عبود الجابري
والتماهي بين الإنسان والمكان
القصيدة:
"شارعٌ ضيّق أنا
على جانبيّ رصيفان من الحزن
وعشبٌ ذابلٌ يتلصّص على خزائن الندى
رصيفان بلونٍ كالح
يلوّنُهما عمّال البلدية مرّة في كلّ عام
بالأصفرِ
يسلبُ بهجتَه طغيانُ الأسوَد
وقد يترك على قميصهِ لطخةً من سواد
شارعٌ واضحٌ انا
تخنقني شاخصةٌ تشير إليّ
وعرباتٌ تصطفُّ كالوحوش على أطرافي
ويقلق نومي
أنّهم سيهدمون مبنىً آيلاً للموت
ليملأوا حياتي بالركام"
الجميل في هذه القصيدة أن الشاعر يصهر/يذيب نفسه بالشارع، حتى أنه لا يكان يظهر لنا كإنسان، بل كمكان/كشارع، وهذا يأخذنا إلى طرح بعض الأسئلة: هل يمكن للمكان أن يعكس غضب الإنسان، وهل يمكن أن يكون المكان حاملا للبؤس الإنساني؟، وكيف يستطيع الإنسان أن يختفي في المكان/وراء المكان؟، وهل هذا التناول ـ رغم سلبيته ـ يعكس حالة الحب التي يكنها الشاعر للمكان، أم حالة الحنق والغضب عليه؟.
يمكننا ان نجد بعض الإجابات على هذه الأسئلة من خلال القصيدة، وسأبدأ بالسؤال الأخير، المتعلق بالحب أم بالحنق والغضب، اعتقد أن استخدام الشاعر لصيغة المثنى تحمل شيئا من (الميل) للمكان، حيث أن المثنى يحمل معنى (الجمع/اللقاء)، لهذا عندما استخدم الشاعر ألفاظ: "جانبي، رصيفان (مكررة)، يلونهما" فهذه اشارة إلى ما يحمله العقل الباطن من (ميل/تعاطف) مع المكان "الشارع"!، هكذا يبدو التحليل المجرد لصيغة المثنى.
ولكن المثنى هنا جاء على شكل حصار وضيق وليس على هيئة حب اللقاء، وهذا يأخذنا إلى فكرة (تداخل الصيغة الجميلة) لخدمة فكرة سوداء، بمعنى أن (الجمع/اللقاء الجميل) يخدم فكرة سوداء، وهذا يعمق أكثر فكرة السواد، والتي تصل إلى حد القتامة، وهذا (الانقلاب) في الاستخدام المثنى له أثر (جمالي) على القصيدة، التي تقدم فكرة سوداء (بصيغة) جمال.
ويمكننا أيضا الاعتماد على الألوان المذكورة في القصيدة، لمعرفة ما يحمله "عبود الجابري" من مشاعر، بعيدا عن المعنى المطروح في القصيدة، فهناك ألفاظ متعلقة بالون بطريقة غير مباشرة "عشب/اخضر، الشارع/أسود، الرصيف/رمادي، شاخصة/بيضاء أو خضراء، عربات/ملونة" وهناك ألفاظ لها علاقة باللون مباشرة: " كالح، بالأصفر، الأسود/ سواد" إذا ما توقفنا عند الالوان غير المباشرة سنجد يغلب عليها سمة (فوضى الالوان) بمعنى أنها تعبر عن حالة المعاناة والاضطراب.
وأيضا الالوان الصريحة "كالحة، أصفر، الأسود، سواد" تعبر أيضا عن السواد، من هنا يمكننا القول أن حالة الغضب تهيمين على القصيدة من خلال الالوان، إن كانت مباشرة أو غير مباشرة.
أما بالنسبة لإسقاط الأنا/الذات على المكان وتحميله الهموم والغضب، فهذا نجده من خلال الحديث عن مكان عام "شارع" وليس مكان خاص، مثل عمان، بغداد، دمشق ...، فالحالة الأولى ذكر (المكان العام) تعكس حالة الامتعاض التي يمر بها الكاتب/الشاعر، بينما في الحالة الثانية تعكس الحب والحنين، وهذا ما نجده في الأدب الفلسطيني والعراقي والسوري، الذي يستخدم (ذكر المكان) كجزء من كيانه، من حضوره ووجوده، أما عندما يتم تغيب اسم المكان، فإن هذا يعكس حالة الاحتقان والغضب الذي يحمله الشاعر، بحيث أن ـ العقل الباطن ـ يتعمد تجاهل اسم المكان أو ذكره، مؤكد على هذا النفور من المكان، بذكر شيء عام فيه، موجود في كافة الأماكن الأخرى، مما يعطي سمة عامة للاحتقان، تتجاوز الأماكن والجغرافيا.
اليأس
هناك بعض التعابير التي تشير إلى أن الماء سراب، والأمل ضائع: مثل: "وعشبٌ ذابلٌ يتلصّص على خزائن الندى" فالشاعر اقرن العشب بذابل، وخزائن بالندى (قليلة الماء)، وإذا ربطنا العشب الذابل بالندى/قلة الماء، تكون الصورة مترابطة ومكتملة.
وإذا تقدمنا من الألفاظ المجردة، سنجد حالة السواد تغلب عليها: "ضيق، الحزن، ذابل، يتلصص، كالح، يسلب، طغيان، الأسود، لطخة، سواد، تختفي، كالوحوش، ويقلق، سيهدمون، للموت، بالركام" وما يعزز حالة اليأس الأفعال المضارعة السوداء: "يتلصص، يسلب، تختفي، تصطف، سيهدمون، ليملأوا" فغالبا ما يأتي الفعل الماضي ليعبر عن حالة الحزن عند الشاعر/الأديب، لكن عندما يستخدم الفعل المضارع فإن هذا يشير إلى تفاقم الأزمة، عند الشاعر، والتي وصلت إلى الحضيض، بحيث لم تترك له أي نافذة أو شعاع.
السواد والجمال
إذن نحن أمام قصيدة معبئة بالسواد، وهنا، قدر يأتي ويطرح بعض الأسئلة: "ما هو الجيد في قصيدة سوداء ومؤلمة؟، وهل نحن بحاجة إلى من يزيد علينا الألم والغم؟، وما فائدة هذا الأدب الذي يزيدنا حزنا وبؤسا؟، نجيب أن هذا الألم والسود تم (تغليفه) بألوان جميلة، بحيث تخفف على المتلقي من القسوة والسواد، وحتى يمكن أن تخفيه، فالصور الشعرية التي استخدمها الشاعر واللغة اسهمت في اخفاء السواد وجعله (مقبولا)، فيكفنا أن نأخذ هذه المقطع:
" وعرباتٌ تصطفُّ كالوحوش على أطرافي
ويقلق نومي
أنّهم سيهدمون مبنىً آيلاً للموت
ليملأوا حياتي بالركام"
لنستمع به، فتحويل العربات إلى وحوش، والمبنى ليملأ الشاعر بالركام، صورة رائعة، تسهم في تخفيف حدة الألم على القارئ، ولكنها في ذات الوقت توصل الفكرة، كما أن تقديم القصيدة من خلال مقطعين : "شارعٌ ضيّق أنا/ شارعٌ واضحٌ انا". اسهم في تخفيف فكرة الألم والقسوة، وكأن الشاعر كان ـ في عقله الباطن ـ يعلم أن هناك قاتمة في القصيدة، فأراد أن يخفف علينا شينا من قسوتها، من خلال تقديمها على دفعتين، وهذه اشارة من الشاعر ـ غير مباشرة ـ على اهتمامه بمشاعرنا ونفسيتنا، تسهم في (تقلبنا) على ما طرحه في القصيدة، كل هذا يجعل الفكرة ـ رغم قسوتها ـ تصل إلى القارئ بأقل الأضرار.
القصيدة منشورة على صفحة الشاعر.
والتماهي بين الإنسان والمكان
القصيدة:
"شارعٌ ضيّق أنا
على جانبيّ رصيفان من الحزن
وعشبٌ ذابلٌ يتلصّص على خزائن الندى
رصيفان بلونٍ كالح
يلوّنُهما عمّال البلدية مرّة في كلّ عام
بالأصفرِ
يسلبُ بهجتَه طغيانُ الأسوَد
وقد يترك على قميصهِ لطخةً من سواد
شارعٌ واضحٌ انا
تخنقني شاخصةٌ تشير إليّ
وعرباتٌ تصطفُّ كالوحوش على أطرافي
ويقلق نومي
أنّهم سيهدمون مبنىً آيلاً للموت
ليملأوا حياتي بالركام"
الجميل في هذه القصيدة أن الشاعر يصهر/يذيب نفسه بالشارع، حتى أنه لا يكان يظهر لنا كإنسان، بل كمكان/كشارع، وهذا يأخذنا إلى طرح بعض الأسئلة: هل يمكن للمكان أن يعكس غضب الإنسان، وهل يمكن أن يكون المكان حاملا للبؤس الإنساني؟، وكيف يستطيع الإنسان أن يختفي في المكان/وراء المكان؟، وهل هذا التناول ـ رغم سلبيته ـ يعكس حالة الحب التي يكنها الشاعر للمكان، أم حالة الحنق والغضب عليه؟.
يمكننا ان نجد بعض الإجابات على هذه الأسئلة من خلال القصيدة، وسأبدأ بالسؤال الأخير، المتعلق بالحب أم بالحنق والغضب، اعتقد أن استخدام الشاعر لصيغة المثنى تحمل شيئا من (الميل) للمكان، حيث أن المثنى يحمل معنى (الجمع/اللقاء)، لهذا عندما استخدم الشاعر ألفاظ: "جانبي، رصيفان (مكررة)، يلونهما" فهذه اشارة إلى ما يحمله العقل الباطن من (ميل/تعاطف) مع المكان "الشارع"!، هكذا يبدو التحليل المجرد لصيغة المثنى.
ولكن المثنى هنا جاء على شكل حصار وضيق وليس على هيئة حب اللقاء، وهذا يأخذنا إلى فكرة (تداخل الصيغة الجميلة) لخدمة فكرة سوداء، بمعنى أن (الجمع/اللقاء الجميل) يخدم فكرة سوداء، وهذا يعمق أكثر فكرة السواد، والتي تصل إلى حد القتامة، وهذا (الانقلاب) في الاستخدام المثنى له أثر (جمالي) على القصيدة، التي تقدم فكرة سوداء (بصيغة) جمال.
ويمكننا أيضا الاعتماد على الألوان المذكورة في القصيدة، لمعرفة ما يحمله "عبود الجابري" من مشاعر، بعيدا عن المعنى المطروح في القصيدة، فهناك ألفاظ متعلقة بالون بطريقة غير مباشرة "عشب/اخضر، الشارع/أسود، الرصيف/رمادي، شاخصة/بيضاء أو خضراء، عربات/ملونة" وهناك ألفاظ لها علاقة باللون مباشرة: " كالح، بالأصفر، الأسود/ سواد" إذا ما توقفنا عند الالوان غير المباشرة سنجد يغلب عليها سمة (فوضى الالوان) بمعنى أنها تعبر عن حالة المعاناة والاضطراب.
وأيضا الالوان الصريحة "كالحة، أصفر، الأسود، سواد" تعبر أيضا عن السواد، من هنا يمكننا القول أن حالة الغضب تهيمين على القصيدة من خلال الالوان، إن كانت مباشرة أو غير مباشرة.
أما بالنسبة لإسقاط الأنا/الذات على المكان وتحميله الهموم والغضب، فهذا نجده من خلال الحديث عن مكان عام "شارع" وليس مكان خاص، مثل عمان، بغداد، دمشق ...، فالحالة الأولى ذكر (المكان العام) تعكس حالة الامتعاض التي يمر بها الكاتب/الشاعر، بينما في الحالة الثانية تعكس الحب والحنين، وهذا ما نجده في الأدب الفلسطيني والعراقي والسوري، الذي يستخدم (ذكر المكان) كجزء من كيانه، من حضوره ووجوده، أما عندما يتم تغيب اسم المكان، فإن هذا يعكس حالة الاحتقان والغضب الذي يحمله الشاعر، بحيث أن ـ العقل الباطن ـ يتعمد تجاهل اسم المكان أو ذكره، مؤكد على هذا النفور من المكان، بذكر شيء عام فيه، موجود في كافة الأماكن الأخرى، مما يعطي سمة عامة للاحتقان، تتجاوز الأماكن والجغرافيا.
اليأس
هناك بعض التعابير التي تشير إلى أن الماء سراب، والأمل ضائع: مثل: "وعشبٌ ذابلٌ يتلصّص على خزائن الندى" فالشاعر اقرن العشب بذابل، وخزائن بالندى (قليلة الماء)، وإذا ربطنا العشب الذابل بالندى/قلة الماء، تكون الصورة مترابطة ومكتملة.
وإذا تقدمنا من الألفاظ المجردة، سنجد حالة السواد تغلب عليها: "ضيق، الحزن، ذابل، يتلصص، كالح، يسلب، طغيان، الأسود، لطخة، سواد، تختفي، كالوحوش، ويقلق، سيهدمون، للموت، بالركام" وما يعزز حالة اليأس الأفعال المضارعة السوداء: "يتلصص، يسلب، تختفي، تصطف، سيهدمون، ليملأوا" فغالبا ما يأتي الفعل الماضي ليعبر عن حالة الحزن عند الشاعر/الأديب، لكن عندما يستخدم الفعل المضارع فإن هذا يشير إلى تفاقم الأزمة، عند الشاعر، والتي وصلت إلى الحضيض، بحيث لم تترك له أي نافذة أو شعاع.
السواد والجمال
إذن نحن أمام قصيدة معبئة بالسواد، وهنا، قدر يأتي ويطرح بعض الأسئلة: "ما هو الجيد في قصيدة سوداء ومؤلمة؟، وهل نحن بحاجة إلى من يزيد علينا الألم والغم؟، وما فائدة هذا الأدب الذي يزيدنا حزنا وبؤسا؟، نجيب أن هذا الألم والسود تم (تغليفه) بألوان جميلة، بحيث تخفف على المتلقي من القسوة والسواد، وحتى يمكن أن تخفيه، فالصور الشعرية التي استخدمها الشاعر واللغة اسهمت في اخفاء السواد وجعله (مقبولا)، فيكفنا أن نأخذ هذه المقطع:
" وعرباتٌ تصطفُّ كالوحوش على أطرافي
ويقلق نومي
أنّهم سيهدمون مبنىً آيلاً للموت
ليملأوا حياتي بالركام"
لنستمع به، فتحويل العربات إلى وحوش، والمبنى ليملأ الشاعر بالركام، صورة رائعة، تسهم في تخفيف حدة الألم على القارئ، ولكنها في ذات الوقت توصل الفكرة، كما أن تقديم القصيدة من خلال مقطعين : "شارعٌ ضيّق أنا/ شارعٌ واضحٌ انا". اسهم في تخفيف فكرة الألم والقسوة، وكأن الشاعر كان ـ في عقله الباطن ـ يعلم أن هناك قاتمة في القصيدة، فأراد أن يخفف علينا شينا من قسوتها، من خلال تقديمها على دفعتين، وهذه اشارة من الشاعر ـ غير مباشرة ـ على اهتمامه بمشاعرنا ونفسيتنا، تسهم في (تقلبنا) على ما طرحه في القصيدة، كل هذا يجعل الفكرة ـ رغم قسوتها ـ تصل إلى القارئ بأقل الأضرار.
القصيدة منشورة على صفحة الشاعر.