 288- 289 .
- د. صبحي الصالح : مباحث في علوم القرآن : ص 152
- البقاعي : نظم الدرر : ج1/ ص 15-16 .

- الشاطبي : الموافقات : 3: 414-420
- د. حسن مسعود الطوير : المنهج البلاغي لتفسير القرآن : 46.
- الكشاف : 2: 302.
- د. حسن مسعود الطوير : المنهج البلاغي لتفسير القرآن الكريم : ص 71 .
- الزركشي : البرهان ( مرجع سابق ) ، ج1/ ص62.
- محمد بن أحمد بن جزي الكلبي : التسهيل لعوم التنزيل : ص 256 .
- أبو حيان محمد بن يوسف : البحر المحيط : ج6/ ص295 .
- أبو حيان ،: البحر المحيط : ج8 / ص427 .
-االبحر المحيط : 1: 102.
- البحر المحيط : 3: 333
- البحر المحيط : 3: 406.
- انظر : دقائق التفسير ، لابن تيمية : جمع وتحقيق د. محمد السيد الجليند .
- ابن القيم : التفسير القيم : جمعخ : محمد أويس الندوي .
- انظر : د. محمد أحمد السنباطي : منهج ابن القيم في التفسير .
- انظر : د. زاهر عوض الألمعي : دراسات في التفسير الموضوعي
- الفيروزآبادي: بصائر ذوي التمييز : تحقيق : محمد علي النجار .
- محمد رشيد رضا : تفسير القرآن الحكيم : 1: 416-417. ج2: 11، وص 56. ج3: 293-294. ج7: 288-289.
- انظر : د. عبد الله محمد شحاتة : أهداف كل سورة ومقاصدها في القرآن الكريم .
- تفسير التحرير والتنوير : 1: 8 .
- سعيد حوى: الأساس في التفسير : ج1/ ص 21-28 .

- د. محمد عبد الله دراز : النبأ العظيم : 158-159.
- سيد قطب بن إبراهيم : في ظلال القرآن .
- الشيخ محمود شلتوت : تفسير القرآن الكريم : الأجزاء العشرة الأولى . 51-53.
- الشيخ عبد العزيز جاويش : تفسير أسرار القرآن : 117.
- قامت وزارة الأوقاف المغربية بطبع الكتاب ، تحقيق محمد شعبان .
- ابن الزبير الغرناطي : البرهان في ترتيب سور القرآن / 181.
- المرجع السابق : 181.
- البقاعي : نظم الدرر في تناسب الآيات والسور . طبع دار الكتاب الإسلامي ، بالقاهرة .
- السيوطي : الإتقان : 3: 322.
- انظر : السيوطي : الإتقان : 3: 322.
- أشار إليه السيوطي في كتابه الإتقان : 3: 330.
- عبد الله الصديق الغماري : جواهر البيان في تناسب سور القرآن .
- د. محمد أحمد يوسف القاسم : المناسبات في ترتيب آيات القرآن وسوره ( رسالة دكتوراة) .. مكتبة كلية أصول الدين _ الأزهر الشريف .
- د. سمير عبد العزيز شيلوة : الإيضاح والتبيين : 90.
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف