الأخبار
نتنياهو: هدفنا القضاء على حماس والتأكد أن غزة لن تشكل خطراً على إسرائيلالصفدي: نتنياهو يحاول صرف الأنظار عن غزة بتصعيد الأوضاع مع إيرانمؤسسة أممية: إسرائيل تواصل فرض قيود غير قانونية على دخول المساعدات الإنسانية لغزةوزير الخارجية السعودي: هناك كيل بمكياليين بمأساة غزةتعرف على أفضل خدمات موقع حلم العربغالانت: إسرائيل ليس أمامها خيار سوى الرد على الهجوم الإيراني غير المسبوقلماذا أخرت إسرائيل إجراءات العملية العسكرية في رفح؟شاهد: الاحتلال يمنع عودة النازحين إلى شمال غزة ويطلق النار على الآلاف بشارع الرشيدجيش الاحتلال يستدعي لواءين احتياطيين للقتال في غزةالكشف عن تفاصيل رد حماس على المقترح الأخير بشأن وقف إطلاق النار وتبادل الأسرىإيران: إذا واصلت إسرائيل عملياتها فستتلقى ردّاً أقوى بعشرات المرّاتإعلام الاحتلال: نتنياهو أرجأ موعداً كان محدداً لاجتياح رفحإصابة مطار عسكري إسرائيلي بالهجوم الصاروخي الإيرانيالجيش الإسرائيلي: صفارات الانذار دوت 720 مرة جراء الهجوم الإيرانيالحرس الثوري الإيراني يحذر الولايات المتحدة
2024/4/16
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

صناعة العبارة وفن الانتقاء في مجموعة "الخزاف النابلي" نموذجاً

تاريخ النشر : 2020-08-06
صناعة العبارة وفن الانتقاء في مجموعة " الخزاف النابلي" نموذجا.

للشاعر صابر العبسي

بقلم: الهادي عرجون- تونس

ما قبل القول:" صناعة العبارة... فن يحتاج لانتقاء عميق للكلمات وفيض صادق من الإحساس"*.

   " الخزّافُ مع طِينهِ وطَميهِ يعملُ بقدميهِ مِدقّةً ليروضَّ بها الطينَ مفروداً  "  من هذا المقطع المترجم للشاعر محمد عيد ابراهيم يبحر بك فكرك إلى مناخات " الخزاف النابلي " حين يبدأ باستخراج الطين من المحاجر الكبيرة المجاورة للمدينة والمسماة بغار الطفل ويبلل الطين حتى يستوي ويحتفظ بطراوته ثم يصفى من أحجاره ويجفف ويهشم ويغربل ويخلط ثم يبلل ويترك مدّة طويلة حتى تتفاعل مكوناته مع بعضها ليتحول إلى نوع من العجين الطيني الليّن ثم يعاد خلطه وعجنه ودلكه ليطاوع الخزاف الذي يستعمل آليات بسيطة لصنع قطع الفخار، مكتفيا باستعمال قدميه و يديه بحركات وحرفية لم تتغير منذ آلاف السنين لتخرج من كتل الطين أشكال رائعة وتحف جميلة ذات أبعاد وأحجام ومرافق على درجة كبيرة من الدقة والتناسق وتطهى تلك الأواني في أفران إما بالطريقة الطبيعية أو تطلى وتزركش بألوان مختلفة.

   هذا ما ستشعر به وأنت تتصفح المجموعة الشعرية الصادرة عن دار "ميارة" للنشر مؤخرا للشاعر التونسي صابر العبسي تحت عنوان" الخزّاف النابلي" في 108 صفحة، استلهاما من المخزون الأثري الذي عرفت به منطقة نابل بالوطن القبلي التونسي بالحرفية في صناعة الفخّار. والتي جاءت في شكل قصيدة مطولة ضمن سياقات زمانية ومكانية متحوّلة غير ثابتة أبحرت بنا نحو مناخات متعددة ينتفي فيها الزمان والمكان فأنت في مكانك تمر بك كل الأزمنة وتتعاقب عليك كل الحضارات والأمم ويأخذك المكان إلى أمكنة زئبقية وبرزخية تعتمد لعبة الشعر ونحت الكلمات ليكون النص أقرب إلى فلسفة شعرية غرائبية يشكلها الشاعر صابر العبسي بحرفية منطلقا من حدث بسيط يتمثل في صنع الخزاف لتحفة من الفخار وينتهي بصورة ودلالة فلسفية جمعت كل الأفكار بيني يدي "الخزاف النابلي".  والتي وصفها الشاعر المنصف الوهايبي في تقديمه بـ:"القصيدة الموضوعيّة" حلم الشعراء لاعبي النرد. (ص10).

   فمن الافتراضي في لعبة الشعر في مجموعة "الوردة في منديل أبيض" الذي لفت الإنتباه في حقيقة النصوص التي يمكن اعتبارها مشروع كتابة لنص مكتمل في الترابط الجلي بين مختلف النصوص ليطلع علينا الشاعر صابر العبسي بالافتراضي في لعبة اللعب على رقعة شطرنج الشعر، لنكتشف معه النص الشعري المكتمل مع المجموعة الشعرية "الخزاف النابلي" وهو حلم كل شاعر فالكتابة تعاش أكثر مما تقال والشعر كما عبر عنه الشاعر صابر العبسي ذات حوار: " يتطلب صبرا وجلدا كي نمسك منه تفاحة أو ريشة أو وريقة. فالقصائد الحقيقية هي تلك التي لا تصنع فيها بقدر ما هي تجربة نعيشها وتستنفدنا".

   فقد استطاع الشاعر بسلاسته أن يخلق علاقة ثنائية بين العالم الوجودي والافتراضي بعالم الخزاف وحركاته، من خلال تحميل رموز أعماله الحرفية اليومية في صنع تحفته:

" المرأة الموال

والرجل المغني ما اشتهى

خببا على وقع الحصان

أمام باب كنيسة

تحت الرذاذ من التنهد

والقرابين الندى"(ص13)

 إلى هموم الماضي والحاضر، وبالتالي همومه وهموم القارئ. ليجعل من لحظة الإبداع وتشكيل الخزاف لتحفته أداة إبداع وخلق إنساني، وبذلك يكون قد استطاع تحويل تفاصيل الحياة اليومية المألوفة والأشياء العادية إلى قيمة تعبيرية.

"من يومها كان الحداد

وكانت الأكفان من حمم بأدمعها،

عوسجها، تطرزها البلاد،

ولا بلاد، سوى أسافلها أعاليها،

من الشذاذ للجنرال

ذاك الأعور الدجال في هرج

كما من قبله البايات والدايات،

والبشوات والأغوات بالقرباج للنوكى

من الأعراب، حشاشون، قوادون، أفاكون،

حطابون، أغربة، هم الأنجاس

......................."(ص71)

  وهو ما جعل الحاضر عنده عنصرا أساسيا في وقفة التأمل التي يحاول من خلالها إبداء قراءة جديدة للحظة أو لحركة بسيطة من خزاف. فالقصيدة هي بمثابة إشارة إلى قدرة الشاعر على التشكيل وإعادة الخلق مع سهولة التنقل بين الأزمنة وتعاقب الأمم التي مرت على هذا العالم.

"من قاع البسيطة

حينما انبثق الأمازيغ البرابرة المغول،

الفرس والفايكنغ والرمان، والإفرنج،

والهكسوس والأتراك،

والوندال، والفرعون،

والإغريق والأعراب والجرمان،

والياجوج والماجوج والرهبان والبشتون

والغيلان والديدان والإسبان"(ص66)

و هذا ما يجعل الصور المتعاقبة التي تتصاعد وتيرتها من حين لآخر إشارة لمدى القلق الذي يعانيه الشاعر تجاه هموم الأمة:

"أعراب رهابنة

وأعراب قراصنة

وأعراب صهاينة،

وأعراب سلاجقة،

وأعراب سماسرة،

وأعراب جلاوزة،

وأعراب أغالبة لقد غلبوا

وأعراب أزارقة،

وما رزقوا سوى الأنكى

من الخازوق بالطربوش تتريكا

وأعراب ملائكة، أبالسة

على دبابة المحتل قد عادوا

.................."(ص71)

    و تكرار الكلمة أو العبارة في مختلف مقاطع القصيدة خلق إيقاعا وموسيقى إضافة إلى فعل العناصر في مستوى المعنى الذي يرمي إليه الشاعر بأوصاف متقابلة حينا ومتنافرة حينا آخر، فاللغة عنده هي صلصال يشكلها مثل الخزاف كما يشاء ويطوعها ليكشف لنا معانيها.

    حيث استخدام الشاعر لكلمات وعبارات ما كانت لتستعمل في قصيدة معاصرة خاصة عندما يتعلق الأمر بموضوع راهن بتوظيف عناصر التراث فكلمات مثل:

-  ذكر مختلف الأعراق والأجناس التي وطئت الكون (الأمازيغ-المغول-الفرس-الفايكنغ-الرومان-الإفرنج-الهكسوس-الأتراك-الوندال-الفرعون-الإغريق-الأعراب-الجرمان...).

-  ذكر الطوائف والعشائر والقبائل والديانات والمذاهب والأقاليم (صهاينة-حنابلة-مجوس-شيعة-كرد-أفارقة-مشارقة-مغاربة-مرجئة-رهابنة-زنادقة-أشاعرة-قساوسة-خوارج-سنة-شيعة ...).

   وعلى الرغم من ايحائها المحدود إلا أن الشاعر تمكن عن طريق العلاقات التي خلقها بين هذه الكلمات وما يرمي إليه ساهم في توسيع مساحة إيحاء الكلمة وهو ما أضفى مناخا شعريا مميزا.

   كما اعتمد على التناص القرآني الذي يعتبر من أبرز التقنيات الفنية التي عني بها أصحاب الشعر الحديث، واحتفوا بها بوصفها ضربا من تقاطع النصوص، والذي يساهم في ثراء النص الإبداعي، وهنا يمكن اختزال مكان التناص وما يقابله في النص القرآني في الجدول التالي:

الصفحة الأسطر الشعرية الآية بالقرآن الكريم
ص38 هل كان نوح الشاعر النجار مبتهلا سيصنع قاربا؟

وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ  (سورة هود الآية 37)
ص40 ليصدر وحيه الكتب الثلاثة مقسما بالتين والزيتون والبلد الأمين

وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) (سورة التين الآيات 1 و 2 و 3) 
ص60 أوهن من ركاب النار أوهن من حياة، في بلاد

إِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (سورة العنكبوت الآية 41)

ص72 وأمريكا هي الأعلى من الفردوس من آلائها الكوكا دم الإنكا

فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (سورة الأعراف الآية69)

ص77 أدنى من جناح بعوضة أدنى كذلك من مصب نفاية

إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ۚ (سورة البقرة الآية 26)

ص86 يبحث حوله في الأفق عن عكازه،

حتى يهش الآن كالأفعى عليه

قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ (سورة طه الآية 18)
ص87 من شيد الإنسان علمه الكتابة والقراءة اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) (سورة العلق الآيات:1و2و3و4).
ص88 علمه الأسماء والسير البطيء على الرصيف لكي يرى علمته الأسماء كي يهجو وكي يرثي

وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (سورة البقرة الآية 31).

 

   ولا نعتقد أن استخدام عناصر التراث في العمل الإبداعي يفقد النص بريقه بقدر ما يجعل من النص ثريا وقابلا للتأويل خاصة من خلال استخدام الشاعر لعالم الرمز الذي مهد لتطور في نسق القصيدة التي اتخذت من عناصر الماضي فهما لأحداث الواقع.

فعند قراءة مجموعة "الخزاف النابلي" يشعرك وكأنك تدخل ورشة الخزاف يصحبك جو مهيب معتم بالغموض يمارس طقوسه لتخرج لك تماثيل شخصيات تاريخية ( ابن خلدون ) الذي ينط من تمثاله ويلقي الكتاب ليخط على الجدران الحب لا يحتاج أي وثيقة وتمثال (الزعيم) و كذلك صورة الجنرال الهارب في حوار سريالي:

" فأين الجند والحراس والشعب المصفق لي؟

فقاطعه ابن خلدون انتظر

لا لست ربا نعبدك

أسماؤك الحسنى هيي الزنزانة السعلاة

قد ضاقت، وقد صدئت، وقد تلفت، وقد ماعت،

ألا تبت يداك

هلا تركت حصانك الصوان

فهو نكاية بك قابل للإشتعال"(ص88)

  وأشباح وذكريات وصور تجسد لحظة الثورة التي جاءت في صورة النار والتي عبر عنها الشاعر بعدة حالات ومناخات (النار شبت-النار تلك النار-النار من سمى رأى-النار إلا النار-النار ثم النار-النار لا مرئية – النار تمحو) ليعبر عن لحظة تاريخية فارقة في تاريخ تونس فهي مكواة ومطهر للخطايا:

" هل هذه الخضراء تونس أم ترى

طروادة العربي

في اسطبله الرعوي

ضيع تاجه وزمانه

متوسدا أو هامه روثا لكل خطابة

النار مكواة الترهل والتجعد والبلى

والنار مطهرة الخطايا"(ص92)

نعم النار هي النار نار الثورة التي تكررت هذه اللفظة (35 مرة)، فسبحان من ألهم الشاعر صابر العبسي بأن يلخص الثورة في حركة بسيطة من يد خزاف ليشعل الثورة في فرنه، فهي الثورة على الجنرال، الثورة الصاعدة من الباساج حافية وعارية إلى قرطاج صاعدة:

" لا نار إلا النار

منذ بداية التكوين،

والتدوير والتدوين،

شبت في هراوي الشرطة العميان،

شبت في إهاب اللافتات من البنفسج

في نعال الباطل السكران

ملتحيا ومعتمرا قلنسوة

تعشش في غياهبها خفافيش الظلام"(ص101).

    فتفوح رائحة الطين، طين كن فيكون، لتحس بأنك في بداية الخلق وأنت تنظر إلى سيد الخلق آدم وهو يتشكل من طين لازب وينفخ في صورته ليكون جسدا.

   كما اعتمد الشاعر على تكرار حروف الجر (في، من) وأدوات الاستثناء (إلا) والعطف(و،لا)  والتخيير (أو) و(ما) المهملة، وجلها احتلت مساحة كبيرة من القصيدة، وهذا ما يجعل الإيقاع عند صابر العبسي إيقاعا انفعاليا نفسيا إلى حد بعيد فكأنه يكتب برحيق الروح وينفخ في النص من روحه بعد نحته نحتا. لتظهر الصورة من أعماق أعماقه لتتجلى معانيها في أبهى صورها.

" النار شبت

في انتفاضات الستائر،

في وريقات السراخس للوداعة

في مشدات العواطف،

في قماطات النظارة،

في المناديل الحمام، وفي أحابيل الظلال

وفي اندياحات الجوارب للأثير"(ص22).

    وفي الختام أكثر ما يمكن قوله أن هذه المجموعة فيها الكثير من الكلام والمعاني عرجت على بعضها و تركت الكثير منها ففي هذا السياق يجدر بنا ذكر ما يراه سارتر نحو الأدب الملتزم حين يقول " مما لا ريب فيه أن الأثر المكتوب واقعة اجتماعية ولا بد أن يكون الكاتب مقتنعاً به عميق اقتناع حتى قبل أن يتناول القلم أن عليه بالفعل أن يشعر بمدى مسؤوليته وهو مسئول عن كل شيء ، عن الحروب الخاسرة أو الرابحة ، عن التمرد والقمع إنه متواطئ مع المضطهدين إذا لم يكن الحليف الطبيعي للمضطهدين" و هو ما يجعلني مسئول بدوري تجاه هذا النص الباذخ الذي وقع في القلب رنينه و أسال لعاب القلم.

   وعلى هذا يمكن اعتبار أن الشاعر صابر العبسي كان مسئولا تجاه مجتمعه وهو ما يجعل شعره صادقا يعبر ويكشف عن الواقع الذي يعيشه وما تمرّ به من ظروف تؤثر على نفسيته وعلى كلماته لأنها سوف تخرج من منبع صدق وتجد لها طريقا سلسة إلى فكر القارئ ووجدانه.

------------------------------

·       قولة أجهل صاحبها، مع الاعتذار لقائلها.
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف