الأخبار
"التربية" توضح طبيعة أسئلة امتحان الثانوية العامة لطلبة غزةسلطة النقد تصدر تعليمات للمصارف برفع نسبة الإيداعات الإلكترونية لمحطات الوقود إلى 50%يوم دامٍ في غزة: أكثر من 100 شهيد وعشرات الجرحى والمفقودينإعلام إسرائيلي: نتنياهو يبحث "صيغاً مخففة" لإنهاء الحرب على غزةجيش الاحتلال يعلن اعتراض صاروخ أُطلق من اليمنأول اتصال هاتفي بين بوتين وماكرون منذ ثلاث سنواتبالأسماء.. الاحتلال يفرج عن 14 أسيرًا من قطاع غزةتوجيه تهم القتل والشروع به لـ 25 متهماً في قضية الكحول بالأردنالسعودية تسجل أعلى درجة حرارة في العالم خلال الـ24 ساعة الماضيةمصر: أمطار غزيرة تفاجئ القاهرة والجيزة رغم ارتفاع درجات الحرارةمسؤولون إسرائيليون: تقدم في محادثات صفقة المحتجزين.. والفجوات لا تزال قائمة(كان): قطر تسلّم إسرائيل مقترحًا جديدًا لوقف لإطلاق النار في غزةترامب: سأكون حازمًا مع نتنياهو بشأن إنهاء حرب غزة وأتوقع هدنة خلال أسبوعوزير الخارجية المصري: خلافات تعرقل الهدنة في غزة والفرصة لا تزال قائمة للتوصل لاتفاقجامعة النجاح الوطنية: الجامعة الفلسطينية الوحيدة في تصنيف U.S. News لأفضل الجامعات العالمية 2025/2026
2025/7/2
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

المدينة العتيقة بأسفي : الواقع ورهانات التجديد بقلم :د. منير البصكري

تاريخ النشر : 2020-07-09
المدينة العتيقة بأسفي : الواقع ورهانات التجديد
بقلم : الدكتور منير البصكري

  أضاف غير قليل من الباحثين معلومات جيدة تسعف في تكوين بعض الملامح التاريخية والجغرافية عن مدينة أسفي. وهناك إضافات أخرى تعتبر من أهم وأدق الشهادات حول المدينة، سواء من حيث وصفها من الناحية العمرانية أو من الناحية الثقافية وغيرهما[1].
   وإذا حاولنا أن نتصور ظروف نشأة المدينة كمدينة، والإمكانات التي جعلتها فعلا مدينة قائمة بذاتها، يتبين لنا أنه لا يكفي أن تنشأ كمدينة، بل المهم أن تستمر في التاريخ، وأن تصمد طيلة الزمان. إذ في حالة صمود مدينة ما، فهذا يعني أن اختيار الموقع، لا بد أن تكون له أهمية وظروف ملائمة.
ومع ذلك، نشأت المدينة، وكان لها منذ البداية اتصال عبر المحيط الأطلسي الذي يعتبر سببا في إنشائها  لأنه من وراء المحيط إلى الشمال، كانت توجد سوق استهلاكية تستقطب المواد الآتية من أسفي أو من المدن المغربية الأخرى. وهذه السوق تروج بها أموال كثيرة، وبحاجة إلى مواد خام تأتي من إفريقيا وتعبر إليها من الداخل من الداخل عبر سبتة أو من المحيط عبر مدينة أسفي، أو من الشواطئ المغربية الأخرى.
   إضافة إلى ما سبق، هناك مواد زراعية كانت متوفرة ومطلوبة بالأندلس وفي الدول الغربية التي كان لها اتصال بمدينة أسفي في القرون الوسطى. وهكذا نشأت المدينة ( أسفي ) وكان لها دور مهم عبر تاريخها الطويل، إلى أن شملها التوسع الحضري الحديث.
    ومن المعلوم أن المغرب قد شهد منذ مطلع القرن الحديث انفجارا حضريا متميزا. وهذا الانفجار ما فتئ يتكاثف في السنوات الأخيرة، الأمر الذي أدى إلى ظهور مجموعة من المشاكل المتعددة الأبعاد:
اقتصادية، اجتماعية وعمرانية. ومن ثمة، فإن هذه المداخلة ستركز على بعض الجوانب  الأصيلة بالنسبة للمدينة العتيقة بأسفي.
   فلا يخفى على أحد أنه عند بداية القرن العشرين، كانت هذه المدينة من بين أهم حواضر المغرب التي يرجع وجودها إلى عهد قديم على حد ما أشرنا إليه سابقا. ورغم ما أصابها من ركود اقتصادي وعمراني نسبي خلال القرن التاسع عشر. فالبيئة الحضرية الموروثة كانت تشكل رصيدا جماليا ستعتمد عليه أسفي للانطلاقة والتطور في الفترات اللاحقة.
   يظهر إذن أن أسفي عند مطلع القرن العشرين كانت تتوفر على عدد من المؤهلات التي يجوز أن نتوقع أن من شأنها توجيه المدينة نحو أدوار طلائعية في سياق التغيرات التي رافقت دخول الاستعمار الأوروبي إلى المغرب. لكن رغم كل هذا، فالتطور الذي سيحدث لن يتميز بالانتظام، ذلك أن توسع المدينة في الفترة الاستعمارية قد مر بمجموعة من المراحل نوجزها فيما يلي :
ـ مرحلة الركود النسبي إلى غاية 1936
ـ مرحلة الانطلاقة السريعة : 1936 ـ 1956
ـ مرحلة الاستقلال : 1956  إلى اليوم
    لقد كان المجال الحضري لأسفي يقتصر على " المدينة العتيقة المحاطة بالأسوار البرتغالية الأصل، ولم يكن خارج هذه الأسوار أثر للبناء، اللهم ما كان من حي صغير يحيط برباط الشيخ أبي محمد صالح .
   فالمدينة العتيقة بأسفي، لا تختلف من حيث شكلها ووظائفها وتنظيمها عن باقي المدن العتيقة المغربية. فلقد تم توسيع المدينة مع بداية الاستعمار الفرنسي في اتجاه الجنوب، وهذا الاتجاه، كيفته الأوضاع التضاريسية بالدرجة الأولى[2]. لكن، إلى أي حد ستعرف المدينة العتيقة بأسفي اهتماما بحكم ما تتوفر عليه من رصيد عمراني أصيل ومتنوع؟ هل تمت المحافظة على المواقع والمآثر التاريخية وباقي الأنسجة العمرانية الأخرى؟ فالمدينة العتيقة  بأسفي، تفردت كغيرها من المدن العتيقة الأخرى بسمات خاصة في طليعتها الأنشطة السكانية. ومن ثمة، تحتل مكانة مرموقة كما هو الحال بالنسبة لمدن فاس وصفرو ومراكش ومكناس ...

   هل استطاعت المدينة أن تصمد أمام عوامل المناخ والتحولات الاجتماعية التي عرفتها عبر التاريخ؟
   لا بد من الإشارة إلى أن مدينة أسفي شهدت عدة تحولات بالنظر لأهمية موقعها الجغرافي؛ فقد لعبت عبر التاريخ أدوارا طلائعية، بحيث عرفت تعاقب الحضارات باعتبارها ممرا استراتيجيا للرحلات والاكتشافات البحرية والبرية.
فلا يجادل أحد في كون مدينة أسفي من بين الحواضر الثقافية المغربية الضاربة جذورها في عمق التاريخ، وبالرغم من كل ما ذكر، إلا أنها تعيش حاضرا غامضا أدى إلى طمس وإخفاء تاريخ رائع من التمازج الاجتماعي و الثقافي.

    فمدينة أسفي بمقوماتها الحضارية، لازالت صامدة بأنسجتها العمرانية القديمة[3]، ومن ثمة، نحاول اليوم من خلال هذه الدراسة، سبر أغوار ملف مؤهلاتها الثقافية والعمرانية والحضارية، والتي طالها النسيان وأمعن المسؤولون والتاريخ معا في بخس قيمتها الإنسانية… وبنبشنا لهذا الملف نتطرق لمعالمنا التاريخية المنتشرة عبر ربوع المملكة المغربية، والتي طالها النسيان والإهمال والتي تتوارى تباعا في صمت وتسدل الستار عن حقبة زمنية من تاريخ المغرب، ولعل آخر صرخة لساكنتها كانت جراء ما وقع لقصر  البحر ولغيره من الأبراج والأسوار المحيطة بالمدينة العتيقة بأسفي. فهذه المآثر العمرانيةـ عبثا ـ تحاول تحدي التغيرات المناخية. فمثلا "قصر البحر"[4] يواجه انكسارات قوية للأمواج البحرية وعوامل التعرية، أحدثتا انهيارات كبيرة، كانت سببا في تسرب المياه بشكل كبير تحت الصخرة التي شيد فوقها، كما أن الخط السككي الذي يحاذيه والقريب من المدينة القديمة، يعد سببا في حدوث تصدعات وتشققات في أسواره و أسوار المدينة، نتيجة الاهتزازات المتكررة جراء مرور القطار من هذا الخط السككي.

    وتؤكد بعض الدراسات العلمية على أن الجرف المحاذي للمدينة القديمة بأسفي، لا يهدد فقط بانهيار قصر البحر، وإنما يهدد المساكن المجاورة التي ظهرت الرطوبة على جدرانها، مما يجعلها آيلة للسقوط في أي وقت. و في هذا  السياق يقول "أبو القاسم الشبري" رئيس مركز الدراسات والأبحاث حول التراث المغربي البرتغالي: « إن نسبة تآكل الصخور، تعدت المساحة التي يحتلها القصر والبالغة 3900 متر، ليمتد زحف الأمواج نحو أساسات شارع الرباط، المحاذي للموقع، إضافة إلى جزء من حي المدينة العتيقة، والمقاهي والمرافق المحتلة لواجهته والمطلة على البحر، ومنها فرع لبنك المغرب»[5]. وفي إطار ما سردنا، نجد انهيار جزء كبير من السور البرتغالي المتصل بالقصبة العليا لدار السلطان؛ فقد أصبحت جل المآثر العمرانية عرضة للتهميش، نذكر منها على سبيل المثال: "رحات  الريح"[6] المتواجدة داخل أسوار المدينة القديمة، و"الكاتدرائية البرتغالية"[7] التي تكالب عليها الزمن، وطالها الهدم والتخريب والتصدعات والتشققات التي صارت تهدد جميع الأنسجة العمرانية بالمدينة العتيقة بأسفي، والتي تعتبر بمثابة وجهة ثقافية وسياحية تعرف بتاريخ المدينة العريق. فكل ما ذكر يقودنا لطرح تساؤلات من قبيل: هل هناك تطور ملموس في تدبير المدينة؟ هل هناك اهتمام بالمدينة العتيقة باعتبارها مجالا جغرافيا لعيش الإنسان، و مجالا لانتمائه الاجتماعي والثقافي؟

1-    التطورات التي عرفها تدبير المدينة:

    يشكل موضوع "المدينة العتيقة"[8] إحدى اهتمامات وانشغالات السلطات العمومية لكونها تجسد رهانات عدة (سياسية، اقتصادية، اجتماعية، ثقافية…)، هذا الاهتمام كان حاضرا منذ أربعة عقود من خلال وضع عدة مخططات وبرامج تنموية تهم المدينة وإعداد التراب والمجال الحضري بصفة عامة، لكن مع تأخر إنجاز المشاريع الحضرية وتفاقم مشاكل المدن في السنوات الأخيرة (إهمال المدن العتيقة، تزايد أحياء الصفيح، تطور الأحياء الهامشية..) برز وعي ورغبة في النهوض بالمدينة والدفع بها نحو مسار التنمية، وهو ما تجسد من خلال بلورة سياسة جديدة تسمى “سياسة المدينة"[9]. إن المدن العتيقة في كل أرجاء العالم تعتبر فضاء للتفاعلات والعلاقات الاجتماعية، والاقتصادية ومجالا للرقي الاجتماعي، كما تحتل مكانة هامة في اختيارات التهيئة والتخطيط الاستراتيجي والتدبير الحضري، هذه المدن عرفت مشاكل وصعوبات في توسع وامتداد نسيجها العمراني، والمغرب لا يشكل استثناء بهذا الخصوص.

     فالمدينة العتيقة ، سواء في أسفي أو في غيرها من المدن العتيقة الأخرى تتطلب لأجل تجاوز أزماتها المتعددة، وضع تصور شمولي استراتيجي، أي الخروج من نطاق سياسات محدودة لا تمس بنية المدينة في العمق إلى سياسات عمومية أكثر شمولية وتدبيرا أكثر عقلانية. وهذا لا يتأتى، إلا من خلال إشراك الإنسان باعتباره محورا للتنمية والتغيير الإيجابي .فلا تنمية دون الإنسان باعتباره المحور الأساس لأي تنمية مرتقبة، لأنه يتخذ من المدن العتيقة مجالا لعيشه وانعكاسا لنمط تفكيره. فتنمية هذه المجالات الحضرية وتهيئتها، لا يمكن أن يتم دون تنمية روح المبادرة لدى الساكنة في الحفاظ عليها، وعقد شراكات مع الجمعيات التي تهتم بتراث المدينة الذي يعتبر جزءا من ذاكرتنا الجماعية التاريخية والحضارية والثقافية، و أيضا عقد شراكات مع الجهات المسؤولة للاهتمام بالمدينة العتيقة وتهيئتها.  فالمدن العتيقة في العديد من الدول، تعد بوابة للتنمية الاقتصادية و الإنتاج و المنافسة الاقتصادية. مما يؤثر إيجابا على الساكنة التي تستفيد من ثمار التنمية.

    بالموازاة مع ذلك، فالمدن العتيقة في المغرب بشكل عام، لازالت متأخرة عما حصل من تطور وتنمية في المدن الغربية، بحيث إن القائمين على الشأن الحضري في بلدنا لم

يقوموا بتهيئة وتطوير المدينة بالشكل الذي يضمن خلق شروط وآليات توفير عيش كريم للمواطنين في إطار تنمية اقتصادية واجتماعية مستدامة، هذا راجع أساسا إلى النهج الذي اتبع منذ عقود في تسيير المدن، بحيث إن المنطق التدبيري كانت تغلب عليه المقاربة الأمنية بدلا من المقاربة التنموية في ظل ضعف انخراط المؤسسات المنتخبة، والمدبرة لشأن المدينة، وقلة المبادرات والمشاريع التنموية، علاوة على قلة ومحدودية الموارد المالية،  وأيضا الموارد البشرية. كل ذلك ساهم في تضييع فرص الإقلاع بقاطرة التنمية في كل المجالات وخاصة البشرية، مما جعل المدينة تعيش أزمة هيكلية بكل أبعادها التدبيرية والعمرانية والاجتماعية والاقتصادية .إن مفهوم تدبير المدينة يعني إدارة الشؤون المحلية (الاقتصادية والاجتماعية)، وبرمجتها بالنظر إلى الإمكانيات المتاحة. سواء تعلق الأمر بالتدبير اليومي أو المستقبلي، فهي بصيغة أخرى، تفيد مدى قدرة المؤسسات والأطراف الفاعلة في حقل المدينة على إدارة الموارد المالية والبشرية الموضوعة رهن إشارتها، ووضع مخطط للتنمية على المدى القصير والبعيد،  بما يسهم في تغيير الأوضاع في المدينة وتحقيق التنمية المستدامة لساكنتها. فالمدينة كظاهرة حضرية تعرف العديد من الإشكاليات والصعوبات على مستوى التدبير والإعداد، وهي إشكاليات حقيقية ليست وليدة الحاضر بل كان منشؤها منذ عهد الحماية الفرنسية، التي نهجت سياسة حضرية تمييزية، بحيث أنشأت المدن الحديثة واستقطبت الاهتمام سواء من حيث التجهيزات الأساسية والاستثمارات في مجالات متعددة، وشجعت بالتالي الهجرة إليها بينما دخلت المدن العتيقة في دائرة الإقصاء.

      وبعد الاستقلال شهدت المدن المغربية (الكبرى والصغرى)، على إثر النمو الديمغرافي والهجرة القروية توسعا كبيرا الشيء الذي أصبحت معه البنية الاجتماعية معقدة، وأصبح معه كذلك تدبير المدن العتيقة المغربية مشكلا متعدد الأبعاد اجتماعيا واقتصاديا، وحتى سياسيا بسبب المشاكل الناجمة عن التدهور والانحطاط الحضري والتطور الفوضوي، والتوزيع غير المتوازن للتجهيزات وغير ذلك من مظاهر التخلف الحضري، وهي آثار لازالت تعاني منها جل المدن العتيقة المغربية وليست فقط المدينة العتيقة بأسفي، بالرغم من الجهود المبذولة من طرف السلطات المركزية والمحلية من أجل الرفع من مستوى تدبير الشأن المحلي وتحقيق التنمية المحلية والوطنية على حد سواء.

2-    إكراهات تدبير المدينة بين التجديد والحفاظ على الخصائص العمرانية للمدينة:

   تعرف حاضرة المحيط ( أسفي )مجموعة من المجهودات المبذولة لتأهيل المآثر التاريخية وترميمها، خاصة المآثر التي تنتمي للمدينة العتيقة، كالأسوار و محاولة الحفاظ

على خصائصها العمرانية من خلال استخدام مواد بناء تقليدية يتم إعدادها وفق "شروط البناء القديمة"[10] التي كانت عليها هذه المآثر، لكن هناك مجموعة من الإكراهات كضعف الحكامة التي تتجلى غالبا في سوء التدبير، وقلة التخطيط وعدم وضع تصور شمولي لإشكاليات المدينة. وعلى هذا الأساس نجمل هذه الإكراهات في المستوى العمراني و سبل نهج سياسة المدينة لإعادة الاعتبار للمآثر العمرانية. كالتالي :

أولا: المستـوى العمرانـي

     تجذر الإشارة، إلى أن المدينة العتيقة في أسفي كغيرها من المدن المغربية تواجه مجموعة من الإكراهات؛ خاصة المنازل الآيلة للسقوط، وهنا تطرح إشكالية الترميم التي تستدعي ترميم هذه البيوتات، لكن وفق شروط المحافظة على بعدها المعماري الذي كانت عليه سابقا، ونقصد الشكل الهندسي والنقوش والزليج؛ فمراعاة هذه الشروط التقنية والهندسية يحميها من طمس معالمها العمرانية. لكن المدينة العتيقة اليوم تواجه مجموعة من الإكراهات تتجلى في الترميم العشوائي لبعض الدور الذي يسيء لمعالمها التاريخية، ويشوه فضاءها الأثري، و تم تخريب مجموعة من البيوتات والمدارس التاريخية "كمدرسة القبة"، وهناك أيضا إشكالية أخرى تواجه المدينة العتيقة، تتمثل في بيع المنازل التاريخية الكبيرة لبعض الأجانب الذين يغريهم سحر زخارفها، ليتم تحويلها لمشاريع سياحية؛ فيطلق عليها اسم "بيوت الضيافة". 

    إضافة إلى ما سبق ذكره؛ فالنمو العمراني أدى أيضا إلى بروز مدن صاعدة ومراكز متوسطة ما تلبث أن تصبح أمرا قائما ، تحمل مطالب وتحديات اقتصادية واجتماعية، تدفع بالسلطات المركزية والمحلية التدخل لأجل تلبية حاجياتها وتنظيمها وتوفير المرافق الضرورية .

   إن التوسع العمراني العشوائي أصبح إحدى السمات الأساسية للمدن المغربية بكل أحجامها وهو تعبير بامتياز عن غياب التنظيم الحضري، على حد أصبحت معه صورة المدن مرتبطة بالفوضى التي تعم هوامشها الخارجية والداخلية، فنمو المدن يؤدي إلى تفاقم عدة مشاكل يصعب إيجاد حلول لها، ومن ضمنها توسع الحواضر. فالتمدد الحضري الذي أصبح عاملا لإعادة إنتاج الحلول الفردية على حساب التنظيم الحضري الرسمي العام، يفرض على المدبرين المحليين وعلى الساكنة نموذج تمدن جد مكلف، على المدى القصير والطويل، وذلك بالنسبة للمجتمع ككل.[11] وهنا يطرح سؤال جوهري: كيف يمكن اعتماد سياسة المدينة للحفاظ على الخصائص العمرانية للمدينة العتيقة؟ وفي نفس الوقت تنمية هذه المآثر وجعلها فضاء للتنمية والتعايش؟  

   ثانيا: توظيف سياسة المدينة في التنمية الحضرية:

     تنطلق سياسة المدينة من أهداف ومرجعيات في توجيه التنمية الحضرية، والنهوض بالمدينة لجعلها فضاء للتنمية والتعايش من عدة مقاربات:

§         مقاربة الإصلاح: وهي تستهدف معالجة الاختلالات الحضرية من خلال (قطاعات، أحياء، مراكز صاعدة، دوائر، تجمعات حضرية..)؛ فهي تشكل إطار عمل عمومي لكل الفاعلين.

§         مقاربة شمولية: تجعل من سياسة المدينة منطلق كل السياسات الحضرية؛ أي جعلها نقطة محورية لكل السياسات الحضرية العمومية.

§         مشروع رد الاعتبار والصيانة وتجديد المآثر والاهتمام بالتراث التاريخي.

    إن إنجاح سياسة المدينة يتطلب من كل الفاعلين والشركاء في تدبير المدينة وضع سياسة إستراتيجية ترابية محكمة من أجل تحقيق تنمية حقيقية، تقوم على مقاربة التشارك بين كل الفاعلين العموميين والخواص والمجتمع المدني، أي نمط حكامة حضرية تؤسس للديمقراطية المواطنة، تجعل من المواطن ركيزة التنمية وجعل متطلبات الساكنة في قلب التخطيط الحضري؛ فسياسة المدينة ينبغي أن تكون أداة تتجسد على أرض الواقع، لإرساء تنمية مستدامة ومندمجة للمدينة ومحيطها.

 وتقتضي سياسة المدينة مواكبة وتأطيرا قانونيا ومؤسساتيا تمكنها من خلق الآليات الكفيلة بتوفير فضاء عيش كريم ولائق للمواطن في إطار تنمية اقتصادية واجتماعية مستدامة، كما أن تطوير المدن رهين بالحفاظ على الموارد البيئية، والنهوض بالقطاع الثقافي وتعزيز

الأقطاب الثقافية والفكرية والفنية، فلا حضارة لأي بلد دون الرقي بالوعي الفكري للمواطن ليساهم بدوره في رقي المدينة وتطويرها، لكن مع الحفاظ التام على خصائصها المعمارية.   كتخريج عام، لا يمكن في الحقيقة الحديث عن التنمية، دون تنمية المدن، لا تنمية بدون إعطاء أهمية لساكنتها، وبدون جعلها فضاء للإدماج، فكفانا من المدن الإسمنتية، مدن بدون روح، نريد مدن خضراء، مدن للجمال تخلق في الإنسان معنى الإبداع والتحضر، ومعنى التسامح والتعاون. فالمعالم الأثرية للمدن العتيقة بشكل عام تشكل جزءا من ذاكرة المغاربة ككل، ولهذا وجب الحفاظ عليها وترميمها وفق ما كانت عليه سابقا، لأنه تراث ستسائلنا عليه الأجيال القادمة، ولذلك يجب أن نتخذ من الدول الأخرى مثالا في الحفاظ على معالمها الأثرية ونتنافس في تسويقها إعلاميا وسياحيا، لإبراز بعدها الجمالي والثقافي. فالمدن العتيقة بصفة عامة تستدعي منا وقفة تأمل بطرح مجموعة من التساؤلات: هل المدن العتيقة اليوم أصبحت مجرد مآثر تستدعي منا الوقوف عليها و إحصائها و تصنيفها، و التعريف بها في لوحات إشهارية يتيمة معلقة؟ هل المدن العتيقة أصبحت مجرد فضاء للسكن و الترميم العشوائي الذي لا يحترم شروط البناء الذي كانت عليه؟ أين هو اليوم دور الباحثين الأركيولوجين في عملية الترميم التي تخضع لها هذه البنايات؟ هل هو دور باحث أركيولوجي يعاين هذه المباني؟ أم أنه تخلى عن مهمته وصار مجرد منظر يهدم ويعيد تأهيل المآثر العمرانية عبر صفحات الأوراق؟ هل فعلا لدينا غيرة على مآثرنا العمرانية؟ أم أنها مجرد صرخات في واد تذهب أدراج الرياح؟

[10]  والمقصود بها توظيف التراب المدكوك بنفس الشروط والمعايير التي بنيت بها هذه الأسوار في القرن الثاني عشر، رغم أن توظيف هذه التقنية تواجهه مجموعة من الإكراهات التي تجعل العملية تتخللها بعض العشوائية في عملية الترميم.

[11]  Mustapha chouiki: le Maroc face au défi urbain. Quelle politique de la ville ? EDITION, DAR  ATTAOUHIDI, 2012
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف