الأخبار
2024/5/17
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

دماغ في حذاء بقلم:عادل بن مليح الأنصاري

تاريخ النشر : 2020-07-20
دماغ في حذاء  بقلم:عادل بن مليح الأنصاري
دماغ في حذاء

(عادل بن مليح الأنصاري)

الكائنات البشرية في كل مكان وفي كل زمان هي مخلوقات متجانسة برغم اختلاف البيئات والثقافات وحتى الأزمان والحضارات , فالجميع له نفس الهيكل العظمي والنسيج الجلدي مع اختلاف ألوانه , وكذا بقية مكوناته الخِلقية الأخرى , وحتى المخ تلك الكتلة العجيبة ذات الأسرار التي لم تُكشف بعد بصورة دقيقة , يتساوى فيها البشر من حيث الشكل والأبعاد والكتلة والحجم , ولا اعتبار للاختلافات الطفيفة التي قد توجد بين مجموعات البشر , وعبر هذه الكتلة تتم الأفعال الإرادية والأفعال اللاإرادية , باختصار هذه الكتلة العجيبة الغارقة في أسرار لا نهائية , لا فرق بين تكوينها سواء أكانت في جمجمة آينشتاين أو هبنقة , أو بين علماء الفلسفة وبين الدراويش وحتى المجانين .
ولكن ما الذي يجعل الدماغ بمواصفاته المتماثلة من خلق العبقري والمغفل ؟
لا شك هي الحاضنة التي نشأ فيها هذا الدماغ إذا استبعدنا الخلل العضوي , فالبيئة والأسرة ونوعية التعليم والفرص المتاحة هي التي تُحدث الفرق بين أدمغة البشر , فدماغ آينشتاين أُزيل بعد سبع أو ثمان ساعات من وفاته لكونه دماغ لشخص استثنائي بين البشر في قوة عبقريته وانتاجه لأعظم الأفكار الفيزيائية في التاريخ , وبدون الدخول في تفاصيل دقيقة عن الدراسات التي أُجريت لدماغ آينشتاين , إلى أن النتيجة إجمالا أن دماغه لا تختلف عن بقية أدمغة البشر العاديين وحتى الأغبياء وبشدة , من هنا نُدرك بشكل تلقائي أن تكوين الدماغ وحجمه ليس له علاقة بالذكاء أو العبقرية أو الغباء والسذاجة , من هنا لن نجد إجابة على سؤالنا لماذا هذه الفروقات إلا في البيئة والتعليم والأسرة .
قد يتطور العلم ذات يوم ويكتشف العلماء أن الفروقات بين البشر في الدماغ مذهلة ولكن ليس بالشكل الذي ندركه اليوم , عندها سيصبح العالم خياليا وغير متوقع , فربما يُكشف عن الأجنة قبل الولادة وُيعرف أيها يتمتع بالذكاء والعبقرية وأيها عادي أو متخلف أو غبي , وتبدأ إشكالية لن نتوقع تفاصيلها اليوم ولو من باب الخيال , فهل سيحق للوالدين أو السلطة أو المجتمع من اتخاذ قرار بالتخلص من الأجنة صاحبة الدماغ الغير مرغوب فيه ؟
وكيف يكون ذلك المجتمع إذا امتلأ بالعباقرة ؟ وما هي مخرجات تلك العقول وكيف تُصنف ؟
وما هي الفرص المتاحة لكل فرد بناء على مستوى عبقريته ؟
وما هي المخاطر من انحراف بعض العباقرة عن جادة الصواب أو تكوين منظمات لها أهداف لا تصب في صالح المجتمع , وكيف يمكن مقاومتها إذا كانت تتمتع بتلك الصفات العبقرية ؟
هل نتصور كيف تُحل الخلافات في مجتمع ينقسم فيه الناس لأخيار وأشرار وجميعهم يتمتعون بالعبقرية والدهاء ؟

لنأخذ مثالا واقعيا من وقتنا الحاضر :
هناك إنسان بسيط في تفكيره أو لنقول فيه شيء من الغباء , خطط لسرقة رغيف خبز من المخبز , ونجح في ذلك , سنقول سرقة رغيف خبز واحد ليست مشكلة سلوكية خطيرة ويمكن التغاضي عنها , ونفس الشخص جلس يوما أما منزله وشاهد قطا فرماه بحجر وقضى عليه , ربما نستصغر تلك الحوادث , ولكن لو تأملنا تصرفات ذلك الشخص بالنسبة لمستوى تفكيره وانخفاض ذكائه , فهو ربما يظن أنه تصرف بكل قواه العقلية والإرادية , وربما وجد متعة في التخطيط والتنفيذ , فهو هنا يمتلك قوة التعدي على القانون والنظام المجتمعي ولو بصورة بسيطة بالنسبة لغيره , ولكن حتما بالنسبة له هو قد قام بكل ما يملك من قوة تفكير وتصميم وتنفيذ في ارتكاب ذلك الفعل .
هو نفس الشخص الذي استخدم دماغه في إشعال الحروب وقتل البشر و ربما بالملايين وتسبب في إشعال المجاعات وانتشار الظلم والجوع والخوف لمجموعات هائلة من البشر بحجة السلطة والقيادة والتخطيط , ويرى نفسه قد استخدم دماغه في تنفيذ إرادته وتحقيق مخططاته باسم الذكاء والعبقرية , وربما يمتلك الحجج لتبرير كل ما قام به .

في الواقع أن كلا الشخصين أرتكب جريمة في حق المجتمع , فالأول تعدى على حق غيره في رغيف خبز لا يستحقه ثم قتل قطة بدون سبب فقط لأنه يستطيع ذلك ولم يترك حيزا للتفكير في قانونية وأخلاقية ما قام به , والثاني مارس نفس الحق مع اختلاف نتائج تفكيره .
ما الخطأ الذي لا يظهر هنا بين الفعلين ؟
قد نتفق أن الغالبية العظمى من البشر يملكون تفكيرا عاديا أو أقل من العادي أو مميزا لحد ما فقط , فلو جمعنا ممارسات الناس العاديين أو الأقل من العاديين والتي تعتبر خطأ في حق المجتمع بطريقة أو بأخرى , وتراكمت تلك الممارسات والتي حتما هي تسيء من قريب أو بعيد لأخر سواء أكان جهة أو شخص بعينه أو جماعة أو دولة , تلك الممارسات البسيطة التي نتجت عن التفكير السطحي الخاطئ ضد المجتمع في مجموعها ونتائجها ربما توازي ما يفعله عشرات الأشخاص الأذكياء أو العباقرة بنفس القيمة العدائية .
المجتمع البشري ومنذ الأزل يقع بين فعلين مسيئين للمجتمع , فبعضها يُعرف سببه ونشاهده بوضوح , كافتعال الحروب وقمع الحشود والتدخلات البينية , والاعتداءات الجماعية , وبين ملايين الممارسات اليومية البسيطة بين أبناء المجتمع الواحد والتي لن ولم يخلو منها مجتمع يوما عبر التاريخ , وهي لا تعد ولا تحصى ولكنها قد تكون سببا في الكثير من المشاكل النفسية والعصبية والصحية وربما الاقتصادية , وبعضها ربما يتطور بما يعرف (بتأثير الفراشة) ويتسبب في فوضى عارمة وكما يقال (معظم النار من مستصغر الشرر) , كأن يشتمك شخص في زحام مروري , أو أن يحاول أحدهم مضايقتك بسيارته عند باب بيتك , أو تغضب من بائع لسلعة ما وتتجادلان بغضب , وربما اكثر تلك الممارسات ما يحدث في مباريات كرة القدم , وفي النهاية تلك الممارسات اليومية وإن كانت تأخذ شكلا بسيطا وربما عابرا , فهي في مجموعها تخلق بيئة مستفزة تشحنك بطاقة سلبية وقابلة للزيادة .

العقل البشري ومنذ قتل قابيل هابيل , لم ولن يتورع في استخدام دماغه للسيطرة والتحكم في الغير , والتحكم في الغير يؤدي بالاستئثار بالقوة والثروة والسيطرة والقيادة , وهي تحتاج لتخطيط وتنفيذ ووضع خطط بدقة وذكاء , فلذلك قلة من البشر عبر التاريخ من امتلكوها , وهي لا تخلو من حرب أدمغة أيضا , فالمسيطر ربما لا يكون أذكى ممن عاونه للوصول للقمة , ولكنها مجموعة أدمغة تضافرت لوصول دماغ محدد للقيادة لظروف مختلفة , ومن عجائب وغرائب الدماغ البشري أنه لا يخضع للمنطق الواضح والاستنتاجات البديهية بسهولة , حتى عند أولئك الأذكياء أو العباقرة , فمجموعة العقول تلك ساهمت في وصول عقل واحد للقيادة , وبدونها لم يكن ليتمكن من الوصول لتلك المكانة , وإذا تمرد ذلك الدماغ الذكي القائد على مجموعة الأدمغة الذكية التي ساعدته على الوصول للقيادة وقام باضطهادها أيضا كما يضطهد بقية الأدمغة العادية أو الغبية , تعجز تلك الأدمغة الذكية من إعادة المحاولة وتدارك فشلها في الاختيار , ولو تصرف معهم كما يتصرف أي غبي من بقية المجتمع .

هذه قصة إنسانية مصاحبة للوجود البشري ومنذ بدء التاريخ , وستظل تتردد ما بقي الجنس البشري على كوكب الأرض , ولن نصل للمدينة الفاضلة إلا لو راقبنا مكونات الطاقة التي تتحكم في تشكيل الدماغ البشري , وهي التعليم والأسرة والبيئة , ولن يستطيع البشر وضع حد لجموح وطيش الدماغ البشري إلا بوضع قانون للأخلاق يسير الدماغ , بعد أن يُصقل بالتعليم الجيد , والاهتمام بثقافة الأسرة الحديثة , ومراقبة البيئة المجتمعية وتنقيتها من الشوائب الأخلاقية , وبنظرة فاحصة للوضع البشري اليوم ندرك أن هذا حلم بعيد المنال , وربما يستطيع الإنسان التدخل في تشكيل الدماغ وتنقيته من السلوكيات المضرة بالمجتمع قبل بناء المجتمع والأسرة والتعليم بشكل لائق .

ويظل في ديننا الحنيف بعض التوجيهات الكفيلة بتنقية الأدمغة من الكثير من تلك الممارسات السلبية شاء من شاء وأبى من أبى , فديننا حثنا على أبسط السلوكيات التي ترتقي بالإنسان من حيث يعلم ومن حيث لا يعلم مثل :
فالابتسامة رغم بساطتها وعفويتها تكفي لنزع الرهبة بين البشر .-
- وإلقاء السلام كفيل ببث شعور إيجابي لدى الغير .
- وإماطة الأذى عن الطريق سلوك حضاري يبعث على الهيبة نحوك في نفوس الناس , كما
أنه عامل حاسم في تنقية البيئة المحيطة من الشوائب مما يبعث الراحة النفسية لدى الجميع .
- عدم إيذاء الجار , سلوك إنساني ينشر المحبة والسعادة والتراحم بين أبناء المجتمع , ويقضي على الكثير من بواعث الشحناء والعداوة .
- وفي الزكاة والصدقة نزع لأحقاد الفقراء ونشر التراحم والتكافل الاجتماعي والاقتصادي بين أبناء المجتمع الواحد , مما يقلل من وتيرة العداوة والشحناء بينهم .
- وفي تحريم السرقة والرشوة وأكل مال الناس بالباطل والربا والبخل والتبذير , كلها سلوكيات اقتصادية تبعد عن المجتمع الكثير من المعاناة والمآسي .
- وفي الحث على العدل وتعظيم جرم الظلم فيه حماية للمجتمع وتثبيت أمنه ورخائه .
- وفي الأمر بل وتعظيم هذا الأمر وهو طاعة الوالدين فيه من الخير ما لا يمكن حصره , ولعل أهمها أحد محاور بناء الدماغ الحضاري وهو الأسرة , ففي طاعة الوالدين تماسك وقوة للأسرة لتكون الدرع الواقي من تلوث سلوكيات المجتمع الخارجي .
- وحتى الحث على عدم قطع الأشجار بل وزراعتها فيه نفع للبيئة وجمالها ولا يخفى ما لذلك من مردود نفسي على الإنسان .

أخيرا
هل فعلا أن الإنسان يملك دماغا في رأسه يفكر به , لو كان كذلك , فلماذا هذه الفوضى الأخلاقية والاقتصادية والسياسية والمجتمعية والحروب , ومحاولة الإنسان القضاء على أخيه الإنسان لمجرد اعتقاده بتفوقه العقلي وذكائه المميز ؟
لماذا لم تفلح مئات الألوف من السنين من تثقيف وتنقية دماغ الإنسان رغم تعاقب الحضارات والأديان وتوجيهات الكتب السماوية , وتطور الأدب والفلسفة والمسرح والمكتبات , وانتشار المعرفة الورقية ثم الإلكترونية , ولم يزل الإنسان يملك ذات الدماغ الذي يملكه قابيل ؟

هل يقع دماغ الإنسان في حذائه أم في رأسه ؟؟؟
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف