
حين يؤسس الشاعر التونسي القدير جلال باباي-لنص شعري مختلف
قد لا يحيد القول عن جادة الصواب،إذا قلت أنّ الشاعر التونسي جلال باباي يمثّل على خريطة الإبداع التونسي أيقونة مهمة لها خصوصيتها،وحالة خاصة من حالات الشأن الإبداعي الذي يجمع داخله ما بين المتخيل والسيرة ووقائع اجترار تاريخ الذات الاجتماعي والأيديولوجي في تجربة إنسانية وإبداعية مستمدة من واقعه الخاص الذي عاشه فعلا ومازال يعايش فيه مراحل تحولات حادة في الزمن العربي المعاكس..
وتمثّل مرآة الذات التي انعكست عليها مسيرة حياته الحافلة والمفعمة بالإبداع في تجلياته الخلاقة بؤرة كبيرة انعكست بدورها على إبداعهالشعري في المقام الأول وشكّلت عالمه الإبداعي الخاص عبر سنوات طوال من الرقص على الكلمات،كما تمثّل صورة الآخر في منجزه الإبداعي جانبا مهما استعاده-جلال-في نسيج أعماله الشعرية جميعها،وجسّد من خلاله تجربة لها أبعاد متعددة كان لها تأثيرها الخاص-كما أسلفت-على إبداعه الشعري على وجه التحديد،بل وعلى ملامح أخرى من منجز الإبداع العربي المعاصر.
وذات -جلال باباي-في حد ذاتها وهو الباحث عن نفسه،والمتفتح على الآخر وعلى العالم من حوله،تريد أن تدرك المعنى وتمتلكه.فكل علاقة للذات بذاتها هي علاقة بالعالم والآخر،كما أن كل علاقة بالآخر هي علاقة بالذات.وهذا (الازدواج) تعبير عن وحدة صميمية مفقودة بين (الأنا) و(الآخر) في عالم تشترك فيه أكثر الدلالات النثرية لدىالشاعر القدير جلال باباي برموز متماثلة،وهو شعور يتجاوزهذه الدلالات،والإيحاءات بإستمرار نحو تأكيد خصوصية الوضع البشرى،حيث يكون الإنسان غائبا عن ذاته.
عالم الكتابة الشعرية عند “جلال” إذا،هو عالم قائم بذاته،يكاد أن يكون معادلاً للمجتمع الخارجي ترتبط عناصره ارتباطاً سببياً ويستمد كل عنصر قيمته النسبية من علاقته بالأجزاء الأخرى،وتلتقي ممراته الجانبية وأزقته الخلفية بشارعه الرئيسي،فكل وقائعه منتظمة في إطار ثابت يحدد لكل واقعة وزنها الخاص،وقد تتساوى فيه إحدى النزوات الشخصية،فكل الأشياء المحيطة بنا قد اندمجت في شبكة من الدلالات الفكرية والإنفعالات الجاهزة؛ويتحدد شكل النص الإبداعي عند -جلال-بالفعل المتبادل بين الشخصية ووضعها،فنصوصه تتميز من زاوية رئيسية بالطابع الانتقالي،بالصراع بين عدة متناقضات،بذلك التيار المتدفق المتغير دائماً في مواجهة التسلسل الطبقي المتحجر،إن ملحمة الحياة الخاصة عند -جلال باباي- تتنفس بالدلالة العامة.
ومن هنا فإن الحبكة الشعرية-كما أشرت- لدى -جلال- تنسج في صبر شبكة من “العلاقات”اللاواقعية خلف الإسهاب في سرد التفصيلات الواقعية،فالعلاقات السببية المحركة للواقع والمحددة للشخصيات تحتوي على تصورات مثالية عن الإنسان ومكانه في العالم،وهي تطبع بطابعها ما يسود تلك المرحلة من بحث عن قيم حقيقية في عالم يبدو زائفاً،بتحقيق الوفاق السعيد بين الإنسانية والأرض والسماء.
على سبيل الخاتمة:
ليس مشكلة في أن تستحيل-كاتبا مبدعا-فالمفردات والألفاظ مطروحة على-رصيف-اللغة،لكن الأصعب أن تكون ذاك المبدع القارئ،وهذا الدور المزدوج يجعل -الكاتب/الشاعر-كرها ملتزما أمام قارئيه في أن يقدّم لهم قدرا معرفيا ومعلوماتيا مهما يشارف اكتمال ثقافة الآخر الذي يجد ملاذه المعرفي عند كاتبه،هذا الدور قام به ببراعة واقتدار-جلال باباي-عبر مشروعه الشعري،ومن خلال -إبداعاته-المدهشة(وهذا الرأي يخصني) وكبار الكتاب والشعراء من أمثال توفيق الحكيم ويوسف إدريس وأدونيس ويوسف الخال ومحمد الماغوط مرورا بالاستثنائي محمود درويش وسميح القاسم وجمال الغيطاني وواسيني الأعرج وأحلام مستغانمي وغيرهم.. كانوا يمررون قدرا معرفيا مذهلا عبر سياقاتهم النصية الإبداعية أو السردية مستهدفين خلق حالة من الوعي المعلوماتي لدى القارئ الذي اختلف دوره عن السابق بعد أن استحال شريكا فاعلا في النص،غير هذه الشراكة الباهتة التي أشار إليها رولان بارت بإعلان موت المؤلف/الشاعر.
فالمؤلف أو الشاعر،لم يعد ميتا كما استحال في سبعينيات القرن الماضي،ولم يعد إلى أدراجه القديمة منعزلا عن نصه،بل هو الصوت الآخر الذي يدفع القارئ إلى البحث عن مزيد من التفاصيل واقتناص الإحداثيات السردية أو الشعرية بمعاونة الكاتب نفسه.
و-جلال باباي-الغارق في تفاصيل الوطن وتراثه الأصيل والمنغمس في ذات الآن في العشق في آبهى صوره،استطاع أن يوفّر هذا الوعي المعلوماتي لدى قارئه،الأمر الذي يدفعنا بأن نجعله في زمرة الشعراء المبدعين الذين نحتوا إبداعهم الخلاّق على الصخر بالأظافر متحدين-حقول الأشواك-ومنعطفات الدروب-..
ختاما أقول أنّ الشاعر التونسي العظيم جلال باباي-يؤسس-ببراعة واقتدارلنص إبداعي مختلف،إذ تراه-أحيانا-أشبه بالمسرحيين وهم يدشنون أسسا لفنهم،فهو كذلك في معظم قصائده المشتهاة،يعتلي مسرحا شعريا يقص التاريخ بعدسات غير متمايزة رغم أنها لا تدخل في قالب المسرح وكنهه،فهو لم يتبع القوالب الفنية الجاهزة لكتابة النص الإبداعي في مختلف تجلياته، بل عمد منذ البداية إلى تأريخ السرد والحكي عبر لغة “شعرية” عذبة تداعب الذائقة الفنية للمتلقي.
وأعتقد أن -جلال باباي-منذ خطه لسطور نصوصه الأولى،وضع رهانات جديدة للنص الإبداعي وهي حضور المتلقي بقوة رغم انفصاله-أحيانا-زمنيا عن سؤال الوجع،وأنين الألم..
سُئل ذات مرة الشاعر الراحل محمود درويش عن الشعر بمختلف تجلياته الخلاقة،فأجاب بكل تلقائية، "نحن،حتى الآن، نحاول بكل الأشكال الشعرية الجديدة أن نقول سطراً واحداً للمتنبي. كيف؟ كل تجاربي الشعرية من أربع سنوات حتى اليوم (1982-1986)،كتبت حوالي المائة قصيدة،ثم انتبهت إلى أن المتنبي قال: (على قلق كأن الريح تحتي)”… !!؟ والشاعر،هو من يبني مجدا،ويترك خيرا،ويستظل تحت ظل كل الشعراء من جلجاميش حتى آخر يوم من سنوات عمره،فالموت حقيقة تُعلن نهاية سجال الحياة،والحب حُلم وغاية يلهث وراءه الإنسان، لأنّه بُرهان ودليل على البقاء والخلود،سواء علم بذالك أم لم يعلم،ومهما تطلب منه ذالك من تعب ومن صراع، يؤكد دوريش ذلك بقوله “سنكتب من أجل ألّا نموت،سنكتب من أجل أحلامنا” ..
والشاعر التونسي جلال باباي يكتب لغد أفضل تشرق فيه شمس الحب والإنسانية على الجميع..
محمد المحسن (شاعر،وناقد تونسي)
قد لا يحيد القول عن جادة الصواب،إذا قلت أنّ الشاعر التونسي جلال باباي يمثّل على خريطة الإبداع التونسي أيقونة مهمة لها خصوصيتها،وحالة خاصة من حالات الشأن الإبداعي الذي يجمع داخله ما بين المتخيل والسيرة ووقائع اجترار تاريخ الذات الاجتماعي والأيديولوجي في تجربة إنسانية وإبداعية مستمدة من واقعه الخاص الذي عاشه فعلا ومازال يعايش فيه مراحل تحولات حادة في الزمن العربي المعاكس..
وتمثّل مرآة الذات التي انعكست عليها مسيرة حياته الحافلة والمفعمة بالإبداع في تجلياته الخلاقة بؤرة كبيرة انعكست بدورها على إبداعهالشعري في المقام الأول وشكّلت عالمه الإبداعي الخاص عبر سنوات طوال من الرقص على الكلمات،كما تمثّل صورة الآخر في منجزه الإبداعي جانبا مهما استعاده-جلال-في نسيج أعماله الشعرية جميعها،وجسّد من خلاله تجربة لها أبعاد متعددة كان لها تأثيرها الخاص-كما أسلفت-على إبداعه الشعري على وجه التحديد،بل وعلى ملامح أخرى من منجز الإبداع العربي المعاصر.
وذات -جلال باباي-في حد ذاتها وهو الباحث عن نفسه،والمتفتح على الآخر وعلى العالم من حوله،تريد أن تدرك المعنى وتمتلكه.فكل علاقة للذات بذاتها هي علاقة بالعالم والآخر،كما أن كل علاقة بالآخر هي علاقة بالذات.وهذا (الازدواج) تعبير عن وحدة صميمية مفقودة بين (الأنا) و(الآخر) في عالم تشترك فيه أكثر الدلالات النثرية لدىالشاعر القدير جلال باباي برموز متماثلة،وهو شعور يتجاوزهذه الدلالات،والإيحاءات بإستمرار نحو تأكيد خصوصية الوضع البشرى،حيث يكون الإنسان غائبا عن ذاته.
عالم الكتابة الشعرية عند “جلال” إذا،هو عالم قائم بذاته،يكاد أن يكون معادلاً للمجتمع الخارجي ترتبط عناصره ارتباطاً سببياً ويستمد كل عنصر قيمته النسبية من علاقته بالأجزاء الأخرى،وتلتقي ممراته الجانبية وأزقته الخلفية بشارعه الرئيسي،فكل وقائعه منتظمة في إطار ثابت يحدد لكل واقعة وزنها الخاص،وقد تتساوى فيه إحدى النزوات الشخصية،فكل الأشياء المحيطة بنا قد اندمجت في شبكة من الدلالات الفكرية والإنفعالات الجاهزة؛ويتحدد شكل النص الإبداعي عند -جلال-بالفعل المتبادل بين الشخصية ووضعها،فنصوصه تتميز من زاوية رئيسية بالطابع الانتقالي،بالصراع بين عدة متناقضات،بذلك التيار المتدفق المتغير دائماً في مواجهة التسلسل الطبقي المتحجر،إن ملحمة الحياة الخاصة عند -جلال باباي- تتنفس بالدلالة العامة.
ومن هنا فإن الحبكة الشعرية-كما أشرت- لدى -جلال- تنسج في صبر شبكة من “العلاقات”اللاواقعية خلف الإسهاب في سرد التفصيلات الواقعية،فالعلاقات السببية المحركة للواقع والمحددة للشخصيات تحتوي على تصورات مثالية عن الإنسان ومكانه في العالم،وهي تطبع بطابعها ما يسود تلك المرحلة من بحث عن قيم حقيقية في عالم يبدو زائفاً،بتحقيق الوفاق السعيد بين الإنسانية والأرض والسماء.
على سبيل الخاتمة:
ليس مشكلة في أن تستحيل-كاتبا مبدعا-فالمفردات والألفاظ مطروحة على-رصيف-اللغة،لكن الأصعب أن تكون ذاك المبدع القارئ،وهذا الدور المزدوج يجعل -الكاتب/الشاعر-كرها ملتزما أمام قارئيه في أن يقدّم لهم قدرا معرفيا ومعلوماتيا مهما يشارف اكتمال ثقافة الآخر الذي يجد ملاذه المعرفي عند كاتبه،هذا الدور قام به ببراعة واقتدار-جلال باباي-عبر مشروعه الشعري،ومن خلال -إبداعاته-المدهشة(وهذا الرأي يخصني) وكبار الكتاب والشعراء من أمثال توفيق الحكيم ويوسف إدريس وأدونيس ويوسف الخال ومحمد الماغوط مرورا بالاستثنائي محمود درويش وسميح القاسم وجمال الغيطاني وواسيني الأعرج وأحلام مستغانمي وغيرهم.. كانوا يمررون قدرا معرفيا مذهلا عبر سياقاتهم النصية الإبداعية أو السردية مستهدفين خلق حالة من الوعي المعلوماتي لدى القارئ الذي اختلف دوره عن السابق بعد أن استحال شريكا فاعلا في النص،غير هذه الشراكة الباهتة التي أشار إليها رولان بارت بإعلان موت المؤلف/الشاعر.
فالمؤلف أو الشاعر،لم يعد ميتا كما استحال في سبعينيات القرن الماضي،ولم يعد إلى أدراجه القديمة منعزلا عن نصه،بل هو الصوت الآخر الذي يدفع القارئ إلى البحث عن مزيد من التفاصيل واقتناص الإحداثيات السردية أو الشعرية بمعاونة الكاتب نفسه.
و-جلال باباي-الغارق في تفاصيل الوطن وتراثه الأصيل والمنغمس في ذات الآن في العشق في آبهى صوره،استطاع أن يوفّر هذا الوعي المعلوماتي لدى قارئه،الأمر الذي يدفعنا بأن نجعله في زمرة الشعراء المبدعين الذين نحتوا إبداعهم الخلاّق على الصخر بالأظافر متحدين-حقول الأشواك-ومنعطفات الدروب-..
ختاما أقول أنّ الشاعر التونسي العظيم جلال باباي-يؤسس-ببراعة واقتدارلنص إبداعي مختلف،إذ تراه-أحيانا-أشبه بالمسرحيين وهم يدشنون أسسا لفنهم،فهو كذلك في معظم قصائده المشتهاة،يعتلي مسرحا شعريا يقص التاريخ بعدسات غير متمايزة رغم أنها لا تدخل في قالب المسرح وكنهه،فهو لم يتبع القوالب الفنية الجاهزة لكتابة النص الإبداعي في مختلف تجلياته، بل عمد منذ البداية إلى تأريخ السرد والحكي عبر لغة “شعرية” عذبة تداعب الذائقة الفنية للمتلقي.
وأعتقد أن -جلال باباي-منذ خطه لسطور نصوصه الأولى،وضع رهانات جديدة للنص الإبداعي وهي حضور المتلقي بقوة رغم انفصاله-أحيانا-زمنيا عن سؤال الوجع،وأنين الألم..
سُئل ذات مرة الشاعر الراحل محمود درويش عن الشعر بمختلف تجلياته الخلاقة،فأجاب بكل تلقائية، "نحن،حتى الآن، نحاول بكل الأشكال الشعرية الجديدة أن نقول سطراً واحداً للمتنبي. كيف؟ كل تجاربي الشعرية من أربع سنوات حتى اليوم (1982-1986)،كتبت حوالي المائة قصيدة،ثم انتبهت إلى أن المتنبي قال: (على قلق كأن الريح تحتي)”… !!؟ والشاعر،هو من يبني مجدا،ويترك خيرا،ويستظل تحت ظل كل الشعراء من جلجاميش حتى آخر يوم من سنوات عمره،فالموت حقيقة تُعلن نهاية سجال الحياة،والحب حُلم وغاية يلهث وراءه الإنسان، لأنّه بُرهان ودليل على البقاء والخلود،سواء علم بذالك أم لم يعلم،ومهما تطلب منه ذالك من تعب ومن صراع، يؤكد دوريش ذلك بقوله “سنكتب من أجل ألّا نموت،سنكتب من أجل أحلامنا” ..
والشاعر التونسي جلال باباي يكتب لغد أفضل تشرق فيه شمس الحب والإنسانية على الجميع..
محمد المحسن (شاعر،وناقد تونسي)