الأخبار
2024/5/17
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

إشكالية اللحظة بقلم: عادل بن مليح الأنصاري

تاريخ النشر : 2020-07-23
إشكالية اللحظة بقلم: عادل بن مليح الأنصاري
إشكالية اللحظة

( عادل بن مليح الأنصاري)

قبل والآن وبعد , دورة زمنية يدور في فلكها الإنسان كما أراد الله له أن يكون , وحتى محاولات سحر الفيزياء لم تفلح للآن من تغيير تلك الدورة الأزلية , هناك أفكار ونظريات في عالم الفيزياء تحاول العبث أو ربما كشف حقيقة تلك الدورة وكونها قابلة للتدخل من عدمه , ولكنها دورة يقضي البشر حياتهم في رحمها دون الاهتمام في تفاصيلها , ولكن هناك أفكار تراود البعض في كيفية التعامل معها , ومحاولة معرفة حدود كل منها , وكيف تؤثر فيه أو يؤثر فيها .
هناك مبادئ معرفية يدركها الجميع فالماضي والحاضر والمستقبل ايقونات تمر بذهننا دون أن نهتم بتشريحها , ومن هنا قد يطرأ سؤال على بال أحدنا , مثلا : كم عمري أو كم عمر فلان , أو فلان مات عن عمر كذا , وهذا العمر المقصود ظاهرا هو عدد السنين التي تشتمل على ما كان يعيشه الشخص ذات لحظة من ماضيه وحاضره و مستقبله , فأنا الآن أستطيع التفكير في ماضيي كما أعيش هذه اللحظة , وحتما لي خطط معينة عن المستقبل الذي أتمنى أن أعيشه , ولكن ما هو العمر الحقيقي الذي يمتلكه الإنسان ولديه القدرة على إثباته عدديا ؟
لم تأملنا في حياتنا العادية , فهي في حقيقتها ماضٍ أنتهى ولن أملك تغيير حدث واحد فيه أو إرجاع ثانية منه , ومستقبل أيضا لن أملكه ولا أعرف ما سيحدث فيه , ولا أملك تغيير ثانية منه , و(حاضر) ربما لا يتعدى لحظة بسيطة أملك فيها قرارا أعده (للمستقبل) الذي أجهل هل سيكون أو لن يكون , وبعد اتخاذه يخرج من دائرة الحاضر لدائرة (الماضي) , وكأنه لم يكن معدا للمستقبل , وهذه المعادلة تعني أن عمري الحقيقي هو هذه (اللحظة) التي أمتلك فيها قرارا وتصرفا معينا , فما بعده ماضٍ , وما قبله مستقبل , ويقبع الحاضر بينهما .
ورغم أن الإنسان تعود على قياس عمره بالسنوات ومنذ الأزل , إلا أن بعض الفلسفات تنبهنا أن العمر الحقيقي ليس بعدد السنوات , بل أحيانا بالزمن الذي يقضيه الإنسان مثلا (سعيدا) , أو الوقت الذي قضاه في تقديم الخير للناس , أو الوقت الذي منحه لخدمة البشر , وهي فلسفات لا تهتم بالأعداد الرياضية , فالبعض ربما يعيش 120 سنة دون أن يكون له ذِكر أو أثر أو فائدة لمن حوله , وبعضهم ربما يعيش 20 سنة أو 30 سنة وقد قدم للبشر ولمن حوله الكثير ممن لم يقدمه غيره ممن طالت بهم الأعمار .

ومن أمثلة ذلك :
- النووي , صاحب رياض الصالحين والأربعين النووية ,عاش خمسة وأربعين سنة ولكنه كان من أهم علماء الفقه والحديث في عصره .
- الشاعر طرفة بن العبد مات في سن السادسة والعشرين , وهو من شعراء المعلقات .
- الشاعر أبو تمام مات في الأربعين من العمر , وقد ألف كتاب فحول الشعراء , ونقائض جرير والفرزدق , وصاحب البيت الأشهر : السيف أصدق أنباء من الكتب ,,, في حده الحد بين الجد واللعب .
- أبو فراس الحمداني مات في 37 من العمر .
- ابن المقفع , صاحب كليلة ودمنة , والأدب الكبير , والأدب الصغير , مات في أل36 من العمر .
- عالم الفيزياء الإيطالي (تورشيللي) مات وعمره 39 عاما , الذي اخترع جهاز "البارومتر" , وأدخل تعديلات على جهاز الميكروسكوب .
- والرسام الهولندي الشهير (فان جوخ) , مات عن عمر 37 عاما وقد رسم 2000لوحة .
- إمام النحاة (سيبويه) مات عن 31سنة .

وغيرهم كثير , فليس هناك علاقة بين طول العمر وبين ما ينجزه الإنسان لمجتمعه وللبشرية كلها , ولكن ما يمكن أن ينجزه الإنسان في اللحظة التي يمتلكها , فرغم قصر عمر البعض إلا أنهم ملؤا تلك اللحظات المتعاقبة بالإنجاز , وأثمرت ثوانيها صفحات ناصعة احتفظت بأسمائهم وتاريخهم , وكم مر من اللحظات على غيرهم من ملايين البشر في ما لا طائل منه , والأسوأ أن تُملأ بما يثقل صفحات حياتهم بالخزي .
وفي القرآن الكريم إشارات جميلة لنسبية الوقت والعمر في حياة البشر , فوصف حياة البشر برغم اعتقادهم بأنهم عُمروا كثيرا من السنوات , بأنها في حقيقتها لحظات عابرة , يقول تعالي :

( كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ )

وقوله : ( كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا )

وقال تعالى : { قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين} أي كم كانت إقامتكم في الدنيا؟
{ قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادّين}

ومن اللطيف حول هذه الحقيقة , أن (الماضي) نملكه كذاكرة في عقولنا , ونستطيع الرجوع لنتذكره متى نشاء , بكل جماله وقبحه وآثامه وخيره وشره , ولكننا لا نستطيع تغييره أبدا , وأن (المستقبل) لا نملكه ولكن (ربما) نستطيع رسم وجهته نوعا ما بحسب قدرة كل منا في وضع خططه المستقبلية وتوقعاته وشفافية دراسته لمستقبله وذكائه أيضا مع القدرة على خلق واستغلال الظروف لتساعده على تلك التغييرات .
أما (الحاضر) أو اللحظة , فهي التي نملكها , ونملك القدرة على التغيير فيها , وهي التي ترسم الماضي والحاضر , فالفعل الحاضر هو الماضي بعد وقوعه , وهو المستقبل اثناء ممارسته , وهي الدورة الوحيدة التي نمتلك فيها المجد والرفعة والقبول عند الله والناس , وهي كذلك الدورة التي تسقطنا في مهالك الردى في الدنيا والآخرة , وهي اللبنة التي صنع منها العظماء الذكر الحسن في سطور التاريخ , كما صنع منها البؤساء صفحاتهم السوداء وانتهت بهم في مزابل التاريخ .
قد تقدم لنا اللحظة العابرة أحيانا الإثم وفي كأسه نشوة هائلة , وتحقق مطامع وأحلام لم تكن تخطر ببالنا , وتذهلنا كفرص لن تتكرر , وتغرينا باقتناصها والتمتع حتى الخدر في الغرق في نشوتها , ولكننا وللأسف قد ندرك بعقولنا البسيطة أنها نشوة زائلة , وسيزول الشعور بلذتها بمجرد مرورها السريع , عندها تخرج من دائرة الحاضر ونشوته وملذاته , لتدخل في دائرة الماضي بعد أن يبقى الفعل الآثم مهما كان نوعه , مصلوبا ومجردا من نشوته وملذاته في صفحات حياتنا كبقعة سوداء نتنة , وكأنها تردد قوله تعالى :

{أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} .

إن اللحظات الآثمة في دائرة الماضي غير قابلة للتعديل أو المحو , فهي (عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ ۖ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى) .
ولن ينفع في ذلك اليوم أماني الرجوع لتلك الدائرة ومحو ما فيها وتمني الرجوع لمحو تلك الآثام وقد وصفهم الله تعالى في ذلك اليوم وهم يتمنون ذلك :
{ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون} .

ربما دائرة الحاضر أو اللحظة , أو الثواني الآنية التي يمتلكها الإنسان , هي التي قصدها الشاعر أحمد شوقي في أبياته :
دَقّاتُ قَلبِ المَرءِ قائِلَةٌ لَهُ إِنَّ الحَياةَ دَقائِقٌ وَثَواني

أخيرا (إنها التوبة)

لم تتركنا رحمة الله تعالى أسرى لتلك الدائرة , وهي دائرة الماضي وما كُتب فيها من سوءات , بل ومهما تعاظمت تلك السوءات مالم تفيض الروح لبارئها , فقد ثبت في الصحيح ((الاسلام يجب ما قبله والتوبة تجب ما قبلها)) .
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف