الأخبار
بعد جنازة السعدني.. نائب مصري يتقدم بتعديل تشريعي لتنظيم تصوير الجنازاتبايدن يعلن استثمار سبعة مليارات دولار في الطاقة الشمسيةوفاة العلامة اليمني الشيخ عبد المجيد الزنداني في تركيامنح الخليجيين تأشيرات شنغن لـ 5 أعوام عند التقديم للمرة الأولىتقرير: إسرائيل تفشل عسكريا بغزة وتتجه نحو طريق مسدودالخارجية الأمريكية: لا سبيل للقيام بعملية برفح لا تضر بالمدنييننيويورك تايمز: إسرائيل أخفقت وكتائب حماس تحت الأرض وفوقهاحماس تدين تصريحات بلينكن وترفض تحميلها مسؤولية تعطيل الاتفاقمصر تطالب بتحقيق دولي بالمجازر والمقابر الجماعية في قطاع غزةالمراجعة المستقلة للأونروا تخلص إلى أن الوكالة تتبع نهجا حياديا قويامسؤول أممي يدعو للتحقيق باكتشاف مقبرة جماعية في مجمع ناصر الطبي بخانيونسإطلاق مجموعة تنسيق قطاع الإعلام الفلسطينياتفاق على تشكيل هيئة تأسيسية لجمعية الناشرين الفلسطينيينمسؤولون أميركيون:إسرائيل لم تضع خطة لإجلاء المدنيين من رفح..وحماس ستظلّ قوة بغزة بعد الحربنتنياهو: سنزيد الضغط العسكري والسياسي على حماس خلال الأيام المقبلة
2024/4/23
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

جـــرائـــم فرنسا في الـجزائـــر شـهادات ضـد النـسيـان بقلم:د.محمد سيف الإسلام بوفلاقة

تاريخ النشر : 2020-07-15
جـــرائـــم فرنسا في الـجزائـــر شـهادات ضـد النـسيـان  بقلم:د.محمد سيف الإسلام بوفلاقة
جـــــــرائـــم فرنسا في الـجزائــــر
 شـهادات ضـد النـسيـان
بقلم:الدكتور محمد سيف الإسلام بوفـلاقــــة

 كلية الآداب-جامعة عنابة-الجزائر

     يؤكد العلاّمة الشيخ محمد الصالح الصديق على أن«ما لاقاه الشعب الجزائري خلال الاحتلال،وخلال ثورته المجيدة،من أنواع الظلم والقهر،ومن أنواع التنكيل،والتعذيب،هو الذي سيظل ناراً مؤججة في الأعماق،وقوة موحدة،وطاقة دافعة،وضلالاً كئيبة تنقر كل ما يمس بكرامة الوطن،وينال من سيادته،وإذا كان الإيمان القوي،والوطنية الصادقة،والوفاء لثوابت الأمة هو الذي جعل أبطال،وبطلات ثورة التحرير يستميتون في مجالات التضحية والايثارية والفدائية،وجعل الشعب الجزائري بمختلف فئاته يصمد أمام فظاعة التعذيب،فإن هذه المعاني،وهذه القيم أيضاً،هي التي جعلت،وتجعل رجال الفكر والقلم يمجدون تلك البطولات والمواقف،ويشيدون بتلك المقاومة العنيدة التي حطمت صخور الاستعمار الفرنسي،وأسقطت تحت مطارقها عروش طغاته،وعتاته،وغيّرت مجرى التاريخ في الجزائر،بل في شمال إفريقيا كلها...ويحاولون بكل ذلك تربية النشء على تلك القيم والمبادئ والأخلاق،حتى تتكون منه أجيال تحس بآمال الشعب وآلامه،وتموت فداءً له إذا تطلب الأمر ذلك».

        و يضم هذا البحث  مجموعة من المُراجعات،والقراءات، التي تتصل بالجرائم الفظيعة المرتكبة من لدن الجيش الفرنسي أثناء فترات مختلفة من الوجود الاستدماري الفرنسي في الجزائر،وهو يندرج في إطار السعي إلى لملمة بعض ذكريات الذاكرة الوطنية الجزائرية،وتسليط الأضواء على جرائم وحشية،وأحداث تاريخية مأساوية معاصرة وقعت في الجزائر،ولم تلق عناية كافية من الدراسة،والتحليل.

          فقد عالجت في هذا البحث مجموعة من القضايا،والوقائع التاريخية،أغلبها يتصل بجرائم فرنسا في الجزائر ،والكثير منها وقع أثناء ثورة التحرير الجزائرية المظفرة ضد الاستدمار الفرنسي(1954-1962م)،ووقفت مع محطات مهمة وقعت أثناء سنوات الاحتلال الأولى،ومن بينها وقفة مع  كتاب:«جرائم الجيش الفرنسي في مقاطعتي الجزائر وقسنطينة1830-1850م»،كما قدمت في هذا البحث شهادات قُدمت من قِبل من عايشوا  الجرائم الفظيعة المُرتكبة خلال ثورة التحرير الجزائرية.

أولاً: جرائم فرنسا في الجزائر للأستاذ سعدي بزيان: 

      يُعد الأستاذ سعدي بزيان واحداً من كبار الكتّاب   الجزائريين ،فقد درس في معهد الإمام عبد الحميد بن باديس بمدينة قسنطينة، وبجامع الزيتونة في تونس، وفي العديد من الدول العربية بدمشق، والقدس العربي الشريف، وبغداد... 

     عمل في جريدة الشعب الجزائرية مراسلاً لها من باريس مدة ما يزيد  عن ثلاثٍ وعشرين سنة ، وفي جُملة من كُبريات الصحف والمجلات الجزائرية والعربية ،وقد صدر له العديد من المؤلفات ،من بينها نذكر:«أحاديث ممتعة»، و«الإسلام والمسلمون في أوربا الغربية»،و«الصراع حول قيادة الإسلام في فرنسا»،و«معركة الحجاب الإسلامي في فرنسا:أصولها وفصولها»، وغيرها.

         وفي كتابه هذا الموسوم ب:«جرائم فرنسا في الجزائر»،يُميط اللثام عن كثير من الجرائم الشنيعة التي ارتكبها الاستعمار الفرنسي في الجزائر ،ويُقدم أطروحات تكتسي أهمية بالغة، كما يُفند جُملة من الأباطيل التي نشرها جنرالات فرنسا، وهدفوا من خلالها إلى تزييف حقائق الجرائم المرتكبة،كما يُورد شهادات حية لشخصيات وكتّاب وسياسيين وأناس عايشوا الجرائم واكتووا بنارها.

جرائم فظيعة...من الجنرال بيجو إلى الجنرال أوساريس

    يستعرض المؤلف شلال الدماء ومسلسل الجرائم الفرنسية المرتكبة ابتداءً من سنة:1830م، إلى غاية1962م، فجرائم فرنسا لم تبدأ مع ثورة نوفمبر،أو مع ما يُسميه المؤرخون الفرنسيون«معركة الجزائر»،تلك المعركة التي تزعمها الجنرال بول أوساريس،تحت قيادة الجنرال ماسو سنة:1957م،وقد أدت إلى إلقاء القبض على الشهيد العربي بن مهيدي ،والمناضل ياسف سعدي،وأسفرت عن مقتل عدد كبير من الشهداء،من بينهم: علي لابوانت، وعلي بومنجل،وغيرهم،بل هي سلسلة متواصلة من الجرائم ضد الإنسانية  خلال قرن وربع،وما تلاها من جرائم ارتكبها الاستعمار الفرنسي في مستعمرات عديدة.

    عندما سُئل الكاتب والمناضل الفرنسي فرانسيس جانسون ،صاحب كتاب:«الجزائر الخارجة على القانون» ،على التعليق على ما ورد في اعترافات الجنرال بول أوساريس في كتابه:«أجهزة خاصة» أجاب:«إن مسألة التعذيب مرتبطة بالمسألة الاستعمارية،وأعتقد أنه على رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة معاً الذهاب إلى الأمام في تصريحاتهم التي سمعناها حتى الآن حول مأساة شعب،وعلى المسؤولين اليوم طلب السماح من أولئك الذين عانوا خلال حرب التحرير،وأقصد بالضبط طلب الاعتذار والسماح من الشعب الجزائري فيما لحقه من جرائم من طرف الاستعمار الفرنسي...».إن الجرائم الفرنسية والقتل الجماعي الذي ارتكب خلال الثورة«1954-1962م»،هو امتداد للجرائم البشعة التي ارتكبت أثناء الاحتلال سنة:1830م،وفي ثورة المقراني سنة:1871م،وما تلاها من ثورات التي لم تتوقف منذ وطئت أقدام الفرنسيين أرض الجزائر ،يتساءل المؤلف: كيف يمكن للشعب الجزائري أن يتناسى جرائم 8مايو1945م والتي راح ضحيتها خمسة وأربعون ألف شهيد، وكيف يمكن نسيان جرائم20أوت1955م في سكيكدة ،والتي كانت تحت إشراف الجنرال أوساريس،وهل يمكن نسيان جرائم 17أكتوبر1961م،التي قام بها موريس بابون في حق الجالية الجزائرية في باريس تحت لواء جمهورية الجنرال دوغول ووزيريه ميشال دوبري رئيس الحكومة، وروجي فري وزير الداخلية ،والتي استشهد في يومها ثلاثمائة مواطن جزائري رُمي جُلّهم في نهر السين بباريس، كما قُتل عدد كبير داخل مراكز الشرطة، وأُغرق العشرات بواسطة الطائرات في البحر،  ومما ذكره الأستاذ محمد بن رابح في مقال له بجريدة  لوفيغارو :« إن فرنسا خاضت حرباً شرسة ضد الشعب الجزائري منذ الاحتلال سنة:1830م،وكان الجنرال بوجو قد دشن يومئذ حرب الإبادة  ضد الشعب الجزائري البالغ عدد سكانه يومئذ ثلاثة ملايين نسمة ،وخلال خمس عشرة سنة تقلص العدد إلى مليونيين».

     ومن الذين ارتكبوا جرائم شنعاء العقيد بيليسي الذي أصدر أوامر لجنوده بإضرام النار في مغارة التجأ إليها أفراد من الشعب هروباً من جحيم الاستعمار وفي ظروف مأساوية قلّ نظيرها اختنق هؤلاء في المغارة وماتوا جميعاً . وعن الجنرال بوجو فمنذ أن حلّ بالجزائر سنة:1841م،فقد تبنّى سياسة الحرب الشاملة ضد الشعب الجزائري،وقد كانت الاستراتيجية الأساسة التي اعتمدها هي حرب الإبادة ففي نظره أنها هي وحدها الكفيلة بالقضاء على مقاومة  الشعب الجزائري ،وإضعاف قدراته القتالية والنضالية.

   و مما قاله الأستاذ صلاح العقاد في كتابه :«المغرب العربي:الجزائر-المغرب الأقصى-تونس» الذي صدر سنة:1962م عن المكتبة الأنجلو مصرية :«اكتست الحرب التي شنها الجنرال بيجو ضدَّ الشعب الجزائري بالطابع الإجرامي والعنف إلى حد أن عدد سكان الجزائر تناقص حسب تقرير أحد الضباط الفرنسيين من أربعة ملايين إلى ثلاثة ملايين نسمة في مدى سبع سنوات»،وقد ذكر حمدان خوجة صاحب كتاب المرآة :«إن السكان الجزائريين تناقصوا من عشرة ملايين إلى ثلاثة ملايين نسمة».

   ومما صرح به الجنرال سانت أرنو،وهو أحد معاوني الجنرال بوجو،في مذكراته:«لقد كانت حملتنا في الجزائر حملة  تدميرية أكثر منها عملاً عسكرياً،ونحن اليوم وسط جبال مليانة لا نطلق إلا قليلاً من الرصاص، وإنما نمضي وقتنا في حرق جميع القرى والأكواخ،وإن العدو يفر أمامنا سائقاً أمامه قطعان غنمه».

     وبعد استعراض المؤلف لجملة من الشهادات ،يخلص إلى أن جميع جنرالات فرنسا الذين تعاقبوا على الجزائر منذ الاحتلال إلى الاستقلال يشتركون في مبدأ واحد وهو القضاء على روح المقاومة لدى الشعب الجزائري وتجريده من كل مقومات الحياة،فلا فرق بين :كلوزال، ودوق روفيغو، وبورمون، والماريشال سولت، ودوفال، وغيرهم.

     إن الجنرال بول أوساريس ومن خلال اعترافاته في كتاب:«أجهزة خاصة»،جعل باب النقاش مفتوحاً على مصراعيه عن ماضي فرنسا الاستعماري، ومما أكدته الباحثة رفائييل برانش :«إن التعذيب في الجزائر خلال الاستعمار الفرنسي،لم يكن ظاهرة تخص مجموعة من العسكريين،بل هي ظاهرات كانت سائدة  خلال حرب الجزائر»،وأضافت:«إن الجيش الفرنسي الذي حارب الشيوعيين في الفيتنام،وتلقى هزيمة شنعاء في ديان بيانفو التجأ في الجزائر إلى القتل والتعذيب انتقاماً من الهزيمة و الإهانة التي لحقته على يد قوات الجنرال جياب، وبالنسبة للجيش الفرنسي  فإن جبهة التحرير عبارة عن منظمة تخريبية وتمرُد على غرار ما جرى في الفيتنام ضد فرنسا ».

       لقد تبنى الاستعمار الفرنسي سياسة الحرب الشاملة من جميع الجوانب والنواحي، وعمل على ضرورة استئصال العنصر الوطني، فشرع بحرق المداشر بأكملها،وبأهلها ،وحيواناتها، وطفق يصلب رجالها،ويقطع الرؤوس،ويمثل بالجثت،ويبقر بطون الأمهات الحوامل، ويشرد العوائل...

   ومما صرح به وزير الحرب الفرنسي جيرار أنه:«لابد من إبادة جميع السكان العرب،إن المجازر والحرائق وتخريب الفلاحة هي في تقديري الوسائل الوحيدة لتركيز هيمنتنا...».

    وأما الجنرال بوجو ،فقد صرّح أمام البرلمان الفرنسي،قائلاً:«أينما وُجدت المياه الصالحة والأرض الخصبة،يجب إقامة المعمرين بدون استفسار من أصحاب الأراضي هذه».

   وبعد أن استحضر المؤلف العديد من التصريحات الإجرامية لمسؤولين فرنسيين عسكريين وسياسيين،يُشير إلى أن هناك مؤرخاً فرنسياً واحداً خالف جميع المؤرخين الفرنسيين وهو جاك جوركي الذي أكد:« أن الفرنسيين قتلوا منذ الاحتلال مروراً بالثورات والانتفاضات التي قام بها الوطنيون الجزائريون إلى غاية الاستقلال عشرة ملايين شهيد...!!».

مجرم حرب...يتفاخر بجرائمه

    بعد استفاضة المؤلف في الحديث عن مجازر 8مايو1945م،بين مصادر الفرنسيين ومصادر الجزائريين،حيث يدحض أكاذيب العديد من الكتّاب والصحافيين الفرنسيين الذين حاولوا التقليل من شأن الجرائم  المرتكبة في ذلك اليوم الأسود،ينتقل بنا للحديث عن مذكرات الجنرال بول أوساريس ،ذلك الجنرال الذي يتفاخر ويتبجح بجرائمه التي يندى لها الجبين،وإن أصدق وصف ينطبق على مذكراته ما وصفها به المؤرخ الفرنسي فيدال ناكي قائلاً:«إنها مذكرات مجرم حرب».

      انطلاقاً من جرائمه في مدينة سكيكدة،ثم في معركة الجزائر، بدأ الدور القذر لهذا الجنرال ،فهو يعترفُ بأنه قد قتل أربعة وعشرين شخصاً من سجناء الحرب ،كما أعطى أوامر لتذبيح وقتل المئات من المشتبه بهم دون محاكمة،كما يعترف بأنه أشرف على تعذيب مشبوه جزائري إلى أن مات متأثراً بالتعذيب لأنه رفض الاعتراف، ويذكر بأنه لم يتأثر إطلاقاً لوفاته ،بل إنه يتأسف لموته دون أن يُدلي له بالاعترافات،ويؤكد عدم خجله من ذلك ولا شعوره بالذنب ،كما اعترف بأنه المشرف الشخصي على قتل الشهيد علي بومنجل،حيث ثم رميه من أعلى عمارة في شارع كليمانصو بالأبيار،ومما يذكره أنه قتل خمسمائة مشبوهاً فيهم في مدينة سكيكدة لوحدها،ومما قاله أوساريس إن الأعمال التي قام بها في الجزائر هي أعمال جيدة ، وكل ما قمت به من أجل خدمة مصالح بلدي...!!.

     يرى المؤلف أن المتبصر في مذكرات الجنرال أوساريس يجد فيها الكثير من التناقض والجهل بالثقافة السياسية،ويقدم العديد من الأمثلة على ذلك.

   ومن بين الأقوال والشهادات التي وردت في المذكرات، ومما ذُكر في مقال بجريدة لوموند تحت عنوان:«الحرب القذرة للجنرال أوساريس» أنه سُئل عن قضية 24000سجين جزائري وُضعوا تحت الإقامة الجبرية،و التي أكد فيها بول تيغان أن من بينهم3024   اختفوا من هذه القائمة وتم التخلص منهم من طرف الجنرال أوساريس،أجاب أوساريس أن كلام تيغان قريب من الواقع،وعندما سُئل عن نيته القيام بطلب السماح والاعتذار عمّا بدر منه،قال:«أنا لا أطلب السماح والاعتذار عمّا بدر مني خلال أدائي مهمتي في الجزائر،اللهم إذا اعترفت جبهة التحرير الوطني الجزائرية من طرفها بما ارتكبته هي الأخرى...!!».

    ويتطرق المؤلف إلى الأصداء وردود الفعل التي أحدثتها مذكرات الجنرال أوساريس،فيذكر أنه قد صرح بأن معظم الجنرالات الذين ورد ذكرهم، ومازالوا على قيد الحياة لم يكونوا مرتاحين لها ،ورفضوا الاعتراف بجرائمهم،أما ابنة الجنرال أوساريس هيلان فقد رفضت مشاهدة والدها بعد صدور اعترافاته الإجرامية.

    وبعد هذا ينتقل المؤلف للحديث عن جرائم الجنرال راؤول سالان الذي قام بإلقاء قنبلة ساقية سيدي يوسف بتونس،وهو ما أدى إلى مقتل العشرات من التونسيين والجزائريين،كما قام بتعذيب مئات الجزائريين بطرائق إجرامية ،وأما الجنرال ماسو فقد اعترف بأن التعذيب في الجزائر كان أمراً مُشاعاً، وكان يُمارس على نطاق واسع ولاسيما بعد تأسيس مركز التنسيق بين القوات المسلحة ،وعندما سُئل عن رأيه في النداء الذي تقدم به مجموعة من السياسيين والكُتّاب الفرنسيين ،وطالبوا من خلاله الحكومة الفرنسية أن تعترف بوجود تعذيب ضد الجزائريين، أجاب: بأنها فكرة طيبة أخلاقياً فالتعذيب شيء غير حسن، وأما الجنرال دولابورديير فقد وقف موقفاً مشرفاً، حيث رفض سياسة التعذيب والقتل وبعث برسالة طالباً إعفاؤه من منصبه ،وذلك احتجاجاً على التعذيب والجرائم الشنعاء التي يرتكبها الجيش الفرنسي،وعُوقب نتيجة لذلك إلى أن غادر الجيش الفرنسي نهائياً سنة:1960م.

وجوه أخرى لجرائم الجيش الفرنسي

    لم تكن الجرائم الفرنسية حكراً على الرجال وحسب، بل إن الكثير من المناضلات الجزائريات تعرضن لجرائم بشعة يعجز اللسان عن وصفها ،فقد كانت عمليات اغتصاب النساء الجزائريات من طرف الجيش الفرنسي ،كما يصفها المؤلف هي الخبز اليومي لهذا الجيش.

     ويُورد المؤلف الكثير من القصص الواقعية لنساء جزائريات تعرضن لأهوال من العذاب الجسدي والنفسي،ومن بينهن إحدى النساء البريئات التي تعرضت لآلام مبرحة بالماء والكهرباء،وبعد ذلك تعرضت لعملية اغتصاب متكررة،مما أدى بها إلى فقدان عقلها...!!

     ويشير المؤلف إلى أنه لا يمكن معرفة عدد النساء الجزائريات اللاتي تعرضن للاغتصاب، ويذكر أنه في كتاب شاركت في تأليفه الكاتبة الفرنسية سيمون دو بوفوار صديقة جان بول سارتر،تعرضت من خلاله لهذه القضية ،كما تم تقديم العديد من الشهادات،وحسب الأرقام الفرنسية أن هناك حوالي ثلاثة آلاف إلى أربعة آلاف حالة اغتصاب لنساء جزائريات، وذلك بين سنوات:1954-1962م.

ثانياً: جرائم الاستعمار الفرنسي وبطولات المرأة الجزائرية:  

      هناك عدة مراجع أشارت إلى بطولات،ونضال المرأة الجزائرية أثناء ثورة التحرير المظفرة،وتطرقت لكفاحها،وتضحياتها ضد الاستدمار الفرنسي،ومن أوائل هذه الكتب كتاب الباحثة المجاهدة أنيسة بركات درّار الموسوم:«نضال المرأة الجزائرية خلال الثورة التحريرية»،والذي أكدت فيه على الدور الرائد الذي أدته المرأة الجزائرية في سبيل تحرير وطنها،وأبرزت مواقفها الاستبسالية،وألفته «تقديراً لجهاد المرأة الجزائرية بكل تفان وتجرد وإخلاص واعترافاً ببطولاتها وتحديها لقوات العدو ولكل أنواع وسائل التعذيب والاضطهاد»)1(.

       وذهبت من خلاله إلى أن مشاركة المرأة الجزائرية في ميدان الكفاح المسلح جنباً لجنب مع الرجل قد أحدث انقلاباً جذرياً في المفاهيم والأفكار،فجيش التحرير الوطني استقبل«المرأة المجاهدة بفخر واعتزاز ونظر المجاهد إليها نظرة الأخ لأخته وعاملها باحترام وتقدير لأن هذه المجاهدة أتت مثله لتحمل مشعل الثورة والمجد وكل واحد منهما وهب نفسه في سبيل تحرير الوطن من براثن الاستعمار وتحقيق نفس الأهداف السامية.

      نلاحظ أن كلمة امرأة أو فتاة لم تبق مستعملة إذ حلّت محلها كلمات أخ وأخت ومجاهدة ومناضلة وكلها تتضمن معاني الإخاء والصداقة الثورية المخلصة وتعتبر المجاهدة بنت الجبهة والجيش وبنت الجزائر الثائرة،ذلك عنوان تضحيتها وبروز شخصيتها فأدركت بين إخوانها المجاهدين قيماً إنسانية نبيلة لم تكن تشعر بهذا العمق وأدركت أيضاً أنها تغيرت وأصبحت إنساناً جديداً يعيش في عالم جديد يسوده الصفاء والإخاء والتضامن ورأت مولد شعب عظيم باسل يتسم بالتفكير والنضال الجماعي فغيرت الظروف الثورية مفاهيم حياتها وطورت أفكارها.من الواضح أن هذه المجاهدة التي مارست مختلف الأعمال وتحملت أصعب المسؤوليات قد أثبتت وجودها في كفاح بلادها وشكلت قوة سياسية فعالة وإيجابية،وفي ذلك يقول ميثاق مؤتمر الصومام الوثيقة السياسية الأولى للثورة الجزائرية عام 1956م :

( توجد في الحركة النسائية إمكانيات واسعة تزداد وتكثر بإطراد وإنا لنحيي بإعجاب وتقدير ذلك المثل الباهر الذي ضربته في الشجاعة الثورية الفتيات والنساء والزوجات والأمهات ذلك المثل الذي تضربه جميع أخواتنا المجاهدات اللائي يشاركن بنشاط كبير وبالسلاح أحياناً في الكفاح المقدس من أجل تحرير الوطن،ولا يخفى أن الجزائريات قد ساهمن مساهمة إيجابية فعالة في الثورات الكثيرة التي توالت وتجددت في بلاد الجزائر منذ سنة1830 ضد الاحتلال الفرنسي وأن الثورات الرئيسية كثورة أولاد سيدي الشيخ في سنة:1864 بالجنوب الوهراني وثورة القبائل في سنة1871 وثورة سنة1912 في أوراس وناحية معسكر،قد تركت لنا صوراً حية خالدة لوطنية الجزائريات اللائي ضحين بأنفسهن في كثير من المناسبات،والمرأة الجزائرية اليوم موقنة أن الثورة الحاضرة ستنتهي لا محالة بالحصول على الاستقلال،وأن المثل الذي ضربته أخيراً تلك الفتاة القبائلية التي رفضت الفتى الذي تقدم لخطبتها لأنه ليس من المجاهدين لدليل وأي دليل على ما تمتاز به الجزائريات من المعنوية السامية والإحساس النبيل).

   ... إن المرأة الجزائرية على اختلاف مستوياتها وطبقاتها الاجتماعية سواء كانت في المدينة أو في الريف،تمكنت من التغلب على العراقيل والعقبات والضغوط الاجتماعية القاسية التي تجابهها وساهمت مساهمة فعالة وإيجابية في الكفاح.ولما كان للمرأة من مواقف شريفة ومن بذل سخي من مال وحلي ولباس وأغلى من كل ذلك.من ولد أو زوج،فكانت الثورة دائماً في صالح المرأة وتقديراً لمواقفها النبيلة فتحت مجالاً فسيحاً للفتيات والزوجات والأمهات واستقبلتهن بالترحيب والتبجيل في ساحات الوغى وألقت عليهن أعباء مختلفة ومسؤوليات مقدسة»)2(.

      ومن بين الكتب الهامة الجديرة بالإشادة،والتنويه،والتي قدمت صورة وافية عن جوانب متنوعة من نضال،وجهاد،وتضحيات المرأة الجزائرية كتاب المجاهد الباحث الدكتور محمد قنطاري الصادر بعنوان:«من بطولات المرأة الجزائرية في الثورة وجرائم الاستعمار الفرنسي».

     من عنوان الكتاب يتضح أن المؤلف يسعى إلى تمجيد بطولات المرأة الجزائرية،وتخليد مآثرها،وكفاحها ضد المستعمر الفرنسي من جانب،ومن جانب آخر يهدف إلى كشف النقاب،وإماطة اللثام عن الجرائم المرتكبة من قبل جيش الاستدمار الفرنسي في حق المرأة الجزائرية،وسائر أفراد المجتمع الجزائري.

    ويتجلى للقارئ من خلال توزيع مادة الكتاب المتنوعة،والمدعمة بالشهادات  ،والوثائق والحقائق التي اكتشفها الدكتور قنطاري نتيجة جولاته،وتحقيقاته الميدانية، أنه  لم يوفر جهداً في سبيل البحث،والتنقيب للإفادة من مختلف المصادر،والوثائق،والشهادات،حيث إنه قام بزيارات ميدانية واستقى معلوماته من المجاهدين،والمجاهدات اللذين عاشوا الأحداث،كما أنه بذل جهوداً مضنية من أجل الوصول إلى المعلومات التاريخية،ثم في تدقيقها،وتمحيصها،وتقديمها للقراء في أسلوب سائغ،ومبسط.

      ويحسن بنا في البدء أن نشير إلى أن مؤلف الكتاب هو المجاهد الدكتور محمد قنطاري«من مواليد بلدية الألف شهيد من بين( 3000نسمة-1954)ب لخميس-بني سنوس-تلمسان.من أسرة وطنية متواضعة،وبعد قصف القوات الفرنسية لمنزله،وتخريبه،وحرقه في:03مارس1956م ببني عشير،ترك دراسته،والتحق بالثورة،وعمل محافظاً سياسياً لجيش التحرير الوطني،وعضواً بمجلس المنطقة الأولى للعمليات الحربية بالولاية الخامسة،عاش أحداث الثورة ميدانياً،إذ يحمل جروح المعارك القتالية مع العدو،وهو مجاهد،وابن مجاهد،وجده شهيد في ثورة التحرير الوطني.

  كرم بوسام الاستحقاق بجيش التحرير الوطني من طرف فخامة رئيس الجمهورية الجزائرية.

     درس المؤلف بالجزائر،وبالمغرب،ثم بمصر،وأخيراً بفرنسا بتكوينه كمؤرخ وقانوني،حاصل على شهادات:الباكالوريا،ليسانس في التاريخ،ليسانس في القانون،دبلوم الدراسات المعمقة،والعليا في التاريخ العسكري في المنازعات الدولية، والقانونية.

     كرس المؤلف عشر سنوات(1980-1990م)في الدراسات،والأبحاث بفرنسا عن الثورة الجزائرية،حيث حصل على دكتوراه دولة  من جامعة مونبللي بفرنسا بعنوان( التنظيم السياسي الإداري،والعسكري للثورة الجزائرية من1954-1962م).

        تخصص في التاريخ العسكري،ودراسات الدفاع الوطني في الدراسات الإستراتيجية.

       نشر عدة كتب،ومقالات عن الثورة الجزائرية،والمقاومة المغاربية،والدراسات الإستراتيجية الشاملة،وشارك في عدة ملتقيات ومؤتمرات في الجزائر وخارجها.

     شغل الدكتور محمد قنطاري عدة مناصب جامعية:متصرف مدني للجامعة،ونائب رئيس جامعة وهران للدراسات الجامعية،والعلاقات الخارجية،ومستشار لدى وزارة التعليم  العالي والبحث العلمي.

        وتدرج عن استحقاق من أستاذ مساعد إلى أستاذ محاضر،وأخيراً أستاذ التعليم العالي،والبحث العلمي في العلوم السياسية،والقانون،وعضو المجلس الوطني للبحث العلمي بالجزائر وفرنسا،وعضو،ومقرر مجلس الولاية الخامسة التاريخية(لغرب الجزائر)،ثم عضو ونائب رئيس المجلس الشعبي البلدي لمدينة وهران.وبعدها شغل منصب محام بالمجلس القضائي،ثم عضو المجلس الأعلى للقضاء معيناً،وممثلاً لفخامة رئيس الجمهورية،ونائب بالبرلمان(المجلس الشعبي الوطني)على رأس قائمة ولاية تلمسان،يعمل حالياً أستاذاً بجامعة وهران،ورئيس وحدات بحث في الثورة الجزائرية،وقواعدها الخلفية،والدراسات الإستراتيجية الشاملة،وغيرها»)3(.

          كتب تقديم الكتاب فخامة رئيس الجمهورية الجزائرية المجاهد عبد العزيز بوتفليقة،حيث جاء في تقديمه: «المرأة الجزائرية ،صانعة المعجزات ،والأمجاد،والملاحم التاريخية،قدمت النفس،والنفيس لتحرير الوطن.تصدت للغزاة عبر الأزمنة،والعصور التاريخية،ولعبت دوراً كبيراً،لا يقل أهمية عن دور أخيها الرجل،في مقاومة الاحتلال الفرنسي طيلة ليله الذي ناء بكلكله على ربوع الجزائر،منذ الأمير عبد القادر إلى الشيخ بوعمامة،والمقراني،إلى الشيخ الحداد،وفاطمة نسومر إلى انتفاضات الواحات،والساورة،والتوارق بالصحراء.تعرضت لشتى أساليب التعذيب،والإهانات،وزج بها في السجون،وحشرت في المعتقلات،والمحتشدات،وجربت عليها أنواع من التجارب البيولوجية،والحيوانية،قاست،وتحملت،وصبرت لكل الشدائد،والمحن،إنها المرأة الجزائرية المخلصة المؤمنة بربها،ووطنها،وعقيدتها الإسلامية،المعتزة بوطنيتها،وشخصيتها،وكرامتها.

      المرأة الجزائرية التي أرادها الاستعمار أن تلين تحت وطأة الظلم،والاستعباد،والاحتقار،وأن تعاني من الجهل الجاثم على العقول،والجمود الخانق،وأن تظل في حالة التخلف،والكبت،والحرمان،والتعسف الذي تفرضه عليها أساليب المحتل من جهة،وبعض عادات،وتقاليد المجتمع البالية من جهة أخرى.لكنها كسرت قيودها التي كبتت أنفاسها،ونهضت،وانطلقت مسلحة بإيمان راسخ،وإرادة وطنية مخلصة قوية،وحيوية فياضة دافقة،تكافح،وتنافح بكل الطرق،والوسائل المادية،والمعنوية،داخل الوطن،وخارجه،سياسياً وعسكرياً،فتغيرت مفاهيمها،وتبلورت أفكارها،وبرزت شخصيتها بفضل وعيها،وتوجهها الوطني.

     وخلال الحركة الوطنية الجزائرية بدأ اسم المرأة الجزائرية يبرز في الصحف،والندوات،للنهوض بحقها في التعليم،والثقافة،وحقها في الانتخابات السياسية لسنة:1947 .وفي الفترة الممتدة ما بين الأربعينات،والخمسينات ثابرت المرأة الجزائرية على فرض،وإثبات وجودها في النضال السياسي،والاجتماعي،حيث ساهمت في الحركة الإصلاحية،والمنظمات،والجمعيات،والهيئات الوطنية،وفي المسيرات،والمظاهرات،خاصة تلك التي جابت العديد من مدن الوطن تنديداً بمجازر8 ماي1945.

     ومدت يد المساعدة إلى المساجين،والمنكوبين،في المعتقلات،والسجون،والكوارث الطبيعية،ولضحايا ظلم الإنسان.

     وكان من الطبيعي،وقد بلغ نضج المرأة منتهاه أن تتأسس منظمة النساء الجزائريات في شهر جوان1947 للتعبير عن رأيها،والدفاع عن حقوقها،وأن تعقد عدة اجتماعات مختلفة المهام عبر التراب الوطني،لاسيما اجتماع05 أوت1951 في سينما دنيا زاد بالجزائر العاصمة،الذي دعت إليه اللجنة الإنسانية لتأسيس الجبهة للدفاع عن الحريات،واحترامها.

     وكانت المرأة الجزائرية من السباقين لتحضير أرضية الثورة المسلحة،وبعد تفجيرها،تبنتها،وآمنت بها،واحتضنتها،ودافعت عنها بكل إخلاص،وتابعتها من نصر إلى نصر،وتحملت أصعب المسؤوليات،وأخطر العمليات الفدائية،والمعارك في المدن،وفي الأرياف،فبرهنت عن وعي عميق،وكفاءة عالية،وعن شجاعة وإخلاص نادرين،وأثبتت أنها جديرة بأداء رسالتها النضالية إلى جانب أخيها الرجل،فأحدثت بذلك انقلاباً جذرياً في المفاهيم والأفكار،وفي نظرة المجتمع إليها،حيث أصبحت فيه عنصراً فعالاً،واقتحمت كل ميادين النشاط الوطني.وقد ورد عنها في وثيقة مؤتمر الصومام ما نصه(توجد في الحركة النسائية إمكانيات واسعة تزداد،وتكثر باطراد،وإنا لنحيّي بإعجاب وتقدير ذلك المثل الباهر الذي ضربته في شجاعة الثورة الفتيات،والنساء،والزوجات،والأمهات،ذلك المثل الذي تضربه جميع أخواتنا المجاهدات اللائي يشاركن بنشاط كبير،وبالسلاح أحياناً في الكفاح المقدس،من أجل تحرير الوطن)،فكانت بذلك قدوة حسنة،ومثالاً رائعاً،في المقاومة،والتضحية للمرأة العالمية التي أشادت بدورها في الندوات،والمجتمعات،والمحافل الدولية»)4(.

      في القسم الأول من الكتاب تحدث الدكتور محمد قنطاري بإسهاب عن قصة المجاهدة البطلة فاطمة خليف التي تعتبر رمزاً من رموز الثورة الجزائرية المظفرة،وأطلق عليها اسم  الشهيدة التي لم تمت،وقد وصف ملحمتها وصفاً دقيقاً،وأكد على أنها واحدة من البطلات الخالدات،إذ جاء في بداية عرضه:«فاطمة خليف،المجاهدة الجزائرية العربية المسلمة تعد واحدة من أبطال،وبطلات الشعب الجزائري المجاهد،شبت منذ صغرها على حب وطنها الجزائر،وعلى أصالتها العربية الإسلامية،فانخرطت هي وعائلتها في صفوف المجاهدين.تلقت فاطمة كل صنوف التعذيب الوحشي على أيدي الكفار الجنود الفرنسيين،فقطعوا يديها،وهي تنظر،وأودعوها سجناً معلقاً بين السماء،والأرض،ووضعت حملها فيه،ويداها مقطوعتان،وثدييها مشوهان بوسائل التعذيب الجهنمية.قد يتخيل البعض أن هذه القصة لا تعدو أن تكون شبحاً خيالياً جامعاً.ولكن الذين عايشوا أحداث الثورة،وذاقوا مرارة المعاناة اضطهدوا بنارها،لا شك أنهم يقرون حقيقتها،كهذه القصة الواقعية باختصار للمجاهدة المرأة الجزائرية المسلمة لتكون عبرة لفتيات الأمة العربية في وطنيتها،وجهادها،وصمودها أمام الشدائد،والمحن،وأنواع التعذيب،لأنها اختارت طريق الكرامة،والعزة،والشرف،كنموذج للمرأة العربية المسلمة في سبيل الله،والوطن»)5(.

       تطرق الدكتور محمد قنطاري مع بداية روايته لقصتها إلى بيئتها ،ونضالها السياسي،فهي تنتمي إلى بلدية(الألف شهيد)بني سنوس،تلك البلدية الخالدة في تاريخ الكفاح الجزائري،فبعد أن كان عدد سكانها في بداية الثورة الجزائرية سنة:1954م 3 آلاف نسمة،استشهد منها على يد قوات الاستدمار الفرنسي 1070 شهيد،فقد حفر اسمها في تاريخ الجزائر الأنبل كما عبر عن ذلك مؤلف الكتاب،وهي تبعد عن مدينة تلمسان ب32كلم،وطبيعتها أنها منطقة جبلية صعبة المسالك،ومعروفة بأدغالها،وغاباتها،وقد كانت ملجأً للثوار منذ الغزو الاستعماري الفرنسي للجزائر،فقد التجأت إليها جيوش الأمير عبد القادر،كما تحصن  في مخابئها الكثير من المناضلين،وانعقدت بها اجتماعات قادة حزب الشعب الجزائري،وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين،والمنظمة السرية لتحضير أرضية تفجير الثورة الجزائرية المسلحة،إضافة إلى أنها كانت ممراً استراتيجياً لقوافل الأسلحة،والذخيرة الحربية القادمة من الخارج عن طريق موانئ الريف المغربي(الناظور)   كباخرة دينا،وفاروق سنة:1955م المحملتين بالأسلحة،وذخيرتهما الحربية في الطريق إلى المجاهدين الجزائريين بمختلف أصقاع الوطن،فضلاً عن أنها كانت مقراً لقيادة الولاية الخامسة التاريخية أثناء ثورة التحرير المجيدة.

   ويذكر المجاهد الدكتور محمد قنطاري أنه حسب شهادة أحمد بن بلة ومحمد بوضياف-رحمهما الله-في حديث خاص معهما عن مصدر التمويل لشراء الأسلحة،وذخيرتها الحربية،فإن أول مساعدة مالية للثورة التحريرية كانت من المملكة العربية السعودية متمثلة في(مائة ألف دولار سنة:1954 لانطلاق الثورة الجزائرية،والمقاومة المغاربية،وتوسيعها واشتدادها).

      ويذكر أنه منذ اندلاع الثورة الجزائرية أضحت(بني سنوس)منطقة محرمة وملغمة من طرف الجيش الفرنسي،  فاضطر رجالها،ونساؤها إلى الالتحاق بصفوف المجاهدين من جيش التحرير الوطني في جبال المنطقة،ومن تخلف عن الالتحاق،والإسراع بالركب،فقد أودع من قبل القوات الفرنسية في المعتقلات،والمحتشدات،والسجون،وأحيطوا بما يزيد عن أربعة آلاف جندي فرنسي من رجال الكمندوس،والمظلات،واللفيف الأجنبي من شتى الجنسيات،كما تدرب بجبالها قادة الحركات التحريرية الإفريقية،ومن بين الذين ذكرهم المؤلف على سبيل المثال:أنغولا،والموزنبيق،والجزر الخضر،والتشاد،وجنوب إفريقيا،وعلى رأسهم نلسن منديلا،حيث كانت إقامتهم بمعسكر مغنية.

    بالنسبة لنضال فاطمة خليف السياسي ذكر المؤلف أنها فتحت عينيها على بطش المستعمر الفرنسي الذي سفك دم والدها،وقال إنها لم تكن تفهم، وهي صغيرة لماذا يقتلون الرجال والنساء والأطفال الأبرياء؟ولماذا يلجأون إلى الإبادة الجماعية للشعب الجزائري؟ولماذا يحرقون الأحياء بالبنزين والنابالم؟ولماذا تغتصب الفتاة أمام والديها وعمها وأخيها؟ ولماذا يجبر أفراد الأسرة على ممارسة الفحشاء مع بعضهم البعض،ومن امتنع منهم كان مصيره الموت،ولم تكن تعي لماذا يدفن الأحياء جماعياً في حفرة واحدة؟ولماذا تبقر بطون الحوامل،ويراهن الجندي الفرنسي على ما في بطنها أولد هو أم بنت؟ 

      ويشير الدكتور قنطاري إلى أن هذه الأسئلة قد أرهقت فاطمة وحيرتها،ومع مرور الأيام تنامى حسها السياسي،وأصبحت مولعة بتتبع الأحداث،ومتابعة الأخبار،ونظراً لأن جميع أفراد عائلتها ودشرتها ومنطقتها كانوا من المناضلين الثائرين ضد الاستدمار الفرنسي الذي اغتصب وطنهم،ودينهم الإسلامي،ولغتهم العربية،فقد كانوا يأخذونها أحياناً،وهي ما تزال شابة لحضور اجتماعات جبهة وجيش التحرير الوطني بمنطقتها مع بعض المناضلات والمجاهدات،وتدريجياً أصبحت عائلتها مركزاً لجبهة التحرير للثورة الجزائرية المسلحة في سنواتها الأولى،وكان دورها تموين المجاهدين،وتخزين الأسلحة،والذخيرة الحربية،إضافة إلى إيواء الجرحى،والمرضى من المجاهدين والمجاهدات،ولاسيما منهم الذين يأتون من المناطق الداخلية للوطن،ويعتصمون بجبال بني سنوس،أو حينما يكونون في طريقهم إلى القواعد الخلفية للعلاج على الحدود المغربية الجزائرية عبر جبال(عصفور) في الأيام الأولى التي تلت تفجير الثورة الجزائرية)6(.

       وتحدث الدكتور قنطاري عما روته له في حديث شخصي عن معركتها الأولى،حيث جاء في روايتها:«...06 جويلية 1956 وقعت معركة كبيرة ب(بعبدوس-بوسدرة)،وغيرهما بمنطقة بني سنوس وبني بوسعيد وبني واسين...دامت ثلاثة أيام بلياليها بين القوات الفرنسية ووحدات جيش التحرير الوطني من المجاهدين.شاركت فيها الدبابات والمدرعات والمجنزرات،ما يزيد عن عشرين طائرة حربية،وستة فيالق من رجال الهندسة الميكانيكية أغلب جنودها من اللفيف الأجنبي من رجال الكمندوس.كل هذه القوات مجتمعة انطلقت في عملية تمشيط من تلمسان،مغنية،سبدو،الغزوات،وغيرها من الجهات.وأسرعت أفواج جيش التحرير بمساعدة أفراد الشعب الجزائري بالمنطقة بتحطيم جسر(تزاريفت)مع تخريب الطرقات كثيرة المنعرجات،بدأت المدفعية والطائرات تقصف مواقع المجاهدين والقرى والمداشر المجاورة لتحضير أرضية الهجوم.التحم الجيشان في معركة شرسة تكبد فيها الجيش الفرنسي200قتيل واستشهد45 مجاهداً».

     وتضيف فاطمة : «في هذه المعركة استشهد والدي بالرصاص وأغلبية أفراد عائلتي،وأحرق منزلنا،ولم يعد لنا بيت نأوي إليه.رافقت بعض أخواتي اللائي بقين على قيد الحياة مع عائلات المداشر الفارة والتحقنا بالجبال».

    وقد واصلت فاطمة جهادها،وقامت بتضميد جروح المجاهدين،وسهرت على شفائهم،وراحتهم،والاتصال بأفراد الشعب في القرى والمداشر المجاورة.

      وروت فاطمة للدكتور قنطاري أنه« في بداية نوفمبر1956م ألقت القوات الفرنسية القبض عليها وهي مصابة بجروح بليغة إثر معركة دامية دامت يوماً كاملاً.حيث أخذت مقيدة بالأغلال،وملابسها ممزقة،حافية القدمين تمشي والدماء تنزف من قدميها نزفاً،ورغم حالتها المرثية،فقد سلط عليها جنود الاحتلال وزبانيته أبشع أنواع التعذيب والإهانة المعنوية والضرب الجسدي وشرب(ماء أومو) ومختلف الوسائل الكيمياوية والأوساخ والكي بالنار والكهرباء،وجرح مختلف مواقع  جسمها خاصة الحساسة منه ودهنها وطلائها بالأملاح،وقد استمرت العملية عدة أيام»)7(.

       وذكر المؤلف أن فاطمة بقيت ثلاثة أشهر تحت التعذيب للحصول على معلومات تتعلق بمخازن الأسلحة وذخيرتها الحربية ومراكز التموين وعدد المجاهدين،وأفراد الشعب الذين  يمولونها بالمال،والأطعمة،ولكنها لم تقدم أية معلومات لقوات الاستدمار الفرنسي،ولم تنبس ببنت شفة، وتحملت كل أنواع التعذيب.وفي شهر مارس1957 ألقت بها القوات الفرنسية في دشرتها، وأخذها بعض أفراد عائلتها ممن بقوا على قيد الحياة،وقدموا  لها علاجاً بسيطاً جداً،وعلى الرغم من جراحها الخطيرة والمتعفنة فقد أجبرتها مصالح الأمن العسكرية الفرنسية على القدوم يومياً إلى مركز مخصص للإمضاء والتنقيط،ونظراً للظروف الصحية الصعبة التي كانت تمر بها فاطمة فقد قررت القيادة الثورية لجبهة التحرير الوطني الجزائري تهريبها ليلاً إلى أحد مراكز العلاج السرية،وفي يوم الغد،بعد أن تغيبت عن الذهاب إلى مركز المراقبة الفرنسية،جاءت وحدات من الجيش للبحث عنها،واستنطقوا سكان القرية،والمحتشد لعلهم يعثرون على أخبار عنها،و لكونهم لم يحصلوا على أية معلومة،فقد أخذوا أختها(عائشة)رهينة والتي كانت تبلغ من العمر15 سنة،وبعد أن استنطقت،وعذبت أرسلت إلى سجن(الحراش).

  وبعد تمشيط،وحصار القوات الفرنسية لجبل(جرف لحمر)، الذي كانت توجد به المجاهدة فاطمة،وقصفها له بالمدفعية،والطيران،بعد معركة ضارية مع المجاهدين أصيبت فاطمة   بجروح بليغة،بسبب شظايا القنابل اليدوية التي تم إلقاؤها على مخزن العلاج.

       ويشير الدكتور قنطاري إلى أن فاطمة روت أن العدو الفرنسي قد تكبد خسائر فادحة في الأرواح،لأنهم كانوا مسلحين بأسلحة حديثة أرسلها أحمد بن بلة ورفاقه بالخارج على متن الباخرتين(دينا وفاروق)في ربيع سنة:1955م إلى الموانئ المغربية لإدخالها إلى الجزائر لدعم المجاهدين،وتسليح المسبلين،وقد أُلقي القبض على فاطمة في هذه المعركة مع بعض الجرحى،وأرسلوا إلى مركز التعذيب ببرج(سد بني بحتل)،وقد قيدت بالسلاسل في يدها،وعنقها،ورجليها، وتم اقتيادها إلى الساحات العمومية ،وطلب منها أن تشتم المجاهدين،وتصفهم بالذئاب الذين يسكنون الغيران،وتؤكد أنه تم القضاء عليهم،وأن فرنسا هي الأم الحنون،وأن تطلب ممن يمتلكون الأسلحة بتسليمها،وإعلان توبتهم،وأن فرنسا ستصفح عنهم.

     ولكنها فاجأت السلطات العسكرية بعد أن أعطوها مكبر الصوت بالقول(إن المجاهدين ليس لهم أي أكواخ من الأشجار والأعشاب في الغابة،بل لهم قصور في الجنة وهم أبطال شجعان،يجاهدون في سبيل الله والوطن.وإن كل من يرتد عن ثورته وجهاده،فهو كافر مصيره جهنم فلنمت شهداء على شهادة-لا إله إلا الله و أن  محمداً رسول الله،فالمجد والخلود للشهداء).

     وأثناء تكلمها تعرضت فاطمة للضرب والشتم داخل السيارة العسكرية من قبل الضابط الفرنسي(تيسو)،وقد أكدت فاطمة بأنها ستموت مجاهدة،وشهيدة من أجل دينها الإسلام وبلادها الجزائر،وأمتها العربية،فتعرضت للضرب المبرح إلى أن أغمي عليها،وأخذت إلى مستشفى تلمسان،   وعوض أن تُقدم لها الإسعافات الاستعجالية لجراحها فقد كان الطبيب الفرنسي(رواق)يزيدها تعذيباً جسدياً،ومعنوياً. وبعد ذلك تم استنطاقها،وذكرت مهامها،ونشاطاتها،وقد خاطبها الجندي الذي قام بالاستنطاق قائلاً(إذا قتلناك فستتخلصين من الدنيا،وإذا سلمنا عينيك كهذا الرجل المجاهد الذي أمامك فإنك تعيشين ولا تتمتعين بالدنيا ولذلك سنبقيك على قيد الحياة وتعيشي العذاب والشقاء والبؤس والحرمان).

   فتم قطع يديها(بالمزبرة)وألقي بها في دشرتها،وأخذت من قبل جيش التحرير الوطني لأخذ العلاج في(جبل جرف النحل)بالقرب من(بوعبدوس) على  حافة الوادي وتمت معالجتها،وقد تكفلت صديقتها (الزهراء) بمساعدتها في الأكل،والملبس،وقضاء حاجياتها الصحية،كما ساعدها المجاهد (بوزياني)التي ظل  يسهر على علاجها،ويقوم بمواساتها)8(.

      ويشير الدكتور محمد قنطاري إلى أن ما سُرد من أحداث هذه القصة الواقعية المؤلمة لا يختصر ما توالى في حياة فاطمة من ضروب المحن،ويصف محنتها التي تلت هذه المحن بقوله:«شاءت طبيعة تحرير الوطن استمرار المعارك،التي كان المجاهدون بشجاعتهم الفذة يسجلون فيها الانتصار تلو الآخر.

   الأمر الذي أثار فضيحة القوات الفرنسية وآل بها إلى تعزيز طاقاتها القتالية من عدة وعتاد.وفي إحدى المعارك أصيبت فاطمة المجاهدة مرة أخرى بجروح بالغة فألقي عليها القبض وهي تئن من شدة الألم،ومما زاد من معاناتها أنها في الشهر الثامن من حملها،وعوض أن تُقدم لها الإسعافات الأولية كما تقتضي الأعراف الدولية،زادتها المصالح المختصة للجيش الفرنسي(لصاصSAS) تعذيباً في محاولة لإرغامها على البوح بسر مشاركتها في المعركة رغم الإعاقة التي لا تؤهلها لذلك،ومن شدة التعذيب أغمي عليها حتى أوشكت على الإجهاض،وبين الفينة والأخرى تتعرض للضرب المبرح،والشتم،والتهديد ببقر بطنها،وإخراج الجنين،وقتله.

     وفي يوم:02 نوفمبر1961م تم نقلها مع قافلة إلى محتشد سبدو،وتم عزل النساء عن الرجال،وذلك تحت الضرب،والشتم،ونهش الكلاب،وتم بعد ذلك الزج بها ورفيقاتها في السجن المعلق ببرج خزان الماء بالطابق الثاني في يوم شديد البرد والرياح والعواصف والثلوج،وقد كانت ظروف السجينات مأساوية،ولا توجد لا ألبسة، و لا أغطية،ولا أكل،وفي منتصف 11 ديسمبر1961،وبمساعدة المجاهدة الكبيرة فاطمة قاسمي التي تفطنت لآلامها،وأوجاعها،وضعت مولودها(نصر الدين).

    و يذكر الدكتور محمد قنطاري أنه«عندما بلغ أمر الصبي مسامع القيادة العسكرية الاستعمارية احتاروا في أمره،وتساءلوا هل يبقى الصبي وأمه في السجن؟ أم يتم التخلص منه؟أم يفصل بينه وبين حضن أمه؟

    وفعلاً فقد حاولت سلطات السجن أن تكيد للسيدة المجاهدة فاطمة خليف،ولكنها تفطنت لذلك،وكان إحساسها الفطري دليلها،إنها عاطفة الأمومة المقدسة.وكان موقف أخواتها السجينات موقفاً بطولياً،وكان عددهن109 ودخلن في إضراب مفتوح عن الطعام إلى أن يترك(نصر الدين)مع أمه في السجن،أو يفرج عنها.وأمام هذا الوضع المحرج الذي وقعت فيه السلطات الاستعمارية،أرسل القائد العسكري لولاية تلمسان مبعوثاً خاصاً لتهدئة الأوضاع،وطمأن فاطمة على مصير ولدها.وهكذا عمت الفرحة داخل السجن،ووجدت السجينات في الصبي أنيساً بين جدران السجن المظلم البارد شتاء،والحار صيفاً»)9(.

   و يذكر المؤلف أن الصبي(نصر الدين) قضى  وأمه 12 يوماً بين الاستنطاق والتعذيب النفسي والجسدي،وكثيراً ما تعرض لمحاولات اغتيال،واختطاف من قبل رجال المنظمة العسكرية السرية(لواصOAS).

     ويشير الدكتور قنطاري في متابعته لوقائع محاكمة الصبي وأمه إلى أن رد(جون)رئيس المحكمة كان غريباً،حينما سُئل عن ذنب ذلك الصبي الذي لم يتجاوز15 يوماً من عمره«حيث أجابهم بوقاحة: الحكم بخمس سنوات سجناً نافذة على نصر الدين عقوبة على مشاركته في المعركة ضد القوات الفرنسية التي تكبدت خسائر فادحة في الأرواح والعتاد،وهو ببطن أمه في الشهر الثامن...فيعتبر فلاقي وعوض أن ينفذ حكم الإعدام في أمه فإننا اكتفينا بخمس سنوات أيضاً معه...وفي حالة فرار أمه كالمعتاد من السجن بمساعدة(الفلاقة)فإننا سننفذ فيها حكم الإعدام وابنها الصغير.وبعد سماع فاطمة منطوق الحكم أطلقت زغرودة دوت أنغامها في قاعة المحكمة،وهو ما جعل الحاضرين يتعجبون من أمرها ثم سألها رئيس المحكمة لماذا تزغردين؟فأجابت وهي رافعة يديها المقطوعتين أمام رئيس المحكمة... أزغرد على إنسانية وعدالة الدولة الفرنسية وأفرح لأنكم لم تكتفوا بقطع يدي بل إن رحمتكم أدت بكم إلى إدانة طفل لم ير النور سوى أياماً معدودات.ثم رفعت يديها إلى السماء داعية(اللهم اجعل لنا من كل ضيق مخرجاً ومن كل حرج فرجاً وأنعم علينا بالاستقلال والحرية).ورغم الدفاع فقد نفذ الحكم،وأعيدت فاطمة وولدها إلى سجن تلمسان ليمكثا فيه حتى استقلال الجزائر»)10(.

       ويؤكد المؤلف على أنه من خلال اطلاعه على الوثائق والصور،وقيامه بتحقيقات ميدانية،وشهادات مسجلة مع من عايشن الأحداث،وتعرضن للاغتصاب،إضافة إلى اعترافات القادة العسكريين والجنود الفرنسيين والحركى العملاء  فإن التفتيشات العسكرية الفرنسية،وأجهزتها الأمنية كانت تتم على المشبوه في انتمائهم إلى جبهة وجيش التحرير الوطني فيقومون بتفتيش منازلهم،وحينما لا يجدون الرجال كانت تؤخذ البنت البكر أو الزوجة أو الأم من طرف العساكر إلى المراكز العسكرية كرهينة لتسليم الأخ،أو الزوج،أو الأب إلى القوات الفرنسية فتتعرض للتعذيب والاغتصاب،«كما كان يتم أيضاً خطف الفتيات بمختلف الطرق والوسائل واللواتي كان يزيد عددهن عن 20 إلى100 وإرسالهن إلى المراكز العسكرية بالمدن والقرى والمداشر،وفي الجبال والصحاري لاغتصابهن وحجزهن لعدة أيام للتمتع بهن.

    وعند الانتهاء يتم التخلص منهن بالقتل الجماعي،ومن تتمكن من الفرار تذهب إلى منزلها الأسري أو الأبوي فتنتحر،أو تقوم بعمليات استشهادية ضد القوات الفرنسية لتمحي أثرهن،أما في البوادي فقد كانت القوات الفرنسية تقوم بعمليات التمشيط وإلقاء القبض على عدد كبير من النساء والفتيات ونقلهن إلى المراكز والثكنات العسكرية وإلى المحتشدات والمعتقلات لتعذيبهن واستغلالهن وبعد ذلك يتم التخلص منهن جسدياً»)11(.

     وختم المؤلف قصة فاطمة بالإشارة إلى أنه تم إطلاق سراح نصر الدين(الغوثي)،وأمه وباقي السجينات في آخر شهر أبريل من سنة:1962م،وخرجت فاطمة تحمل بيديها المقطوعتين(شبلها)،وهي تستنشق هواء الحرية،والكرامة،وعزة النصر والانتصار.

    وذكر أنه قام مع مخرج تلفزيوني بمحطة وهران،وغيره من المستشارين،والأساتذة الجامعيين المختصين في فن الدراما،والرواية،والتمثيل بكلية الآداب بجامعة وهران بوضع سيناريو لهذه القصة قصد إنجاز فيلم وثائقي،أو شريط عنها.

    وأورد الحوار الذي قام بينها،وبين رئيس الحكومة الجزائرية الأسبق أحمد غزالي،حيث قال المؤلف في هذا الصدد« قال لها رئيس الحكومة الجزائرية السابق (أحمد غزالي):سنقوم بتركيب يدين اصطناعيتين لك في فرنسا فقالت:اشتروا بثمنها دواءً للشعب..وكان ذلك في احتفال بدائرة(سبدو)بولاية تلمسان في شهر جوان1992م لإعادة دفن رفات الشهداء وتدشين قرية لعرج باسم الشهيد الضابط(لعرج بوسيف)التقت المجاهدة فاطمة خليف مع مجموعة من المجاهدين والمجاهدات وأفراد الشعب ومجموعة من الإطارات منهم وزير المجاهدين.وكنت أنا من بينهم أيضاً مع رئيس الحكومة السالف الذكر في زيارة استطلاعية تاريخية للمعلم التاريخي مكان السجن المعلق ببرج خزان الماء،وللأمانة التاريخية في الشهادة التالية:

    طلب رئيس الحكومة من وزير المجاهدين السيد شيبوط أن يُرسل فاطمة إلى خارج الوطن لتركيب أيدي مصطنعة لمساعدتها في حياتها اليومية،وكانت إجابتها كما يلي:

     سيدي الرئيس لقد أرسلتني الحكومة الجزائرية منذ سنتين إلى فرنسا...وبعد قياس مختلف أنواع الأيدي الاصطناعية وجدت ثمنها50ألف فرنك فرنسي قديم وهذا الثمن غالي جداً على دولتنا فرفضت وعدت إلى الجزائر...

   وألح رئيس الحكومة مرة أخرى على وزير المجاهدين إرسالها خارج الوطن لكن فاطمة ردت عليه: (سيدي الرئيس هذا يكلف الدولة ثمناً باهظاً بالعملة الصعبة خاصة في الظروف الحالية التي تعيشها الجزائر من أزمة اقتصادية...لذلك فالأفضل أن أبقى على حالي...الأحسن أن تشتروا بها أدوية للمرضى الذين هم في حالة خطيرة...وأنا أحمد الله على نعمه)ثم سألها رئيس الحكومة قائلاً(هل لك أولاد؟قالت:نعم لي ولد واحد ولد في السجن المعلق ببرج خزان الماء أثناء ثورة التحرير الوطنية،وهو الآن يشتغل في قطاع البناء..سألها عن أحواله فأجابته أنه يعيش من عرق جبينه وأن حاله مستقر،له أولاد وأنا أعيش معه).

    ثم قال لها رئيس الحكومة  أمام الجماهير الشعبية والمجاهدين(ما هي أمنيتك في الدنيا؟قالت له:تأدية فريضة الحج إلى بيت الله الحرام والصلاة في المسجدين الحرمين الشريفين،وزيارة قبر الرسول-صلى الله عليه وسلم- والصحابة والمجاهدين،وزيارة مكة المكرمة والمدينة الشريفة وهي أمنيتي وأرجو الله العلي القدير أن تتحقق قبل مماتي)»)12(.

     و أورد المؤلف القصيدة التي كتبها الشاعر شحاتة عبد الغني الصباغ،المعنونة ب: «فاطمة خليف(أم الزهرة)مجاهدة الصمود والكبرياء»،ومما جاء فيها:

أعندي ملاحم حق ونور    وأبحث عند سواي الأثر

وبنت تلمسان الأوراس تصدت بنبل     وأعطت مثالاً صدوق الخبر

وكانت جداراً لقبر فرنسا     ومن يلعقون دماء البشر

ومن يغصبون حياء العذارى     قذفنا عليهم شواظ المطر

ومن يقطعون أيادي النساء     بعثنا عليهم عذاب سقر

ومن حاكموا طفل روض ندي     أتاهم جواب يصب الشرر

قضم رقاب البغاة لهيبي    وإن حان زحف فأين المفر

ونالت بلادي وسام انتصار     وحباً الجزائر غزو القمر

ويبقى الأوراس وتلمسان عبير الوجود     ويبقون عندي كإحدى الكبر

وأم الطفل صمود وعز      وتاريخ جيل بكف الصخر)13(.

     وبعد قصة المجاهدة فاطمة خليف روى الدكتور قنطاري قصة المجاهدة فاطمة قاسمي التي خرجت من المعركة مع زوجها وطفلها سالمين،وفي طريقهما مع الوادي إلى جبل(بوحلوا)بصبرة في مساء يوم ممطر بارد من شهر نوفمبر1960م تحت حصار القوات الفرنسية من رجال الكومندوس واللفيف الأجنبي،وتحت غطاء الطائرات لحماية الدبابات والمدرعات،وبعد أن دام التمشيط20 يوماً،ومن شدة البرد والجوع الذي عاشته على الأعشاب،والنباتات،وبعض تمار أشجار(البلوط) توفيت ابنتها البالغة من العمر ثلاث سنوات،ودفنتها تحت تهديد الذئاب التي حاولت افتراسها من بين يديها،وبعد عشرة أيام توفي طفلها أيضاً من شدة الجوع،والبرد القارس بين غابة منطقة صبرة في مغارة محاصرة من طرف القوات الفرنسية...

       وقد روت المجاهدة فاطمة قاسمي عن صديقتها أرملة شهيد بمحتشد سد بني بحتل قصة ملخصة كالتالي«كانت حليمة أرملة  شهيد مكلفة بالنظام الثوري لجبهة وجيش التحرير الوطني داخل المحتشد على اتصال بجندي جزائري في الخدمة العسكرية الإجبارية بصفوف القوات الفرنسية بالمحتشد...وذات يوم ذهب في إجازة لزيارة عائلته بمنطقة قسنطينة فوجد منزله ودشرته قد أحرقت وحطمت من طرف الجيش الفرنسي وأسرت عائلته كلها...ولما عاد إلى وحدته العسكرية الفرنسية بالمحتشد تظاهر كأنه لم يقع شيء أمام الجنود والضباط الفرنسيين...اتصل كالعادة في سرية تامة بأرملة الشهيد(حليمة)وأخبرها بالقصة وطلب منها أن تخبر قيادة المجاهدين بالجهة بوسائلها الخاصة لتهيء لاستقباله بعد فراره بمختلف الأسلحة في وسط كتيبة من الجنود الفرنسيين التي ستسلك طريق الجبل المعين...وبالفعل فقد وقعت الكتيبة الفرنسية يوم17 نوفمبر1960 في كمين لجيش التحرير الوطني فأبيدت عن آخرها والتحق الجندي الجزائري بصفوف المجاهدين،وغنم كل الأسلحة وذخيرتها الحربية...وبعد التحريات للمصالح السرية العسكرية الفرنسية عن سبب عدم العثور على جثة الجندي الجزائري في ميدان المعركة...وبعد التحقيق وتعذيب المجاهدة حليمة أشد العذاب الجسدي والنفسي...جمع(لصاص) حولها سكان المحتشدات المجاورة في بطحاء عامة...فمزق الضابط الفرنسي جون جاك مورين لباسها كما ولدتها أمها عارية تماماً وأفرغ البنزين على رأسها وجسدها كله إلى قدميها وألقى عليها النار وهي تصرخ،واحترقت عن آخرها أمام جمهور من الجنود الفرنسيين وسكان المحتشدات لتكون عبرة ومثالاً للغير.كما قامت القوات الفرنسية بذبح المرأة المناضلة صاحبة مركز استقبال المجاهدين لعلاج المجروحين والإمداد والتموين بالمواد الغذائية الضرورية،ورمت بجثتها أمام الحاضرين لتكون أيضاًَ عبرة أمام الآخرين...وحسب شهادة شهود عيان من النساء والرجال الذين عايشوا الحدث أن كثيراً من النساء أجهضن وأغمي عليهن من شدة الوقع والتأثر للمنظر اللا إنساني...للحرق والذبح... »)14(.

   وأورد الدكتور محمد قنطاري مجموعة من الشهادات لبعض المجاهدات عن الملتقى الوطني الأول المنعقد بمدينة عنابة عن«دور المرأة في الثورة» في:8-9 جويلية 1996من خلال لقاءات  أجريت معهن.

    فجاءت في البدء شهادة المجاهدة بدرة عمامرة من الأوراس التي أكدت على أن المرأة الجزائرية تصدت«في الأوراس لكل الممارسات الرامية إلى طمس الشخصية الوطنية والقضاء على مقومات شعبنا وتاريخنا.ورغم القهر والاستبداد والتعذيب الاستعماري الشنيع،بقيت المرأة تمارس دورها الأول والأساسي في المحافظة على أسرتها من التفكك والذوبان،وعوضت غياب الرجل لتصبح مسؤولة عن الخلية العائلية في المدينة والريف.وبذلك احتلت المرأة الجزائرية مكانتها في الأوراس داخل الثورة كفدائية ومرشدة اجتماعية وممرضة تسهر على راحة صحة إخوانها المجاهدين في الأكل والملبس ورفع معنويات المجاهدين...

    وقالت:عندما يخسر العساكر الفرنسيون المعركة ينقلبون للثأر من المدنيين،يهتكون حرمة النساء اللواتي يفضلن الموت،يلقين بأنفسهن من قمم الجبال حفاظاً على شرفهن من التدنيس قائلات(في التراب ولا في أولاد الكلاب) »)15(.

    وبعدها أورد شهادة المجاهدة شلق ميمونة سعاد من تيارت،والمجاهدة عائشة ليتيم من الولاية الثانية،والمجاهدة ساسي صليحة،والمجاهدة فاطمة المعنية،والمجاهدة خديجة رقين من تبسة،والمجاهدة حورية طوبال،وختم بإيراد شهادة المجاهدة فضيلة مانع من الولاية الثالثة التي جاء في شهادتها بصفتها أماً لخمسة شهداء «عندما استشهد زوجها زغردت وعندما استشهد ابنها الأول والثاني والثالث والرابع زغردت وعندما استشهد ابنها الخامس بكت كثيراً،فقيل لها لماذا تبكين هذه المرة قالت أبكي لأنه لم يبق لي ابن أهديه إلى الجزائر مرة أخرى وأتمنى استشهادي.

-كما كانت القوات الفرنسية عند مداهمة المنازل والخيام للتفتيش عن المجاهدين والجرحى تقوم بخلط الطعام بالتراب والبنزين وإتلاف المحاصيل الزراعية وقتل الحيوانات والدواجن،وكل ما يقتات به من أجل تجويع الشعب ليتخلى عن الثورة والثوار ولكن كان عكس ذلك يزيدهم روحاً وطنية،ويرفع معنوياتهم ويزيدهم أيضاً بغضاً للقوات الفرنسية.

-كانت القوات الفرنسية تقوم بعمليات تمشيط للبحث عن المجاهدين والمناضلين والمؤن فتجمع المواطنين في المناطق والغابات الكثيرة الأشجار والأعشاب وتقوم بحرقها فيحرق ما فيها وعليها من بني الإنسان من المواطنين وكل دابة بها.ومن يحاول الفرار تطلق عليه العساكر الفرنسية النار في سياستها الإبادة الجماعية والأرض المحروقة للشعب الجزائري...

-كانت الفتاة الجزائرية ترفض خطوبتها أو زواجها إلا إذا كان مجاهداً،وأن زوجات الحركى والخونة طلبن الطلاق من أزواجهن وهناك من تركت أبناءها والتحقت بالثورة لمسح العار والخيانة،وهناك من كن في صراع مرير مع أسرهن،أو أزواجهن العملاء أو خونة الثورة والوطن»)16(.

     ويؤكد الدكتور قنطاري على أن هناك شهادات قد يجف القلم لتدوينها ويعجز اللسان عن وصفها والنطق بها و لا يتصوره العقل البشري لما قام به الجيش الفرنسي والأجهزة الأمنية والعملاء من جرائم ضد الإنسانية.

     وروى المؤلف قصة الأسيرة الطالبة الفرنسية الآنسة كوماس التي تم أسرها،وقدمت شهادتها على حسن المعاملة التي لقيتها من قبل المجاهدين،وتعرض بعدها لحياة المعتقلين السياسيين،وأشار في هذا الشأن إلى أن مؤسسة السجن تقوم باستمرار ،وبدون إعلام بعمليات تفتيش المناضلين بشكل عنيف،حتى تطمئن من محاولات الفرار،ومن حيازتهم على آلات ،وأدوات مختلفة تستعمل في الفرار،وقد كانوا يتعرضون لذلك وكلهم اشمئزاز وسخط،لأن حراس السجن يطلبون منهم خلع ثيابهم كلها لعملية التفتيش،وفي كل الأوقات والظروف يبقون عراة وواقفين لمدة طويلة قد تصل إلى عدة ساعات،وقد كان حراس السجن يتلذذون بتعذيبهم للمناضلين،ويرتكبون أعمالاً شنيعة في حقهم بتشجيع من مسؤولي السجن،وقد كانوا يصرفون طاقاتهم في عدة نشاطات التي لولاها لما عاشوا بصفة عادية،فكان بعضهم يعلم والآخر يتعلم،وكان الطعام المقدم للمعتقلين سيئاً جداً،وفقيراً جداً من الناحية الغذائية،وكثيراً ما كان المناضلون يفقدون وعيهم من شدة التعذيب الذي يتعرضون له،فيتم جرهم وهم جثة هامدة ،ورميهم في زنزانة ضيقة جداً،مصبوغة باللون الأسود،وخالية من النوافذ،وقذرة وكثيرة الرطوبة،وكانوا يجبرون على الركض لأخذ إناء حسائهم،وأكله بسرعة،ووضعه في المكان المحدد،وذريعتهم في ذلك هي أن هذه الإجراءات المقصود منها الأمن.

     وفي حديثه عن اشتداد القمع الاستعماري من:1955-1962م تساءل الدكتور محمد قنطاري في البدء كيف توصلت فرنسا وإدارتها إلى تجاهل حقوق الإنسان والاستخفاف بها،واحترفت عمليات تعذيبية ضد الجزائريين أثارت ضدها الضمير الإنساني؟

  كيف يمكن التوصل إلى إخضاع الإنسان للتعذيب وتعريضه للآلام الشديدة وإلى المعاملات القاسية وغير الإنسانية؟

    وأشار إلى أن الشرطة والجيش الفرنسي كانا يقومان«بكل أنواع التعذيب الجسمي بكل عنف ووحشية لاستنطاق المعتقلين المسجونين،وكان ذلك أمراً عادياً ويومياً وكانت آلة الكهرباء تسمى آلة الاعتراف.

   وكان التعذيب عن طريق حوض الماء(الحمام)وأنبوب الماء في فم المعتقل من الوسائل الكثيرة الاستعمال من طرف الشرطة والجيش الفرنسيين.

  وكان التعذيب المستمر الذي يعتمد على التعب الجسمي مقدمة للتعذيب الصحيح الذي كانت تقوم به المصالح المختصة في فنون التعذيب بوسائلها،وبأساليبها المختلفة،من بينها:

1-حرمان المعتقلين من الأكل والشرب والنوم مدة زمنية محددة مسبقاً لإضعافهم جسدياً ونفسياً لتهيئتهم للتعذيب الأشد قسوة.

2-إخضاع المعتقل لآلات التعذيب انطلاقاً من حرق الأماكن الحساسة من الجسم سواءً بالشموع أو بالمكواة ونزع الأظافر والأسنان وإقعادهم على الزجاجات وملء بطونهم بالماء الممزوج بالصابون والغازات بغية الحصول على المعلومات من المعتقلين دون استثناء.

3-تدل الشهادات بأن المعتقلين كانوا يتحملون التعذيب ولا ينطقون بأي سر من أسرار الثورة مفضلين الاستشهاد في سبيل الله والوطن حفاظاً على كرامتهم وكرامة الثورة والوطن،ذلك ما كان يغضب الفرنسيين ويؤدي بهم إلى مضاعفة التعذيب بوسائل أخرى تختلف عن الوسائل الأولى كاستعمال الكهرباء في الرأس والأذنين وفي الأماكن الأخرى ونزع قطعة من لحمه بالكلابة وطرحه أرضاً للشمس بعد دهن جسمه بمواد كيمياوية مؤثرة.

     هذا ولما كان الجلادون يفشلون في نزع المعلومات من المعتقلين كانوا يلجأون إلى استعمال طرق التخويف والترهيب بإعدام معتقلين –أمامهم-غير محكوم عليهم بالقضاء محذرينهم  بمصيرهم في حالة عدم إدلائهم بالمعلومات المطلوبة،وهكذا فقد استشهد عدد كبير من المعتقلين تحت التعذيب جماعياً ونذكر(الدكتور محمد قنطاري)على سبيل المثال الشهداء بوراس الجيلالي ودحنون سليمان وجيدر محمد الملقب(بولنقاني)وهذا بالإعدام الغادر في مراكز الشرطة بعد عدة أسابيع من التعذيب.ولتغطية هذه الجريمة ذكرت الصحافة المحلية الفرنسية بأن هؤلاء المعتقلين قتلوا في محاولتهم للهروب ناحية تليلات»)17(.

    في القسم الأخير من الكتاب توقف المؤلف مع طرائق ووسائل التعذيب الفرنسي في ثورة التحرير،وذكر في البدء أن التعذيب ينقسم إلى قسمين:

أ-التعذيب الجسدي.

ب-التعذيب النفسي أو المعنوي.

       فالتعذيب الجسدي-كما ذكر المؤلف-بلغ خلال ثورة التحرير الوطني أشنع،وأفتك صور التعذيب الوحشي الذي عرفته الإنسانية في القرن العشرين ضد المعتقلين والمساجين والأسرى والمناضلين الوطنيين،فالسلطات الفرنسية مدنية وعسكرية أقامت مراكز ومدارس متخصصة في فنون التعذيب الجسدي والمعنوي بشتى وسائله البدائية أو التقليدية،وأجهزة العلم التكنولوجية الحديثة.

  ومن أنواع التعذيب التي ذكرها المؤلف على سبيل المثال لا الحصر:

«-يقوم المجاهد أو المناضل المعذب بحفر حفرة إلى غاية العنق أي الرقبة،فيرمى عليه التراب إلى العنق فيموت موتاً بطيئاً.

-تقوم القوات الفرنسية ورجال الأمن بإلقاء البنزين على المعذب أمام الجمهور في المحتشدات أو المعتقلات أو الأسواق أمام العامة فيحرق أمامهم ليكون عبرة للآخرين.

-تقوم القوات الفرنسية بوضع المجاهدين أو المناضلين في الصفوف الأولى والوسطى،وفي الأخير كدروع بشرية عند التمشيط أو تنقل القوات الفرنسية في الطرقات من جهة إلى أخرى تفادياً لمفاجأتها في كمائن أو معارك مع المجاهدين.

-تقوم القوات الفرنسية وأجهزتها الأمنية بإقحام المجاهدين أو المدنيين في مناطق الألغام أو تفجيرهم بالمفرقعات.

-تقوم القوات الفرنسية البحرية بالقبض على المناضلين المدنيين نساء ورجالاً،شيوخاً أو صبياناً،على السواحل بشحنهم في بواخر أو قوارب صيد وربط أيديهم خلفهم بأسلاك ورميهم في البحر ليكونوا طعماً للأسماك.

-تقوم القوات الفرنسية وأجهزتها الأمنية،مدنية كانت أو عسكرية بربط المعذب من الأرجل وتعليقه منها ورأسه في الأسفل،فتنهال عليه بالضرب والجرح إلى أن يموت...

-تقوم القوات الفرنسية بإلقاء الأسير أو السجين برميه جواً من الطائرات العمودية على مسافات بعيدة على اليابسة أو البحار...

-يرمى بالسجين أو المعتقل في زريبة أو حجرة مع حيوانات متوحشة جائعة فيكون لها طعماً سريعاً تتسابق وتتصارع عليه وهو يصارعها بين الموت والحياة.

-كما قامت القوات الفرنسية وأجهزتها الطبية والبيولوجية بتجارب حيوانية استنساخية على المرأة الجزائرية.

-ربط الموقوف عارياً فوق كرسي يسري فيه تيار كهربائي حتى يتصلب جميع جسده،ويحس بالتهاب في حلقه،وحرارة في أحشائه،حيث يكون السلك الكهربائي بقوة عالية إلى أن يحرق ويصبح جسمه كفحمة أو رماد..

-تنتزع جميع ثياب المعذب،ثم يجبر على المشي على أربع والدفع به بقوة إلى الأمام،فإذا كبا انهالوا عليه ركلاً أو ضرباً بمؤخرة بنادقهم وتطلق عليه الكلاب البوليسية العسكرية المدربة لتنال من جسمه وأعضائه التناسلية أو الاغتصاب.

-وضع الملاقط في فم المعذب وسدّ فمه،ثم يدخل الشريط العادي إلى أعماق سقف حلقه،ثم يشغلون آلة كهربائية بقوة حتى تتقلص جميع أعماق سقف حلقه،ثم يشغلون آلة كهربائية بقوة،حتى تتقلص جميع عضلات وجهه،وتتشنج بشكل فظيع فيؤدي إلى تشويه وجهه.

-إجبار المعذب تحت لون من التعذيب الفظيع على الإتيان بحركات أشنع منها،وعندما يمتنع يرمى به في الكاشو/وهو عبارة عن زنزانة انفرادية ضيقة قذرة لا يطاق دخولها.توجد بها بعض الأفاعي أو العقارب أو الصراصير والفئران والناموس،والبق وغيرها من الحيوانات والحشرات الضارة والمميتة...

- التعذيب بالملاقط،وهي صغيرة مستطيلة ومسننة كفك التمساح توضع إحداها في طرف الأذن اليمنى،والأخرى في إصبع اليد اليمنى توصلان بالكهرباء،وتطلق دفعات كهربائية تتوالى على الجسم،وهو يتلوى ويهتز حتى يتصلب..حيث تتفاوت درجة القوة الكهربائية،فقد تزيد أحياناً عن 220 فولت.

-التعذيب بالمنجر/اللكانة/الذي يستعمله النجار،وكيفية التعذيب به هي نفس الكيفية التي ينجر بها اللوح:يوضع على جزء من أجزاء الجسم ثم يمر عليه كما يفعل النجار عندما يصقل اللوح فيتم قطع بعض الأصابع أو يديه أو رجله أو تمزق بعض أطرف جسمه...

-الرهان بين العساكر والحركى حول امرأة حامل هل في بطنها ولد أم بنت فيقومون ببقر بطنها لمعرفة ذلك.

-تعليق المعتقل أو السجين على خشبة الصليب حياً إلى أن يموت ويقلى أو يشوى الصبي على النار أمام أمه»)18(.

    إضافة إلى عدة أساليب إجرامية أخرى استعملها الاستدمار الفرنسي للقضاء على روح النضال،والكفاح في الفرد الجزائري التواق إلى الحرية والتخلص من جحيم فرنسا.

ب-التعذيب المعنوي النفسي:

     ذكر الدكتور محمد قنطاري حينما تعرض لهذا الأسلوب أن المناضلين والمجاهدين عرفوا أنواعاً كثيرة من فنون التعذيب المعنوي أو النفسي،وهي أكبر وأشنع من التعذيب الجسدي،فالتعذيب المعنوي يترك آثاراً نفسية أو معنوية عميقة في الشخص إلى غاية وفاته،ومن بين الأساليب التي انتهجها الاستدمار الفرنسي على سبيل الذكر لا الحصر ذكر المؤلف:

  «-تجريد أفراد الأسرة أو العائلة في مكان واحد من جميع ثيابهم كما ولدوا وهم يتفرجون ويتلذذون عليهم بالمس والضرب للتخويف والترهيب...

-تنتهك العساكر الفرنسية والعملاء الأعراض ويتم اغتصاب أفراد الأسرة أمام عيون الجميع.

-تجبر العساكر الفرنسية وأسلاك الأمن المدنية الفرنسية بالضرب والتهديد بالموت والمخدرات أفراد الأسرة أمام أعين الابن انتهاك حرمة أخته أو زوجة أخيه أو عمته أو خالته أي من المحرمات في القرآن الكريم أو الأب انتهاك حرمة زوجة ابنه أو التعدي على ابنته إلى أنه في الواقع رغم كل الوسائل الجهنمية المستعملة من ضغوطات وتهديدات وتعذيب كان أفراد  الأسرة أو العائلة يغمضون أعينهم ويفضلون الموت على ممارسة هذه الانتهاكات أو الاغتصاب؟

   ونظراً للعملية الخطيرة في هتك العرض أو الاغتصاب وتأثيرها على حياة ومعنويات أفراد الأسرة الثورية بصفة خاصة وأفراد الشعب الجزائري بصفة عامة أعطت قيادة الثورة أوامرها الصارمة من القاعدة إلى القمة بالقبض حياً أو القضاء على الغاصب المعتدي مهما كانت التضحيات ولو كلفت العملية عدة أرواح من المجاهدين أو المناضلين حتى يكون عبرة للآخرين»)19(.

     وقدم الدكتور قنطاري شهادة المجاهد السيد جاب محمد تحت عنوان«ذبحت دون أن أموت»،وقد روى قصته حينما ذبح من قبل أحد الجنود الفرنسيين على عنقه ،ولكن شاءت الأقدار أن لا يموت.

        أما خلاصة الكتاب التي جاءت في ختامه،فقد كتبها العلاّمة الشيخ محمد الصالح الصديق الملقب بعمدة المؤلفين الجزائريين،قدم فيها في البدء لمحات عن نضال،وتضحيات وكفاح الشعب الجزائري فذكر أن«ما لاقاه الشعب الجزائري خلال الاحتلال،وخلال ثورته المجيدة،من أنواع الظلم والقهر،ومن أنواع التنكيل،والتعذيب،هو الذي سيظل ناراً مؤججة في الأعماق،وقوة موحدة،وطاقة دافعة،وضلالاً كئيبة تنقر من كل ما يمس بكرامة الوطن،وينال من سيادته،وإذا كان الإيمان القوي،والوطنية الصادقة،والوفاء لثوابت الأمة هو الذي جعل أبطال،وبطلات ثورة التحرير يستميتون في مجالات التضحية والايثارية والفدائية،وجعل الشعب الجزائري بمختلف فئاته يصمد أمام فظاعة التعذيب،فإن هذه المعاني،وهذه القيم أيضاً،هي التي جعلت،وتجعل رجال الفكر والقلم،يمجدون تلك البطولات والمواقف،ويشيدون بتلك المقاومة العنيدة،التي حطمت صخور الاستعمار الفرنسي،وأسقطت تحت مطارقها عروش طغاته،وعتاته،وغيّرت مجرى التاريخ في الجزائر،بل في شمال إفريقيا كلها...ويحاولون بكل ذلك تربية النشء على تلك القيم والمبادئ والأخلاق،حتى تتكون منه أجيال تحس بآمال الشعب وآلامه،وتموت فداءً له إذا تطلب الأمر ذلك»)20(.

       كما نوه الشيخ محمد الصالح الصديق بشخصية مؤلف الكتاب،وجهوده العلمية المتميزة،فقال:«ويبرز في هذا الميدان صاحب هذا الكتاب الأستاذ الدكتور(محمد قنطاري)مجاهد،وباحث بجامعة وهران،وأحد المحافظين السياسيين بجيش التحرير الوطني،الذي لم يأل جهداً منذ سنوات في التنويه ببطولة جيش التحرير الوطني،والإشادة بصمود المناضلين الأحرار،الذين يقعون بين أيدي الجلادين الاستعماريين،ويصبرون على التعذيب الفظيع الذي يمارس ضدهم حتى يموتوا أو يفشل زبانية التعذيب في انتزاع الاعتراف منهم،فيطلقونهم بين الموت والحياة،ليعيشوا بقية حياتهم محطمين،أو معوقين،أو على عتبة الموت ينتظرون الرحيل بين حين وآخر.

    وكتابه القيم الموسوعي المسمى(التنظيم السياسي الإداري،والعسكري للثورة الجزائرية من:1954 إلى1962)بجزءيه الأول والثاني خير دليل على ما لهذا الرجل المناضل من حب لوطنه،ووفاء له.

     ويتقاضانا واجب الوفاء أن نلاحظ أن كل من ساهم-ويساهم-بعمل فكري في هذا الميدان،وهدفه ما ذكرنا جدير بكل احترام وتقدير،واعتراف له بالفضل،ونعتبر عمله شعلة مضيئة في الطريق،وصورة للاتجاه الصحيح،الذي يجب أن يتجه كل مواطن صالح،ومواطنة صالحة في الجزائر،وخطوة رائدة في طريق التحدي والمصارعة،من أجل إحقاق الحق،وإبطال الباطل.

      ولكن عندما يكون هذا العمل الفكري من رجل كالدكتور(محمد قنطاري)وطنية ووفاءً،ونضالاً وجهاداً،وعلماً وثقافةً،واكتواءً بنار التعذيب،ومعايشة لمن جربت أفظع وأقذر الأساليب،فإنه يكتسي أهمية متميزة،وخاصة عندما يكون هذا العمل عن المرأة التي كانت توصف بأنها(رئة معطلة)،ولكنها في ثورتنا بالخصوص،أثبتت بأنها لا تقل عن أخيها الرجل:شجاعة،وبطولة،ومقاومة،وتحدياً وصموداً،وفداءً»)21(.

      وقدم الشيخ محمد الصالح الصديق رؤيته لهذا الكتاب،وتوقف مع قيمته العلمية،والتاريخية،وفوائده الجمة،ووصفه أدق وصف،حيث قال في هذا الصدد:«إن هذا الكتاب(من بطولات المرأة الجزائرية وجرائم الاستعمار الفرنسي خلال ثورة التحرير الوطني)،في قصته الواقعية المثيرة مع السيناريو لإنجاز فيلم يكون في مستوى حدث الثورة الجزائرية،وملحمات بطلاتها كالمجاهدة خليف فاطمة الشهيدة التي لم تمت،وغيرها الذي أولاني الدكتور(محمد قنطاري)شرف تقديمه،صغير الحجم،بأتي القارئ على صفحاته في وقت قصير،ولكنه في حقيقته وواقع أمره،وأبعاده العميقة،كتاب قيم وصورة عن التعذيب ناطقة معبرة،وصفحة سوداء معتمة مخزية من كتاب فرنسا في الجزائر،ويمكن إيجاز خصائصه،ومميزاته فيما يلي:

1-يصور أبلغ تصوير،وحشية المستعمرين،وحقدهم على الجزائريين.

2-يختصر خصائص الشعب الجزائري في النضال،والمقاومة،وحب الحرية،كما يصور رغبته الملحة في الحرية والاستقلال.

3-يصور فساد الفطرة والأخلاق،ونذالة النفوس وخسة الطبائع عند المستعمر الفرنسي.

4-يعكس بوضوح ضعف المستعمر،الذي يمارس التعذيب،لأنه وجد نفسه أمام قوة قاهرة،فهو من هنا يحاول أن يحطمها بقوة الإذلال والإجرام والظلم،ولكن أنى له ذلك؟

5-يصور بطولة المرأة الجزائرية في هذه المرأة(فاطمة خليف)،التي جاهدت وقاومت،عذبت أفظع تعذيب،وقطعت يداها،ومع ذلك لم تهن،ولم تضعف وتستكن،وهان عليها كل ذلك،كما هان عليها أن تعيش بلا يدين،وتقاسي من جراء ذلك حياة صعبة للغاية لا يدركها إلا من يعيش بلا يدين.

6-يعرض صوراً فظيعة للتعذيب الوحشي،تنخلع منها القلوب،وترتاع منها النفوس،وتلبس الطبيعة من جرائها ثوب الحداد،هذه بعض آثار تلك الصور في نفس من يراها،وكيف بأثرها في نفس من عاشها؟

7-الكتاب باختصار صورة معبرة صادقة للبطولة و التعذيب في أقصى حدودهما،وأبلغ دلالتهما في الجزائر خلال ثورة التحرير.

       إن هذا الكتاب بقلم مؤلفه الوطني المجاهد الغيور على وطنه،من أهم ما يفجر في الأعماق الاعتزاز بالشعب الجزائري البطل،والنخوة مما بلغته المرأة الجزائرية-بالخصوص-والعربية بصفة عامة،من نضج الوعي،وشدة البأس،وعمق الإدراك لرسالتها في هذه الحياة،ومن أهم ما يؤجج في الأعماق نار الكراهية للاستعمار،والحقد عليه،وسيظل الشعب الجزائري طوداً شامخاً،يسخر بالعواصف والأعاصير ما دام متمسكاً بعقيدته ودينه وقيمه الروحية والأخلاقية،ويظل على(كراهيته للاستعمار،وعدم نسيانه لفظائعه في الجزائر).

   أما الذين يعتبرون جزائريين خطاً،الذين همّهم وضع العراقيل،والعقبات أمام الجزائر،حتى لا تتقدم،أو الذين يهونون من عظمة الجزائر،ويشوهون تاريخها،أو يوالون أعداءها، أو يخربون عمرانها،أو يسعون-جاهدين-للاحتلال اللغوي الأجنبي...

  أما هؤلاء وأمثالهم كثير،فما أجدرهم أن يتضاءلوا أمام تاريخ آبائهم وأجدادهم ويحتقرون أنفسهم(ويلعنوا اليوم الذي ولدوا فيه)»)22(.

    وختم الشيخ العلاّمة محمد الصالح الصديق كلمته عن الكتاب بتهنئة الدكتور محمد قنطاري على هذا العمل الفكري،وتهنئة القراء بهذا الكتاب الهام،والمتميز،حيث جاء في ختام كلامه:«فهنيئاً للدكتور(قنطاري)على هذا العمل الفكري الجاد الذي يعكس حبه لوطنه،ووفاءه لأبطاله وبطلاته وتأثره العميق بما لاقاه إخوانه المعذبون في الجزائر وخاصة البطلة المجاهدة(فاطمة خليف).

 وهنيئاً لمن يقتني الكتاب ويقرؤه فإنه نعم الكتاب،ونعم الرفيق،ونعم ما يؤجج في الأعماق قبس الانتماء الوطني،ونار الحقد على الاستعمار المقيت،وهنيئاً للبطلة(فاطمة خليف) على صمودها أمام ألوان من الموت،وعلى الأجر العظيم الذي ينتظرها عند ربها،وهو خير عزاء على ما لاقت من صنوف التعذيب من أجل وطنها،وهذا وستظل الآلام توحد صفوفنا،والمحن تجمع قلوبنا،والإحساس بكراهية الاستعمار يدفعنا إلى الموت في سبيل ديننا الحنيف،ووطننا المجيد»)23(.

ثالثاً :جرائم الـجيش الفرنسي في مقاطعتي الـجزائر وقسنطينة1830-1850م                                       

     يؤكد العلاّمة الشيخ محمد الصالح الصديق على أن«ما لاقاه الشعب الجزائري خلال الاحتلال،وخلال ثورته المجيدة،من أنواع الظلم والقهر،ومن أنواع التنكيل،والتعذيب،هو الذي سيظل ناراً مؤججة في الأعماق،وقوة موحدة،وطاقة دافعة،وضلالاً كئيبة تنقر كل ما يمس بكرامة الوطن،وينال من سيادته،وإذا كان الإيمان القوي،والوطنية الصادقة،والوفاء لثوابت الأمة هو الذي جعل أبطال،وبطلات ثورة التحرير يستميتون في مجالات التضحية والايثارية والفدائية،وجعل الشعب الجزائري بمختلف فئاته يصمد أمام فظاعة التعذيب،فإن هذه المعاني،وهذه القيم أيضاً،هي التي جعلت،وتجعل رجال الفكر والقلم يمجدون تلك البطولات والمواقف،ويشيدون بتلك المقاومة العنيدة التي حطمت صخور الاستعمار الفرنسي،وأسقطت تحت مطارقها عروش طغاته،وعتاته،وغيّرت مجرى التاريخ في الجزائر،بل في شمال إفريقيا كلها...ويحاولون بكل ذلك تربية النشء على تلك القيم والمبادئ والأخلاق،حتى تتكون منه أجيال تحس بآمال الشعب وآلامه،وتموت فداءً له إذا تطلب الأمر ذلك».

        وفي هذا السياق نلفي كتاب«جرائم الجيش الفرنسي في مقاطعتي الجزائر وقسنطينة1830-1850»،حيث يسعى المؤلف وهو الدكتور عبد العزيز فيلالي؛الأستاذ بجامعة منتوري بقسنطينة ،ورئيس جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية سابقاً،ورئيس مؤسسة الإمام الشيخ عبد الحميد بن باديس،و صاحب الكثير من المنجزات العلمية و التاريخية المتميزة إلى كشف النقاب عن جرائم الاستدمار الفرنسي،وإلقاء الضوء على فظاعة الجيش الفرنسي من خلال التوقف مع جرائمه في الجزائر في الفترة الممتدة ما بين:1830و1850.

  يقول الدكتور عبد العزيز فيلالي في وصف مؤلفه هذا«قسمت البحث إلى قسمين رئيسيين:

   القسم الأول يشتمل على جرائم الجيش الفرنسي في الجزائر من حرب صليبية وحرب عنصرية وإبادة جماعية،وتدمير القرى والمداشر وحرب المحرقة وتعذيب الأسرى وقتل الجرحى،وهي أعمال تعد من الجرائم ضد البشرية الموثقة في قوانين الأمم المتحدة وبروتوكولاتها.

   أما القسم الثاني فيتضمن الاحتلال الفرنسي لمدينة قسنطينة،وما انجر عنه من تقتيل وتدمير للمنشآت وتشريد للأهالي واغتصاب للنساء والممتلكات،وتضمن البحث المقاومة العنيدة التي أبداها سكان هذه المدينة العتيقة حتى صارت تدعى بحرب الشوارع،ويشتمل البحث على ضمائم وخرائط وصور لكل قسم تؤكد ما جاء في المتن من أحداث عنيفة وحرب مدمرة.

  وقد حاولت أن أحشد الشواهد التاريخية في هذا البحث،وتحليلها واستقرائها واستنباط معانيها من النصوص والوثائق الفرنسية والجزائرية المعاصرة للحدث،لأضع القارئ في الصورة المعاصرة لها».

    في مقدمة الكتاب يتحدث المؤلف عن الجهود التي بذلت لمطالبة الدولة الفرنسية بالإقرار بما اقترفه جيشها وحكومته من تقتيل وتشريد وإبادة،والاعتراف بجرائمه الكثيرة والمتنوعة في الحقبة الممتدة ما بين:5جويلية1830 و5جويلية1962م.

      ويرى الدكتور عبد العزيز فيلالي أن المحاولات التي بذلت من قبل شخصيات وطنية وهيئات مستقلة ومؤسسات رسمية كالبرلمان الذي وضع مشروعاً لقانون يتضمن«تجريم الاستعمار»الفرنسي بحكم احتلاله للجزائر طيلة قرن وثلث قرن من الزمن،لم تجد التعضيد الكافي والعناية الخاصة والآذان الصاغية،وقد ظل(المشروع) حبراً على ورق يراوح مكانه بين أروقة البرلمان وأروقة الحكومة عدة سنوات في حين أن الحكومة الفرنسية لم تتردد في حسم موقفها،وفاجأت الجميع،حيث تم إصدار قانون مضاد يمجد الاستعمار يوم:23فيفري2005م.

   ويؤكد المؤلف على نقطة أساسية وهي«مهما قدمت الحكومة الفرنسية من قوانين،ومهما تباهت بماضيها الاستعماري وبحضارتها،فإن ذلك لا يسقط التهمة الموجهة للاستعمار،لأنها واضحة وثابتة ومؤكدة في تصريحات وتقارير ضباطها ووزرائها وساستها ومثقفيها،مدونة ومنشورة في المؤلفات الفرنسية ومحفوظة في أرشيفات،كل من الحكومة وجيشها،والبرلمان الفرنسي،وكذا عند الجزائريين الذين عاصروا الحدث وعاشوا أهواله.

    إن هذه الوثائق جميعها،شاهد عيان وقرائن دامغة،تفصح عن الجرائم المتنوعة والمتعددة المرتكبة في حق الأمة الجزائرية الآمنة في وطنها،تعرضت للعدوان والظلم والطغيان والتصفية الجسدية بهدف الاستيطان»(ص:10).

       ويقدم المؤلف رؤيته في هذه المسألة فيقول: «إن خوض هذه الحرب الشاملة لعشرات السنوات بعيدة الأثر في نفوس أهل الجزائر،مليئة بالدروس والعبر والعظات،يتطلب من الباحثين والدارسين،إدراكها والتأمل فيها من جديد،وإعادة النظر في دراسة أحداثها،والبحث المعمق في مسيرتها في كل عصر،ولاسيما بعد اكتشاف وثائق ونصوص جديدة،حتى نستفيد من أخطاء الماضي ونتجنبها،ونواجه أخطار الحاضر وتحدياته ونتفاداه،ونرسم خريطة طريق للمستقبل،وبذلك نحافظ على حقوقنا وحريتنا وكياننا واستقلالنا،في هذا العالم المضطرب،ونضمن لأبنائنا الحياة الحرة الكريمة الآمنة».

     ويذهب الدكتور عبد العزيز فيلالي إلى أن البحث في تاريخ الجزائر الحديث والمعاصر والكتابة فيه والغوص في جوانبه المتعددة من الصعوبة بمكان،لافتقاره إلى المصادر الوطنية الأساسية ولاسيما فترة الاستعمار الفرنسي التي دوّنها رعيل من المؤرخين الذين عاصروا فترة الاحتلال،وتعاونوا معه وتفاعلوا مع التوسع والاستيطان وكانوا في خدمته.

  ولم يغفل   الحديث عن الجيل الذي ظهر بعد الفترة الاستعمارية-وهو كما يرى-أقل عنصرية بل منهم من كان موضوعياً في بعض الأحيان،وقد أظهر هذا الجيل بشاعة الاستعمار وجرائمه وأفعاله اللاإنسانية.

     مهد المؤلف للقسم الأول من الكتاب بالحديث عن أسباب الاحتلال ودوافعه،وأشار إلى أن الدولة الفرنسية في الجزائر تأسست على المقومات الصليبية والعنصرية،واستشهد بالكثير من الأقوال التي تؤكد هذا الأمر من بينها قول الجنرال بيجو إلى القسيس بريمو بعد أن يجمع أطفال الجزائر اليتامى: (حاول يا أبي أن تجعلهم مسيحيين،فإذا فعلت ذلك،فلن يعودوا إلى دينهم ولا يطلقوا علينا النار)،وقوله أيضاً عن أهل الجزائر بأنهم حيوانات يشبهون(ابن آوى)،ويجب إحراقهم في الكهوف التي يختبئون فيها،كما يرى ضرورة تدمير الجنسية العربية.

    وتحت عنوان«حرب المحرقة»أورد المؤلف مجموعة من الاعترافات عن الجرائم المرتكبة في تلك الفترة،حيث يعترف الجنرال«كافياك»بجريمة إبادة قبيلة بني صبيح سنة:1844م بالشلف بحيث اختفت هذه القبيلة بكل ما تملك من متاع وحيوان،وفي مغارة خوفاً من بطش العدو،لكن هذا الأخير لم يرحمهم،فجمع لهم الحطب وسد به فوهة المغارة وأضرم النار فيها فمات الجميع خنقاً بالدخان وخنقاً بالنار.

       ويذكر المؤلف أن الوثائق الفرنسية تشير«إلى محرقة أخرى في مغارة الفراشيش بناحية الظهرة في شهر جوان من سنة:1845م،قام بها العقيد(بلسييه)المكلف بمطاردة أولاد رياح،وهي قبيلة لم يتم إخضاعها للسلطة الفرنسية،لأن مواطن تواجدها تشمل على كهوف ومغارات عديدة صعبة المنال،كان عدد أفراد القبيلة يزيد عن ألف نسمة من الرجال والأطفال والنساء مع ما يملكون من قطعان الغنم،وبعد حصارهم داخل المغارة دام يوماً واحداً بعده لم يتوان الكولونيل في إضرام النار في فوهات المغارة،فكانت النتيجة ألف ضحية،حسب ضابط إسباني،كان حاضراً في هذا المشهد بحيث اعدموا جميعاً في هذه المحرقة داخل المغارة.

  وقد نددت بعض الجرائد الفرنسية بهذه العملية،التي أبادت قبيلة بأكملها داخل كهف لجأت للاحتماء به خوفاً من رصاص العدو،لكن وزير الحربية الفرنسي المارشال(سولت)دافع عن العقيد(بلسييه)وعن تصرفاته وقال بأنه لو كان مكانه لفعل أكثر من ذلك.كما دافع عنه الجنرال بيجو وهنأه على ما فعل.فكان المشهد مرعباً،فكل الجثث كانت عارية مستلقية في أوضاع تدل على الآلام الفظيعة التي عانوها،قبل أن يلفظوا أنفاسهم على الرغم من ذلك لم يستسلموا للعدو»(ص:42).

    كما أن(كارنوبير)أعاد الكرة واقترف نفس الجريمة في السنة نفسها(1845)حينما جمع الأهالي ووضعهم في مغارة وأضرم النار فيها،فأتت عليهم النار جميعاً في محرقة بشعة،بحيث وصفها أحد القادة بأن المغارة ظلت مقبرة جماعية مغلقة،وبداخلها ما يزيد عن خمسمائة جثة.

     ولم تمض إلا بضعة أشهر على هذه الجريمة حتى قام(سانت آرنو)بمحرقة أخرى في كهف اختبأ فيه مئات من الأهالي العزل،ويذكر(منتانياك) الجرائم التي ارتكبها في حملته على مدينة معسكر،فيقول: «لا يمكن تصور ما فعلناه بأولئك السكان المساكين لقد حرمناهم مدة أربعة أشهر من كل وسائل العيش،فلم يتمكنوا من حصاد قمحهم وشعيرهم وأخذنا منهم مواشيهم وأفرشتهم وخيامهم ومواعينهم أي أننا أخذنا كل شيء يملكونه»(ص:43).

      يؤكد الدكتور عبد العزيز فيلالي على أن الجيش الفرنسي قد استعمل كل أنواع التعذيب المعروف آنذاك في حق الأسرى لاستنطاقهم وانتزاع المعلومات منهم،ولم يتورع الجنود في التوسع في هذه الوسيلة كعقاب،حيث استعملوا الهراوات والعصي والسيوف والبنادق والسلاسل وقضبان الحديد والتجويع إلى حد الموت وقطع بعض الأعضاء من جسم الأسير كالرؤوس والآذان،وقد قدم المؤلف مثالاً عن التعذيب والتنكيل بما حصل بواحة الزعاطشة حيث أقدم الجيش الفرنسي على إبادة جميع سكان الواحة الذين كبدوا العدو ما يزيد عن 1500 ما بين قتيل وجريح،ولذلك فقد قام الجنرال(هربيون)بالانتقام منهم بمحاصرة الواحة لمدة شهرين وبعدها شرع الجنود في اصطياد الرجال والنساء والأطفال،ووفق ما ذكره(بوديكور)الذي شاهد المعارك التي حصلت في تلك الواحة فقد قام الجنود تحت نشوة الانتصار بمطاردة المساكين الذين لم يتمكنوا من الفرار فرأى أحدهم يقطع ثدي امرأة وهو يمزح بذلك،وهي تتضرع طالبة الرحمة بقتلها إلى أن تموت من شدة التعذيب،وآخر يلتقط طفلاً صغيراً من رجليه ويهرس رأسه على الحائط فيتناثر مخه ،وقد بلغ عدد القتلى من الجزائريين أكثر من 800 شخص خلال المعارك وتم قطع10آلاف نخلة ،وشنق1500 من الجزائريين أمام الملأ.وقد قام بتنصيب مقصلة على باب معسكره،ورفع ثلاثة رؤوس وعلقها مقطوعة وهي رأس الشيخ بوزيان ورأس ابنه ورأس الحاج موسى الدرقاوي،ووفق ما أورده مؤلف الكتاب وأشار إليه بوديكور عن غزو منطقة القبائل فقد« تم فيها تدمير القرى والمداشر تدميراً كاملاً،لم تمنع منهم حتى الأشجار والحيوانات،قطعوا ما يزيد عن18000شجرة من شجر الزيتون،وأحرقوا المنازل وقتلوا النساء والأطفال والشيوخ ونكلوا بجثثهم،وقاموا بأفعال أخرى كما يذكر بورديكور لا يتحملها العقل السليم.بل كان بعض الجنود يستحون من الفضائح التي يرتكبونها.

   وكان(منتانياك)قد أصدر أوامر صارمة لجنوده معاقباً كل من لا يمتثل إليها أو عدم تطبيقها وهي عدم الإتيان بأي عربي على قيد الحياة،ويعني بذلك أنه لا يريد الأسرى.

       وقد اطلع أحد النواب على أمرية عسكرية صدرت سنة:1837م تتضمن طرد الأهالي وتهجيرهم وتعذيبهم ووسائل أخرى لا يمكن النطق بها .فكل طابور من طوابير الجيش الفرنسي يزرع الرعب والدمار بقتل الرجال والنساء والأطفال،وخطف المواشي وتفريغ المخازن وحرق الأشجار.امتدت هذه الانتهاكات والجرائم إلى قبور الموتى القدماء منهم والجدد،وهي رموز أساسية لها حرمتها وقدسيتها الإنسانية والسماوية،فقاموا بتدنيسها فكانت شواهد القبور والأحجار التي بنيت بها مواد استخدموها في بناء المساكن والمطاحن.كما كانوا ينبشونها ويستخرجون منها الجماجم والعظام والبقايا البشرية الأخرى،ويبيعونها لمن يأخذها إلى فرنسا في السفن،يستعملونها في صناعة(الفحم الحيواني)،وهو فحم يحصل عليه بإحراق العظام البشرية في مكان مغلق،يستعمل بعدها في الصناعة لإزالة الألوان عن المواد العضوية،والتقليص من بعض الأكسيدات،كما كانوا يستخدمونه أيضاً في تكرير السكر وصناعته،فعندما اطلع الأمير عبد القادر على ذلك منع استيراد السكر من فرنسا ونهى عن استعماله»(ص:45-46).  

        في ختام هذا القسم أشار الدكتور عبد العزيز فيلالي إلى أن الجيش الفرنسي لم يلتزم بالمعاهدة أو الاتفاقية التي أبرمت بين الداي حسين والمارشال دي بورمون يوم:5 جويلية1830م التي سلم بمقتضاها الداي مدينة الجزائر وما جاورها للقائد الفرنسي،حيث قام الفرنسيون بالاستيلاء على كل ما وجدوه واعتبروه غنيمة حرب وأباحوا المدينة للنهب والاغتصاب،حيث تم الاستيلاء على خزينة الداي وأملاكه،وأملاك الأتراك،وامتدت أيديهم إلى الأوقاف،كما اغتصبوا القصور والدور في المدينة واستولوا على الزوايا والمساجد وحولوا بعضها إلى كنائس وجعلوا البعض الآخر مساكن ومستشفيات لجنودهم،كما هدموا الكثير منها وأخذوا الأبواب والمنابر والقناديل والأفرشة والألواح والزليج إلى منازلهم،إضافة إلى أنهم لم يتورعوا في الاستيلاء على الأراضي المخصصة للمقابر وأضرحة الأولياء الصالحين وأملاك القبائل والعشائر وطردهم منها.

      وقد جاء في تقرير اللجنة الإفريقية لسنة1833م إلى الحكومة الفرنسية الذي أشار إلى الضرر الذي أصاب المجتمع الجزائري من جراء الاحتلال جاء فيه: (لقد حطمنا ممتلكات المؤسسات الدينية،وجردنا السكان الذين وعدناهم باحترام الحريات الأساسية وعدم المساس بها والحفاظ على المقدسات،فأخذنا الممتلكات الخاصة والعامة بدون تعويض وذبحنا أناساً كانوا يحملون عهد الأمان وحاكمنا رجالاً يتمتعون بسمعة القديسين-الفقهاء-في بلادهم،كانوا شجعاناً لدرجة أنهم صارحونا بحالة مواطنيهم المنكوبين).

      أورد الدكتور عبد العزيز فيلالي الكثير من الشهادات التي تؤكد الجرائم الفظيعة المرتكبة،حيث صرح أحد النواب الفرنسيين بأن مدينة وهران كانت جميلة متماسكة تشتمل على بنايات وقصور كبيرة،فلما دخلها الجيش الفرنسي أصبحت خراباً بسبب الأعمال الوحشية التي فاقت خراب الزلزال الذي أصابها عقب جلاء الإسبان منها،وأشار إلى أن الجيش الفرنسي أحرق مئات الآلاف من أشجار الزيتون وغيرها في المنطقة.

    وقد ندد أحد النواب بانتهاك حقوق الإنسان في الجزائر وتهديم أكثر من ستين60 مسجداً جامعاً وتخريب نحو10 عشرة مساجد أخرى وتدمير ما يزيد عن تسعين منزلاً في الجزائر العاصمة من غير إعلام أهلها أو مخابرتهم ومن غير دفع التعويض لهم.

    كما يذهب أحد الكتاب إلى أنه لم يبق من 166 صرح ديني وثقافي في مدينة الجزائر إلا نحو واحد وعشرين21فقط في يد الجزائريين أي اغتصب منهم نحو145 صرحاً دينياً وثقافياً.

      جاء في ختام هذا القسم قول الدكتور عبد العزيز فيلالي معبراً عن وحشية الاستعمار الفرنسي وجرائمه الفظيعة: (إن انتهاك الحرمات والاعتداء على الممتلكات ونهب الأراضي تورطت فيه الدولة الفرنسية ودخلت في لعبة التشريع،وتطويع القوانين لاستخدامه كالسلاح في نهب الأراضي الجزائرية رغم تعهدها باحترام ممتلكات الأهالي فأعلنت عن تكوين قطاع أملاك الدولة،ضمت إليها أراضي الحكام من الدايات والباشوات والبايات والكراغلة،ثم امتد بصرها إلى أراضي الحبوس وأراضي الخواص من الأهالي بعد طردهم وتهجيرهم فاستولت في ظرف قصير على ما يزيد عن خمسة ملايين هكتار من الأراضي الخصبة الصالحة للزراعة،فضلاً عن الغابات والعقارات الأخرى،خاصة بعد ظهور الانتفاضات والثورات من حين لآخر،كما فعل الرومان مع أهل هذه الديار في العهد القديم،لأن هذه الثورات لم تقف ولم تستكن،فكانت تصادر أملاك الثوار والقبائل والمداشر ومن تعاون معهم.فقد شردت وقتلت ونفت مئات الآلاف من الأهالي إلى جزر كا ليدونيا وكايين والماركيز وغيرها من الجزائريين الذين لم يتوقفوا عن الانتفاضات،فخلال السبعين سنة الأولى من الاحتلال قامت ما يقرب من ثلاثين انتفاضة ضد الاحتلال في مناطق عديدة من الوطن،ويعني هذا أنه كانت تقوم ثورة خلال كل سنتين ونصف تقريباً قابلتها الدولة الفرنسية بكل وحشية وعنف.لقد جندت فرنسا كل وسائلها لاحتلال الجزائر والاحتفاظ بها وعينت على رأس جيوشها قادة لهم خبرة وباع طويل في ميدان الحرب،اعتمدوا في هذه الحرب إستراتيجية حربية شاملة في تعاملهم مع الأهالي والمقاومين...

   هذا شيء قليل من شيء كثير اقترفه الجيش الفرنسي خلال الاحتلال لبلادنا في المراحل الأولى،لم تقم فرنسا بمجرد الاعتراف بجرائمها أو الاعتذار على ما اقترفته من تقتيل وتشريد وتخريب وإبادة جماعية.وهو عكس ما حدث في ألمانيا تجاه إسرائيل وبولندة وما فعلته الولايات المتحدة مؤخراً مع الشيلي،عندما اعتذرت رسمياً للشعب الشيلي عما اقترفه بنوشي من جرائم،وهي كانت تؤيده وتدعمه وشتان بين جرائم بنوشي وجرائم الجيش الفرنسي.هذه صورة قليلة وعينة فقط لما جرى من جراء الاحتلال الفرنسي للجزائر وأهلها ومدنها خلال العشرين سنة الأولى منه،نطق بها قادة العدو والساسة والكتاب والبرلمانيون الفرنسيون بدون خجل من حكم التاريخ والقانون أو حياء من الرأي العام الدولي.

   فقد كان أسلوبهم أكثر وحشية من التتار والوندال والجرمان في العصور الوسطى،لأن هذه العناصر الأخيرة-التتار والوندال-لم تعمل على إبادة السكان من خصومها،وإنما كانت تعمل على استرقاقهم وبيعهم في مراكز العبيد،بينما الجيش الفرنسي كان يبيد الأهالي وحتى الجرحى منهم عن بكرة أبيهم.

      وعندما احتجت بعض الحكومات الأوروبية على هذه الأعمال اللا إنسانية للجيش الفرنسي في الجزائر،أجاب رئيس الحكومة الفرنسي آنذاك قائلاً:إن هذه الأعمال تكون وحشية لو كانت الحرب في أوروبا أما في إفريقيا فهذه الحرب بعينها. فقد أثرت هذه الإبادة على تعداد السكان وعلى استقرارهم،بحيث نقص تعدادهم خلال العشرين سنة الأولى من الاحتلال من جراء القتل والتشريد والتهجير والأمراض الوبائية ومن قلة التغذية التي سببتها الحروب ووحشيتها... ).

       وفيما يتصل بالاحتلال الفرنسي لمدينة قسنطينة ،فقد خصص له المؤلف القسم الثاني من الكتاب،وتحدث عن الملحمة الأولى والملحمة الثانية،وأشار إلى ما عاشته المدينة من ويلات بعد احتلالها،حيث بدأت عمليات النهب والاغتصاب بعد سقوطها،وهذا ما ذكره الدكتور سديو الذي قال:(كان الفرنسيون ينهبون متاع الناس ويسلبونهم من غير تمييز بين الشيوخ المسنين أو الأطفال.وعندما يستولون على أحد المنازل فإنه يدمغون بابه بجواز مرور ثم يحكمون غلقه من الداخل ويختبئون داخل المنزل،ويكسرون أقفال الصناديق،ولا يتركون متاعاً إلا ويفتشونه ثم يشرعون بهدوء تام في حمل ما يروق لهم،وقد وصل بهم الأمر إلى حمل هذه الأشياء والأمتعة وأقاموا بها نوعاً من الأسواق الخاصة يبيعون فيها هذه الأسلاب ويتبادلون  بعضها،وقد تبين فيما بعد أن أوفر الغنائم والأساليب وأغلاها ثمناً كانت من نصيب قيادة الجيش وضباط الأركان.فقد استولى الجنود على كل شيء،بحيث سكن الضباط في المنازل الفخمة وأقام الجنود في بقية الدور والبيوت).

          ومن بين الشهادات التي أشارت إلى مقاومة السكان لبطش وجرائم الجيش الفرنسي قول سانت آرنو: (لقد نلت شرف المساهمة في الهجوم على قسنطينة،ولكن لا مناص من التنويه بالمقاومة التي أبداها أهل المدينة،ولا يمكن تصور ما أصابنا إنه أسوأ ما في الدنيا من أهوال  ومن مشاهد مروعة،وهذا هو رأي محاربي الجيش الإمبراطوري القدماء أن المقاومة الشرسة التي واجهتنا تستحق التنويه).

     كما أعجب فالي بصمود قسنطينة وبقائدهم ابن عيسى قائلاً:(أظهر مهارة وشجاعة نادرتين في دفاعه عن مدينة قسنطينة).ووصفه بأنه رجل يتمتع بتفوق حقيقي.

رابعاً: التعذيب وممارسات الجيش الفرنسي أثناء ثورة التحرير الجزائرية:

    يعتبر كتاب«التعذيب وممارسات الجيش الفرنسي أثناء ثورة التحرير الجزائرية» لرافائيلا برانش،أحد أهم الكتب التي سلطت الضوء على أساليب التعذيب المنتهجة من قبل الجيش الفرنسي أثناء ثورة التحرير الجزائرية،وقد أحدث الكتاب ضجة كبيرة،وجدلاً واسعاً حينما صدرت طبعته الفرنسية عن منشورات غاليمار سنة:2001م،وتعرضت مؤلفته لانتقادات لاذعة،كما شنت حملات شعواء ضدها  من قبل اليمين الفرنسي المتطرف،كما ذهب بعض المؤرخين الفرنسيين إلى اتهامها بالاعتماد على«أرشيف مزور،وشهادات كاذبة هدفها الوحيد الحط من مكانة الجيش الفرنسي».

    وقد صدر الكتاب حديثاً  في نسخته العربية في طبعة خاصة عن وزارة المجاهدين الجزائرية،وتولى ترجمته إلى اللغة العربية الأستاذ أحمد بن محمد بكلّي.

   إن هذا الكتاب يعتبر مساهمة ثمينة تكشف النقاب عن ممارسات الجيش الاستعماري،وجرائمه المرتبكة في حق الأفراد،والجماعات من أبناء الشعب الجزائري،وله أهمية بالغة فيما يتصل بالمعلومات التي يقدمها عن  الانتهاكات،والجرائم المرتكبة إبان الحقبة الاستعمارية في الجزائر،ويتبدى من توزيع مادته،والمعلومات التي يعرضها أنه يقدم دراسة وافية عن جرائم الجيش الاستعماري الفرنسي.

     في المدخل قدمت المؤلفة لمحة تاريخية عن الممارسات،والقوانين الجائرة التي اعتمدها الفرنسيون منذ احتلال الجزائر سنة:1830م،وأشارت إلى أن الفرنسيين أسسوا مجتمعاً على قواعد جد جائرة واقعياً،إذ حصل سكان ينتمون إلى خليط بشري على المواطنة الفرنسية التامة،وبقرارات إدارية سخية سنة:1870م،بينما أطلق على الآخرين تسمية دينية لا تتلاءم مع الوضع القانوني،ورأت   أن انتفاضة الثامن من ماي1945م هي أول إنذار جدي للسلطات الاستعمارية،وقد تم التصدي له بأقصى درجة من العنف.

   وأشارت إلى أن كتابها هذا لا يتعرض لذكر الجوانب الدولية للصراع،ولذكر منظمة الجيش السري،بل هو أكثر انحصاراً،ويقتصر على موضوع محدد هو: «ممارسة التعذيب من قبل الجيش الفرنسي بين نوفمبر1954 ومارس1962م»،حيث اعتبر التعذيب إبان تلك الفترة وسيلة حرب،وعنفاً مقصوداً،أريد به كسب الحرب،وفي ظل العلاقات غير المتكافئة التي أسستها الأوضاع الكولونيالية فقد وُجد التعذيب ليُعمر طويلاً،فهو تعبير مباشر،وجسدي عن أوضاع تسودها علاقة قوة اعتبرت عادية في نظر الإعلام.

     وذكرت رافائيلا برانش أن مكانة التعذيب تطورت طيلة ثمانية أعوام،وقد اتخذ موقعه في أجوائها مع بقية أشكال العنف غير المشروعة،وذلك بفضل التسهيلات التي وفرتها تدابير تشريع استثنائي،وابتداءً من سنة:1957م ارتبط التعذيب بتصور جديد للحرب،وتحول ليصبح السلاح الأساسي في صراع كان يستهدف السكان الجزائريين بالدرجة الأولى.

   و لم يحدث وصول دوغول إلى السلطة قطيعة تذكر في تاريخ ممارسة التعذيب،فقد واصل الجنرال سالان،ثم الجنرال شال من بعده ترقية أساليب التعذيب،والحرب ولم يكن هناك وضع أي حد بين المدنيين،والعسكريين،فقد ظل التعذيب يشغل المكانة المركزية في أساليب الحرب.

الأوجه الجديدة التي اتـخذتها الحرب

      في المبحث الأول من الكتاب،والذي جاء تحت عنوان: «الأوجه الجديدة التي اتخذتها الحرب1954-1956م»،قدمت المؤلفة في البدء لمحة عن المراحل التي سبقت هذه المرحلة،وذلك حتى تؤكد على أن سياسة الإجرام الوحشي انتهجت منذ الأيام الأولى لاحتلال الجزائر سنة:1830م،وليس إبان الثورة التحريرية فقط،فذكرت أن العمليات العسكرية الأولى التي نُفذت سنة:1830م لم تخل من عنف وحشي،وهذا ما أكدته التقارير المرفوعة إلى الملك سنة:1833م،حيث أشارت إلى إرسال الناس إلى التعذيب لمجرد الشك،وبدون أية محاكمة،حيث جاء فيها بلسان ما فعله العساكر في السكان«لقد أرسلنا أناس إلى التعذيب لمجرد شك،وبدون أية محاكمة،أشخاص تورطهم غير أكيد..لقد قتلنا أناس يحملون جوازات المرور،وذبحنا أعداداً كبيرة من السكان لمجرد شك قبل أن يتضح من بعد أنهم أبرياء،وحاكمنا أناس ذو مكانة مرموقة في البلاد كالصالحين،وممن كان لهم وقار كبير لأنهم امتلكوا الشجاعة الكافية للمجيء أمام عنفنا الجنوني،من أجل الوساطة لأبناء جلدتهم.فاستقبلناهم بقضاة لمحاكمتهم،ورجال متحضرين لإعدامهم...في كلمة واحدة فاقت بربريتنا البرابرة الذين جئنا لنحضرهم،ورغم كل هذا لم نوفق في مهمتنا»(ص:17).

  وأكدت المؤلفة في رصدها للأوجه الجديدة التي اتخذتها الحرب على أن المصادر تعج بالشهادات على ممارسة التعذيب من قبل مصالح الاستخبارات،وقد تركت في الأرشيف الكثير من الأدلة المفصلة عن تصرفات بعض ضباط الاستخبار،وهناك الكثير من الروايات التي تم التصريح بها أثناء الحرب،وكشفت عن تلك الممارسات، وقد أكد أرمون فريمون الذي توجه إلى الجزائر سنة:1959م أن الجنود   ينطلقون وهم على علم بوجود التعذيب في الجزائر،غير أنهم لا يعلمون بالتحديد إلى أي حد يصل الأمر ،وأكد على أن التعذيب هو أمر عادي،وجزء من المواد المتوفرة.

    وبعد مرور ثلاثة أشهر من الاكتشاف جدد تأكيده على أن المرور في الجزائر بإحدى الوحدات،ورؤية رجل عار فيها،منتفخ الرأس بالضربات،وعين مغلقة كلية هي مشاهد كل يوم تقريباً،ولم تعد حتى تسترعي الانتباه.

    وفي اليوميات التي اعتنى النقيب بول فوشون بتسجيلها في الجزائر حينما حل بها يوم:19جويلية1959م عبر في حديث له عن فزعه الشديد لما شاهده فقال: «ما شاهدته عيناي أكثر مما في وسعي روايته( هكذا)لكمات،ركلات،وزجاجات موضوعة في غير موضع،الضغط الكهربائي المرتفع في المواضع...».

     وقد عرضت المؤلفة مجموعة من الشهادات لجنود أصيبوا بالغثيان،والاضطراب الشديد نتيجة لما رأوه من ممارسات إجرامية للجنود الفرنسيين ضد المواطنين الجزائريين الأبرياء،يعجز اللسان عن وصفها، وقد عبر أحد الجنود الذي  أصيب بالغثيان نتيجة ما شاهده من استنطاق،وتعذيب شديد للسجناء،والمشتبه فيهم عن هذا الأمر بقوله: «هنا ينبغي مقاومة التعود على الغثيان،وإلا حُكم على المرء أن لا يستثيره شيء،أي أن ينال به السأم».

   ولاحظت المؤلفة أن أرشيف القوات البرية لا يستعمل كلمة«تعذيب»،فتعبير«عضلي»هو الأكثر انتشاراً،  والأكثر إيحاءً بتعرض الضحية«للضرب المبرح»،منه لأصناف من العنف الأكثر تفنناً،وبهذا التعبير تتم المساهمة في التهوين من الأفعال التي يشير إليها،في حين أن عبارة«التعذيب»تكتسي مظهراً من التنديد لا يرغب الجند في تحمل مسؤولية،كما أن اختيار الكناية يحمل أيضاً دلالة على دوام لغة الحرب،وذكرت رافائيلا برانش أن المختصين في الاستخبار من درك،وضباط الاستخبار يفضلون استعمال نعت«الضغط».

  ورأت المؤلفة أن الترخيص بإطلاق النار قد فتح الباب واسعاً للتجاوزات المشروعة،وقد أصبح استعمال عبارة «هارب مقتول»وسيلة عملية لتغطية اغتيالات عشوائية بغطاء المشروعية،

    وتؤكد المؤلفة على أن قتل الجزائريين منذ أول نوفمبر1954م لم يعد جريمة،بل إنه واجب على الجنود المدعوين إلى محاربتهم،وتقول عن هذا الموضوع«فقد تحول بعض الجزائريين منذ1نوفمبر1954م إلى( متمردين)أو( مشتبه فيهم) لم يعد قتلهم جريمة،لكنه واجب على الجنود المدعوين لمحاربتهم-بشرط أن يمثلوا طبعاً خطراً مباشراً على حياتهم.لكن كيف السبيل إلى تحديد هذا الخطر؟ألا يمكن أن يشكل( متمرد)هارب خطراً بعد بضعة أيام،أو بضعة أسابيع؟لقد أدى هذا التبرير بالسلطة الفرنسية إلى السماح بإطلاق النار على عدو هارب،فبسن شرعية إطلاق النار على الفارين فُتح السبيل إلى اقتراح أعمال لا يمكن التحكم فيها قط...»(ص:93).

إقامة معايير جديدة من1957إلى منتصف ماي1958

  تحت عنوان:«إقامة معايير جديدة من:1957م إلى منتصف ماي1958م»استعرضت المؤلفة العهد الجديد للحرب الذي بدأ مع الجنرال سالان ابتداءً من شهر ديسمبر1956م،حيث تم اختيار منهج قمعي شمل الجموع الغفيرة من المدنيين،حيث لم يعد هناك أي تمييز بين المدنيين،والعسكريين،وقد اتخذت الإجراءات القمعية للجنرال سالان وتيرة متزايدة ابتداءً من:1957م،فتم التأكيد منذ البداية على أن الحرب التي تواجهها فرنسا تفرض على الجيش تحمل مسؤوليات تتجاوز بكثير تلك التي دأب عليها تقليدياً،وكانت هناك قناعة مشتركة بين المسؤولين في أعلى المستويات بضرورة مواكبة التطورات الإستراتيجية،والتكتيكية ابتداءً من سنة:1957م،واتخذت في هذه المرحلة الهيكلة الإدارية،والسياسية للوطنيين الجزائريين مكانة جديدة في الحرب،وكانت أول تعليمة تصدر من مسؤول الناحية العسكرية العاشرة تؤكد للقوات الفرنسية ضرورة تحقيق هدفين:إبادة التجمعات العسكرية،وتحطيم الهياكل السياسية لدى الخصم،وفي ظرف شهرين تتابعت خمس تعليمات عامة أخرى تؤكد على النقطتين،وقد وجه الحاكم المدني المسؤول في الشرق الجزائري في شهر جوان1957م، تعليمة للعساكر الموجودين في عمالته يذكرهم بالالتزام بالعمل على تحطيم المنظمة السياسية،والإدارية،وتم التركيز من قبل القوات على المهمة«المضادة للثورة»،حيث تسعى الاستراتيجية الجديدة إلى الحضور المتواصل للقوات الفرنسية في كافة التراب.

  ولتحقيق هذه الاستراتيجية طالب الجنرال سالان بأعداد إضافية،ولجأ إلى الاغتراف من الرصيد البشري المشكل من الاحتياط،وتؤكد رافائيلا برانش على أن الجيش الفرنسي لم يعد يستعمل الوسائل،والمناهج القتالية التقليدية،لكن أصبح يوظف وسائل ذات طابع إداري،وقانوني،تتمثل أسلحتهم في نصوص المدونات،والقوانين،والمراسيم،والقرارات،والتعليمات،وقد جازف الجنرال سالان بإعطاء نصائح محددة تنأى بعض الشيء عن ما يسمح به التشريع الساري،حيث دعا إلى استعمال المروحيات من أجل القيام بعمليات اختطاف مؤقت مفاجئ لأعداد من السكان يتم تعيينهم صدفة،أو بعد الاشتباه فيهم من أجل استنطاقهم،أو القيام بعمليات استنطاق مكثفة،واستغلالها،وإحكام كيفياتها ما أمكن ذلك.

     وإلى جانب الأساليب الكلاسيكية التي اتبعتها مصالح الاستخبار،لم يكن بعض ضباط الاستخبار يترددون في التنكيل،والتعذيب الشديد الذي يصل إلى التصفية الجسدية للأشخاص المستنطقين،ومع بداية سنة:1957م تحولت العدالة إلى أداة حرب ثورية مضادة في خدمة الجيش،وأكد سالان على ضرورة دفع الجيش إلى تسخير الوسائل المناسبة ذات الطابع الإداري،والقضائي بحيث تستجيب النصوص الإدارية،والقانونية للحاجيات المعبر عنها من قبل العسكر في الميدان،أو التي تبينت الحاجة إليها عند الممارسة.

     وعن وسائل الاستنطاق المستخدمة من قبل الجيش الفرنسي تقول المؤلفة«كانت الوسائل المستعملة عنيفة ضرب،كهرباء،صرخات،تهديد بالقتل بواسطة التلويح بمسدس.الهدف الوحيد هو حرمان الرجل من التفكير،حرمانه بكل الوسائل من استعادة لبه».

العسكر من منتصف1958 إلى نـهاية1959 حالة لا عقاب واسعة

      خصصت المؤلفة المبحث الثالث من الكتاب للحديث عن المنعطف الذي وقع في شهر ماي:1958م، في التاريخ السياسي الفرنسي،وأشارت إلى أن شؤون الجزائر لم تتسبب في مجرد سقوط الحكومة،بل في حلول نظام جديد،بعد استقالة رئيس الحكومة بيير بفليملان،واستبداله بشارل دوغول ،وبعد أن أسهم الجيش في الإسراع بسقوط إحدى الجمهوريات كانت هيمنته ثقيلة على الجمهورية الموالية طيلة الأشهر الأولى،وشجعت قيادة الأركان تطوير هيكل لتنسيق عمل مختلف القوات النظامية التي زج بها في قمع التنظيم السياسي،والإداري،وسمي هذا الهيكل ب:مراكز الاستخبار،والعمل،وتذكر المؤلفة أن ممارسة التعذيب استعملت،ورخص بها في مواطن كثيرة إلى درجة أن الحدود بين الشرعية،واللا شرعية تبدو وكأنها قد تم توسيعها،وبفضل سيطرة السلطة العسكرية ابتداءً من جوان:1958م تم توسيع المنطقيات التي تتحكم فيها إلى أبعد النقاط الممكنة.

خامساً:جرائم فرنسا في الولاية   الثانية-وقفة مع رؤية المجاهد شيدخ العيدوني-:

              «مملكة الفلاڤة» هي التسمية الذي أطلقها الجنرال شال؛القائد العام للقوات المسلحة الاستعمارية بالجزائر على منطقة الميلية،حيث جاء في كتاب«الوقت الضائع» في الفصل الذي يتحدث فيه الكولونيل ترانكي عن مخطط شال،قوله متحدثاً لترانكي :« سأعطيك قيادة المنطقة الأكثر صعوبة في الجزائر،إنها الميلية.

        لقد مات بها عدة قواد،الكولونيل ماري الذي كان يحكمها اغتيل على بعد100متر من المدينة،إنه ثاني كولونيل يقتل في المنطقة( الميلية)،بالإضافة إلى اثنين من متصرفي المنطقة قتلا في مكتبهما.في العام الماضي قمنا بعملية استلزمت مجموعات كاملة لم نحصل خلال أيام عديدة إلا على بندقية صيد،شيء مضحك، ومؤسف في نفس الوقت.هذا ما لا أريده أن يتكرر.الميلية...إنها مملكة الفلاڤة.هنا أريد أن أنهي الحرب،عندما تتغلب على تلك المنطقة عند ذلك ستنتهي الحرب...»

    من خلال كلام الجنرال شال يتضح الدور الكبير الذي لعبته منطقة«الميلية»أثناء ثورة التحرير المباركة إلى درجة أنه يربط انتهاء الحرب بالقضاء على منطقة الميلية.

     وفي هذا السياق تأتي شهادة المجاهد عمر شيدخ العيدوني لتكشف النقاب عن جوانب من الكفاح الثوري بمنطقة الميلية،و  تقدم صورة وافية عن وقائع ثورة التحرير المباركة في الولاية الثانية، وتكتسي شهادته أهمية خاصة،فالرجل أحد أبرز المناضلين الذين شاركوا في الحركة الوطنية،وعمره لا يتجاوز سبع عشرة سنة،وعند اندلاع ثورة التحرير المباركة كان في قلب أحداثها لما أسند إليه من أدوار هامة على مستوى منطقته.   

          إن كتاب:«مملكة الفلاڤة» يعتبر شهادة ثمينة عن تاريخ الثورة التحريرية المباركة بالولاية الثانية،بما يحتويه من معلومات عن الحركة الوطنية الجزائرية،والثورة التحريرية بمنطقة الميلية.

    وقد وصف الأستاذ الإعلامي بلال بوجعدار هذا الكتاب في تقديمه له بأنه : «وصف دقيق لمنطقة كانت دائما في قلب الأحداث، وكانت دائما في مقدمة الذين رفعوا لواء الجهاد ضد قوى الاستكبار، ودفعت في سبيل ذلك أثمانا باهظة.

           مملكة الفلاڤة، أول كتاب، وأهم كتاب، يخرج للناس يحكي الحكاية من البداية حتى النهاية، حكاية ثورة التحرير المباركة في أولاد عيدون "الميلية" حاليا يعيد الأمور إلى نصابها، ويضع الأحداث في سياقها، ويكشف لأول مرة حقائق مثيرة عن تاريخ الكفاح في المنطقة التي ظلت سجينة الصدور أو دفينة القبور أو هكذا أريد لها أن تكون.

         مملكة الفلاڤة، ليس كتابا في التاريخ يرجع إليه، و ليس دراسة أكاديمية تقدم معرفة علمية خالصة، و ليس مذكرات شخصية تجعل من صاحبها بطلا قوميا حوله تتمحور الأحداث منه تبدأ ،و إليه تنتهي،ولكنه شهادة عن الوقائع كما عاشها صاحبها، و رواية لتفاصيل هامة حول تعقيدات العمل الثوري في أولاد عيدون و تشابك أدوار الفاعلين فيه، و تداخل المحلي بالوطني، و تمازج الجزئي بالكلي، و تكامل الفرعي و الأصلي... 

  مملكة الفلاڤة، إعلام للجاهل، وإفحام للجاحد، إظهار للحق، وإبطال للباطل، حماية للتاريخ من التشويه وصيانة للحقيقة من التيه.

  مملكة الفلاڤة، توثيق شامل لما حدث في أولاد عيدون منذ نضالات الحركة الوطنية، و امتداداتها، مرورا بلحظة التفجير الأولى، و إرهاصاتها... 

  مملكة الفلاڤة، محاولة لإخراج أولاد عيدون من عزلة ارتضتها لنفسها، أو فرضت عليها من طرف غيرها، ومحاولة لإرجاع الحق إلى أصحابه، حتى يعرف الناس أهل السبق والصدق، لأنهم راحوا ضحية مواقفهم الرجولية وقراراتهم البطولية، فالحقيقة ليست دائما كما تبدو، أو كما أريد لها أن تكون.

  مملكة الفلاڤة، شهادة المجاهد عمر شيدخ عن الأحداث بمنطقة أولاد عيدون (الولاية الثانية المنطقة الثانية الناحية الأولى "221")، بصفته صانعا لبعض من تفاصيلها، مشاركا في كثير من أجزائها، قريبا من عديد رجالاتها و أبطالها، يرويها كما عاشها لا يرجو من وراء ذلك غير تبيان الحقيقة التاريخية وحدها، ليعرف الجميع عظمة هذه المنطقة، وعظمة رجالها ونسائها، ولم يكن هذا الأمر هينا عليه  ، لما قد يثيره من حزازات ،وما يخلفه من هزات، فالجراح بعد لم تندمل، و البناء بعد لم يكتمل، و الاقتراب من أرض فيها الكثير من الألغام مغامرة كبرى ، و لا عاصم من هذه القواصم  غير نية صادقة، و غاية نبيلة، و صبر جميل. 

     مملكة الفلاڤة، رسالة رجل التفجير، والتحرير، إلى جيل البناء، والتعمير، ليواصل المعركة  بعزم، و ثبات، فعدو الأمس مازال متربصا، وإن بدل جلده وأسلوبه، ولن يغفر أبدا للأجيال الحاضرة، والآتية ما فعل به الأولون، فليأخذوا حذرهم، وليحموا مكتسباتهم، وليعدوا ما استطاعوا من قوة فالحرب سجال، و أبدا لن تنتهي»

عمر شيدخ العيدوني في سطور

      عمر شيدخ بن أحمد بن بولعيد مجاهد بسيط ومن معطوبي الحرب  في الثورة التحريرية من 01 نوفمبر 1954 إلى غاية 05 جويلية 1962 ومن بين الذين لم يأسروا يوما عل يدي العدو الغاشم  .

       ولد في 11 مارس 1934 بمشتة عرفة في أولاد عيدون، بدأ تعليمه بكتاب المشتة لفترة قصيرة ثم بالمدرسة الابتدائية الفرنسية –الليلية- لمدة قصيرة ثم انقطع.  و بدأ حياته العملية مع والده في محل للخياطة و بيع القماش بعين البريد في وسط المدينة.

      التحق بصفوف الحركة الوطنية سنة 1950 كمناضل عامل عن عمر يناهز ست  عشرة سنة و يعود الفضل الأول لعمه الحسين شيدخ الذي تعلم عنه السياسة في بيته وعمره ثلاث عشرة سنة و كان عمه هذا من تلامذة العلاّمة عبد الحميد بن باديس ، و عند اندلاع ثورة التحرير المباركة كان في قلب أحداثها لما أسند إليه من أدوار هامة على مستوى منطقته، ومن أهم الأدوار التي قام بها جلب بيان أول نوفمبر وقد ورد  هذا في جريدة النصر في تاريخ أول نوفمبر1980 .

       عاش طيلة فترة الثورة المباركة مجاهدا بسيطا قريبا من قيادتها في المنطقة و كثيرا ما كان يستشار في قرارات هامة و مصيرية ،هذا القرب جعله مطلعا على كثير من الأسرار التي لم تكن متاحة لأي كان ، وقد ساعدته على فهم دقيق لمجريات الأحداث و تعقيدات الأدوار. عاش مناضلا في جبهة التحرير الوطني بالبطاقة وبدونها ، و ما يزال وفيا لمبادئها الأصيلة  ؟

     بعد وقف إطلاق النار عين مسؤولا عن الأمن في مدينة أولاد عيدون بصحبة مصطفى زعيمش  و رابح عبد الوهاب و بوجعادة عمر و غيرهم . و عقب الاستقلال و بعد خلاف بينه و بين مجموعة من الرفاق أبعد عن العمل السياسي ليتفرغ للتجارة.

   و عاش وفيا لمبادئه النضالية و الثورية الموروثة عن الحركة الوطنية و الثورة التحريرية ،  و هو الآن يقضي ما تبقى من عمره بين أولاد عيدون و قسنطينة و جيجل يتابع بعض أمور تجارته، مهتما بالسجالات السياسية و التاريخية الحاصلة في البلاد و لا يفوت فرصة للرد و التعقيب و التصويب.    

   في بداية الكتاب يؤكد المجاهد عمر شيدخ العيدوني على أن تسمية المنطقة الصحيحة هي   «أولاد عيدون»،وليست«الميلية»،ويرى أن الميلية اسم دخيل على المنطقة،ويعتقد أنه دسيسة استعمارية،ولذلك فهو يصر على استعمال اسم«أولاد عيدون»بدل اسم«الميلية»،يقول المجاهد عمر شيدخ العيدوني في هذا الصدد«   الميلية اسم دخيل على المنطقة ما عرفه الأجداد وما أقروه يوما، بل هو دسيسة استعمارية   لطمس هوية المنطقة وفصلها عن جذورها، نكاية في أهلها الذين رفضوا سلطة الاحتلال الأجنبي و قاوموه منذ الوهلة الأولى و لم ينساقوا وراء ادعاءاته و أراجيفه التي كان يلقيها هنا و هناك و سار في ركابها الكثيرون للأسف الشديد.

      والحقيقة أن أولاد عيدون كانت نسبة لمن عاد من أهل المنطقة الكتاميين من القاهرة بعدما شيدوها تحت إمرة أبي عبيد الله الفاطمي، فسموا "عائدون".

     ويروى أنهم عندما عادوا استقروا في منطقة الوادي الكبير، وأقاموا سوقا أسبوعية تؤمها أعراش المنطقة كل ثلاثاء، كما كانت قبلة لتجار ميلة الذين كانوا يتاجرون في الحبوب بشتى أنواعها، وكانوا يقايضونها بما تجود به المنطقة من ثمار، إذ يعرضون القمح والشعير والفول والحمص... ويأخذون  كمقابل التين والزيتون والعنب والرمان...  وشتى أنواع الخضر والفواكه.

     كما أنشأوا بالموازاة مع  تلك السوق مجلسا قضائيا يتشكل من ممثلي جميع أعراش المنطقة يتحاكمون إليه، وفيه ترد المظالم وتؤدى الحقوق حتى سميت المنطقة بـ"أم لحقوق" نسبة إلى هذا المجلس، ولا تزال تحمل هذا الاسم إلى يوم الناس هذا.

     ولأن المنطقة برمتها كانت خاضعة للحكم العثماني في ذلك الوقت ، كان يأتي مع تجار ميلة من يمثل سلطة الباي لجمع المكوس من تجار السوق، وقد كان هؤلاء غلاظا شدادا يسيئون معاملة مرتادي السوق من سكان المنطقة، فضاقوا بهم ذرعًا، و قرروا الانتقام   على طريقتهم فترصدوا الباي عثمان وقتلوه حوالي سنة 1817م في مكان يسمى مجاز الباي بين عرشي أولاد عواط و لجبالة، وكان هذا تعبيرا صارخا و صريحا عن رفض أهل المنطقة للظلم     و الإهانة، وتمردا مبطنا على حكم البايات الأتراك، الذين أضمروا –بعد هذه الحادثة- السوء لأهل المنطقة وبالغوا في ظلمهم، وعدوانهم.

         ويروى أنهم أتوا يوما إلى السوق ليأخذوا المكوس كعادتهم، ولما جن الليل عليهم أرغموا أحد السكان على استضافتهم، و توفير المبيت لهم ، فذبح  المسكين  عدة دجاجات وأحضرها لهم، فوجدوا دجاجة بها ساق واحدة، فسألوا المضيف عن الساق الناقصة  ، فأجابهم أن ابنه الصغير اشتهاها فأكلها، فقاموا إلى الصبي وقطعوا ساقه انتقاما وإذلالا، فلقب الصغير بلقب "العايب" واستمر هذا اللقب معه، وتوارثه كل من جاء بعده جيلا بعد جيل إلى يومنا هذا.  ولا يزال هذا اللقب مميزا لعائلة معروفة بمدينتنا. و إذا كانت هذه الحادثة كافية لأن تغير لقب عائلة فإن تسمية الجهة برمتها و إلحاقها بجهة أخرى و نسبها إليها يعد أخطر من تغيير لقب عائلة.

              وكيف يكون تبديل اسم منطقة بكاملها وقلب معالمها وطمس هويتها؟  لما تكرر ورود تجار ميلة إلى السوق نسبت إليهم، فأصبح الناس يقولون سنذهب إلى سوق الميلية نسبة إلى تجار ميلة، و لأن الأمر إذا تكرر تقرر فأصبحت المنطقة تسمى الميلية، ولما جاء الاستعمار الفرنسي رسم التسمية بالتواطؤ مع بقايا الأتراك لضغينة يحملونها لسكان أولاد عيدون سبق ذكر أسبابها، وأصبحت المنطقة منذ ذلك الحين تعرف بـ "الميلية" وبقي اسم أولاد عيدون متداولاً على نطاق ضيق عند بعض الناس، وإن كان أغلبهم يعتقدون أنه عرش من أعراش المنطقة،  و الحقيقة أن المنطقة بأسرها تسمى "أولاد عيدون" وكل الأعراش الأخرى تنضوي تحت لوائها ».

              ولم يغفل المجاهد عمر شيدخ العيدوني الحديث عن الدور الكبير الذي لعبته المنطقة،حيث يشير إلى أنها كانت قلعة منيعة في وجه الغزاة الفرنسيين منذ أن وطئت أقدامهم النجسة هذه البقاع الطاهرة و تصدت لهم على مراحل منذ معركة "بين لغدر" سنة 1837م التي دامت لأكثر من شهرين كاملين،  و يذكر أن فرنسا لم تتمكن  من بسط نفوذها على المنطقة إلا بعد وشاية من خلالها  كشفت الأماكن التي يتحصن بها المقاومون فجاءهم الجيش الفرنسي من خلفهم على طريق دوار "الماء لبيض" عبر مناطق بني صبيح،و بوشارف و زرزور فتمكن منهم و أقام برجه الشهير للمراقبة في سوق الثلاثاء.

    و بعدها جاءت ثورة أولاد عيدون الكبرى بقيادة بن فيالة وبولخميرة سنة 1871م و التي تعتبر امتدادا لثورة المقراني في بلاد القبائل، إذ ذهب رجل من المنطقة يدعى الشيخ بن عتيق بصحبة مجموعة من رفاقه على البغال إلى منطقة القبائل و التقوا بالشيخ المقراني  –أو الشيخ بن الحداد كما ورد في بعض الروايات- و اتفقوا معه على دعمه و توسيع رقعة ثورته، فباشروا معركة كبرى بدأت باستهداف برج المراقبة   ولكن الاستعمار الفرنسي حسم المواجهة لصالحه و تمكن من قتل قائدها بن فيالة بين منطقتي أولاد عطية و بني فرقان حسب الروايات ، و اعتقل جل المشاركين فيها و أخذهم إلى تولون و من هناك نفي بعضهم إلى كاليدونيا الجديدة، و يقال أن كاليدونيا سميت هكذا نسبة إلى أولاد عيدون. و بقي أحد رفاق بن فيالة يدعى بولخميرة ثائرا قرابة العشرين سنة أي حتى سنة 1890م أين اعتقل في منطقة زاهر  بعد قتل زوجته نكاية فيه و إرهابا له، و لا نعلم حتى الآن كيف كانت نهايته.

               وختم المجاهد عمر شيدخ العيدوني هذا القسم بالقول  «   إنني هنا إذ أذكر هذه الوقائع و أسوق هذه الشواهد ليس لعصبية منتنة أو لجهوية ضيقة، ولكن ليعرف أهل أولاد عيدون أصلهم فيستعيدونه أو يعودون إليه، ليعودوا من جديد "أولاد عيدون" كما كانوا، و يرموا وراء ظهورهم اسما على غير مسمى نسب إليهم و هم منه أبرياء. من هذه الزاوية لا غير أصر على أولاد عيدون مكان الميلية»..

  الحراك السياسي في أولاد عيدون قبيل الثورة:

            قدم المؤلف لمحة تاريخية عن الحراك السياسي بمنطقة«أولاد عيدون» قبل الثورة،فأشار إلى أن أولاد عيدون عاشت حراكاً سياسياً شكلته ثلاثة كيانات كبيرة، ورسمت معالمه، حركة الانتصار للحريات  الديمقراطية، وأحباب البيان ، وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين.

     فحركة انتصار الحريات الديمقراطية ترأس قسمة  أولاد عيدون بها المناضل زيدان أرزور، ومن أبرز روادها: علي مسقالجي، ويعتبر المسؤول الأدبي عن الحركة،و العربي لحمر الذي كان ضابطا في الجيش الفرنسي، وشارك في الحرب العالمية الثانية، وبعدها عمل كاتبا لدى حاكم الميلية  ثم التحق   بالعمل الوطني بعد رفضه التنديد بالحركة الوطنية وأفكارها، فانحاز إلى صفها غير آبه بالحاكم وسلطته، وأصبح عضوا بارزا في المنظمة السرية "L’OS" ومن الأوائل المفجرين لثورة التحرير المباركة.

    ومن الأسماء الكبيرة التي كانت تعمل في صفوف الحركة الوطنية و قادت فيما بعد العمل الثوري في أولاد عيدون ذكر المجاهد عمر شيدخ العيدوني:مسعود شعراوي، مسقالجي علي، سعد زعيمش المدعو مصطفى، العربي لحمر، زيدان أرزور بوشريط عبد القادر ، على بوشريط، ،عيسى أوصيف، بولعيد محزم ، علي بوعرورة، أحمد زويكري المدعو بلحملاوي، محمود لبصير، مسعود بوعلي، ، عبد الله لبصير، عمار حمودة، علي بوخشم، حسن زعيمش، محمد بوزردوم المدعو بن موسى، غربي صالح، حسين بودشيشة، كروم محمد بن فرحات، محمد بن أحمد بعداش، صالح بوبرطخ، سعد ڤليل بن محمد وبوشعالة محمد, أحمد عبد النور، مسعود لعور،مليط  الحسين بن مصطفى ، إبراهيم ميمش، عمار خنخار، سعد بوالحيلة،يوسف شعراوي بن مبارك، مهدي بنيني ، طاوطاو محفوظ ،عمار بلڤعوير، السعودي رغيوة، رقيوع عزيز، علالوش رابح ،محمد ليتيم المدعو بالعطوي، أوصيف الزيتوني، زعيمش حسين، مليط صالح ، فارح محمد بن السعيد،كحال إسماعيل بن رابح،كحال عزالدين بن محمد بن فرحات، بولعتيقة صالح، رابح بوالنح ، بلقاسم بوالنح ،بوشريط يوسف،تيطح الحسن ،أحمد بولوساخ ،العربي بغيجة، سي أعمر بورغدة،, محمد بن عراب، يوسف رابحي، سي سعد بوراس، السعيد بوزردوم ،علي بوزردوم، السعيد بوطيوة بوزردوم، مسعود بوراس،كروم المختار، عومار عبد الوهاب ،أحمد شكيرب بن إبراهيم، بولقرون الطاهر، سي لخضر بنون، عمار قدور, زعيتر محمد، بورغدة مصطفى، بوالحيلة سعد، بوبرطخ علاوة، ، سفاري حسين من سيدي معروف، سي أحمد بومانة العواطي من الحضرية، بغيجة رابح، سي الحسين عيساني من سطارة حاليا سي الطاهر لعور سي مسعود بولصباع ، الخوجة مجدوب  ،بودندونة رابح ، بودشيشة علي، لبصير المنصر ، سعيداني أعمر، كروم أحسن ، برجم رابح،  وهذان الرجلان خرجا عن الطاعة الاستعمارية في سنة 1945..... وغيرهم كثير.

 وجل هذه الأسماء   انخرطت فيما بعد في العمل الثوري وقادت مختلف مراحله، وكانت لها اليد الطولى في نجاحه وبلوغه أهدافه. {ومعظم مناضلي الحركة الوطنية والانتصار بالنسبة لمنطقة أولاد عيدون استشهدوا ومن بقي منهم على قيد الحياة همش وأبعد عن الحكم لإخلاصهم ووطنيتهم  وعدم تخلقهم بالمكر السياسي رغم أن منهم من يملك قدرات سياسية وثقافية وعاشوا بسطاء " ونذكر على سبيل المثال  عظيم من عظماء 20 أوت 1955 نصبوه بوابا في اتحادية جبهة التحرير على سبيل الانتهازية السياسية وفي يوم من الأيام طلب منه رؤسائه إحضار لهم القهوة ومكان المقهى يبعد حوالي 300 متر عن مقر الحزب وهي ليست وضيفته فرفض ولامتيازه عليهم بالمكانة الثورية و التاريخية تشاجروا معه فرد عليهم بما يستحقون  فطردوه من عمله وما زاد الطين بلة هو تعويضه برجل من صانعي أول نوفمبر 1954 وأصبح يحضر لهم القهوة كل صباح خوفا على قوت عياله ، وأكثر من هذا ثم  في ضواحي  قسنطينة  تعيين مجاهد و هو رفيق  البطل زيغود و  البطل ديدوش وهو من أصول أولاد عيدون كحارس بلدي ، فياله من تقدير واحترام لرجال الثورة في بعض الجهات وأرجوا أن تأخذ الأجيال العبرة من عدم احترام الرموز الثورية الذين أتوا لهم بالحرية}   .

  كما أشار كذلك إلى إعدام  خمسة مناضلين أتهموا بالمصالية وهي تهمة باطلة وكان شخص منهم صاحب ثقافة عالية وهو من رجال نوفمبر قتل بطريقة غامضة وقد أكد قتله بالحملاوي ومن بين الناس الذي أكد أمامهم شخص لازال على قيد الحياة  أما أنا شيدخ العيدوني لم أكن متأكدا. بعد هذه الجرائم  تفطن بعض ضباط جيش التحرير المثقفين من بينهم  بوشريط  عبد القادر وقويسم عبد الحق وهو ذو أوصول قلية وقاموا بتكليف "المشلط" بصفة سرية وهو ذو صومعة كبيرة وطيبة وذو حصانة جهادية وهو يعادل " البركة "، بالذهاب إلى القيادة برئاسة العربي برجم بتوقيف الغدر والفتك بالمثقفين المناضلين بتهمة المصالية الباطلة وبعد مجادلة بينهما فهم العربي  برجم في الحين وأمر بتوقيف مسلسل القتل  وهنا نطلب المغفرة لبعض  الأشخاص من الزوايا ومن معهم ذوي المكر والدهاء الذين التحقوا  بالثورة وقاموا  بتصفية  بعض المناضلين المثقفين بطريقة أو أخرى.    

أما جماعة الواحد والعشرين فأغلبيتهم من الشمال القسنطيني  وهم: باجي مختار من سوق أهراس ، سويداني بوجمعة من ڤالمة ،لخضر بن طوبال ميلة،  بوالصوف عبدالحفيظ ميلة،رابح بيطاط قسنطينة   أصوله من بني خطاب ، عمار بن عودة عنابة ، زيغود يوسف السمندو أصوله من بني فرڤان الميلية، عبدالمالك رمضان قسنطينة ،مشاطي محمد قسنطينة من أصل مشاط أولاد عيدون، بوعلي السعيد من قسنطينة، عبد السلام  حباشي – يقال أنه من قسنطينة- محمد بوضياف مسيلة، العربي بن مهيدي عين مليلة ، عثمان بلوزداد العاصمة ، الزبير بوعجاج ، مصطفى بن بولعيد باتنة، ديدوش مراد العاصمة، بلحاج  بوشعيب ، مرزوڤي محمد ، عبدالقادر العمودي ، سليمان ملاح قسنطينة، الياس دريش صاحب البيت ومنهم من يقول أن الحاج بن علا من ضمن مجموعة الواحد والعشرين و هذا في كتاب محمد لبجاوي  "حقائق عن الثورة الجزائرية"

  أما أحباب البيان  فقد كان يمثلهم في الميلية الأستاذ أحمد طالب،وهو حاصل على شهادة ليسانس في الحقوق، وكان أحد كبار المثقفين في المنطقة، وكانت له يد بيضاء على أبناء الحركة الوطنية. 

    أما جمعية العلماء المسلمين الجزائريين فقد ترأس شعبتها عبد الله إدريس، ومعه الشيخ محمد الصالح بن عتيق،ويشير المجاهد عمر شيدخ العيدوني إلى أنه لا يمكن الحديث عن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين دون الوقوف مطولاً مع شخصية عظيمة هي شخصية محمد خطاب الفرقاني،الذي قدم الدعم المالي،واللوجستي لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين،فهو« أصيل دوار بني فرقان، رحل إلى المغرب حيث يعمل أخوه رابح ،وكان موظفا ساميًا هناك. التحق به ،واشتغل بالفلاحة حتى أصبح من كبار أثرياء العالم، وجاد بكريم ماله على الجمعية، فبنى المدارس، و تكفل ببعثات الطلبة إلى الخارج كما اشترى في مسقط رأسه ملهى للفرنسيين، وحوله إلى ثانوية وهبها لجمعية العلماء، ولا يزال موقعها إلى الآن شاهدا على عظمته، و عمق وطنيته، و نبل أخلاقه، و عنه يقول علي منجلي: "أعظم شخصية عرفتها الثورة الجزائرية في المغرب شخصية محمد خطاب"، وكثيرا ما أثنى عليه الشيخ البشير الإبراهيمي في مقالاته.

        وكان يزور أولاد عيدون مرة كل عام، يتفقد أهله و أصدقاءه ،وكان يكن احتراما كبيرا للحركة الوطنية خاصة للعربي لحمر الذي كان جارا له في الصغر.

        و توفي محمد خطاب سنة: 1963 في سويسرا بطريقة غامضة، إذ وجد ميتا في غرفته بالفندق، وانقطع ذكره واندثر أثره »

     وبالنسبة للعلاقة التي طبعت فصائل الحركة الوطنية(حركة الانتصار-البيان-جمعية العلماء)   أشار المؤلف إلى أنها «علاقة تعاون وتكامل تتقاطع في نقاط كثيرة هامة، كرفض القمع الاستعماري، وعدم التعاون معه أو التحاكم إليه أو الاستعانة به، كما كانوا يلتقون في موضوع الهوية العربية الإسلامية للبلد، فقد كانوا جميعا يدعمون تعليم اللغة العربية، وترسيخ العقيدة الإسلامية، وتنمية الشعور الوطني، كما كانوا متفقين أيضا على ضرورة محاربة الزوايا ،ومناهضة أفكارها الهدامة ،وإبطال كيدها، وإضعاف نفوذها من خلال استقطاب العامة، ونشر العلم الصحيح بينهم ،وفتح أعينهم على الحقيقة الاستعمارية المقيتة ،وضرورة التصدي لها»

           وقد قدم المجاهد عمر شيدخ العيدوني عدة أمثلة للتأكيد على    التعاون بين أعضاء هذه التيارات ،ومن بين ما ذكره في هذا الشأن أن   الأستاذ أحمد طالب المنتمي سياسيا وتنظيميا إلى البيان كان يتطوع دائما للدفاع عن المتهمين من أبناء حركة الانتصار على غرار محمد بعداش الذي كثيرا ما حوكم نتيجة نشاطه الوطني وخلافه الدائم مع الحاكم، وكان الأستاذ طالب يدافع عنه في كل مرة ويرافع لصالحه مجانا، كما جاء المحامي كيوان ليرافع لصالح علي مسقالجي الذي اعتقل في سنة 1949معلى إثر شتمه للاستعمار الفرنسي في إحدى الحملات الانتخابية بمناسبة ترشح العربي دماغ العتروس في مدينة أولاد عيدون لتمثيلها في المجلس الجزائري ونجاحه في ذلك وهو أصيل مدينة الحروش و حضر معه كل من أحمد مزغنة، و مفدي زكريا.        

         كما  أنه في إحدى الحملات الانتخابية كان فرحات عباس يوزع بنفسه مناشير دعائية وسط المدينة بمحاذاة محل سي بوزيد علالوش، فبدأ ضابط شرطة من أصل جزائري يرتدي اللباس المدني يتحرش به، ويضايقه فتدخلت مجموعة من شباب الحركة الوطنية ، من غير أن يعلم فرحات عباس بالأمر، و كنت شاهدا على هذه الحادثة ، فأوقف الشرطي عند حده وهدد بالضرب إن عاد إلى مثل هذا السلوك، فانتهى ونأى بجانبه. و قد كان  ذلك الشرطي معنا في صفوف الحركة الوطنية، ولقرابة تجمعه بأحد الڤياد استدرج و غير جلده و بدل قناعاته فقلد هذا المنصب.

      أما نقطة الخلاف الوحيدة، فكانت المقاومة المسلحة،  إذ كانت حركة الانتصار تنادي بها وبضرورة تعجيلها، أما البيان والعلماء فيرون أن الوقت لم يحن بعد، وأن الظرف لا يسمح بالمغامرة لاختلال موازين القوى، ولغياب الجاهزية في الصف الوطني وضعف شوكته، فالظاهر إذن والأكيد أن لب الخلاف لم يكن في حقيقته حول جوهر العمل المسلح، بل كان فقط في توقيته.

المجاهد عمر شيدخ العيدوني وبدايات عمله النضالي:

            تحت عنوان:«بدايات عملي النضالي» تحدث المجاهد عمر شيدخ العيدوني عن بداياته مع العمل النضالي،  فقد بدأ العمل بعد اقترابه من أعضاء حركة انتصار الحريات الديمقراطية،وذكر  أنه  آمن واقتنع بما يحملونه من أفكار، وتصورات التي تعبر بصدق عن الأحاسيس التي تخالجه،حيث لازمهم،وازدادت ثقته بهم،وبمرور الوقت اكتسب صفة المناضل العامل،وانخرط بصفة رسمية في العمل النضالي،و يقول عن انضمامه لحركة انتصار الحريات الديمقراطية« بمرور الوقت اكتسبت صفة المناضل العامل، وانخرطت بصفة رسمية في العمل النضالي، وانضممت إلى الخلية التي كان يرأسها العربي لحمر، ومعه أحمد زويكري المدعو بالحملاوي، حضرت معهم أول اجتماع لها في سنة 1950 بمنطقة بين لشعاب، وناقشنا في هذا الاجتماع قضايا سياسية وتنظيمية وتربوية فتطرقنا إلى كيفية التصدي لقمع الاستعمار، وكيفية جمع المال، وحشد الجماهير وتنظيمها، وكيفية الارتقاء بشخصية المناضل، وتقديمه للناس نموذجا يقتدى  ،وكنا نركز على هذا البعد كثيرا، فالمناضل في عرف حركة الانتصار لا تلين عزائمه مهما اشتدت المحن، وكنا نقول دائما إن المناضل أشد قسوة من الحديد، فالحديد يفنى، و لا تفنى عزيمة المناضل.

       بعد هذا الاجتماع اطمأن قلبي، وترسخت قناعتي وزاد تعلقي بهؤلاء الناس،  و ما يدعون إليه من أفكار، و ما يسعون إلى تحقيقه من أهداف.

     وكانت اجتماعات الخلايا تلتئم أسبوعيا، وبصفة مستمرة، وكنا نناقش كل التقارير المتعلقة بالأوضاع  السياسية، و الاجتماعية، و الاقتصادية المحلية،و تنوعت نشاطاتنا اليومية بين بيع الجرائد، وتوزيع المناشير، و الكتابات الحائطية الممجدة للحركة الوطنية ،والمنددة بالاستعمار وأعوانه، وكان ذلك كله يتم ليلا ،وبطرق سرية، كما كنا نعمل على حشد الجماهير، وتعبئتها نفسيا وفكريا، وأذكر قولنا لهم: لو أسكنتكم فرنسا بين السماء والأرض، ولم يكن علمكم أخضر، وأبيض، ونجمة وهلالا فلا قيمة لذلك، ولا جدوى منه، وهذا تعبير صريح عن فكرة تحررية متجذرة بين مناضلي الحركة الوطنية تتجاوز بكثير المطالب الاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية»  

       وقد كان أبرز توجيه سري حمله المراقبون في تلك الفترة( 1953-1954م).-كما يؤكد المؤلف-هو ضرورة السعي الحثيث  من أجل الحصول على السلاح بشتى الطرائق المتاحة،وقد تمكن بعض المناضلين من تحصيل بعض القطع،ويذكر من بين هؤلاء:  المناضل الكبير صالح بولعتيقة الذي تمكن من الحصول على سلاح أوتوماتيكي، والمناضل أحمد عبد النور، والمناضل صالح بوبرطخ الذي استطاع أن يشتري عددا معتبرا من بنادق الصيد، ومن بين المناضلين الذين جمعوا المال لشراء السلاح السعيد بوزردوم المدعو بوطيوة، و خلخال عمر، و عمار شيدخ، و قد تكلف صالح بوبرطخ رحمه الله بشراء السلاح. 

    فموضوع الحصول على السلاح كان إشارة تؤكد أن التحضير الفعلي للثورة قد بلغ مرحلة متقدمة.

    ويُقدم المجاهد عمر شيدخ العيدوني ملاحظة هامة،تتعلق بالدور الكبير الذي لعبته جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في المنطقة،حيث يقول في هذا الشأن:« للأمانة لم تكن حركة الانتصار وحدها في الميدان على مستوى المدينة والدواوير، بل كان لجمعية العلماء حضور قوي لافت من خلال مدارسها المنتشرة في كل مكان. و شيوخ هذه المدارس لهم دور بارز في نشر الوعي الديني والوطني،  لقد كانوا في حقيقة الأمر خير معين لنا في هذا السياق. ومن بين الأسماء البارزة لجمعية العلماء التي كانت تنشط على مستوى الدواوير، أذكر الحاج رابح بوعندل، في دوار بني فرقان، وعبد الله إدريس في دوار الشرفة وأولاد علي، ولحمر محمد المدعو بن الساسي محمد في دوار بني صبيح، والذي أصبح أثناء الثورة عضوا بارزا في الولاية الثانية مع زيغود يوسف، وعبد الله بن طبال، ومحمد جريدي في دوار بني تليلان، والشيخ الزاهي، والشيخ عمار حماني، والشيخ أحمد حماني - المتخرجان من الزيتونة- في بني عيشة أما جماعة البيان فكان حضورهم مقتصرًا على وسط المدينة، ويستمدون قوة تمثيلهم من جمعية العلماء المسلمين»

  ولم يكن نشاط الخلايا النضالية العاملة في أولاد عيدون يقتصر على المستوى المحلي،بل  كان هناك تواصل دائم مع الولايات المجاورة،وحتى العاصمة،من خلال تبادل المعلومات  والتعليمات والوثائق ،وتدريجياً اتسعت دائرة العمل،وتقوت الروابط « واشتغل المناضلون في حماس لأن كل المؤشرات تدل على أن ساعة الحسم باتت وشيكة، وأصبحنا نترقب بين الفينة، والأخرى نبأ الإعلان عن بداية العمل الثوري المسلح ».

 يقول المجاهد عمر شيدخ العيدوني،وهو بصدد الحديث عن بداياته مع العمل النضالي:

       «  كنت في تلك السنوات قبيل الثورة المباركة في سن العشرين، وكنت قريبا من هذا الحراك السياسي المحموم، إذ كنت اشتغل مع والدي أحمد في تجارة القماش في محل بوسط المدينة مقابل مكان يسمى (العين دي البوسطة) وكنا نسكن في مشتة "عرفة" على بعد كيلومترين تقريبا من المدينة وكنت أراقب عن كثب نشاط المناضلين، واقتربت أكثر من أعضاء حركة الانتصار، فآمنت بهم واقتنعت بما يحملون من أفكار وتصورات لأنها كانت تعبر بصدق عن أحاسيس كانت تخالجني، فلازمتهم و ازدادت ثقتي بهم، فنلت ثقتهم بدوري وأصبحت واحدًا منهم، وبدأت أكتشف أشياء كثيرة عن تنظيمهم وطبيعة عملهم فازداد حبي لهم وقناعتي بهم، وأكثر ما شدني إليهم أفكارهم السامية، وهممهم العالية، ونفوسهم الكبيرة،  إذ كانوا مثالا للخلق الرفيع والسريرة الصافية، يعينون الضعيف وينصرون المظلوم ويغيثون الملهوف من أبناء بلدهم البسطاء و لشد ما كانوا يكرهون الاستعمار وأدواته وأعوانه....

     أما القسمة فكانت تجتمع مرة في السنة، وتضم رؤساء الخلايا، ومراقبين يحضرون من خارج القسمة (من قسنطينة، سكيكدة، أو العاصمة) وهم في أغلبهم من القيادات المتوسطة أو من أعضاء المكاتب الولائية.

     وكانوا كثيرا ما يترددون علينا سرًا وبشكل مباغت يتحسسون أمرنا ويطالعون سير عملنا في القسمة والخلايا، وينقلون لنا ما استجد من قرارات وأخبار، كما كانوا حريصين دائما على الرفع من معنوياتنا وتقوية عزائمنا وحثنا على العمل المتواصل لأن ساعة الحسم باتت وشيكة وكانوا قرابة العشرين مراقبا ويفد أغلبهم ملثمين  .

    وكان أبرز هؤلاء المراقبين: سي الطيب الوطني و كان يأتي  مقنعا لا يظهر من وجهه إلا عيناه، وكان مطلعا على المنطقة بحكم منصبه المهني في جيجل إذ كان موظفا في مصلحة الضرائب في الإدارة الفرنسية في الأربعينيات حسب ما قاله كبار المسئولين في الحزب. وعمار بوجريدة  حسب ما أخبرنا المسئولون  ، ومفدي زكريا حيث كان على اتصال دائم بأوصيف عيسى بصفته ممثل شركة تجارية و هو الأخر تاجر وكان هذا الثلاثي  يقابل المسئولين في الحركة الوطنية بمنطقة أولاد عيدون من أمثال علي مسقالجي، سعد زعيمش المدعو مصطفى ،زيدان أرزور ،شعراوي مسعود .

     وعبد الحفيظ بوالصوف المدعو "سي علي" وكان عضوا في المكتب الولائي، و من بين المراقبين أيضا: إبراهيم حشاني المدعو "سي محمود"،و عمار بن عودة عضو المنظمة السرية، ومسعود قدروج عضو اللجنة المركزية وهو أصيل مدينة أولاد عيدون (دوار لجبالة) كان يقيم في سكيكدة ومن المقربين جدا من حسين لحول الرجل الثاني في الحركة الوطنية بعد مصالي الحاج.

      كان هؤلاء المراقبون يقيمون في بيوت أبناء المنطقة من المناضلين على غرار إبراهيم عبد الوهاب، وعلي بوعرورة، ومسعود شعراوي، ومحمد زويكري المدعو بالحملاوي وعمار بلقعوير، وكنت أستضيف بعضهم في محل أبي خلسة ودون علمه.

     ومن أطرف ما حدث في هذا  الصدد،  استضافتي مراقبا يدعى سي بلقاسم البيضاوي وكان يأتينا متخفيا  على هيئة بائع أعشاب طبية، وقضى ليله في محل أبي، وفي الصباح وعند خروجه من المحل برفقتي رآنا صديق لي يدعى عز الدين كحال واكتشف الأمر، فأخذ يمازحني كلما رآني ويقول لي لا تخف لن أشي بك للاستعمار، ولا يزال كذلك إلى يومنا هذا، فكلما حدث بيننا خلاف قال: "ليتني وشيت بك للاستعمار حينها و ارتحت منك".

          إن موضوع السلاح إشارة واضحة إلى أن الحركة بلغت مرحلة متقدمة من التحضير الفعلي للثورة، والتي كنا ننتظرها بفارغ الصبر، وعلى ذكر الثورة المسلحة فقد كانت أولاد عيدون دائما سباقة إلى التمرد المسلح على سلطة الاستعمار مهما كان نوعه، منذ حادثة مقتل الباي، إلى ثورة أولاد عيدون الشهيرة بقيادة بولخميرة وبن فيالة عام1871  وما قبلها.

 وقد سرد المجاهد عمر شيدخ العيدوني جملة من الوقائع التي حدثت في الأربعينيات لتدليل على بطولات أهل الميلية،يقول المؤلف....   «و أستسمح القارئ الكريم لأسرد وقائع ثابتة حدثت في الأربعينيات بعد الحرب العالمية الثانية نستدل من خلالها  على أن أولاد عيدون كانت دائما في الصفوف الأولى لمناهضة الاستعمار، فبعد الحرب العالمية الثانية وقبل مجازر الثامن ماي الشهيرة دعت حركة البيان والحرية إلى مقاطعة تامة ومعلنة للسلطة الاستعمارية فاستجابت لها كل فئات المجتمع، و شنت دواوير أولاد عيدون هجوما مسلحا على المستعمرين الرابضين داخل المدينة، فطوقوها من كل جانب، وقد شاركت في هذا الهجوم دواوير أولاد قاسم جهة الدردار، أولاد دباب جهة بوخداش، بني عيشة، وبني خطاب، غير أن جماعة البيان طلبت من هؤلاء التوقف والانصراف حفاظا على الأرواح والممتلكات. و عقب هذا الهجوم قامت القوات الاستعمارية بحملة اعتقالات واسعة في صفوف من اشتبهت بصلتهم بالهجوم، وكان من بينهم محمود بنيني،وأحمد طالب، و علي مسقالجي، وعمر غيوة ... وغيرهم. ومن الذين لا يزالون يذكرون تلك الأحداث السيد "بليلة".

 كما قامت القوات الاستعمارية بقنبلة حافلة لنقل المسافرين بالطيران مملوكة من طرف عائلة لبصير تعمل على خط الميلية- الجمعة ( جمعة بني حبيبي) و كان من بين الركاب العائدين من سوق الجمعة الأسبوعي شاب يدعى محمود بولعبيزة و لايزال على قيد الحياة، و جرت تلك الحادثة بعين بوزيان (دوار أولاد عواط)  .   

     كما قامت السلطة الاستعمارية أيضا بعدد من الاعتقالات  فجلبت أعوانا لها من "الشلوح" المغاربة، الذين انتقموا من أهل المنطقة شر انتقام نيابة عن الاستعمار، فعاثوا فيها فسادا، وأهلكوا الحرث والنسل، ولم يسلم من بطشهم أحد، سجنا وتعذيبا واغتصابا.

    أعود لاستكمل وقائع نضالات الحركة الوطنية و تعاظم قوتها و تسارع انتشارها، ولا غرو في خضم هذا الحراك النضالي الواسع أن يتساءل القارئ عن موقع الاستعمار الفرنسي من كل هذا، فهل كان غافلا عما يجري؟ وأقول هنا إنه لم يكن على دراية كاملة بحقيقة الأمور،  و بالدرجة المتقدمة من النضج والتنظيم التي بلغتها، على الرغم من معرفته لبعض المناضلين أو من يتعاطف معهم. و كان يضيق عليهم ويحرمهم من كل امتياز، فلا حق لهم في منصب أو مال أو عقار، أو ممارسة نشاط تجاري مهما كان نوعه (محل، مقهى، حافلة، تاكسي...)، كما كان من حين لآخر يعتقلهم ويضعهم في السجن، مثل علي مسقالجي على خلفية كلمة قالها مرة وهي: "فرنسا الخبيثة"، فحكم  عليه بسنة سجنا نافدا، كما اعتقلت أيضا المناضل زيدان أرزور وهو يوزع جرائد وسجنته لمدة عام أيضا.

    أما أهم نشاط سياسي قامت به الحركة الوطنية سنة 1953م فهو المشاركة في انتخابات مجالس الدواوير، وكانت أولاد عيدون تحوز 14 دوارا يرأس كل دوار قايد تعينه السلطة الاستعمارية، ويتشكل مجلسه من حوالي 20 فردا -ينتخبون رئيسا من بينهم- يعمل بالتنسيق مع القايد. ويجتمع رؤساء الدواوير شهريا مع الحاكم يتدارسون معه أوضاعهم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأمنية، فيقترحون ما يرونه مناسبا لحل المشاكل المطروحة والحاكم وحده يقرر في شأنها. وبرغم هذا الدور الشكلي لمجالس الدواوير الذي لا يتجاوز حد الاقتراح، فقد فشلت الحركة الوطنية في الظفر بها أو المشاركة فيها، بفعل التزوير الفاضح الذي مارسه الاستعمار في كل انتخابات، فقد كان رئيس الدائرة يقول: "أكثروا من الخطابات والتجمعات والسيارات أما الصناديق فدعوها لنا".

      إن التزوير الانتخابي وحرمان الشعب من اختيار ممثليه في مجلس الدوار أو غيرها من المجالس كان أهم دافع للحركة الوطنية في تبني خيار الحسم العسكري، الذي لم يكن خيارا سهلا أو محببًا، ولكنه الطريق الوحيد الباقي بعد ما سُدت كل الطرق.

              وبرغم فشل الحركة الوطنية في دخول مجالس الدواوير، إلا أن خلاياها كانت نشطة جدا فيها، كأولاد عربي،و أولاد الصالح، وأولاد عنان، وأولاد عواط، والعقبية، وأحميدن، والدواوير التي لم تكن بها خلية رسمية للحركة الوطنية، كان لها في هذه الدواوير من يمثلها بطريقة غير رسمية، فدوار مشاط مثلا يمثلها فيه زعيتر محمد، ودوار بني فرقان يمثلها مولود الشاوي، وفي أولاد علي يمثلها السعودي رغيوة . وكانت وظيفتهم الأساسية نشر الوعي الوطني في نفوس السكان وترسيخ فكرة التحرر بداخلهم، كما يزودونهم بآخر التطورات الحاصلة في الساحة المحلية لتواصلهم المستمر مع كبار المناضلين داخل المدينة أمثال سعد زعيمش وعلي مسقالجي، ولا يفوتني هنا أن أذكر طالبين كانا يدرسان في تونس وهما: محفوظ مجذوب و الخوجة مجذوب، في أيام العطل كانا يحتكان بالمناضلين ويأخذان عنهم أفكارهم الوطنية التحررية و أساليبهم النضالية ويعودان لنشرها في صفوف زملائهم في تونس من الطلبة الجزائريين، ومع بداية الثورة تجند الخوجة مجذوب في تونس وأبلى بلاء حسنا خدمة للثورة، وبعد الاستقلال أصبح ضابطا ساميا في الجيش الوطني الشعبي.

     هكذا كانت الحركة الوطنية وهكذا كانت خلاياها، لا تلين ولا تستكين، وتخطو خطى حثيثة نحو هدفها المنشود رغم طول المسلك ومشقته.

        و مع تعاظم قوة الحركة الوطنية ومن لف لفها، وتنامي دورها التنظيمي و التوعوي، ازدادت قسوة الاستعمار الفرنسي وأعوانه من ڤياد و وقاف وحرس، وأمعنوا في إذلال السكان والتضييق عليهم؛ فقد كان الحاكم يخرج كل أحد للصلاة في كنيسة تبعد عن مكتبه بحوالي 1000 متر، قاطعا الشارع الرئيسي الرابط بينهما راجلا، فيخرج الناس كرها على جانبي الطريق لتحيته فلا يكلمهم ولا ينظر إليهم ولا يعيرهم أدنى اهتمام، ومن تخلف ولم يخرج لتحيته يأتيه أعوان الدائرة فيما بعد  فيذيقونه شتى ألوان العذاب ويقولون له: "لمِ لم تخرج لتحية سيدك".

    والڤياد بدورهم كان لهم نصيب مفروض من الظلم يمارسونه على أهل المنطقة، فكانوا يأخذون إتاوة على كل وثيقة إدارية  تطلب من طرف الشعب، كما كانوا يعدون أملاك الناس من مواش  وأراض زراعية ومحاصيل ويأخذون عنها مكوسًا، ومن يعجز عن دفع تلك المكوس تحجز أملاكه وتباع في مزاد علني ويأخذون أثمانها، أما حراس الغابة فيحجزون المواشي التي يجدونها ترعى في الغابة ويأخذونها، ومن وجدوه يقطع شجرة أخذوا منه ثمنها أضعافا مضاعفة، ومن وجدوا في بيته حطبًا للتدفئة عاقبوه، أما الوقاف وبأمر من الحاكم فيتغلغلون في أوساط الجماهير يبغون خلالهم الفتنة ويزرعون بينهم بذور الشك ويرهبونهم ليقتلوا فيهم الإرادة التي تشكلت بفعل نشاط الحركة الوطنية، كما يجتمع الجميع حكاما وقيادًا و وقافًا وعسسًا أيام الانتخابات ويقومون بالضغط على الناخبين وترويعهم لحملهم على تغيير قناعاتهم الانتخابية التي تصب جميعها في خانة الحركة الوطنية، فإن عجزوا على ذلك زوروا الصناديق وقلبوا النتائج.

   كل هذه المظالم مجتمعة، وكل هذا القمع المتعدد الأشكال والأوجه لم يزد الناس إلا نفورا منهم مما عجل باللجوء إلى العمل المسلح كخيار حتمي لإحقاق الحق وإزهاق الباطل.

    لقد احتملت أولاد عيدون عبئا ثقيلا، شد العزائم ،وقوى الظهور وصهر الإرادات في بوتقة واحدة بروح واحدة وهدف واحد، فكانت الخلايا النضالية تعمل ليلا ونهارا سرًا وجهارًا، تعلم الجاهل وتنبه الغافل تنشر الوعي وتقاوم القمع والطغيان.

   يجدد المجاهد عمر شيدخ العيدوني تأكيده على أن    أولاد عيدون كانت محجا لأبرز القيادات الوطنية لحركة الانتصار، بمن فيهم أعضاء من المنظمة السرية "L’OS" يلجؤون إليها طلبا للأمان واحتماء من كيد الاستعمار، فكان حمام بني هارون الواقع على طريق قسنطينة ملاذهم الآمن، وكان المناضل العربي لحمر عضو المنظمة السرية وممثلها في أولاد عيدون رفقة عمار بن عودة و سي محمود بوالنمر الذي كان يتردد عليهم يزودهم بالمؤونة وينقل إليهم و منهم الأخبار والمعلومات، وعلى الرغم من أنهم في مخبئهم هذا  محرومون من أي نشاط سياسي أو عسكري أو تنظيمي، إلا أن أمرا واحدا يشفع لهم و هو قيامهم بتصميم ختم نقشوا عليه رسم أعلى جبل في سيدي معروف بقمته الشماء وصخوره الصماء، والذي صار الختم الرسمي لجيش التحرير الوطني فيما بعد، ولمن أراد التأكد من هذه المعلومة ما عليه إلا المقارنة بين ما نقش على ختم جيش التحرير الوطني وجبل بولحمام، وسيرى بأم عينيه التطابق التام بينهما.

   إن الخلايا النضالية العاملة في أولاد عيدون لم تكتف بالنشاط على المستوى المحلي، بل كانت في تواصل دائم مع مثيلاتها في الولايات المجاورة وحتى العاصمة، إذ كانت تتبادل معهم المعلومات والتعليمات والوثائق، وكانت حافلات نقل المسافرين بمثابة حلقة الوصل بينها وبينهم، فكان خط أولاد عيدون سكيكدة يشتغل عليه المناضل أوصيف زيتوني، وخط سكيكدة العاصمة يشتغل عليه المناضل محمد تراموس من (جيجل)، أما خط أولاد عيدون قسنطينة فكان الشريان الأهم وقد تناوب عليه عديد المناضلين، و من  بينهم رابح بدندونة، بصفته تاجر تسهل عليه المهام لقرب محل صديقه محمد الصالح العابد ومحل صديقه قديد من مقر الحركة الوطنية في حي الرصيف وبهذه الطريقة كانت تصلنا التعليمات والوثائق السرية والجرائد، وحتى معلومات عامة حول المناخ السياسي والأمني والاجتماعي في كل منطقة.

    هكذا اتسعت دائرة العمل وتقوت روابطها، واشتعل المناضلون في حماس لأن كل المؤشرات تدل على أن ساعة الحسم باتت وشيكة، وأصبحنا نترقب بين الفينة والأخرى نبأ الإعلان عن بداية العمل الثوري المسلح، و حدث ما لم يكن في الحسبان.

          تحت عنوان: «الصدع العظيم وآثاره في المنطقة»عبر المجاهد عمر شيدخ العيدوني عن الهزة العنيفة  التي ضربت أركان حركة الانتصار وكادت أن تعصف بالعمل النضالي برمته، وتهوي بهذا الصرح العظيم في واد سحيق، فلم نصدق أبدا أن الحركة التي أرضعتنا حب الوطن، وزرعت فينا روح الإخلاص والتضامن والتجرد تنقلب على نفسها، وأن قادتها الذين ارتقوا في أعيننا حتى صاروا عظاما يسقطون في فخ الدعاية الاستعمارية الدنيئة لزرع الفتنة وتشتيت الصفوف، إلى أن وصل الثلاثي الثاني من سنة 1954م؛ فتأكد ما كان شكًا، وترسخ ما كان إشاعة، وبدأ العقد ينفرط وحباته تتناثر، فزيدان أرزور مسؤول القسمة حينها ركب سفينة المركزيين بقيادة حسين لحول. وعلي بوعرورة ومسعود شعراوي يمما وجهيهما شطر مصالي الحاج. أما علي مسقالجي فوقف على الحياد وحاول تهدئة الوضع ورأب الصدع.

    وأصبح كل فريق يدعي الحق والسبق والصدق، وبدأت القيادات الكبرى من مركزيين ومصاليين تتوافد على المنطقة؛ كل يروج لمنطقه ويحشد له الأنصار والأتباع، ويطعن في الفريق الآخر و يرميه بشتى ألوان التهم إلى درجة التخوين، فمن قسنطينة يأتي المصاليون، ومن سكيكدة يأتي المركزيون، وبين هذا وذاك بقيت القاعدة النضالية تتراوح، و برغم هذه التجاذبات القوية بقي صفها موحدا ثابتا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، وحتى أموال الاشتراكات وزعت مناصفة بين الفريقين حتى لا تحوز جهة ما شرعية التمثيل دون الأخرى.

    ولم يزل الإخوة منشقين، ولم تنجح كل محاولات رتق الفتق، إلى أن ظهر فريق ثالث أطلق على نفسه "اللجنة الثورية للوحدة و العمل CRUA"، حمل على عاتقه جمع شتات المناضلين المؤمنين بفكرة الثورة و أعاد تنظيمهم، فانضم إليه حسين بودشيشة، و مسعود لعور، وصالح بولعتيقة، والعربي لحمر، وعمار بلقعوير، وسعد بوالحيلة، وآخرون كثيرون، وكلهم مناضلون بارزون في الحركة الوطنية، ومنهم من كان في المنظمة السرية كالعربي لحمر، وأول من هيكل جماعة الثورة في الميلية وتولى قيادتها عمار بن عودة ومعه علي زغدود المدعو "العواطي" أصيل أولاد عواط والساكن بميلة.

    بروز اللجنة الثورية للوحدة والعمل، أو جماعة الثورة كما نسميهم عزز الانشقاق وأظهره إلى العلن، وذات مرة  من المرات حدثت ملاسنات حادة بين حسين بودشيشة من جماعة الثورة وزيدان أرزور المنتمي إلى المركزيين، إذ اتهم بودشيشة أرزور بإعطاء أموال المشتركين إلى المركزيين دون استشارة، وراح الأخير يرد التهمة عن نفسه، فعلا الصراح وبدأ الناس يجتمعون من حولهما، و لحسن الحظ أنهم كانوا يعتقدون أن الخلاف بينهما ذو خلفية عروشية بين مديني ودواري. وقد كانت هذه الخلافات مستشرية في ذلك الوقت، فزيدان أزرور من أبناء  دوار أولاد عواط، وحسين بودشيشة من  قرية أولاد أعنان الذي كان يعتبر نقسه مدنيا أكثر، وبعد أن اشتد الأمر بينهما ومخافة أن يأخذ أبعادا أكبر وأخطر تقدمت منهما ونهرتهما وطلبت منهما الكف عن هذا، فإن عرف الناس حقيقة الصراع بينكما انفضوا من حولكما وتركوكما و شأنكما الذي سيفضي بكما إلى السجن لا محالة، فتفهما الوضع وافترقا ومر الأمر بسـلام بعد أن أدركا الخطر.

    وفي ليلة ذلك اليوم زارني زيدان أرزور وأخبرني بحقيقة الأمر وأنه ظلم في هذه القضية وأن أموال الاشتراكات قسمت مناصفة بين المركزيين والمصاليين، وأن بودشيشة كان ينفذ أوامر جماعة الثورة بقيادة بن طبال، و يريد الحصول على الأموال لدعم جماعته.

    استثمرت جماعة الثورة في الخلاف الحاصل بين المصاليين والمركزيين وانشغالهم ببعضهم البعض عن العمل السياسي والتنظيمي، واستغلت الفراغ الحاصل وتمددت فيه وحشدت من حولها الأنصار بعد أن أقنعتهم بأنها الطريق الثالث الموصل إلى تفجير الثورة، ولأن القناعة السائدة في تلك الفترة أن من يبدأ الثورة أولا نمشي في ركابه ونشد أزره، اندفعنا إلى هذه المجموعة و التففنا حولها و أيدناها، وبدأت فعليا نشاطها التحضيري، فبدأت بحملة دعائية واسعة للثورة وتهيئة الجماهير لاحتضانها، كما طلبوا منا تجميد الاشتراكات وعدم دفعها لأي طرف، و  أمرونا أيضا بإحضار علب الطماطم الفارغة لاستغلالها في صنع القنابل التقليدية، وسار الأمر على هذا النحو حتى جاءت لحظة الحسم في الفاتح نوفمبر 1954م.

    وأفتح قوسا هنا لأقول إن الثورة لم تنبثق عن الأطر الشرعية للحركة الوطنية ولم تكن وليدة مؤتمر، بل كانت وليدة أزمة سياسية عاصفة تبلورت عن طريق الاتصالات الشخصية بناء على مبدأ الثقة، فهكذا شكلت اللجنة الثورية للوحدة والعمل وعنها انبثقت مجموعة 22 ومنها جاءت مجموعة الستة التي قادت العمل المسلح ساعة الصفر.

    إن هؤلاء الأبطال – المنحدرون في أغلبهم من منطقة الشمال القسنطيني - جميعهم إطارات من الفئة المتوسطة تنظيميا و ثقافيا باستثناء مصطفى بن بولعيد، فمثلا عبد الحفيظ بوالصوف كان مراقبا في صفوف الحركة الوطنية لمنطقة الميلية، والقل، وعزابة، وزيغود يوسف كان مسئولا على قسمة السمندو وعضوا في المنظمة السرية، وسي عمار بن عودة كان مسئول المنظمة السرية في الميلية، والطاهير، وجيجل، ولخضر بن طبال قائد الولاية الثانية بعد ديدوش و زيغود، أما محمد بوضياف فكان مسئولا عن المنظمة السرية في الشرق الجزائري، فكانت بحق ثورة البسطاء (أو هكذا أسميها). 

    هكذا تقدم البسطاء الصفوف و فجروا ثورة القرن بحكمة بالغة و شجاعة نادرة فهذه الثورة ، ثورة البسطاء ثورة الشعب حررت شمال إفريقيا ثم إفريقيا السمراء وأحيت الميت فكان العالم يمشي مقلوبا فأعادته إلى طبيعته يمشي على قدميه، فهذا الغرب الذي أذلنا منذ 5000 سنة منذ عهد زنوبيا و كليوباترا و يوغورطا أسير الرومان الذي كانت تهابه الأسود ، فثورتنا هزمته بهزمها للحلف الأطلسي. أما القادة فاختلقوا أزمة ألهتهم عمليا فأنهكتهم سياسيا و أهلكتهم شعبيا.

بداية الثورة التحريرية الـمباركة:

      في  بداية حديث المؤلف عن انطلاق الثورة التحريرية المباركة،أشار إلى زيارة  المجاهد عبد الحفيظ  بوالصوف متخفيا في زي تاجر تونسي  في أواخر شهر أوت، وبدايات سبتمبر 1954م ، حينما التقى بالمناضلين: علي بوعرورة، ويوسف رابحي في مقهى المرحوم يوسف تيطح ،وتحدثوا مطولاً، وفهم على بوعرورة من حديث بوالصوف أن الثورة آن أوانها، وأن جماعة الوحدة والعمل جادون في إعلانها في أقرب الآجال، فبدأ سعيه الحثيث في تهيئة الظروف ،والاستعداد الأمثل لهذا الموعد الحاسم، ولكنه اعتقل يوم 12 أكتوبر 1954م بمحاذاة منطقة لعرابة على متن دراجته الهوائية، وبحوزته بنادق صيد، إثر وشاية من القياد والوقاف، وحكم عليه بالسجن لمدة سنتين.

   و في أواخر شهر أكتوبر وصلت المعلومة التي تؤكد أن  انطلاق ثورة التحرير المسلحة قد تحدد في:01 نوفمبر 1954 م   .

    وبناء على ذلك وقع  اجتماع  بتاريخ 31 أكتوبر   في المكان المسمى "أولاد عميور" بين العربي لحمر ،و  مجموعة كبيرة من المناضلين أبرزهم: صالح بولعتيقة، وبغيجة رابح، وحسين بودشيشة، وعلي بودشيشة، وأحسن كروم، و صالح مليط...  وغيرهم، وقرروا القيام بأول عملية عسكرية على مستوى المنطقة تمثلت في الهجوم على منجم بولحمام، وأخذ المتفجرات منه، وكان التخطيط على النحو الآتي:

قسموا أنفسهم إلى ثلاث مجموعات:

-          المجموعة الأولى: بقيادة العربي لحمر: تقطع خطوط الكهرباء والهاتف، وتهاجم المنجم، وتفتح مخزن الذخيرة.

-          المجموعة الثانية: بقيادة صالح بوبرطخ، و بعداش محمد، تحضر البغال من أجل حمل الذخيرة.

-          المجموعة الثالثة: بقيادة سعد زعيمش، وعيسى أوصيف، تحضر بيان أول نوفمبر، وتوزعه.

   وبعد العملية يمكث كل من العربي لحمر، وصالح بولعتيقة في الجبل، ويعود البقية إلى بيوتهم بصفة عادية كأن شيئا لم يكن.

   بعد الاجتماع مباشرة توجهوا إلى دوار العقبية عند المناضل عمار بلقعوير لتكون الانطلاقة من هناك.

   وفي الساعة الصفر في تاريخ 01 نوفمبر 1954م انطلق الجميع إلى تنفيذ ما اتفق عليه، فقطعت جماعة العربي لحمر خطوط الكهرباء، والهاتف وهاجمت المنجم، وأطلقت أعيرة نارية على حراسه، وبعض المعمرين ممن كانوا يعملون فيه، لكنهم لم يتمكنوا من فتح مخزن المتفجرات لحصانته، و إحكام غلقه، كما أرسلوا رسائل للحاكم ،وأعوانه وكان يدعى رينو،   يعلمونهم فيها ببداية العمل المسلح ضدهم، و يتوعدونهم بالقتل.

     وبالنسبة للجماعة الثانية   -جماعة صالح بوبرطخ ،ومحمد بعداش بن أحمد – «فقد أحضرت البغال، ولكنهم عادوا أدراجهم فارغين لأن المجموعة الأولى لم تفلح في فتح مخزن المتفجرات، وفي طريق عودتهم لمحهم أحد المواطنين، وتعرف على محمد بعداش، وعزم على التبليغ عنهم لاعتقاده بأنهم لصوص حاولوا سرقة المنجم، ولما عاد إلى بيته، وأخبر أهله بما رأى وبما ينوي القيام به، قال له ابنه: "دع عنك هذا فمن لم يشاهد هؤلاء خير بكثير ممن شاهدهم"، وكان رد الابن على هذا النحو لأنه كان واحدا منهم دون علم والده. فهكذا سارت أمور الثورة وهكذا نجحت» .

      أما المجموعة الثالثة المكلفة بتوزيع بيان أول فقد كان المجاهد عمر شيدخ العيدوني أحد أبرز أعضائها الفاعلين حيث يروي ما وقع بقوله : « أما المجموعة الثالثة المكلفة بتوزيع بيان أول نوفمبر فباشرت عملها صبيحة ذلك اليوم (الفاتح نوفمبر)؛ إذ جاءني سعد زعيمش برفقة عيسى أوصيف وكنت في المحل، فأشارا إلي خلسة بأن آتي، ذهبت إليهما فقالا لي: لدينا مهمة خطيرة نحتاجك لتنفيذها، فهل أنت مستعد، أجبت فورا، نعم، قالا: إن الأمر يتعلق بجلب السلاح، ففي الساعة   11تماما تكون أمام قصر جانطي تحت شجرة البرتقال، وستجد شخصا بيده عصًا صغيرة بيضاء، تقترب منه و تقول له: "دَنْتَ"؟! فيجيبك: " دَنْتَ "؟! فاتبعه.

     ذهبت إلى المكان المحدد في الموعد المحدد، فرأيت الشخص صاحب الأوصاف، فبادرته بالسؤال فأجاب بمثله، وسرت خلفه مسافة ليست بالبعيدة، أعطاني كيسا من خيش (كتان) معبأ بأوراق، محكم الغلق بخيط "سباولو" فأحضرت الكيس، وأخفيته في مكان قريب من المدينة، ثم عدت فوجدت عيسى أوصيف بانتظاري، وأنا أخبره بما جرى ، فأخذته إلى المكان الذي أخفيت فيه الكيس، فأخذه، وطلب مني العودة مباشرة إلى المنزل وألا أدخل المدينة  ذلك اليوم ، وأخذ الكيس ومعه سعد زعيمش، و وضعه في حمام المناضل "إبراهيم عبد الوهاب ،وفي اليوم التالي تم  توزيع ما به من مناشير على المواطنين، فالأوراق التي كانت بداخله كانت بيان أول نوفمبر 1954م الصادر عن جبهة التحرير الوطني، وبهذه الطريقة وصل بيان أول نوفمبر إلى منطقة أولاد عيدون ،وأصبح متداولا بين أيدي الناس، وشاء الله أن أكون الشخص الذي أحضره.

    و على إثر هذه العملية، و تحديدا في اليوم الثالث اعتقلت السلطة الاستعمارية  محمد بن أحمد بعداش، وعلي بودشيشة بن العربي، وكروم أحسن بن أعمر...و البعض من المشاركين فيها ،و سلطت عليهم شتى أصناف العذاب لتأخذ منهم اعترافا واحدا، و لكن هيهات، فقد صمد الرجال، و ما نطقوا ببنت شفة»

         وتطرق المؤلف إلى عمليات التاسع من ماي1955م،و20أوت،ففي التاسع  من ماي« فاجأ المجاهدون العدو بعملية كبرى شملت دوار أولاد قاسم، و دوار أولاد دياب، حيث قاموا بقطع أعمدة الكهرباء وخطوط الهاتف، وأشجار البلوط من منطقة زاهر حتى جسر احزوزاين، ومن جسر بوسيابة حتى حدود القل، كما نسفوا الجسور،و من بينها جسر بوسيابة، وخربوا الطريق الرابط بين أولاد عيدون، والقل، ونصبوا العديد من الكمائن على امتداد الطرق الرابطة بين أولاد عيدون، وسكيكدة، وأولاد قاسم، وكاتينة (السّطارة حاليا)، وعلى هذا الطريق تمكن المجاهدون من الإيقاع بقوة استعمارية كبيرة، وكبدوها خسائر فادحة في الأرواح والعتاد، وقد اعترف المستعمر بمقتل ثلاثة من جنوده وجرح اثنين، ولكن حسب المجاهدين  فإن عدد القتلى يفوق ذلك بكثير، وعلى إثر هذه العملية النوعية زار جاك سوستيل الوالي العام في الجزائر المنطقة، ووصل حتى مكان الكمين ،واعترف بصعوبة القضاء على الثورة في مثل هذه التضاريس الصعبة، وعند عودته إلى العاصمة أقام مؤتمرا صحافيا ،وصرح فيه أن الحرب كانت متوازنة، وبعد هجومات 09 ماي بأولاد عيدون رجحت كفة الثورة والثوار، وقد تحدثت حينها وسائل الإعلام العالمية عن هذه الهجومات بإسهاب كبير» .   

    وفي20أوت تم قتل عدد كبير من العسكريين الفرنسيين،والمعمرين،وفي يوم:22أوت بمنطقة أولاد عيدون تلقى المستعمر ضربة قاسمة حيث قُتل الحاكم العسكري لأولاد عيدون المدعو«رينو»،وهو برتبة «عقيد»،كولونيل في منطقة أودادن،ويشير المؤلف إلى أن هذه الضربة القاسمة أصبحت حديث الصحافة العالمية بأسرها فلم يكن أحد يتصور مقدرة الثوار على الوصول إلى الحاكم رمز الهيمنة الاستعمارية، و دليل هيبتها، و حامي دولتها،وبعد انتهاء هذه الهجمات قال زيغود يوسف : «إن الثورة نجحت في سكيكدة نجاحا سياسيا، ونجحت في أولاد عيدون نجاحا سياسيا، وعسكريا».

   توقف المجاهد عمر شيدخ العيدوني وقفة مطولة مع هجومات 20أوت1955م كونها تشكل تحولاً كبيراً في تاريخ ثورة التحرير المباركة،وذكر في بداية شهادته عن هذه الهجومات أن الشهيد البطل زيغود يوسف  قد استلهم   فكرة الهجوم الموسع مما شاهده من عمليات في أولاد عيدون يوم 09 ماي وما بعده، وقرر تكرار الأمر بصورة أشمل وفي نطاق أوسع يستغرق منطقة الشمال القسنطيني بأكملها وحدد لها يوم 20 أوت 1955 م وكان منتصف النهار موعدا للبدء.

    يذكر المؤلف أنه قبل هذا التاريخ بأيام تم الاتصال بهم من قبل  مجموعة من المجاهدين من بينهم : محمد بعداش،و صالح بن عتيق، وحسين بودشيشة، ومحمد بن موسى... وطلبوا من كل من يملك آلة حديدية حادة (سكين، منجل، مزبر، شاقور، فأس...) أو سلاح مهما كان نوعه أن يتأهب لهجوم شامل على المستعمر الفرنسي.

    يقول المجاهد عمر شيدخ العيدوني في شهادته عن تلك الهجومات: «  في 20 أوت 1955م بدأت الهجومات في سكيكدة، التي قادها ميدانيا المناضل الفذ إسماعيل زيغد و الذي قتل شر قتلة فيما بعد. وفي ناحيتنا أخذنا مواقعنا حسب المهمة الموكلة إلى كل واحد  منا، وكنا ممن كلفوا بالحراسة في مكان يسمى : "الدخسة من بسباس" بالقرب من مشتة بلجبالة برفقة المجاهد محمد تويور، وفي يوم 22 أوت صعد المجاهد محمد بعداش إلى مرتفع يسمى الطهر، وصاح في الناس: "الجهاد في سبيل الله"، فهب الناس كأمواج البحر المتلاطمة من كل حدب وصوب حاملين المزابر و الشواقير و السيوف و السكاكين، ومن لم يجد فقضيبا من حديد... وبدأت هذه الحشود البشرية تسير متلاحمة، فلما اقتربوا من منطقة لمروج توقفوا بأمر من بودشيشة حسين و بن جكون، ثم طلبا ممن يحملون سلاحا ناريا أن يتقدموا ليكونوا في الصفوف الأولى ومن البقية التأخر والانتظار، فقد فضلا أن لا يغامرا بجموع السكان العزل وأن لا يرسلا بهم إلى مقصلة حقيقية ، بل يتقدم المسلحون أولا وحدهم، فإن نجحوا نجوا جميعا وكتب النصر للجميع، وإن هلكوا هلكوا وحدهم، وسلم الناس. وكذلك كان الأمر؛ فقد أقيم كمين على حافتي الطريق الذي يقطع منطقة المروج وكبدت قوات العدو خسائر كبيرة في الأرواح والعتاد وكانت هذه المعركة بقيادة حسين بودشيشة، أما بن جكون فأقام بدوره كمينا في   توقيت الكمين الأول نفسه بمنطقة قريبة تسمى أسردون ترصد فيه قوة كبيرة للاستعمار متكونة من سيارات وشاحنات ودبابات مدعمة بغطاء جوي، وقد نالوا منهم وقتلوا أزيد من 45 عسكريا فرنسيا ودمروا عشرات الآليات. وفي هذه المعركة استشهد المجاهد زيدان قليل، وقيل إن طائرة أصابته فقتل، وفي معركة لمروج جرح مجاهد من دوار بني صبيح أرسله بن طبال للقتال معهم، داوته فيما بعد امرأة تدعى سعدة بنت صالح.

   أعود إلى تاريخ 20 أوت 1955، وبالتوازي مع هجومات سكيكدة، قاد بن طبال بنفسه معركة في آراقو، و هي التي تمكن فيها جيش التحرير من دحر القوة الفرنسية و أعلن المنطقة أول منطقة مستقلة في الجزائر لم تدخلها فرنسا أبدا حتى 62 إلا في عمليات التمشيط الكبرى و اتخذها بن طبال مركزا للقيادة و ملجأ لقادة الثورة الكبار على غرار زيغود، وكافي،و بوبنيدر،و منجلي، و آخرين... كما قاد المجاهد الفذ أحمد بلعابد معركة كبرى في كاتينة (السطارة حاليا) قتل فيها عسكريين فرنسيين ومعمرين كثيرين، ومن بين المعمرين الذين قتلوا في هذه المعركة أذكر  : موريس و روني ماصلو، وفي هذه المعركة قتل المواطن بوخميس قميح خطأ بمنطقة حزوزاين، ظنه المجاهدون معمرا فأطلقوا عليه النار إذ كان يمتطي سيارته السوداء التي كانت تشبه كثيرا سيارات المعمرين. كما قام مجاهدوا بني تليلان و بني صبيح بقيادة بن طبال بعملية بحمام بني هارون استشهد فيها سي عبد الله الشلفي من الشلف و قد التحق بالمنطقة سنة 1955 من قبل الساسي لسود أحد قادة الثورة التونسية.

    ولم نكتف في هذه الأيام بهذه المعارك بل كبدنا الاستعمار في 22 أوت 1955 م ضربة قاسمة أربكته وأذلت كبرياءه، تمثلت في قتل الحاكم العسكري لأولاد عيدون "رينو" برتبة عقيد (كولونيل) في منطقة أودادن على بعد كيلومترات من وسط المدينة، فقد رصدت مخابرات الثورة تحركاته على الطريق الرابط بين المدينة و قسنطينة، إذ كان يشرف بنفسه على إدخال المعمرين العاملين والمقيمين خارج المدينة خشية عليهم، وأبلغت القائد عمار علواش بهذه التحركات وتوقيتها، فعين أحد عشر (11) مسبلا من بينهم فانيط الطاهربن مراجي ،والهاشمي بو  درمين ،وقماش رابح  ويقال  عبد الحميد بودرمين                                                                                                                                    بوبشيرة محمد بن ابراهيم ، بوسالم بوزيد ،عمار فانيط ، فانيط سعد ، فانيط محمد ،بوقعود العربي  ...واخرين. ممن يتفننون القنص وأخذوا أماكنهم في المكان المذكور (أودادن).

   وأثناء عودة الحاكم رينو إلى المدينة، وقد كان متقدما على قواته بمسافة معتبرة، أطلقوا عليه النار فأردوه قتيلا، وأخذوا رشاشه وعفوا عن سائقه ابن المنطقة لأنهم كانوا يعرفونه ويشهدون بطيبته.

هذه الضربة القاسمة أصبحت حديث الصحافة العالمية بأسرها فلم يكن أحد يتصور أننا قادرون على الوصول إلى الحاكم رمز الهيمنة الاستعمارية و دليل هيبتها و حامي دولتها.

بعد انتهاء هذه الهجمات قال زيغود يوسف الشهير بيوسف الفرقاني أن الثورة نجحت في سكيكدة نجاحا سياسيا، ونجحت في أولاد عيدون نجاحا سياسيا وعسكريا.

   يقصد بهذا الكلام أنه قتل في الميلية  من الجيش الفرنسي الكثير و غنمت الثورة عدة أسلحة  في معركة أسردون بقيادة علي بن جكون في معركة 20 أوت. و معركة بين الميلية و عين قشرة بقيادة بوزردوم السعيد و لم يُقتل الشعب، وفي سكيكدة حدث العكس حيث قُتل الشعب بكثرة. و قد أهدى زيغود مصحفا شريفا لمسعود بوعلي بهذا النجاح و لبلائه الحسن في هذه الهجومات التي فاق نجاحها كل التوقعات.

   وقد اقتصرت الهجمات في منطقة الشمال القسنطيني على سكيكدة و أولاد عيدون، ولم نسمع عن منطقة أخرى غيرهما حدثت فيها هجمات كبيرة إلا مناوشات بسيطة في الخروب وواد زناتي و قسنطينة وغيرها من المناطق  ، أما في عين عبيد فقد ارتكب المعمرون مجزرة وحشية انتقاما لما أصابهم في حق سكان تلك المنطقة العزل، ذهب ضحيتها أزيد من 500 مواطن أبيدوا كما تباد الحشرات»)12(..

     ويشير كذلك إلى اندلاع   حوالي 30معركة في سنة 1955منها معارك كبيرة مابين زرزور و الميلية في المكان المسمى أخرطن و مابين العنصر و الميلية في المكان المسمى تابوقار أغلبيتها من تخطيط و تدبير خيري محمد المدعو الكابران.

    بعد هذه العمليات النوعية الكبرى ، و بعد ما حققته من نجاحات سياسية وعسكرية كان لها الصدى الواسع وطنيا ودوليا؛ ترسخت قدم الثورة في المنطقة وقوت شوكتها وازدادت صفوفها وحدة ونظاما، وتعززت الثقة في النفس،وأصبح المجاهدون يتحكمون في الأوضاع إلى حد كبير و بقرار من المجاهدين: صالح غربي،و محمد زويكري المدعو بلحملاوي ، وبودشيشة حسين، ومحمود لبصير،و رابح بودندونة، أمروا جميع السكان مهما اختلفت مواقعهم و تمايزت انتماءاتهم بالخضوع إلى سلطة الثورة و من أبى حكمت عليه الثورة بعقوبة قاسية. وقد خالف الأمر ڤايد واحد فقط قتل وسط المدينة، أما الآخرون فقد دانوا بولائهم  .    

    ويشير المؤلف إلى السعي غلأى استمالة سائر أبناء الشعب إلى الثورة المظفرة ،ومن ذلك روايته لما وقع له مع بوجمعة قريد  حيث يقول :   اتصلنا في شهر أفريل 1955– بلحملاوي و أنا -  مع المحترم سي بوجمعة ڤريد المنتمي سياسيا إلى فريق المستقلين وكان عضوا في الولاية و كان يحوز مكانة خاصة عند السلطة الاستعمارية و يكنون له احتراما كبيرا الأمر الذي جعل الثورة تحذره و تتوجس منه. ذهبنا إليه   و أعربنا له عن حاجة الثورة له و لمكانته و لمنصبه السياسي فاستجاب طوعا لعرضنا و أبلغنا بأن خلافه السياسي معنا قد زال بزوال أسبابه  و أنه الآن شريك لنا على  درب الحرية و الوطنية     و بأنه جاهز لخدمة الثورة من موقعه و فق ما تطلبه منه. و فعلا فقد وفى حتى سجن ثلاث سنوات على خلفية نشاطه الداعم لنا.

    كما أسسنا الشرطة، وعينا مسؤولي الدواوير والمشاتي، وشكلنا في كل دوار فرقًا من المسبلين يرأسهم واحد منهم يعمل تحت إمرة مسؤول الدوار.

    والمسبلون أناس من أهل الدوار يقيمون فيه ولا يغادرونه ويزاولون نشاطاتهم الفلاحية والرعوية وشتى أنواع المهن التي يشتهر بها أهل الدواوير بصفة عادية، ولكنهم مسلحون ويقومون بعمليات متى يطلب منهم ذلك، وبعد انتهائها يعودون إلى ما كانوا عليه دون أن يلتفت إليهم أحد.

    وكمثال على هذا النظام المحكم الذي اتخذته الثورة أسلوبا لإدارتها و تسيير أمورها و رعاية مصالحها الكبرى أذكر دوار أولاد قاسم؛ فقد كان يرأسه أحمد زويكري المدعو بلحملاوي وصالح غربي وبودشيشة حسين، يتكون من ست مشتات في كل مشتة فرقة مسبلين، ففرقة أولاد عربي يرأسها سي محمد بوشعالة، وفرقة أولاد عنان يرأسها الزهواني قرين و خلفه رابح بودشيشة، وفرقة العتقة يرأسها أحمد بن عياش (وبعد استبداله خلفه العربي بغيجة) وفرقة الدردار يرأسها المدعو صالح بوبرطخ ونائبه العباسي بو عزيز. وفرقة بو اللحلاح يرأسها بن رجم، وفرقة عرفة يرأسها محمود لغريب، وكان هذا النظام ساريًا على باقي الدواوير.

   و لا يفوتني هنا أن أذكر أسماء بعض مسؤولي الدواوير الأخرى، لعظم دورهم و كبر فضلهم، فمثلا دوار مشاط يرأسه زعيتر، دوار بني فرقان يرأسه مولود الشاوي، دوار بني صبيح يرأسه محمد بن الساسي، دوار أولاد عواط يرأسه مسعود شعراوي، دوار بني خطاب يرأسه بوزيوغ محمد وينوبه أخرون، و دوار بني عيشة و يرأسه الطيب بودابة و دوار بني فتح يرأسه المختار لكحل ودوار أولاد دباب يرأسه عمار علواش ونائبه الهاشمي بو درمين ودوار الولجة يمثلها علي بلعابد و حدودها من واد بادو  إلى حجر مفروش نحو مشاط أين ترجل ديغول في السير على قدميه وهذا سنة 1960 بصفة سرية وهكذا فهم ذيغول حقيقة الفشل الذي هم فيه والتقارير الكاذبة  الصادرة عن ضباطه وهنا كرركلمته المشهورة لقد فهمتكم وهذه في الزيارة الذي أسماها جولة القِدر  la tournée de la popote.

    و أصبح الاستعمار الفرنسي في هذه الفترة الحاسمة مستهدفا من كل جانب فما من منطقة يدخلها و في كل وقت إلا واشتبكت معه الثورة في شكل حرب عصابات. وكل دوار لا يقوم بضرب قوات الاستعمار وهي تعبر أرضه يحاسب ويسأل، وعلى مسؤوليه تقديم تقرير مفصل عن السبب وإلا عوقبوا، وهكذا لم يعد الاستعمار يشعر بالأمان في أي شبر من أرض أولاد عيدون.

  وختم المجاهد عمر شيدخ العيدوني حديثه عن هجومات20أوت1955م بالإشارة إلى أن   نجاحات عمليات 20 أوت 1955، وما غنمته من أسلحة، جعلت بن طبال يأمر بإنشاء ورشة صغيرة متنقلة لإصلاح السلاح وصيانته، و قد أشرف على أول ورشة أقيمت في المنطقة المجاهد: بونويوة محمود المدعو بن قريقة، يشتغل معه من 10 إلى 15 فردًا، هذه الورشة استمر نشاطها إلى غاية الاستقلال. وأول مقر لهذه الورشة التأمت فيه وبدأت نشاطها منه مكان يسمى "بصّام" وهو جبل يقع بين بني خطاب وأولاد دباب، ثم بدأت تنتقل سرا بعتادها من مكان إلى آخر، كما كونت العديد من المجاهدين أصبحوا بدورهم قادرين على القيام بأعمال الإصلاح والصيانة، وفي أواخر سنة 1958 كشفت قوات الاستعمار هذه الورشة واستولت على عتادها، فما كان من نظام الثورة إلا تكليف قائد القسم الرابع محمد بلحملاوي بضرورة شراء العتاد وإعادة فتح الورشة مهما كانت الظروف، فقام بلحملاوي باستدعاء أحد العملاء -وكان قبل ذلك قد حاول قتله في عملية من عملياته، فأصابه بأحد عشر رصاصة، ولكنه نجا- وقال له وكنت ثالثهما: "لقد حاولنا قتلك في الماضي ولكنك نجوت، وأنت الآن بخير، وعفا الله عما سلف، والجزائر لنا جميعا، و سوف أكلفك بمهمة على قدر كبير من الأهمية: عليك بإحضار العتاد المستعمل في إصلاح السلاح مهما كلفك ذلك"، وأريد هنا أن أقف وقفة مع ما قاله بلحملاوي لهذا العميل، ففي كلامه تهديد مبطن إن هو رفض المهمة، فكأنه يقول له: "نحن قادرون على قتلك في أي وقت نشاء" وفيه أيضا يد ممدودة بالصلح وصفحة جديدة مفتوحة إن هو قام بما طلب منه. وفعلا قام هذا العميل بالسعي في كل مكان من القطر الجزائري مستغلا ثقة الفرنسيين فيه حتى تمكن من إحضار كل العتاد الذي طلب منه، وأعيد تشغيل الورشة من جديد.

     ويشير كذلك إلى أنه قبل إنشاء هذه الورشة كان هناك مختص في إصلاح مختلف الأسلحة يشتغل حدادا في تامدور، بوسط المدينة يسمى "مخلوف رقيوع" كنا نأخذ له قطع السلاح الفاسدة سرًا فيقوم بإصلاحها، ولسوء حظنا فقد استشهد بعد مدة قصيرة على إثر مداهمات قامت بها قوات الاستعمار في أعقاب عملية ذراع بولقشر الشهيرة في 19 نوفمبر 1956 والتي سنعود إليها في ثنايا هذا الكتاب.

وتوقف المؤلف مع مخطط بيجار من ديسمبر:1955م إلى غاية مارس1956م،الذي يعتبر أول مخطط  عسكري تقره القوات المحتلة في المنطقة،و قد أطلق عليه اسم "المروحة" Eventail «و هو عبارة عن هجوم شامل جوا وبرا وبحرا على المنطقة بأسرها فطوقها من كل جانب: من بني فرقان إلى أولاد عربي مرورا بتارسات، عقبة سعد الله ولجبالة. أحكم الخناق على كل تلك المناطق، وشن فيها حملة قتل واسعة في صفوف سكانها، وقام باعتقالات عشوائية صاحبها قصف جوي، ومدفعي مكثف، كما استعمل البارجات البحرية لأول مرة، إذ كانت ترمي بحممها من جهة وادي زهور على المنطقة.

     كان الهجوم محرقة حقيقية استهدف كل ما هو حي من إنسان وحيوان ونبات، وقد تمكن فيه من الاستحواذ على كمية معتبرة من بنادق الصيد كانت بحوزة مجاهدين ،ومدنيين قضوا في هذه المحرقة.

    وتحت وطأة هذا المخطط الجهنمي الكاسح قررت قيادة المنطقة المتمركزة في العتقة و أولاد الصالح، ممثلة في مسعود بوعلي ومساعديه: علي دُعَا الشهير بـ بن جكون أصيل منطقة مشاط، وهو من العسكريين الذين عملوا في الجيش الفرنسي لمدة قاربت 12 سنة أحضره مسعود بوعلي، كذلك زيدان بسطة، وعلي صوال المدعو ، قررت الرد عل مخطط بيجار، ومحاولة فك الخناق على المناطق التي استهدفها فاشتبكت معه في العديد من المعارك في مناطق أولاد عربي، الدمنة دي قويدر، بوسعاية، تارسات، ونجحت في إرباكه، وبدأت في إخراج السكان إلى مناطق آمنة كخروف و الجوزات تمهيدا لنقلهم إلى منطقة بني صبيح التي كانت آمنة، ولم تطلها يد الاستعمار في هذا الهجوم».

    وتعرض المؤلف لمعركة ذراع بولقشر الفاصلة،والتي كانت بقيادة المجاهد الكبير أحمد بلعابد،وقد تمكن المجاهدون فيها من غنم أكثر من خمسين قطعة سلاح متنوعة،وتمكنوا من إبادة قافلة عسكرية فرنسية مشكلة من حوالي خمس عشرة شاحنة،و كانت هذه المعركة رداً قوياً على مخطط بيجار.

    وعقب هذه المعركة ارتكب الجيش الفرنسي جرائم فظيعة ضد السكان العزل،وقد علق المؤلف على عظمة هذه المعركة،وردود الفعل التي انجرت عنها بقوله: «  كانت معركة ذراع بولقشر عظيمة في جرأتها، عظيمة في رجالها، عظيمة في تنفيذها، عظيمة في نتائجها، ولا أعتقد أن هناك ما يماثلها على مستوى الوطن، فلم يسبق، وأن سمعنا عن معركة بذلك الحجم، وتلك النتائج في مكان آخر.

    على إثر هذه المعركة داهم الاستعمار الفرنسي المشاتي القريبة من المكان كمشتة الطهر دي لمصلى، ومشتة بين لجبالة، ومشتة الرغاوة، واعتقلت أكثر من 40 مواطنا أبادتهم جميعا في مكان يسمى الدخسة دي الناصر.

    و لا يفوتني أن أذكر جريمة استعمارية أخرى تتمثل في حرق الشيخ عمي أحمد خراب، وهو في التسعين من عمره برش البنزين عليه، و حرقه انتقاما من ماضيه الوطني حيث كان صديقاً للأمير خالد، و مصالي الحاج وبن الغول وبن جلول و نفي في 1930 إلى الصحراء، وعند عودته من منفاه تم نزع شنبه إذلالا لرجولته، و لم يدخل مدينة أولاد عيدون إلى بعد أن نبت شنباه من جديد.

    بعد هذه المعركة، وفي مارس 1956 أنهى بيجار مخططه، وعاد يجر أذيال الخيبة، والهزيمة بعدما تكسر كبرياؤه على صخور أولاد عيدون، وعاد المهجرون إلى مناطقهم، وساد هدوء حذر ينبئ عن عاصفة أخرى قادمة قد تكون أمر وأقسى». 

        وسلط المجاهد عمر شيدخ العيدوني الأضواء على التغييرات التي وقعت في المنطقة بعد مؤتمر الصومام،فأشار إلى   الفترة الممتدة ما بين أوت 1956 وبداية 1957 ،والتي شهدت تشكل   فيلق الولاية بقيادة مسعود بوعلي، ونائبه رابح بلوصيف،« هذا الفيلق يتكون من عدة كتائب يقودها كل من محمد خيري المدعو الكابران، دخلي المختار المدعو البركة، حسين لمشلط، سعيداني عمر المدعو السارجان بابا، مسعود بونعاس المدعو النية،عبد الوهاب من القل،  وقام بعمليات كبرى على غرار عملية زقار في أواخر 1956 بين تمالوس و أولاد عيدون قادها ميدانيا مسعود بوعلي، و معه نوابه، وعدد كبير من مجاهدي القل، وأولاد عيدون، والطاهير، وقتلوا الكثير من الجنود الفرنسيين، وأسروا عددا آخر كلهم من المجندين الأفارقة المعروفين بـ "الساليغان" نسبة إلى دولة "السنغال" و على الأرجح فإنهم أعدموا جميعا.

   من بين المعارك الكبرى التي خاضها فيلق أولاد عيدون معركة "بين لغدر" على طريق قسنطينة في بداية 1957م وقد استشهد فيها الكثير من المجاهدين. أيضا معركة أسردون الشهيرة التي استشهد فيها "البركة" الذي كان محبوباً من قبل  المجاهدين.

     إضافة إلى  مشاركة بعض المجاهدين المحبوبين في هذه المعركة مثل "صوت العرب" المدعو بوبنيدر وعلي منجلي وزعموش حسين المدعو لمشلط ، وقويسم عبد الحق وسعد اللبان وكانوا يتمتعون بقدر كبير من الاحترام، وهذا لشجاعتهم الكبيرة، ثم معركة مشاط  أزارار الكبرى في سنة 15 أفريل 1957، وفيها أسقطت مروحية على متنها عقيد في  الجيش الفرنسي ، وهو العقيد الثاني الذي يسقط في المنطقة، وهو  brochet de vaugrigneuse "بروش ديفاركيوز" وقد أخذت بندقيته الآلية، وسلمت إلى بن طوبال، وعادت أولاد عيدون مرة أخرى لتحتل واجهة الصحف العالمية بانجازاتها العسكرية الحاسمة».

    أما مخطط سوفينياك ( 1957-1958م)،الذي جاء تحت إمرة الجنرال( سالان)،الذي تولى قيادة الفلول الاستعمارية في الجزائر، فقد تم من خلاله إعلان   جل مناطق الشمال القسنطيني مناطق محرمة ،وتم ضرب حصار اقتصادي جهنمي ضد سكان المنطقة،ويذكر المؤلف أن الجيش الفرنسي،وتطبيقاً لأوامر( سوفينياك)، كان يخلط كل ما يؤكل من دقيق، و سكر، وحليب ،وزيت ،ومواد أخرى بالبترول السائل، ليحرم السكان، و من ورائهم المجاهدين مما يقتاتون منه على بساطته و قلته، معتقدا أنه بهذه الطريقة سيحكم قبضته على المنطقة، ويأتيه المجاهدون أذلة صاغرين مستسلمين، ولكنه خاب، و خاب مسعاه.

    وقد تمكنت الثورة من الوقوف بقوة في وجه مخطط( سوفينياك)،حيث تم تنظيم إضراب شامل عرف بإضراب الثمانية أيام  بالتزامن مع هذا المخطط ،  وبالنسبة لمنطقة أولاد عيدون يقول المؤلف: «إن كل الشخصيات الجزائرية المسلمة الساكنة بوسط المدينة خرجت«  واجتمعت في العتقة مركز قيادة المجاهدين وعلى رأسهم مسعود بوعلي، ومن بين هؤلاء: بوجمعة قريد وكان يشغل منصب مستشار عام لوالي قسنطينة، وكان صديقا لـروني مايير رئيس الوزراء الفرنسي ذي الأصل اليهودي، و هو من مواليد قسنطينة، وكان ينتمي سياسيا إلى المستقلين، ومن بين الشخصيات أيضا القاضي مصطفى بن يزار وكان يعمل بأولاد عيدون، و أحمد قارة محام، وعبد الرحمان حمودة أستاذ ثانوي، وسليمان مسقالجي تاجر ينتمي إلى حركة البيان، و قريد محمد الصالح، وكان تاجرا كبيرا يصدر السلع إلى فرنسا وغيرهم كثير قارب عددهم الخمسين، وكلفتهم الثورة في هذا الاجتماع بضرورة القيام بإضراب عام وحمل الناس على ذلك، فنفذوا الأمر، وبالتزامهم نجح الإضراب بنسبة 100%والذين كانوا مسؤولين عن هذا النجاح من القسم الرابع  هم بن حملاوي مسؤول,ونوابه سي رابح غيوة وسي أحمد بوشريط وسي أحسن زعيمش وغيرهم...

    على إثر هذا الإضراب قام الاستعمار بتخريب كل المحلات التجارية المضربة عن آخرها، ومخافة القتل أو الأسر أو... حملهم على العمل بالقوة فغادر أغلب السكان المدينة، واستقروا بجبال بني فرقان ومشاط، وأولاد عربي، و العتقة، و أولاد الصالح.

    و في هذه الأيام المشحونة تمكنت الثورة من ضرب العدو من خلال عملية نوعية جريئة تمثلت في قتل الحاكم  "جيرمان فور" برتبة عقيد ، وهو العقيد الثالث الذي يسقط في المنطقة، إذ تمكن البطل سعيداني محمد من التسلل إلى مكتبه ،وقتله وعند محاولة خروجه اشتبك مع أفراد من الجيش الفرنسي فسقط شهيدا».

 من أخطر الـمجازر التي عرفتها الـمنطقة:

               كما كشف المؤلف النقاب عن أخطر المجازر التي وقعت بالمنطقة،فذكر أن منطقة سطارة مثلاً، والتي كانت منطقة محرمة لجأ سكانها من الترويع، والجوع إلى الجبال القريبة، واحتموا بالمجاهدين ،وأصبحوا يعيشون معهم، حوصرت من قبل الجيش الفرنسي، ومع هذا الحصار دخل المجاهدون «في اشتباك كبير دام يومين كاملين استشهد فيهما أزيد من 500 شهيد بين مجاهدين، ومدنيين بسطاء من أطفال ونساء وشيوخ ما تزال عظامهم متناثرة حتى الآن بين بني صبيح وبني تليلان».

   وفي المكان المسمى تامدور قام جيش الاستعمار بإبادة أزيد من 30 مواطنا أغلبهم من الشيوخ ،  وفي قرية الدردار قام جيش الاستعمار   بإبادة رجال المنطقة عن بكرة أبيهم فلم يدع منهم أحدا إلا وقتله وكان ذلك في رمضان قبل الإفطار بحوالي ساعة،   و في مشتة  الدرامة   تمت  إبادة أكثر من 95 شخصا على عدة مرات، أكثرهم من المدنيين العزل، ومنهم بعض المجاهدين على رأسهم بودرمين أحمد بن لبجاوي.

      كما ذكر المؤلف مجزرة أولاد عنان أين قام الجيش الفرنسي بقتل حوالي 35 مدنيا أعزل ،إضافة إلى مجازر أولاد الصالح، و العتقة، و الخناق دي الكوحل أين قتلت فرنسا 254 شخصا في المجموع من المدنيين العزل على عدة مرات ففي أولاد الصالح في أكتوبر 1956في يوم واحد قتل أزيد من 35  مدنيا،وفي منطقة بني معاندة قُتل ما يزيد عن 20 مدنيا أعزل انتقاما لمعركة دارت بينه، وبين جيش التحرير بعدما قام هذا الأخير بهدم جسر مجاز العباس.ومن المجازر الفظيعة التي وقعت  مجزرة بني وجهان بدوار لجبالة تحت قيادة المجرم الكابيتان-capitaine-روسو حيث تم القضاء على 54مدنياً كانوا قائمين يؤدون صلاة العيد.

     ويقول المؤلف إن: « من أكبر الأحداث التي مازلت أذكرها ،و تؤلمني إلى يومنا هذا قصة الطفلة الرضيعة ذات العشرة شهور ؛حيث طوق الاستعمار  منطقة بني فرقان، و كانت في حضن أمها وأبيها المجاهد عيسى لكحل كانت الرضيعة  تبكي من شدة الألم و الوجع، فاشتد الحصار بالمنطقة  وكي لا يكشفهم العدو الغاشم قام أبوها بوضع يده على فمها كي لا يسمع العدو صراخها فماتت. ضحى بفلذة كبده لحماية أكثر من200 شخص». 

   كما توقف مع مجزرة النحانح حيث قام ترانكي بتطويق المكان، وقتل من أبناء الحي أزيد من 20 فردًا لم يفرق بين رجل أ وامرأة،أو صغير،أو وكبير .

     أما مجزرة أولاد رابح،   فهي-كما وصفها المؤلف-واحدة من أخطر المجازر التي وقعت سنة:  1960  وقد صخر لها شال و ترانكي قوات عسكرية كبيرة"  و قد قتل فيها أكثر من سبعين شخصا كلهم من المدنيين العزل،   وافتخارا بما فعل صرح في الجرائد أنه قتل المجاهدين كذبا وبهتانا ،وفي سنة 1957م وقعت مجزرة مريعة في مشتة أولاد أعمر  بالقنبلة جوا وبرا استشهد فيها مابين 16 إلى 20 شخصا كان من بينهم نساء و رجال   

             ومن أهم المعارك التي تحدث عنها المؤلف معركة زكرانة الحاسمة التي وقعت في 13 أفريل 1957م،وقد دامت  يوما كاملا، وكان القتال ضاريا، وأسفرت عن قتل أكثر من100 جندي من بينهم ضباط كبار، والذي قام بهذه العملية جيش الناحية الأولى، و الثانية بقيادة المدعو ميلاط، ورابح جوامع، وعمار ڤوڤة، و في سيدي معروف، و بقيادة قنيدرة  وقعت معركة كبيرة دامت يوما كاملا أسقطت فيها طائرة حربية، و الكثير من الجنود الفرنسيين . كما وقعت  معركة أخرى بمنطقة لعروسة ببني يفتح بقيادة المجاهد اعمر قرفي و أباد فيها أزيد من 70 عسكريا فرنسيا حسب شهادة المجاهد محمد شباط المدعو حيمود .

                ويصف المؤلف معركة بين لشعاب،العتقة،عصفورة بقوله:« جاءت معركة بين لشعاب بعد أيام قليلة أين أبيد فيها برج مراقبة عسكرية بأكمله، وأخذنا رشاشين أوتوماتيكيين كبيرين من نوع(30american) وأسلحة أخرى خفيفة ، و الأبطال الذين هاجموا البرج هم سيوانة علي رحمه الله ،بشير أوصيف، بوفلعاص أحمد ،قيقط زيدان المدعو الروج ،حجلة اسماعيل، ولا يزالون على قيد الحياة. تلتها مباشرة معركة العتقة بقيادة مسؤول الفرقة البطل مليط يوسف الذي لا يزال على قيد الحياة، و هي التي قتل فيها أزيد من 30 عسكريا، وغنمنا كل أسلحتهم، واستشهد منا مجاهد واحد يدعى سي عمار، تلتها معركة عصفورة على طريق أولاد عربي التي تعد مفخرة للثورة الجزائرية قتل فيها عدد كبير من الجنود الفرنسيين، وتلتها أيضا معركة زرزور وكبدنا العدو الفرنسي خسائر فادحة في الأرواح والعتاد، وغنمنا الكثير من الأسلحة المختلفة   »

    ومن بين المعارك التي تطرق إليها المؤلف  معركة الجيزية بين بني فرقان و الجيزية  وقعت في 02/9/1960 تحت قيادة بولالة بشير، حيث تمكنت الثورة من تكبيد العدو خسائر هائلة تمثلت في غنم 14 قطعة سلاح، وتم أسر أحد أعوان العدو "بوالشيح أحمد" ، وقد استشهد في هذه المعركة مجراب صالح .

ديغول على أبواب الـميلية:

             تحت عنوان:«ديغول على أبواب الميلية»روى المجاهد عمر شيدخ العيدوني زيارة ديغول إلى المنطقة،فذكر أن «شال» حينما بدأ يتحسس الهزيمة،وبعد أن   خسر أكثر من 300 عسكريا في سنة واحدة في أولاد عيدون وحدها،« الأمر الذي دفعه إلى زيارتها سرا، وقد وصل حتى جبال مشاط مشيا على قدميه، يشرف بنفسه على المعارك، وبعد أن اعترف بنفسه في مؤتمر صحافي بالعاصمة الجزائر لما سئل عن حقيقة الوضع في  أولاد عيدون؛ بأنه لم يستطع القضاء على الثورة فيها لبسالة رجالها، و صعوبة تضاريسها، مقرا بذلك بفشله الذريع ،و على خلفية هذا الفشل اشتد الصراع بين ديغول، و طاقمه العسكري الحاكم  في الجزائر، وهم الجنرالات الأربعة: Maurice Challe, Edmond Jouhaud, Raoul Salan et André Zeller موريس شال ، أندريه زيلير، راول صالان وادمون جوو، ومن كان معهم و سار في ركابهم من قادة آخرين على غرار: ماسو، أوساريس، لاغايار، ديكورنو و ترانكي ...

    قرر ديغول زيارة المنطقة في جولة أطلق عليها اسم: "جولة القِدر  la tournée de la popote" و هي جولة ميدانية يزور فيها قواته العاملة في الجزائر، و يتحدث فيها مباشرة مع جنوده في مواقعهم القتالية المتقدمة تهدئة لنفوسهم، و رفعا لمعنوياتهم، و حتى يقف بنفسه على واقع الأمر، و لا يكتفي فقط بمختلف التقارير التي كانت ترسل إليه ،و التي تبين فيما بعد عن طريق أجهزته الاستخباراتية الخاصة تحت إشراف وزير دفاعه ميسمر، و التي كانت تزوده بكل شاردة،  و واردة عن الوضع العسكري  معتمدا في ذلك على ضباط يعملون سرا في منطقة الميلية، ويُذكر أن شال كان يرسل تقارير مغلوطة عن الوضع الأمني في الجزائر.

     ويذكر المؤلف أن«ترانكي»شرع في حشد الناس بالقوة عند اقتراب موعد الزيارة،وقام بإرسالهم إلى كاتينة مكرهين،وذلك لاستقبال ديغول في صورة مزيفة،كدليل على أن الأمن مستتب،والأوضاع مستقرة،ومن بين ما قام به إحضاره لمجموعة من النسوة عنوة،وقام بتزويدهن ببنادق بالية،وقدمهن على اعتبار أنهن مقاتلات في صفوفه، و قد أخذت لهن بعض الصور الفوتوغرافية ثم روجت على أنها حقيقة ثابتة.

     ويضيف المؤلف أنه عند نزول ديغول في كاتينة «حاول ترانكي ترسيخ تلك الصورة المزيفة حتى يعطي الانطباع بأنه الرجل القوي الممسك بزمام الأوضاع المحبوب من طرف السكان، و راح يحدث ديغول قائلا: نحن صابرون كما ترى سيدي الرئيس. فيرد عليه ديغول بحزم و دهاء: لكل صبر حدود يا ترانكي، فإذا كانت كل هذه الجموع معنا فمن يقاتلنا إذن؟ و إذا كان الأمر كما يبدو فسرح جيشك، و انزع الأسلاك الشائكة المضروبة في كل مكان.

   فهم ديغول دون كبير عناء أن الأوضاع ليست كما حاول ترانكي، و من ورائه شال أن يوهماه، بل هي أكبر و أخطر، و على إثر هذه الزيارة الخاطفة مشى على قدميه مطلعا على الجبال، و الأحراش التي شملت أيضا لحجر المفروش بجبال بني فرقان و الولجة و مشاط ؛ كرر جملته الشهيرة: لقد فهمتكم. وأصبح المعمرون بدلا من القول صباح الخير يقولون فهمتكم على قول ديغول».

     وفيما يتعلق بالوضعية الأمنية التي كانت سائدة أثناء زيارة ديغول يقول المجاهد عمر شيدخ العيدوني: «   أثناء زيارة ديغول إلى كاتينة، و حجر المفروش كان جيشنا يحاصر المنطقة من كل جانب عبر تازة وبرقيدة، وبني معاندة ، و كنا على مرمى حجر من القوات الفرنسية، وكان هناك تقارب كبير بين حراستي الجيشين و من طرائف ما حدث أن جنديا سرق سلاح خصمه بعد أن لاحظ نومه لأن حالة الاستعداد دامت 48 ساعة، و لولا أمر القيادة ممثلة في شخص بوبنيدر بعدم التعرض لديغول لوقع الاشتباك، و لسقط ديغول نفسه، فسرب الحوامات التي أقلته كان على مرمى حجر من جحيم نيراننا، و كانت الطوافات معرضة للإصابة في أية لحظة»   

      و لم يُغفل المؤلف الحديث عن تضحيات المرأة العيدونية،وأكد على أن المرأة في أولاد عيدون هي مثال للتضحية،والفداء،وقد لعبت دور الحاضن و الداعم للعمل الثوري في كل مراحله منذ بدايته، و حتى نهايته،وعرض عدة نماذج تؤكد الدور الكبير،والبارز الذي لعبته في تحقيق النصر المبين على الاستدمار الفرنسي.

  سادساً: جرائم موريس بابون ضد الـمهاجرين الـجزائريين:

                يرى الأستاذ سعدي بزيان أن جرائم السابع عشر من أكتوبر1961 م ،التي ارتكبها محافظ شرطة باريس(موريس بابون) في ظل الجمهورية الخامسة بقيادة الجنرال( دوغول)،ورئيس وزرائه( م-دوبرى)،ووزير الداخلية في ذلك العهد( روجي فري)،ضد المهاجرين الجزائريين،والتي ذهب ضحيتها حوالي ثلاثمائة( 300) شهيد،رمي معظمهم في نهر السين،أو قُتلوا بطرائق بشعة داخل مراكز الشرطة الفرنسية، لم تلق العناية الكافية من لدن مختلف المؤرخين،والباحثين الجزائريين،ولم تحظ باهتمام واسع من قبلهم.

         ويذهب إلى أنه على كثرة المراكز التاريخية،وكليات التاريخ،والمؤرخين الجزائريين، فإننا لا نلفي إلا نزراً يسيراً من الكتب التي تحدثت عن هذه الجرائم،ويتساءل:ألا تستحق هذه الأحداث التي وقعت في17 أكتوبر1961م تخليداً؟

            لقد حز في نفس الأستاذ سعدي بزيان ألا يجد مجموعة من الكتب الجزائرية مؤلفة عن جرائم يوم:17 أكتوبر1961م،وقد أبدى حسرته لما لحق هذه الجرائم من إهمال،وتجاهل،حيث يشير إلى أن الفرنسيين قد خلدوا هذه الأحداث بإقامة لوحة تذكارية لها في ساحة(سان ميشال)،تخليداً للشهداء الجزائريين الذين سقطوا برصاص الشرطة الفرنسية،ومن بين الكتب الفرنسية التي صدرت عن هذا اليوم،وأشار إليها الأستاذ سعدي بزيان كتاب الأستاذ جان بول بروني الذي صدر بعنوان:«الشرطة ضد جبهة التحرير»،وكتاب جان لوك إينودي الموسوم«معركة باريس».

         وأمام ما أحس به من إهمال للأحداث،أو على الأصح الجرائم التي وقعت في هذا اليوم،فقد بادر إلى وضع هذا الكتاب ليكشف الجرائم الفرنسية المرتكبة في حق المهاجرين الجزائريين،حيث يقول في هذا الصدد:«وها أنذا أخصص كتاباً كاملاً عن جرائم17 أكتوبر1961 التي ارتكبتها فرنسا ضد المهاجرين الجزائريين،وذلك مساهمة متواضعة مني في إثراء المكتبة التاريخية للحركة الوطنية،وثورة أول نوفمبر1954-1962 عسى أن يكون عملي هذا حافزاً للباحثين،والمؤرخين الجزائريين،لكتابة تاريخ،ونضال الطبقة العاملة الجزائرية في المهجر منذ(نجم شمال إفريقيا)إلى غاية الاستقلال،وما بعده،وما عاناه هؤلاء،وهم يناضلون على جبهتين:

     الجبهة الاجتماعية: (كسب القوت):النضال ضد الاستغلال،والقهر،والعنصرية.

     الجبهة السياسية:الانخراط في النضال السياسي من أجل استقلال الجزائر،وربط نضالهم في المهجر بالنضال داخل الوطن الأم(الجزائر)،وما كان ذلك هيناً يومئذ،وقد انخرط آلاف من المناضلين الجزائريين في المهجر في(نجم شمال إفريقيا)بزعامة مصالي الحاج،وانضموا تحت لواء قيادته إلى غاية اندلاع ثورة التحرير سنة:1954م»(ص:9 وما بعدها).

             إن هدف الأستاذ سعدي بزيان من إصدار هذا الكتاب هو إطلاع القارئ في الجزائر على جزء من تاريخ بلاده كتبه أبناء الجزائر في المهجر بدمائهم قبل 17 أكتوبر1961م،وفي 17 منه،وما تلاه من تضحيات،وملاحم أخرى.

أضواء على جرائم موريس بابون:

            في المبحث الأول من الكتاب،والذي جاء تحت عنوان:«العمال الجزائريون في المهجر من تاريخ تأسيس(اتحادية جبهة التحرير)بفرنسا إلى فتح جبهة ثانية فوق أرض العدو سنة:1958م»تابع المؤلف مراحل تنظيم(اتحادية جبهة التحرير بفرنسا)1954-1962م،فذكر في البدء أن جبهة التحرير في الجزائر أوعزت إلى المرحوم محمد بوضياف بصفته مسؤولاً  عن الوفد الخارجي بتأسيس اتحادية لجبهة التحرير بفرنسا،وقد اجتمع من أجل هذا الغرض سراً بالمناضل مراد طربوش بسويسرا،وتذكر مصادر أخرى أنهما قد اجتمعا في(لوكسمبورغ)لتأسيس الاتحادية،وقد تشكلت أول هيئة تنظيمية للجبهة في المهجر،وضمت كلاً من:علي محساس،ومحمد زروق،وعبد الرحمن غراس،والطالب مهدي،والتحق بهم فيما بعد أحمد دوم،وشوقي مصطفاي،ومحمد الشريف الساحلي،بيد أن مدة هذا التنظيم لم تستمر لفترة طويلة،حيث ألقت السلطات الفرنسية القبض على محساس.

             وفي شهر مايو 1955 تم تشكيل هيئة جديدة من(اتحادية جبهة التحرير)تكونت من أربعة أشخاص،ووزعوا على مناطق مختلفة من التراب الفرنسي،فعُين(محمد مشاطي)في شرق فرنسا،و(فضيل بن سالم وغراس)في الجنوب،والوسط،ليون،ومرسيليا،أما باريس فقد أسندت مهامها إلى(دوم)،وقد تدعمت الاتحادية بانضمام(اتحاد الطلبة المسلمين الجزائريين).

            وقد قسم الأستاذ بزيان مراحل تنظيم(اتحادية جبهة التحرير بفرنسا إلى أربع مراحل رئيسة):

1-المرحلة الأولى(تبدأ من1954-1955م،وتمتد إلى غاية1956م):وهي مرحلة قصيرة،ومرت بظروف جد صعبة،وكانت بدايتها مع المؤسس،والمكلف المرحوم(محمد بوضياف).

2-المرحلة الثانية(1956م):وقد ضمت كلاً من(محمد البجاوي)المكلف بالإشراف على الاتحادية من طرف المرحوم(عبان رمضان)إضافة إلى(بوعزيز السعيد،وبولحروف،والعدلاني قدور،ومنجي حسين،وسويسي عبد الكريم،وكذا أحمد طالب الإبراهيمي،وبن سالم المهداوي،وسيد علي مبارك إبراهيم).

3-المرحلة الثالثة(1957م):وقد أصبح في هذه المرحلة(عمر بوداوود) رئيساً لها،إلى جانب(بوعزيز السعيد،وبومنجل أحمد،ومحمد حربي،وعروج مسعود،والعدلاني قدور،ومنجي حسين).

4-المرحلة الرابعة والأخيرة(من 1958 حتى سنة الاستقلال1962م):وقد ضمت هذه المرحلة كلاً من: (عمر بوداوود،وبوعزيز السعيد،وعلي هارون،وعدلاني قدور،وسويسي عبد الكريم).

               ويذكر المؤلف أن هناك جملة من المهام التي كلف بها رئيس الاتحادية من أبرزها:خلق سياسة اللا أمن في فرنسا،وذلك قصد الضغط على الحكومة الفرنسية حتى تبقي على قواتها في فرنسا لمواجهة الوضع الحربي فوق ترابها،والتخفيف على جيش التحرير في الجزائر،وهذا ما يستوجب تأسيس خلايا للفدائيين الجزائريين في فرنسا،وقد كانت عملية نقل الحرب إلى فرنسا واحدة من الخيارات الأساسية التي اتخذها المرحوم(محمد البجاوي)،وهو يعين على رأس الاتحادية-ووفق ما نقله المؤلف عنه في كتابه(حقائق حول الثورة الجزائرية)-فسياسة نقل الحرب إلى قلب العدو كانت تتلخص في القيام بعمليات انتقامية في المدن،والأرياف الفرنسية،كلما ارتكب الاستعمار الفرنسي في الجزائر أعمالاً إجرامية ضد الشعب الجزائري،وكل جزائري يسقط شهيداً في الجزائر يقابله سقوط فرنسي مماثل في فرنسا.

              ويذكر الأستاذ بزيان أن تاريخ25 أوت 1958م كان بداية الحرب داخل التراب الفرنسي،وابتداءً من تاريخ:28 أوت بدأت السلطات الفرنسية في تطبيق مخطط العمل من خلال إسناد الحراسة إلى قوات الجيش بتوليها حراسة الأماكن الحساسة،وتم إلغاء الإجازات بالنسبة لأعوان الأمن،وذلك لمواجهة الوضع المتدهور،وقد تضاعفت عمليات الملاحقة،والتفتيش لعمال شمال إفريقيا،ولاسيما من الجزائريين.

             المبحث الثاني من الكتاب موسوم ب«(الحركة)في مواجهة جبهة التحرير،أو مخطط موريس بابون للقضاء على تنظيم(جبهة التحرير)بباريس»،وقد قدم فيه الأستاذ بزيان في البدء لمحة عن تعيين الجنرال دوغول لموريس بابون،حيث قال في هذا الشأن:«كان الجنرال دوغول،هو يعين موريس بابون على رئاسة محافظة شرطة باريس على بينة من الأمر بكفاءة هذا الرجل التي اكتسبها خلال وجوده في الجزائر حينما كان والياً على قسنطينة،ومكلفاً بالإدارة فيها،وهو في رأي الجنرال دوغول-رئيس جمهورية فرنسا-قادر على تطهير باريس عاصمة فرنسا من إرهاب جبهة التحرير،وقد منحه الجنرال دوغول(شيكاً على بياض)في التصرف إزاء هؤلاء(الإرهابيين)الذين زرعوا الرعب في قلوب سكان باريس،وحولوا حياة سكانها إلى جحيم،الأمر الذي جعل المسؤولين الفرنسيين يفكرون جيداً في وضع حد لهؤلاء الجزائريين الذين تمردوا على فرنسا في الجزائر،وفي فرنسا أيضاً،وكان موريس بابون في رأي دوغول،وحكومته الفارس المغوار القادر على كسر عظام جبهة التحرير في العاصمة الفرنسية باريس.

      وفي مارس1958م تم تعيين موريس بابون على رأس محافظة شرطة باريس،وما إن استلم   منصبه على رأس محافظة شرطة باريس،ومقاطعة السين حتى وجد نفسه في وضع بالغ الصعوبة،فتنظيمات جبهة التحرير مزروعة في كامل خريطة فرنسا الجغرافية،وأصبحت جبهة التحرير تشكل جهازاً قوياً بكامل عددها،وعدتها،وبمناضلين تمرسوا بقواعد النضال منذ(نجم شمال إفريقيا)1926 إلى(اتحادية جبهة التحرير بفرنسا).وبعد مضي خمسة أشهر من توليه منصبه حتى انفجرت في وجهه حرب داخل فرنسا بقيادة جبهة التحرير الرامية إلى فتح جبهة ثانية داخل أرض العدو قصد إرهاقه،وتشتيت طاقته،وتمزيق قوته،والتخفيف على الجبهة الداخلية التي أرادت أن تنتقم من الاستعمار الفرنسي الذي يقود حرباً تدميرية ضد الشعب الجزائري في الجزائر شملت البلاد والعباد،وأتلفت الزرع والضرع،وقد تشكلت فرق للفدائيين الجزائريين في فرنسا لملاحقة رجال الأمن،والخونة و(الحركة)،فقد نجا(جاك سوستيل)بأعجوبة من الموت على يد فدائيين جزائريين أطلقوا عليه النار،وهو داخل سيارته في شارع(فيرديناند)،بالقرب من(الشانزيلزي)،كما قتل هؤلاء الفدائيون الخائن علي شكّال نائب رئيس(المجلس الوطني الجزائري)،في ملعب(كولومب)بضواحي باريس،وهو جالس بجانب رئيس الجمهورية(روني كوتي) »(ص:30 وما بعدها).

               ولمواجهة هذا الوضع فقد رأى موريس بابون أنه ينبغي تكرار تجربته في الجزائر بإنشاء تنظيم بوليس يوازي البوليس الموجود من قبل،ويتكون بالدرجة الأولى من(الحركة)يؤتى بهم من الجزائر،ويتم توزيعهم على الأحياء الآهلة بالجزائريين،فهو يرى أن(الحركة)بحكم معرفتهم للهجات الجزائرية،وسهولة تموقعهم في الأحياء يتولون رصد جميع تحركات الوطنيين الجزائريين،ويتوغلون في أوساطهم لجمع المعلومات.

           وتوقف الأستاذ سعدي بزيان مع جرائم موريس بابون ضد الجزائريين خلال حرب التحرير من سنة:1956 إلى17 أكتوبر1961م،وقد افتتح هذا القسم بشهادة(هيرفي هامون)و(باتريك روتمان) في كتابهما(حملة الحقائب)الذي جاء فيه:«من يتذكر17 أكتوبر من الفرنسيين الذي مات فيه مئات من المتظاهرين الجزائريين؟لا أحد يتذكر،في حين يتذكر الفرنسيون الذين ماتوا في مظاهرة8 فيفري1962م في(ميترو شارون)لماذا يتذكر الفرنسيون هؤلاء الثمانية الذين ماتوا في هذا اليوم،وهم يتظاهرون احتجاجاً على جرائم المنظمة السرية التي بثت الرعب في قلوب الفرنسيين في باريس،والتي زرعت الموت في الجزائر بتبنيها لسياسة(الأرض المحروقة).عندما تأكد لديها أن أسطورة(الجزائر الفرنسية)تهاوت تحت بنادق جيش التحرير،وأن جزائر الآباء،والأجداد قد دفنت،وإلى الأبد،ولم يبق أمامهم  سوى الرحيل بعيداً عن الجزائر،فحاولوا زج الشعب الفرنسي في معركتهم الخاسرة في الجزائر...،لم يبق في ذاكرة الشعب الفرنسي شيئاً عن جرائم موريس بابون التي ارتكبها في ليلة الثلاثاء السوداء من17 أكتوبر1961،عندما تصدت قوات الشرطة بأوامره لقمع التظاهرة السلمية التي نظمها المهاجرون الجزائريون في باريس تحت قيادة(اتحادية جبهة التحرير)...

             إن هذا اليوم أزيل من تاريخ فرنسا،ونسي الفرنسيون المظاهرة السلمية التي تتكون من حوالي 30 ألف متظاهر من الرجال،والنساء،والأطفال،والتي طافت20 حياً من أحياء باريس المعروفة(سان ميشال)،و (أوبيرا)،و(بون نوفال)،و(جسر نوي)،و(ساحة النجمة)،وغيرها من أحياء باريس».

            ويذكر المؤلف أنهما قد أوردا نقلاً عن أحد مفتشي الشرطة بباريس أن  هناك140 قتيلاً من الجزائريين،في حين تتحدث مصادر جبهة التحرير عن استشهاد حوالي300 شهيد جلهم تم إغراقهم في نهر السين،كما تحدثت مصادر الجبهة عن  400 مفقود،بعضهم ابتلعتهم أمواج نهر السين،وبعضهم ظل يطفو فوقه لأيام،وأيام،كما تم اكتشاف بعض الموتى في غابتي(بولونيا و فانسلان)،إضافة إلى عدد آخر تم رميهم من الجو بوساطة الطائرات فابتلعهم البحر،وقد نُشر أن هناك مجموعة من الجثث لجزائريين قتلوا في 17 أكتوبر تم دفنها في بعض حدائق البيوت،وقد أثارت هذه القضية مجلة(الأزمنة الحديثة)في عدد نوفمبر1961م،مما دفع  مصالح الرقابة الفرنسية إلى مصادرة المجلة بعد نشر هذه الفضيحة.

             ويؤكد المؤلف على أن جرائم موريس بابون لم تبدأ مع المهاجرين في ليلة17 أكتوبر1961م،بل إن مئات المهاجرين الجزائريين القاطنين ب(سان دوني)،تعرضوا للتوقيف،والتعذيب من طرف البوليس،والكثير منهم تم رميهم في نهر السين،والفروع التي تجتاز المدينة.

            وفي قسم مستقل تحدث المؤلف عن مرور أربعين سنة على جرائم موريس بابون ضد المهاجرين الجزائريين في 17أكتوبر1961م،وقدم فيه لمحة عن مسار موريس بابون،ومصيره،فذكر أنه ولد سنة:1910،وتخرج في كلية الحقوق بدرجة ليسانس،ودبلوم في الدراسات العليا في القانون العام،والاقتصاد السياسي،كما درَّس علم الاجتماع،والنفس،وشغل عدة مناصب في حياته،وعاصر عدة حكومات،ورؤساء جمهوريات،وأشار إلى أنه في سنة:1998م بدأت محاكمته باعتباره مجرم حرب نظراً لتعاونه مع النازية،وإرساله آلاف اليهود الفرنسيين في ظل حكومة(فيشي)إلى معسكرات التعذيب،والموت في كل من(درانسي و أوسشفيتز).

             ويذهب المؤلف إلى أن ملف موريس بابون الإجرامي لا يمكن الإحاطة به بسهولة،فمن جرائمه في قسنطينة سنة:1956م ،مروراً بجرائمه في فرنسا ضد المهاجرين الجزائريين خلال مظاهراتهم السلمية ليلة17 أكتوبر1961م،وتحت أوامره تم ارتكاب مجزرة أخرى في حق مناضلين فرنسيين تظاهروا في8فيفري1962م احتجاجاً على الأعمال الإجرامية التي ارتكبتها منظمة الجيش السري.

             وفي القسم الأخير من الكتاب تطرق المؤلف إلى«جرائم 17 أكتوبر في فرنسا سنة:1961م ضد المهاجرين الجزائريين في مؤلفات الكتاب الفرنسيين»،وذكر من أبرز الكتب التي رصدت هذه الجرائم كتاب(الحركة في باريس)،وكتاب(معركة باريس)لجاك لوك إينودي،وقد قام الأستاذ سعدي بزيان بعرض  عن الكتابين المذكورين،وختم بتقديم ملاحق مكملة للدراسة.

سابعاً: جرائم فظيعة خلال مظاهرات11ديسمبر:

             ذكريات الثورة الجزائرية العظيمة كثيرة، ومتنوعة،بحيث لا يكاد يخلو شهر من الشهور من ذكريات خالدة، قدم فيها الشعب الجزائري تضحيات مجيدة، تفتخر بها الأجيال على مر العصور، والأزمنة،وعندما يُذكر شهر ديسمبر يتبادر إلى أذهان الجزائريين تلك المظاهرات العارمة التي انطلقت في شهر ديسمبر سنة:1960م،وكانت لها جملة من الآثار والانعكاسات العميقة على مسار الثورة الجزائرية المظفرة،فالمعروف أن مظاهرات11ديسمبر1960م، أكدت للعالم أجمع ذلك الارتباط الوثيق، و اللا محدود بين الشعب الجزائري، وثورته المجيدة ،وجعلته يُدرك مدى تصميم الشعب الجزائري على استعادة حريته المغتصبة،واسترجاع سيادته المنتهكة من قبل الاستدمار الفرنسي.

            ستظل مظاهرات11ديسمبر1960م رمزاً من رموز الاعتزاز، والافتخار، بمنجزات، وتضحيات الأمة الجزائرية العظيمة،وبما قدمته من تضحيات جبارة، وغالية، في سبيل استعادة السيادة لوطننا العزيز،فلا يختلف اثنان في أن مظاهرات ديسمبر1960م هي واحدة من المناسبات التي ستبقى وعلى مر الزمن من الوقفات التاريخية المتميزة، والجديرة بالإشادة والتنويه،حيث إنها تجلي وبكل وضوح مسيرة  نضال، و كفاح، و دأب، و صبر الشعب الجزائري،ولا ريب في أنها تعتبر منبعاً عميقاً تُستمد منه العبر والدروس،وتُستخلص منه جملة من الرؤى، والأفكار ،والفوائد الجمة.

                  يجمع المؤرخون على أهمية مظاهرات 11ديسمبر1960م في مسار الثورة الجزائرية،التي نجحت في إقناع العالم بعدالة القضية الجزائرية،وأكدت عزم الشعب الجزائري على استرجاع وطنه المغتصب، إن«11ديسمبر1960م محطة أخرى أثبت من خلالها الشعب الجزائري قوته اللا متناهية، وكفاحه الباسل، وتلاحمه مع جبهة وجيش التحرير الوطني،من أجل هدف واحد هو الاستقلال،وهكذا أحبط بوعيه، وتفطنه، أطماع الاستعمار وإستراتيجية ديغول، ومخططاته الساعية في حقيقتها إلى فصل الشعب عن الثورة من خلال شعاره الوهمي(الجزائر فرنسية).

         مظاهرات 11ديسمبر1960م برهنت للعالم أجمع عن اقتناع الجزائريين دون استثناء بعدالة قضيتهم، وبعزمهم على المضي قدماً والتضحية، بكل نفيس من أجل استرجاع حقهم الذي اغتصبه المستعمر بالقوة والباطل»

أضواء على أسبابها وخلفياتها:

            لقد سبقت مظاهرات 11ديسمبر1960م جملة من الأحداث والتحولات المختلفة،فقد شهدت فترة1954 -1957م«نجاحاً عسكرياً واضحاً لجبهة التحرير الوطني تميزت بتعاظم القدرات البشرية، والعسكرية ،والتنظيمية، لجيش التحرير الوطني،وتمكنه من فرض سلطته على مناطق ريفية واسعة،وقيامه بعمليات عسكرية نوعية ضد المصالح الفرنسية،غير أن الجهود العسكرية التي بذلتها السلطات الفرنسية،والإمكانيات المادية، والبشرية، التي سخرتها مكنتها من أن تلحق بالمجاهدين الجزائريين الكثير من الخسائر،وابتداءً من سنة:1958م،وهو ما تبينه بوضوح قوائم الشهداء التي تتضمنها مختلف النصب التذكارية المخلدة لذكراهم،حيث إن أغلبهم استشهدوا خلال الفترة الممتدة ما بين:1958و1962م،وقد اعترفت بهذه الحقيقة كذلك التقارير الداخلية لقيادات جبهة التحرير الوطني،ففي تقرير مطول أعده العقيد عمر أوعمران،عضو لجنة التنسيق، والتنفيذ، ومسؤول مديرية التسليح والتموين العام،مؤرخ يوم:08جويلية:1958م ورد أن(جيش التحرير الوطني الذي بلغ قدراً محترماً من القوة من حيث العدد، والتسليح، قد مني بخسائر فادحة حالياً،حيث استشهد خلال شهرين فقط6000مجاهد في منطقة ديفيفيه وحدها)،ويعني بها بوشقوف،في إشارة منه لما يصطلح عليه في بعض الأحيان بمعارك الحدود،وأضاف قائلاً: (إذا كنا نجحنا في السنة السابقة(1957م)في تسريب كميات معتبرة من الأسلحة إلى الجزائر،فإن التزود بالأسلحة ،والذخيرة حالياً أصبح أمراً في غاية الصعوبة بفعل إحكام غلق الحدود).في إشارة منه إلى الخطوط المكهربة، و ما يحيط بها من حقول للألغام، ومراكز رقابة ،وقوات عسكرية ضخمة وضعتها السلطات الفرنسية على الحدود مع تونس ،والمغرب،وبين التقرير الآثار المترتبة على الثورة من هذه الوقائع،فذكر أن(الخسائر في صفوف الإطارات المؤهلة، والمكونة سياسياً لم تعوض لسوء الحظ بترقية الشباب المتدرب على الحرب).

             وعبر العقيد أوعمران في تقريره عن خشيته من أن يؤدي هذا الواقع إلى تراجع الدعم الشعبي للثورة، فقال: (إن الشعب يؤيد حتماً الثورة،غير أنه تعرض إلى قمع رهيب،ولهذا فإن فقدان الإطارات السياسية والشباب على العموم،وكذلك القمع بكل أشكاله لا يمكن إلا أن يضعف مقاومته، ودعمه للثورة)،واعتبر التقرير أن مجيء ديغول إلى السلطة قد عزز مركز فرنسا،فمن الناحية المعنوية تراصت فرنسا المحبطة، والمنقسمة على نفسها حول ديغول،واستعادت ثقتها،وتجدد أملها في النصر... »)2(.وقد جاءت مظاهرات 11ديسمبر لتفند جميع هذه الشكوك، وتؤكد تلاحم الشعب الجزائري.

                لقد اتبع الجنرال ديغول عدة أساليب في سياسته تجاه الجزائر،حيث عاد إلى السياسة الفرنسية التقليدية التي تعتبر الجزائر جزءاً من فرنسا،واعتماداً على منظور الدكتور محمد لحسن زغيدي، فسياسة ديغول تجاه الثورة الجزائرية تتلخص في:

أ-سياسة عدم الاعتراف بالكيان الجزائري:حيث اتبع ديغول إستراتيجيته التي تعتمد على الحفاظ على أمجاد، وأملاك الإمبراطورية الفرنسية، فيما وراء البحار،وفيما يخص الجزائر فقد اعتبرها جزءاً من فرنسا،فقال: «فقد كنت أعتزم أن أحذو حذو فرنسا القديمة التي بعد أن أصبحت بلاد الغال،ظلت محتفظة بالطابع الروماني، بحيث ستبقى الجزائر فرنسية من عدة أوجه،وتحافظ على الطابع الذي اكتسبته،هكذا كانت إستراتيجيتي في السياسة التي أريد أن أنتهجها...وكان يقتضي الواجب أن ألجأ إلى المناورة،دون أن أغير هدفي».

       تلك هي الخطة المعتمدة من قبله،حيث سار على نهج الحكومات السابقة بالجمع بين وسيلتين:مضاعفة المجهود الحربي،ووضع المشاريع ذات الصبغة الاجتماعية،كما فعل غي موليه من قبل.

ب-العنف ضد الثورة: حيث استعمل ديغول شتى أنواع العنف للوصول إلى ما لم يصل إليه غيره،وهو الانتصار على الثورة الجزائرية عسكرياً،وهذا ما جعله يجند جميع طاقات فرنسا للانتصار عليها،حيث يقول المجاهد علي بومنجل: «بمجيئه إلى الحكم وظف كل الإمكانيات البشرية، والعسكرية، لحرب الجزائر،حيث أرسل إلى بلادنا العشرات من الجنرالات لإخماد الثورة، والقضاء عليها، وقد قاسى شعبنا أضعاف ما قاساه في السنوات الثلاثة التي سبقت حكم ديغول،مما يبين بجلاء وحشية حكم ديغول على الشعب الجزائري، وعلى امتداد السنوات من حكمه»

                وفي السياق نفسه ذكر الرائد لخضر بورقعة،وهو أحد كبار القادة في الولاية الرابعة أن«مخطط شال الجهنمي قد سقط علينا كالصاعقة،ولم نحسب له أي حساب،وكانت بذلك خسائرنا فظيعة في الأرواح والمعدات..فلم نكن على علم به،ولا بعملية كورون، فلا القيادة العامة في الخارج أشعرتنا بهذا المخطط،ولا نحن استطعنا بوسائلنا الخاصة أن ننتبه إليه رغم توفر المؤشرات الدالة عليه،وهكذا واجهنا مخططاً عسكرياً محكماً بأذهان خالية، فلم نقم بتعبئة الجماهير الشعبية،ولم نقم بتهيئة قواتنا عسكرياً ،ونفسياً ،للتعامل مع الوضع الجديد الذي فرضه علينا العدو،فكانت الكارثة...»،ولمواجهة الهجمة العسكرية الفرنسية اتخذت جبهة التحرير الوطني جملة من التدابير العسكرية الاحترازية لامتصاص الصدمة،وكيفت إستراتيجيتها الحربية مع الواقع الجديد، والخطير،الذي فرضه خاصة مخطط شال العسكري،فعلى سبيل المثال أن الولاية الثالثة اتخذت قيادتها مجموعة من التدابير لمواجهة عمليات المنظار لخصها مسؤولها العقيد محند أولحاج في تعليمة مؤرخة يوم:09ماي 1959م،ومما جاء فيها: (خلال الأسابيع القادمة يجب أن تتم مواجهة تكتيكات العدو، من خلال تجنب تجميع قواتنا،ولهذا من الأفضل تقسيم الكتائب إلى فرق...حتى تكون أكثر قدرة على الحركة،ويكون من الصعب ملاحقتها...)...،أما صحيفة المجاهد،لسان حال جبهة التحرير الوطني،فأكدت في مقال بعنوان:«فشل عملية المنظار»في تحقيق أهدافها الإستراتيجية، والتي تتمثل في تدمير الوجود العسكري والسياسي لجبهة التحرير الوطني في الولاية الثالثة،والتي تُعتبر من قبل الدوائر الفرنسية المعقل الرئيس للثوار الجزائريين،واستثمار الانتصار المزعوم في الدعاية الفرنسية في الداخل ،والخارج بهدف فرض حل للمعضلة الجزائرية على المقاس الفرنسي) .

             لقد عرفت الجزائر في الفترة الممتدة مابين:1956-1958م تدفقاً كبيراً لقوات الاستعمار الفرنسي،حيث بلغ عدد القوات الفرنسية مع نهاية الخمسينيات حوالي800ألف جندي فرنسي،وقد قام الجيش الفرنسي«بعمليات كبرى في القرى، والأرياف الجزائرية، فضاعف من المناطق المحرمة، واتخذ من سياسة الأرض المحروقة، والمحتشدات، وسيلة لعزل الثورة عن الجماهير الشعبية،كما حاولت السلطات الاستعمارية عزل الثورة عن الخارج لخنقها،فأنشأت السدود المكهربة على طول الحدود الشرقية، والغربية، عرفت بخطي(موريس وشال)وأرغمت أكثر من:280.000جزائري على الهجرة إلى تونس، والمغرب،وزجت بمئات الآلاف من المواطنين في السجون والمعتقلات،في هذه الفترة عممت وسائل التعذيب،كوسيلة قمع، وأصبحت قنابل النابالم سلاحاً عادياً، تستعمله الطائرات الفرنسية في كل مناطق التراب الوطني،ويمكن القول إن الشعب الجزائري عرف من سبتمبر1958م تاريخ تكوين الحكومة المؤقتة إلى نفس الشهر من سنة:1959م المرحلة الأكثر قسوة، ومرارة، من الحرب،حيث شنت القوات العسكرية الاستعمارية عمليات واسعة النطاق ضد جيش التحرير الوطني استخدمت فيها عشرات الآلاف من الجنود،وأحدث الأسلحة الحربية،مثل عملية:(كورون)من فيفري إلى جويلية بجبال الونشريس، وعملية(جيمال) من جويلية إلى نوفمبر1959م في جبال القبائل، وعمليات(كوروا)،و(ايتنسال)، و(الشرارة)،في جبال الجزائر والحضنة وعملية(بيار بريسيوز)،و (الأحجار الثمينة)في جبال قسنطينة،هذا فضلاً عن تطويق كامل المدن، والمراكز العمرانية، حيث بلغ قمع البوليس ذروته،إلا أن جيش التحرير استطاع أن يتكيف مع هذا الأسلوب موزعاً وحداته إلى فرق صغيرة،وناقلاً المعركة إلى كامل مناطق التراب الوطني  ،وفي جميع الميادين.

            من سبتمبر1959إلى سبتمبر1960م ضاعفت الحكومة الفرنسية من مناوراتها لتجنب المفاوضات مع جبهة التحرير الوطني،مسخرة كل طاقاتها العسكرية للقضاء على جيش التحرير الوطني،حيث قام الجيش الاستعماري من جديد بعمليات واسعة مثل عملية(تونتاكيل)في أفريل وماي1960م في جبال الضاية، وعملية(بروميثي)في الجنوب الوهراني من ماي حتى سبتمبر1960م،وعملية(سيغال)في جبال الونشريس خلال شهري جويلية، وأوت1960م.

             واستطاع جيش التحرير أن يواصل نشاطه القتالي المستند إلى حرب العصابات،مثبتاً مراكزه في جبال الأطلس الصحراوي، وفي المناطق الحدودية الشرقية، والغربية،خائضاً هجمات مركزة على المراكز العسكرية للعدو،ومستفيداً من عمل الفدائيين الذين كانوا يقومون بعمل جبار في المدن والمراكز العمرانية»

             لقد انطلق ديغول في شن عمليات عسكرية كبيرة،واستهل سياسته عام:1959م«بشن عمليات عسكرية ضخمة كثيرة العدد، وطويلة المدة،في إطار ما عرف بمشروع شال الضخم، بعد أن فشلت عمليات(التهدئة)،و(التطهير الواسعة)،وقد اعتمد مشروع شال على الأسس التالية(فيفري1959-ماي1960م):

1-غلق الحدود الشرقية والغربية بالأسلاك الشائكة المكهربة،والمناطق المحرمة،والألغام،والمراكز العسكرية المكثفة.

2-إبادة فرق جيش التحرير من الناحية العسكرية في الجبال.

3-تحطيم جبهة التحرير من الناحية السياسية في المدن، والقرى.

4-استحداث إدارة مخلصة للجيش الفرنسي تحل محل جبهة التحرير الوطنية.

   ويُطبق هذا المشروع على الشكل التالي:

1-المحافظة على مراكز التربيع مع تطويرها، وتصغير حجمها.

2-تشجيع الفرق الفرنسية على الحركة الدائبة ،والمستمرة ضد جيش التحرير الوطني.

3-تكليف سلاح الطيران بالمراقبة المستمرة ،والمتابعة الدائمة.

4-تجنيد المزيد من جنود القوم والحركة من الجزائريين للمساهمة في العمليات العسكرية كبدلاء للعسكريين الفرنسيين.

5-القيام بعمليات عسكرية جوية وبرية لتطهير البلاد من الثوار منطقة فمنطقة.

6-احتلال المناطق المطهرة مدة طويلة للتأكد من إبادة جيش التحرير بها.

         أما مراحل مشروع شال فقد حددت على الشكل التالي:

أولاً:تطهير ولاية وهران بين فيفري ومارس1959م، والمقصود بها الهضاب العليا الغربية بين منتصف أبريل، ومنتصف جوان.

ثانياً:تطهير جبال الونشريس بين منتصف أبريل، ومنتصف جوان1959م.

ثالثاً:تطهير جبال الظهرة بين منتصف أبريل، ومنتصف جوان1959م.

رابعاً:تطهير بلاد القبائل خلال شهور جويلية1959-ومارس1960م.

خامساً: تطهير الشمال القسنطيني بين نوفمبر1959 ،وماي1960م.

سادساً:عملية الشرارة على جبال الحضنة في جويلية1959م.

             ورغم العمليات العسكرية التي شنت ضد جيش التحرير الجزائري،ورغم ضخامة الأموال والإمكانيات التي وفرتها سلطات الاحتلال الفرنسي،إلا أن هذا المشروع فشل في تحقيق أهدافه»)6(.

           وبالنسبة إلى الشق السياسي،فقد مرت سياسة ديغول تجاه الثورة الجزائرية بالمراحل التالية:

«    أولاً:مرحلة الجزائر الفرنسية،وعامل خلالها الجزائر على أنها إقليم فرنسي وطلب من سكانها أن يصوتوا بنعم أو لا على دستور الجمهورية الخامسة،بينما طلب من سكان المستعمرات الأخرى في إفريقيا التصويت على مبدأ البقاء أو الانفصال عن الاتحاد الفرنسي،وخصص للجزائر66مقعداً في البرلمان(منها44للجزائريين و220للأوروبيين)و32مقعداً في مجلس الشيوخ،وسخر الجيش الفرنسي لتحقيق النتيجة التي يريدها وهي القضاء على الثورة،وأعلن في قسنطينة أواخر1958م عن مشروع قسنطينة كمحاولة لخنق الثورة وتحطيمها على أساس أن أسبابها اقتصادية واجتماعية،وطلب من الثوار أن يسلموا أسلحتهم ويرفعوا العلم الأبيض فيما دعاه سلم الأبطال والشجعان.

          ثانياً:مرحلة التردد:بعد فشل المشاريع السابقة أخذ يفكر في أسلوب آخر،وأعلن في خطاب له يوم:08جانفي1959م بمناسبة انتخابه رئيساً للجمهورية بأن الجزائر ستكون لها مكانة ممتازة داخل المجموعة رغم مراوغاته المتعددة لاستمالة الجزائريين والأوروبيين معاً.

        ثالثاً: مرحلة تقرير المصير،بعد أن تأكد من قوة جبهة التحرير الوطني،وضعف تأثير مشروع قسنطينة الاقتصادي والاجتماعي،وعجز الجيش الفرنسي عن تحقيق النصر،فبعد أن زار الجزائر في شهر أوت،ودرس الأوضاع عن كثب أعلن في يوم:16سبتمبر1959م عن مبدأ تقرير المصير للجزائر بعد أربع سنوات من تحقيق التهدئة التي حددها بعدم زيادة المقتولين عن 200 شخص في العام وذلك على الشكل التالي:

1-التصويت على الاستقلال والانفصال.

2-التصويت على الاندماج مع فرنسا.

3-التصويت على الفيديرالية مع فرنسا.

       رابعاً:مرحلة الجزائر الجزائرية:وتتمثل في إيجاد الجزائر الجزائرية بدون جبهة التحرير الوطني،ولتحقيق ذلك ألف في شهر جويلية1960م لجنة من 120 عضواً ينتمون إلى البرلمان،ومجلس الشيوخ،والمجالس الإقليمية،والغرف التجارية والفلاحية، وشيوخ البلديات،ومستشاريها ووزعوا على أربع لجان فرعية هي:

1-لجنة الإصلاح المالي.

2-لجنة الإصلاح الإداري.

3-لجنة الإصلاح الزراعي.

4-لجنة الهيئات والفئات السكانية.

           وقد اعتمد ديغول في إنشاء الجزائر الجزائرية دون جبهة التحرير الوطني على عدة عوامل،من أبرزها:تعب السكان من الحرب،وميلهم إلى مساندة أي حل يحمل إليهم أمل السلم،وطالب بوقف الأعمال الفدائية قبل الشروع في التفاوض،وصرح بعبارة(الجمهورية الجزائرية)في أوائل شهر نوفمبر1960م التي ستوجد في المستقبل،وأعلن عن استعداده قبول قيامها مادام أن الجزائريين يريدون قيامها،غير أنه كان يصر على عدم التفاوض مع جبهة التحرير الوطني،لأن الجزائر الجزائرية ستكون للجزائريين في الجزائر،وليس في الخارج كما يزعم...

             ولتحقيق هذه الخطة سعى ديغول إلى خلق قوة ثالثة،وأعلن عن عدم ضرورة انتهاء القتال للشروع في تزويد الجزائر الجزائرية بأجهزتها الإدارية الخاصة،فقام بإجراء انتخابات المجالس المحلية،وتحصل أنصاره على الأغلبية مع معارضتهم لفكرة الإدماج،وسعى إلى تدعيم مركزهم بإنشاء جيش جزائري لهم من الحركة يحمل اسم الحرس»  ،ولتوفير فرص النجاح لمشروع الجزائر الجزائرية،جاء إلى الجزائر يوم:10ديسمبر1960م للقيام بالدعاية لهذا المشروع،وليقوم بشرحه للسكان،ولاسيما من المستوطنين الأوروبيين الذين تأكدوا بأن الثورة الجزائرية في طريق النصر،ولذلك فإنهم بمجرد سماعهم خبر زيارته إلى الجزائر قاموا بإضراب شامل،وبمظاهرات صاخبة في اليوم الذي سبق وصوله إلى الجزائر،وذلك لإشعاره بغضبهم ورفضهم لسياسته،وهذا ما دفع أبناء الشعب الجزائري إلى القيام بمظاهرات معاكسة يثبتون فيها إلى العالم مدى تعلقهم بوطنهم ودفاعهم عن سيادتهم فكانت مظاهرات11ديسمبر 1960م موضوع حديثنا،فقد«تشجعت الجماهير على القيام بالمظاهرات عشية زيارة الجنرال ديغول للجزائر،حيث إن أعوان ضباط الشؤون الأهلية انتشروا في أحياء الرويسو وبلكور،وهو يؤكدون على أنهم لا يعارضون قيام مظاهرات-مسلمة-بل يعارضون مظاهرات الأوروبيين التي كانت تعارض مقولة ديغول-الجزائر جزائرية-وتهتف بحياة ديغول،فاغتنم التنظيم هذه الفرصة وضاعف عمله وسط الشعب،ومنذ تلك اللحظات انطلق الشباب الأوروبي بنوع من الجنون الجامح في مظاهراتهم دون أن تعترضهم قوات الاحتلال الفرنسي،وشاهدت جماهير الشعب الجزائري في تلك المظاهرات مقدمة لحواجز جديدة»   

أضواء على وقائعها:

            تجمع مجمل الدراسات وشهادات المجاهدين، الذين عاشوا يوم:11ديسمبر1960م على أنه كان يوماً مميزاً،ارتوت فيه أرض الجزائر الطاهرة بدماء آلاف الشهداء، الذين خرجوا إحقاقاً للحق،ودفاعاً عن وطنهم المفدى«ففي يوم:09ديسمبر1960م حدث الانفجار،فقد تحركت جماهير بلكور تلقائياً،وفي بداية التحرك كانت تدافع عن نفسها وهي تشاهد الجرائم التي ترتكب من قبل المستوطنين الذين ظلوا يرتكبون الفظائع دون عقاب أو ردع،وفي يوم:10ديسمبر1960م تحركت جميع الأحياء بالعاصمة،فسرعان ما ظهر أثر التنظيم المحكم في تلك المظاهرات،وعينت لجنة تنظيم في كل حي،وقد ساهمت المرأة الجزائرية بشكل فاعل وبكيفية خارقة في تلك المظاهرات، حيث خرجت المرأة الجزائرية،وكانت أكثر جرأة وإقداماً وتحدياً للعدو،ففي ساحة بلكور قامت امرأة جزائرية بانتزاع العلم الجزائري من أحد الشبان الجزائريين،كونها لاحظت أنه لم يرفعه عالياً كما يجب،وأنه لم يكن يركض بشكل قوي،واندفعت تجري بالعلم حتى أصبحت في صدارة المظاهرة،وقد سعى الشباب الجزائري الذي شارك في المظاهرات إلى الاتصال بالصحافيين الذين كانوا يقومون بتغطية الحدث،ويحثونهم على ضرورة نقل الأحداث على حقيقتها،والتي تبرز تلاحم الشعب الجزائري وبكل قوة مع قضيته العادلة،وقد كانوا يرددون نريد الحرية ونريد الاستقلال،وقد تركت القوات الفرنسية المتظاهرين الفرنسيين يفعلون ما يشاؤون في حين قابلت مظاهرات الجزائريين بالتقتيل والتنكيل وارتكاب الجرائم الفظيعة،وعند حلول الليل من يوم العاشر من ديسمبر1960م كان كل شيء يدل على أن الهدوء قد عاد إلى نصابه،لكن ما أن أصبح يوم:11ديسمبر حتى تعالت الزغاريد من أعالي بلكور،وفي المدينة ترددت الأصداء من حي إلى آخر،فخرج السكان عن بكرة أبيهم إلى الشوارع في مظاهرات عارمة لم تشهد البلاد لها مثيلاً من قبل،واتسعت لتشمل الكثير من المدن مثل وهران وعنابة،وقد سقط على إثرها العديد من أبناء الشعب برصاص الجيش الفرنسي وجنود المظلات ورجال كتائب القمع وغيرها  من الوحدات الفرنسية المسلحة،وقد اضطر الجنرال ديغول إلى اختصار زيارته إلى الجزائر وعاد إلى باريس مصرحاً بأن تلك الزيارة مكنته من الاطلاع على الأوضاع،وقد تحدثت البيانات الرسمية عن مقتل96شخصاً في الجزائر العاصمة،و18 في وهران و28في عنابة،وهو رقم بعيد عن الأرقام الحقيقية للضحايا،خصوصاً أولئك الذين لفظوا أنفاسهم تحت التعذيب على أيدي رجال المظلات بعد إلقاء القبض عليهم،ودفنوا في مقابر جماعية،وقد وصفت الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية على لسان رئيسها(فرحات عباس) هذه المظاهرات بأنها درس رهيب لدعاة(التهدئة)المتخلفين عن عصرهم،الذين ما زالوا يحلمون بخرافة فصل شعبنا عن جيشه وحكومته،ولقد تحدث الشعب وقال كلمته،وتحدث ديغول في خطاب متلفز بتاريخ:20ديسمبر1960م أن جزائر الغد ستكون إذاً جزائرية»  

           يقدم المؤرخ الراحل الدكتور يحيى بوعزيز-رحمه الله- وصفاً دقيقاً لتلك المظاهرات ،حيث يقول: «لقد انتظمت تلك المظاهرات في معظم المدن الجزائرية،وبخاصة الجزائر العاصمة،ووهران،وسيدي بلعباس،والأصنام،وشرشال،وتيبازة،والبليدة،وبجاية،وقسنطينة،وعنابة،واستمرت من يوم:10إلى يوم:16ديسمبر1960م،ولم تتوقف إلا عندما وجهت الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية نداءً إلى الشعب الجزائري لإيقافها،بعد أن وصلت إلى الغرض المطلوب،وحققت ما كان مرجواً من ورائها،وقد اتسمت تلك المظاهرات بالعنف والشدة بصورة خاصة في مدينة وهران،وفي أحياء مدينة الجزائر مثل بلكور،والحراش،وصالامبي(المدنية حالياً) والقصبة،وحمل السكان خلالها الأعلام الوطنية،ونادوا بشعارات تحيا الجزائر،ويسقط الاستعمار،تحيا جبهة التحرير الوطني،الاستقلال للجزائر،واندفع الرجال والأطفال والنساء إلى التظاهر متحدين الدبابات والرشاشات والقنابل،ورسم الجرحى بدمائهم الأعلام الوطنية،وشعارات الاستقلال والحرية،ولعب اليهود دوراً بارزاً في الإرهاب والاعتداء على المقدسات الإسلامية كالمساجد.

        وكنموذج لهذه المظاهرات نورد وصفاً مصغراً لبعض أحداثها في مدينة وهران، كما أوردته جريدة المجاهد اللسان المركزي لجبهة التحرير الوطني آنذاك بعد ثلاثة أيام من توقفها: (انطلقت المظاهرات يوم10ديسمبر،واصطدمت بوحدات من الجيش الفرنسي التي منعتها من الدخول إلى الأحياء الأوروبية،وفي يوم11استأنف الفرنسيون مظاهراتهم على الساعة التاسعة والنصف،فتوجهوا إلى مبنى إدارة الكهرباء والغاز،ثم إلى إدارة المالية،وهم يهتفون بشعارات:الجزائر فرنسية ودوغول على المشنقة،وبعد ذلك توجهوا إلى مقر إدارة جريدة وهران الجمهورية الموالية لديغول وحطموا واجهتها الزجاجية،وحاولوا مهاجمة مبنى رجال الدرك،واستمروا في هيجانهم حتى الساعة الواحدة بعد الظهر دون أن تتدخل فرق الأمن ضدهم،وعندئذ حدث ما لم يكن في حسبانهم،فقد انطلقت مظاهرات الجزائريين كالسيل الجارف من الأحياء العربية تهتف باستقلال الجزائر وعروبتها،واتجهت إلى الأحياء الأوروبية وحاول بعض الأوروبيين اعتراضها بسيارته فداس جزائرياً وقتله،وجرح آخرين،وتحركت قوات فرنسية ضد الجزائريين الذين أخذوا ينزلون إلى الميدان، يتلاحقون بسرعة من مختلف الجهات والأحياء،واستعانت بالدبابات والمصفحات والرشاشات،والقنابل،وروى شهود عيان آنذاك بأن الجزائريين يلقفون القنابل في الهواء ويعيدونها إلى العدو لتنفجر في جموعه وتقتل الكثير منهم،وشهد حي البلانتور- سي الصادق حالياً-حوادث مهولة في هذا اليوم دامت حتى السادسة مساءً،واستمرت القوات الفرنسية في إطلاق النار على الجزائريين حتى الساعة الثامنة بعد ذلك.

           وفي يوم12/12استأنف سكان مدينة وهران مظاهراتهم الصاخبة بشكل أقوى وأعنف،ولم يقترب الأوروبيون من أحيائهم العربية،فضلاً عن اقتحامها،وظل الجزائريون يهتفون بعروبة الجزائر وإسلامها،واستقلالها،واكتفى الأوروبيون بالتظاهر داخل أحيائهم فقط ولمدة محدودة بعد أن تأكدوا من عجزهم عن المواجهة،وقامت القوات الاستعمارية بمحاصرة الأحياء العربية وسكانها بالأسلاك الشائكة،وغلق المسالك والطرقات بالحواجز،ودأبت على قذف الجموع الجزائرية بالقنابل اليدوية،والرشاشات لمحاولة تفريقها،وبقيت هذه المظاهرات تتجدد  يوميا حتى يوم:16/،وتكونت في وهران منظمة فرنسية إرهابية قتلت عدداً من الجزائريين في أماكن متفرقة،خنقاً بالأسلاك الكهربائية حتى بعد أن توقفت المظاهرات)»

           وينبه الباحث الدكتور محمد قنطاري إلى الكثير من المغالطات التي وقعت في التأريخ لهذا اليوم الخالد في التاريخ الجزائري،حيث يقول: «وحسب المصادر، والوثائق، والصور، والأشرطة التلفزيونية، والشهود...وتصحيحاً للتاريخ،وما نُشر وينشر وما قيل ،ويقال عن مظاهرات11ديسمبر  1960م في تحديد هذا التاريخ لزيارة ديغول للجزائر، وقيام المظاهرات الجزائرية ضده وضد الأوروبيين المستعمرين أن بداية نقطة محطة ترحال الجنرال ديغول للجزائر كانت في مدينة عين تموشنت عمالة وهران في 9ديسمبر 1960 م،والتي كان يبلغ عدد سكانها آنذاك9000أوروبي من كبار المعمرين و25000مواطن من الجزائريين الفقراء والفلاحين،وحل الجنرال ديغول في يوم ممطر،واستقبلته جماهير شعبية من الأوروبيين الذين استقدموا معهم عمال وفلاحي المزارع:نسبة كبيرة منهم من اليد العاملة المغربية لتحية ديغول،ونداء(الجزائر فرنسية)لكن عكس ذلك عندما وصلوا إلى عين تموشنت اندمجوا مع إخوانهم الجزائريين،وشكلوا قوة كبيرة من الجماهير الشعبية التي استقبلت ديغول،وهي تخفي له، وللمعمرين المفاجأة...استقبله المتطرفون في بداية الأمر بشعارات، ولافتات، كتب عليها(الجزائر فرنسية)يسقط ديغول،وهو يسير أي ديغول في الشارع الوطني وسط الهتافات والأطفال والنساء تطل من النوافذ تهتف هي الأخرى بالجزائر فرنسية،يسقط ديغول،يسقط العرب...وبتحضير من القيادة الثورية لجبهة وجيش التحرير الوطني ومن المناضلين فجأة ظهرت لافتات الجزائر جزائرية-أطلقوا سرح بن بلة-والأعلام الجزائرية ترفرف في الأيدي والنساء يزغردن تتبعها عدة هتافات من أفواه الجزائريين والجزائريات: (تحيا جبهة التحرير الوطني) (يحيا جيش التحرير الوطني) (تحيا الجزائر جزائرية-الوحدة الجزائرية الشعبية والترابية-الصحراء جزائرية-لا لتقسيم الجزائر...)،وغيرها من الشعارات،وكان إلى جانب ديغول الجنرال كريبان،والجنرال جون موران،وقد أجرى ديغول بدار بلدية عين تموشنت حديثاً مع أعضاء المجلس البلدي،ثم فيما بعد حديثاً مع140 ضابطاً قائلاً:(ستكون الجزائر جديدة،ويجب علينا أن نساعدها لتكون جديدة فعلاً..وإلا كل شيء انقطع بينها وبين فرنسا وللجيش دور كبير ولا يجب أن تسير إلى الأسوأ كما وقع في الفيتنام،فالعمل هنا في الميدان أمام الجماهير،للإطلاع ومعرفة الحقيقة التي يعيشها ويعاني منها الشعب وجيشنا كان ضد الثوار(الفلاقة).لقد لعبتم وتلعبون دوراً محترماً فيما يخص التضامن،ثم قال:الجزائر في طريق تغيير نفسها وشخصيتها من يوم إلى آخر،شخصية الجزائر تبرز للوجود في الجزائر جزائرية،وهناك شرط لتنمية الجزائر لصالح أبنائها:الأول:السلام وهو ما نسعى إليه للجزائر الأخوية،والثاني:التعاون بين الجانبين العربي والفرنسي وللجميع نفس الحقوق والواجبات).

              ثم خرج الجنرال ديغول من دار البلدية واتجه مرة أخرى نحو الجماهير،يصافحها ويناقشها في السلم والسلام بالجزائر،والتعايش السلمي بين الجميع،مع احترام الشخصية وتقرير المصير على حد قوله،وكان رد الجزائريين المتظاهرين الذين تغلبوا على الفرنسيين في العدد واستعمال العنف(تحيا الجزائر جزائرية-النصر أو الاستشهاد،يسقط الاستعمار-نموت لتحيا الجزائر حرة مستقلة... )والأعلام الجزائرية ترفرف في وجه الرئيس الفرنسي وجنرالاته وضباطه المرافقين له،واستخدم المتظاهرون الفرنسيون الذين تعززهم القوات البوليسية القوة ضد الجزائريين ووقعت معارك ومواجهات دامية وفرقت المظاهرات بالقوة وسقط في الميدان عدة شهداء وجرحى... » )11(.

          ووفق رواية قادر كلاش فإن عدداً كبيراً من المستوطنين الأوروبيين صُدموا بقوة المظاهرات في الجزائر العاصمة،فقد تحرك موكب من المتظاهرين بأعلام جزائرية ولافتات من أطراف أعالي بلكور في اتجاه شارع(تيار)سابقاً،وانطلق موكب آخر من حي الحامة إلى الشارع نفسه،وكانت المواكب منظمة يؤطرها أعضاء المحافظة على الأمن والنظام،وكان بين المتظاهرين عدد كبير من النساء والأطفال،وكان الجميع أشد ما يكونون عزماً ونظاماً وانضباطاً،وقد تلقى المتظاهرون في شارع(تيار) مجموعة من القذائف من مختلف الأنواع،وأطلق عليهم الرصاص،وقد جرحت امرأة في صدرها وكانت تحمل بين ذراعيها رضيعاً ميتاً،وسقطت في ساحة(جان دارك)سابقاً،وقد وصل الجيش على متن شاحنات عسكرية،وشرع يطلق الرصاص على الجماهير المتظاهرة،حيث سقط عدد كبير من المتظاهرين بين قتيل وجريح،وقد اتحد كل من الجيش والأقدام السوداء على قتل المتظاهرين الجزائريين في شارع أوغست كونت،غير أن هذه الجرائم المرتكبة لم تنجح في إيقاف المظاهرات،فقد تحول شارع(ألبان روزي)إلى مسرح لمظاهرة ضخمة دامت من العاشرة صباحاً إلى السادسة مساءً،فقد وقفت الجماهير تهتف بشعارات مؤيدة لجبهة التحرير الوطني،كما امتدت المظاهرات إلى حي(سلام باي)-المدنية-،وتميزت بكثافتها،واتساع رقعتها،وتجاوز المتظاهرون الآلاف ما جعل الجيش الفرنسي يحاصره بالمدرعات والدبابات )12(.

           خصصت المجاهدة مزياني مداني لويزة في كتابها«مذكرات امرأة عاشت الثورة»حيزاً لا بأس به، للحديث عن مظاهرات11ديسمبر1960م،فتطرقت في البدء إلى الخلفيات التي سبقت تلك المظاهرات،حيث نبهت إلى أنه كان لموقف ديغول من المحادثات الأولى بين الجزائر وفرنسا وتصريحاته بأن الجزائر لابد من بقائها في اتحاد مع فرنسا جملة من الآثار التي شجعت الكثير من المتطرفين الذين يصرون على بقاء الجزائر فرنسية على القيام بالمظاهرات والاحتجاجات،وتذكر بأن من قاد الفاشية الاستعمارية هو(لاقيار)الذي سبق أن ارتكب الكثير من الجرائم الفظيعة في شهر فيفري سنة:1960م،من تخريب وتقتيل،وتصف المجاهدة تلك المظاهرات الخالدة بقولها:    «نعم فلم تكد تنتهي هذه السنة:1960م حتى انفجر الوضع بالقطر الجزائري وثارت ثائرة الشعب،فحطم أول قيد كان يربطه بالاستعمار،منذ قامت الثورة الجزائرية،حطم هذا القيد الثقيل،وانتفض معبراً عن رأيه جهراً  بصراحة دون خشية أو خوف تلك هي مظاهرات11ديسمبر1960م،حيث قام الشعب في كل أرجاء الوطن(الجزائر)،وكأنه على موعد،والحق أنه ليس على موعد إلا موعد التضامن والاتحاد بين الشعب الجزائري تحت ظلال ثورته المجيدة،قام بالتصدي للعدوان والحقد الفاشي،والاستعمار الغاشم بالتضحية بالنفس والنفيس في سبيل الحرية والكرامة للجزائر الغالية ولشعبها الأبي...

          في ليلة ممطرة باردة من ليالي ديسمبر وهي:10ديسمبر1960م سمعت ليلاً الزغاريد من قلب حي(سالم باي)الذي بدأت منه المظاهرات،مظاهرات11ديسمبر1960م،فقيل إنها الحرية...ولكن هل الحرية تأتي هكذا فجأة؟وبدون مقدمات؟وخصوصاً ونحن في نكسة من محاولات أول محادثات تقرير المصير والوصول إلى السلم،هكذا غير ممكن؟كان هذا التساؤل الكبير العريض وهذه الدهشة الزائدة،هما اللذان أثارا فضول الكثير للخروج لفهم ما يجري،ولمعرفة سر تلك الزغاريد المتعالية،والزغاريد عنوان الفرح أو الجهاد،وكانت المفاجأة كبيرة،إذ تجمهرت بعض الجماعات من الشعب في الساحة الكبيرة،وهم يحملون بعض الشعارات كتحيا الجزائر والجزائر إسلامية،وهم يهتفون بكل قوة،وهذه الشعارات هي من المحرمات عند المستعمر،لو استطاع أن ينزعها من مخيلتهم ووجدانهم لفعل،وكان الناس يأتون من كل اتجاه وكل مكان بالحي بين متسائل ومندهش،يأتون ويحتشدون،ولكن سرعان ما حل موعد(حظر التجول)فتفرق الناس وباتوا في بيوتهم يحلمون،ويعدون العدة لتكرار ما حصل في اليوم التالي(أي الغد)فماذا يعدون يا ترى لاشيء سوى أعلامهم ولافتاتهم من قطع القماش التي تحمل مشاعرهم الصادقة،وإيمانهم بها،والتحدي للواقع المؤلم،والتصدي للمستعمر الظالم...

-فما هو سر هذه النبضة؟و ما هو السر في إشعال هذه المظاهرات؟إنه الكبت والقهر والألم والتحدي للظرف وما يمليه،عوامل تجمعت وسببت هذا الانفجار العظيم،وكانت هي الأسباب الحقيقية والجوهرية،وكل ما عداها فهي مسببات لا أكثر...

              وفي الصباح تحركت الجموع من الساحة الكبيرة إلى الجهات الأخرى من الحي(كديار المحصول)وباقي الجهات الأخرى في11ديسمبر1960م،ومنها إلى(حي بلكور)بينما أخذت تعم المظاهرات البلاد كلها شرقها وغربها وجنوبها...فالشعب كله عبر والشعب كله كبر الله أكبر،وكانت هذه المظاهرات بمثابة البلسم الشافي للجزائر الجريحة،وكانت داعمة وبكل قوة للكفاح البطولي الذي يخوضه المجاهدون منذ ست سنوات،وأكدت تلك المظاهرات على إرادة الشعب في نيل استقلاله وحريته وعزمه على المضي قدماً إلى الأمام حتى النصر...

           ولا يمكن نسيان صباح:11ديسمبر1960م،وأنا وسط جموع المتظاهرين الذين يجوبون الشوارع ويهتفون:تحيا الجزائر-الجزائر جزائرية،الجزائر مسلمة،تحيا جبهة وجيش التحرير الجزائري يحيا فرحات عباس وأحمد بن بلة،وقد كتب على كل السيارات –دون استثناء FLN  كما كتبت على الجدران وعلى الأرض،وفوق أقواس النصر وعلى الرايات البيضاء الخفاقة في السماء،واندفع الشعب غاضباً هادراً،يحرق سيارات العدو ويدمر متاجره،إلا من ثبت عنه أنه محايد،وانطلقت ألسنة اللهب حمراء تأكل تلك السيارات،وكأنها تأكل العدو أكلاً،واعتلى الشباب والشابات أسقف السيارات وهم يحملون الأعلام واللافتات ويهتفون باستقلال الجزائر،كما انتشرت العبارات الوطنية في كل مكان،فكان المتجول في (حي سالم باي)لا يصدق أنه في هذا الحي الذي يحاصره المستعمر وجنوده حصاراً شديداً،كل الناس خرجت،وممن لم يخرج-من المرضى مثلاً-كانوا يهتفون من الشرفات وكانت النساء يقمن برمي زجاجات العطر،وعلب السكر وذلك لحاجة الناس إليها وكذلك الأعلام من النوافذ،وقد خيطت في وقتها واستعملت لهذا الغرض في هذا اليوم المشهود،وهناك من يجول بين المتظاهرين يسقي العطشى ويروي ظمأهم-ظمأ اللهب المقدس...،كانت الفرحة عارمة،وكان رد المستعمر عنيفاً ومبيداً،وهو إطلاق النار على المتظاهرين في كل مكان،فسقط الشهداء والجرحى...

       ولا يمكنني أن أنسى أبداً يومها الدبابات خلفنا والجنود يحاصروننا في(ديار المحصول)،وأخذوا يطلقون النار،وكنت لحظتها أنتظر وأرقب أية رصاصة تخترق صدري أو رأسي أو وأنا أمشي وأنا أهتف وأنا أصرخ وبكل قوة(الجزائر عربية)،وفي غفلة مني التفت فوجدتني وبعض الأفراد فقط،وقد تفرق شمل المتظاهرين ولم يكن وراءنا إلا المدافع المنصوبة على الدبابات،أخذتني بعدها رجلاي إلى بيت من بيوت الحي،حيث استقبلتني سيدة فسقتني الماء،وأسعفتني من شدة تعبي،تابعت طريقي بعد ذلك مع الجموع إلى(حي بلكور) وكان حقد المستعمرين كبيراً،فقد كانوا يرمون المتظاهرين بأصص الزهر الثقيلة قصد قتلهم من الشرفات وهم يختفون في بيوتهم،ويصمون آذانهم عن الزغاريد المرعدة التي كانت تزيد من ثبات المتظاهرين،وتقلق المحتل الغاشم...

          والتقت الملحمة في(حي بلكور) وارتفع العلم الجزائري خفاقاً في إحدى بناياته الحكومية في شارع ليون(بلوزداد) حالياً وسقط الكثير قتلى وجرحى  ،واستعملت السيارات الشعبية لحمل الجرحى إلى مستشفى(مصطفى باشا)وإلى(المدارس العربية الحرة) وإلى المساجد وبعض البيوت التي تحولت أثناء هذه الملحمة إلى مراكز لعلاج الإصابات(ودامت هذه المظاهرات ما يقرب من أسبوع في أنحاء الجزائر،أما في وهران فكانت بداية لسلسلة من المظاهرات لم تنقطع إلا بعد مدة،وبقيت آثار التخريب ماثلة أمام العدو الغاشم أكثر من سنة...).

        بدأ دفن الشهداء في اليوم التالي من بداية المظاهرات وسقوط الضحايا-شهداء مظاهرات11ديسمبر1960م-ضحايا غدر المستعمر...بدأ في(سالم باي)و(القصبة)و(بلكور-الحراش-)و(العالية)،دفن شهداء المظاهرات التي هزت الدنيا بقوتها وشدتها وعدل مطالبها،ففي(سالم باي)بدأت النعوش  تتهادى في السيارات الكبيرة مثنى وثلاث ورباع...تتبعها الجماهير الغفيرة حاملة الأعلام،وهاتفة بالجزائر الحرة طالبة الرحمة للشهداء من الله جلت قدرته،بينما الزغايد تشق عنان السماء...تلك الزغاريد التي تعطي المرء أكثر من معنى التصدي والتحدي والحرية و الإيمان العميق والتضحية،نعم تلك التضحية الغالية التي قدمها الشعب الجزائري مضحيا بفلذات أكباده،وعلى إثر سماع تلك الزغاريد يخرج الناس ليلتحقوا بركب جنائز الشهداء،ويا لها من مظاهرة والجماهير موعدهم المقبرة مقبرة(سالم باي)،وعند المقبرة تعلق الأعلام فوق بابها كما تعلق على بعض أغصان الأشجار،ويهتف المشيعون طويلاً،ويتبادلون كلمات التشجيع والتأبين...»

             وقد حظيت مظاهرات11ديسمبر1960م، باهتمام واسع من قبل المجاهد محمد تقية في كتابه:«الثورة الجزائرية:المصدر،الرمز، والمآل»،حيث وصفها بأنها نهاية أسطورة عودة السلام في المدن الكبرى،وتكذيب صارخ لفكرة النصر العسكري،واستشهد بما ذكره أحد المؤرخين الجزائريين-لم يذكر اسمه-:«إن أيام ديسمبر1960م تكذيب صارخ لكل من يدعي جمود الجماهير، وخمولها، واستسلامها،وعدم امتثالها لتعليمات القيادة السياسية والعسكرية،إنها برهنت على وعي الجماهير، ومتابعتها عن كثب لما تقوم به القيادة، وما تأمر به،على الرغم من عدم انخراطها الفعلي في التنظيم العضوي لأسباب قاهرة،فكيف نُفسر انفجار المظاهرات في لحظة واحدة وفي مناطق متباعدة إذن،وإن لم يكن بفضل وجود عمل سري في العمق،عمل على إيقاظ الوعي تماماً مثل مطر الشتاء الذي يسمح بميلاد أزهار الربيع».

             يشير المجاهد محمد تقية إلى أن تلك المظاهرات أدت إلى ترجيح كفة الثورة في الأمم المتحدة،إذ نالت أثناء الانتخاب حول تقرير المصير يوم:20ديسمبر1960م ثلاثة وستين صوتاً مؤيداً مقابل ثمانية أصوات معارضة(وهي أصوات دول استعمارية وعنصرية مثل البرتغال وجنوب إفريقيا أو بلدان كانت في قبضة فرنسا مثل ساحل العاج ومدغشقر وفولطا العليا والكاميرون والتشاد والغابون) فيما امتنعت سبع وعشرون دولة عن التصويت وبذلك صدر أول قرار يعترف للشعب الجزائري بالحق في تقرير المصير والاستقلال

أهمية مظاهرات11ديسمبر1960م:

              لقد كان لمظاهرات11ديسمبر1960م، جملة من الانعكاسات الهامة على مسار الثورة الجزائرية العظيمة،فقد جعلت فرنسا تدرك بأنه من الاستحالة أن سكت الشعب الجزائري الثائر على مظالمها ،ومن غير الممكن أن تبقى في الجزائر،حيث أدركت«فرنسا أن بقاءها في الجزائر لن يكتب له، وأن أيامها أصبحت معدودة،رغم محاولات ارتكاب أعمال إجرامية مثل: الجرائم الفظيعة التي ارتكبتها المنظمة السرية للجيش في حق الشعب الجزائري،وهكذا جاءت مظاهرات11ديسمبر1960م، تعبيراً صادقاً  لإيمان هذا الشعب بقضيته العادلة،وأنه في مستوى التضحيات، وبمقدوره النضال سياسياً ،وعسكرياً،وما جبهة التحرير الوطني إلا المُعبر الحقيقي عن مستقبله، واستقلاله، والبوتقة التي انصهرت فيها قوته لتكون المنطق الرافض للهيمنة الاستعمارية، وعبودية المستعمر ،التي فرضت عنوة على هذا الشعب،كما أن هذه المظاهرات التي شملت ربوع الوطن استطاعت تغيير الطروحات منها الطرح العسكري،وأعطت العدو درساً في الوعي السياسي ،الذي وصل إليه الشعب الجزائري،وكشفت سياسة فرنسا  المتهرئة، التي قامت على البطش والاستعباد،فكان لا بد من إزالة ذلك بالقوة التي تجسدت في انتفاضة كان عربونها استشهاد العديد من الجزائريين فكانت العبرة وكانت الذكرى» )15(.

            يُقسم الدكتور محمد قنطاري نتائج مظاهرات11ديسمبر1960م إلى مستويين:المستوى الداخلي، والمستوى الخارجي،فعلى المستوى الداخلي«نتج عن المظاهرات خسائر فادحة في الأرواح تفاوتت تقديراتها وإحصائياتها المتضاربة بين الطرفين الجزائري والفرنسي:فالأرقام الجزائرية تقدر بأكثر من 800شهيد عبر التراب الوطني خلال المظاهرات الأسبوعية،وأكثر من1000جريح،واعتقال أكثر من1400جزائري من النساء والصبيان والشيوخ،فقد أدت تلك المظاهرات إلى:

-إبراز الوحدة الوطنية الشعبية والترابية في وحدة الصف الوطني وراء قيادة جبهة وجيش التحرير الوطني وحكومته الناطق الرسمي باسمه.

-التحرر من عقدة الخوف والمجابهة مع القوات الفرنسية المتفوقة عدة وعدداً،والتحاق ضعاف النفس والمرتدين بصفوف الثورة...والتخلي عن الإدارة الفرنسية ومصالحها المدنية والعسكرية،واتضح للجميع من هو في صفوف الثورة ومن هو في صفوف العدو...

-أدت المظاهرات إلى انتقال المعارك الطاحنة والمواجهة مع قوات العدو في المدن والقرى لتخفيف الضغط على المجاهدين في الجبال والصحاري،وتفتيت القوات الفرنسية الأمر الذي أدى إلى تحطيم الأسطورة الفرنسية وترسانتها العسكرية المعززة بجنود وسلاح الحلف الأطلسي ومن المرتزقة واللفيف الأجنبي.

-تشديد وحدات جيش التحرير الوطني في الجبال والصحاري داخل المناطق وعلى الحدود معاركها وهجماتها على القوات الفرنسية ومصالحها الإستراتيجية والاقتصادية،وتكثيف العمليات الفدائية في القرى والمدن ضد المعمرين والعملاء،وقرر مجلس الوزراء الفرنسي اتخاذ الإجراءات التالية:

أ-منع أو حظر التجول في المدن الجزائرية التي عاشت وتعيش اضطرابات ومشادات وذلك من الساعة10ليلاً ومنع التجمعات التي تزيد عن10أشخاص.

ب-طرد40شخصاً من كبار الموظفين الفرنسيين من عملهم الذين دعموا وشاركوا ووجهوا الاضطرابات تلبية لنداء(جبهة الجزائر الفرنسية).

ج-تم غلق63متجراً لمدة أسبوعين نظراً لمشاركة أصحابها في الإضراب وتحريض الشعب و  مخالفة القوانين بالجزائر العاصمة.

د-إلغاء كل المقابلات الرياضية إلى إشعار آخر...

هـ-حل(جبهة الجزائر الفرنسية)وكذلك(جبهة التحرير الوطنية للجزائر الفرنسية)التي تكونت في شهر جويلية1960 التي تضم بعض الشخصيات السياسية والعسكرية البارزة لليمين المتطرف.

           وفي العالم الخارجي انعقدت الاجتماعات الشعبية، والمنظمات الجماهيرية، من الطلبة، والعمال، والنساء، والفلاحين ،والتجار، والموظفين، والحرفيين، والجمعيات، والهيئات الثقافية، والعلمية، والدينية،والأحزاب السياسية، وغيرها من الهيئات القومية الوطنية في مسيرات، ومظاهرات، وتجمعات ،وندوات، عبر مدن وقرى العالم العربي في تضامن، وتأييد للشعب الجزائري في كفاحه العادل،وحقه في الحرية، والاستقلال، لإعادة سيادته الكاملة على أرضه،كما تم استنكارهم لجرائم الحرب الفرنسية في الجزائر من تعذيب، وتقتيل، وسجن، ونفي،وعلى سياسة الإبادة الجماعية للشعب الجزائري،والأرض المحروقة التي تتبعها فرنسا منذ سنوات طوال،وعلى كل ما يرمز للأصالة، والشخصية العربية الإسلامية في الجزائر...،وعلى المستوى الدولي قامت الجمعية العامة للأمم المتحدة بعد انتهاء المناقشات  يوم الأربعاء حول القضية الجزائرية، بالمصادقة على لائحة الكتلة الآسيوية الإفريقية التي تنص على إشراف الأمم المتحدة ومراقبتها لتقرير المصير في الجزائر،وقد كان التصويت على اللائحة كفقرات تم التصويت على مجموعها،إذ أحرزت اللائحة العامة للقضية الجزائرية على80صوتاً وامتناع8دول معارضة، حيث تنص الفقرة الأولى من اللائحة  على أن الأمم المتحدة(تعترف  بحق الشعب الجزائري في تقرير مصيره بحرية وحقه في الاستقلال...)فصوت لصالح الفقرة83دولة وامتنعت10دول معارضة.

          أما الفقرة الثانية فتنص بالضرورة الملحة على إعطاء الضمانات اللازمة وفعالية التأكيد من أن حق تقرير المصير سيطبق بحرية ونجاح وعدالة وتؤكد على احترام التراب الجزائري وسلامته،وصوتت لفائدتها73دولة مع امتناع 20دولة ودون معارضة»

                 في تقييمه لأهمية مظاهرات11ديسمبر1960م يذهب الدكتور يحيى بوعزيز إلى أن مظاهرات ديسمبر1960م كانت لها نتائج بالغة الأهمية،إذ كانت بمثابة بعث جديد للمقاومة الشعبية الجماهيرية في المدن، والحواضر الجزائرية، التي كان الاستعمار الفرنسي يدعي أنه قضى عليها تماماً،وأن الشعب الجزائري أصبح صديقاً للجيش الفرنسي الذي قام بتصفية فرق جيش التحرير الجزائري،فقد كانت دهشة الإدارة الاستعمارية كبيرة وشديدة ،عندما شاهدت ذلك الفيضان الشعبي، وهو يكتسح الساحات، ويرفع الأعلام الجزائرية،وتتعالى في وسطه الزغاريد،والجميع ينادي بحياة الجزائر،وسقوط الاستعمار الغاشم،وحياة الثورة الجزائرية، وجبهة التحرير الوطني.

             بيد أن دهشة ديغول كانت أشد وأبلغ،فقد اتضح له من خلال ما شاهده، وعاينه بنفسه، أن التقارير التي كانت تصله مزيفة، وغير صحيحة،حيث كانت تصف له خلود الشعب وسكينته،وموت جبهة التحرير الوطني في أوساط الشعب الجزائري،فقد تأكد أن السلطات الاستعمارية في الجزائر كانت تكذب عليه وتغالطه،وتصور له انهزاماتها على أنها انتصارات،وهذا ما أشارت إليه إحدى الصحف البريطانية التي ورد فيها أن:(ديغول فهم الآن أنه كان يتصور وجود قوة للأوروبيين أكثر مما هي في الواقع،كما كان يتصور أن قوة الجزائريين هي أقل مما هي عليه في الواقع).

           وقد عبر ديغول عن دهشته الكبيرة بقوله: (إن ما رأيته وسمعته هو واقع يجب أن نقبله،ويجب أن نزن به المشكلة الجزائرية بميزان صحيح).ولذلك أسرع وقطع رحلته،وعاد إلى باريس ليبدأ مرحلة جديدة وأخيرة،وهي الاعتراف بجبهة التحرير الجزائرية كممثل شرعي ووحيد للشعب الجزائري،كما أدرك ضرورة الدخول معها في مفاوضات مباشرة التي انتهت باعترافه مرغماً باستقلال الجزائر وحريتها الكاملة،فقد تأكد الفرنسيون أن نهايتهم بدأت،وأن رحيلهم عن الجزائر هو أمر لا ريب فيه،وهذا ما أشارت إليه صحيفة لوموند يوم(14ديسمبر1960م)على لسان أحد الفرنسيين الذي قال: (الآن لم يبق لنا إلا أن نحاول المحافظة على الأمن ريثما نحزم أمتعتنا ونركب الباخرة)،فرد عليه آخر بقوله: (لقد دقت ساعة الحقيقة...  )   

     الـهوامش:

(1)أنيسة بركات درّار: نضال المرأة الجزائرية خلال الثورة التحريرية،المؤسسة الوطنية للكتاب،الجزائر،1985م،ص:5.

(2)أنيسة بركات درّار: نضال المرأة الجزائرية خلال الثورة التحريرية،ص:29-30.

(3) استقينا المعلومات المتعلقة بالسيرة الذاتية للمؤلف مما كتبه عن نفسه،ينظر:الغلاف الخارجي للكتاب،د.محمد قنطاري:من بطولات المرأة الجزائرية في الثورة وجرائم الاستعمار الفرنسي،دار الغرب للنشر والتوزيع،2009م.

(4) ينظر تقديم فخامة رئيس الجمهورية السيد عبد العزيز بوتفليقة لكتاب من ملحمات المرأة الجزائرية في الثورة،وجرائم الاستعمار الفرنسي،لمؤلفه الأستاذ الدكتور محمد قنطاري،حُرر بالجزائر في يوم:19 جمادى الأولى1428هـ،الموافق:05جوان2007م،ص:7 وما بعدها.

 (5) د.محمود قنطاري:المصدر نفسه،ص:15 وما بعدها.

(6)روى الدكتور قنطاري بدايات نضالها السياسي،في ص:18-19.

(7)المصدر نفسه،ص:19وما بعدها.

(8)المصدر نفسه،ص:27وما بعدها.

(9)المصدر نفسه،ص:48-49.

(10)المصدر نفسه،ص:55-56.

(11)المصدر نفسه،ص:56.

(12)المصدر نفسه،ص:59-60.

(13)وردت قصيدة الشاعر شحاتة عبد الغني الصباغ في ص:64.

(14)المصدر نفسه،ص:119.

(15)المصدر نفسه،ص:121.

(16)المصدر نفسه،ص:128.

(17)المصدر نفسه،ص:155.

(18)المصدر نفسه،ص:161 وما بعدها.

(19)المصدر نفسه،ص:175 وما بعدها.

(20)محمد الصالح الصديق،خلاصة الكتاب،ص:227.

(21) محمد الصالح الصديق ،المصدر نفسه،ص:227-228.

(22)المصدر نفسه،ص:228 وما بعدها.

(23)المصدر نفسه،ص:230.
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف