
بقلم بكر السباتين
الحب وتداعيات الفجيعة في رواية "إخناتون ونفرتيتي الكنعانية"
صدرت رواية "أخناتون ونفرتيتي الكنعانية" التي كتبها صبحي فحماوي في فبراير 2020 عن الدار الأهلية للطباعة والنشر- بيروت- عمّان- وهي قصة حب شهيرة للأمير إخناتون، ابن الإمبراطور المصري أمنحتب الثالث، والأميرة الكنعانية إلهام- نيفرتيتي، ابنة رفائيل ملك مملكة مجدو.. فقد تمكن الحب من الجمع بين الأميرة إلهام التي أصبح اسمها فيما بعد “نفرتيتي” ابنة ملك مجدو الكنعاني، رفائيل، والامير امنحتب الذي سمي فيما بعد ب(إخناتون) ولي عهد مملكة مصر الفرعونية.. وذلك قبل معركة مجدو المفصلية بثلاث سنوات حينما التقيا على هامش اللقاء الودي الذي جمع بين ملوك الكنعانيين المتذمرين من سلطة مصر وجبروتها ومصادرتها لهيبة ممالكهم وثرواتها، مع ملك مصر امنحتب الثالث، حيث تم تصوير نموذج لذلك في مملكة الخليل الكنعانية .. وتجدر الإشارة في سياق أحداث هذه الرواية إلى أهم عوامل نجاح أي احتلال في بسط سلطته منذ القدم.. إنها العمالة للمحتل وخيانة الأوطان.. وفي تلك الحقبة برز اسم عبدي حيبا حيث جرى اللقاء بين القادة في المحمية الفرعونية التي تقع تحت إشرافه، فهو خادم محميات الفرعون الملكية في جنوب فلسطين الكنعانية، الذي يُسوِّق المصريون اسمه وسمعته المشبوهة على نطاق واسع وكان يعيش في مملكة حبرون.. وفي المقابل كان الحب هو الذي يهيء الظروف للتلاقي والحوار البناء وإبرام الاتفاقيات الجادة القائمة على السلام العادل.
وفي الحقيقة كانت حبرون حيث يقيم العميل عبدي حيبا تفرض حقوق الولاء على مواطني المنطقة الكنعانية، وأن من حق مأمور المحمية أن يحتمي بالفرعون المصري مباشرة، إذا لزم الأمر، من دون الالتفات إلى سلطة ملك الخليل.. وهنا يكمن سر اليد الطولى للمحتل وعرفته بنقاط ضعف الخصم ورغم ذلك كانت الحنكة السياسية التي يتمتع بها قائد مثل الملك الكنعاني رفائيل قد أخذته بداية إلى مربع التفاوض مع ملك مصر العظيم أمنحتب الثالث، حول تفاصيل العلاقة المتأزمة بين مصر والممالك الكنعانية وذلك لوضع النقاط على الحروف، كان الأمير امنحتب – ولم يكن اسمه (إخناتون) بعد- في موقف حالم جمع بينه وبين معشوقته الملهمة التي ظفر بها بالصدفة العجيبة المدهشة، وذلك أثناء محاولته إنقاذ فتاة جميلة من عمق البحيرة العذبة، ليتبين فيما بعد أنها الأميرة الكنعانية الهام (نفرتيتي فيما بعد زواجها).. رغم أنها لم تكن بحاجة لشهامة الأمير كونها سباحة ماهرة، لكنه القدر الذي جمع بينهما.
وتجدر الإشارة إلى أن الأميرة إلهام هي الأبنة الثانية لرافائيل ملك مجدو الكنعانية الشهيرة، حيث كانت له ابنة أخرى تدعى موت نجمت، ويبدو أنها كانت تُعامل بإهمال نسبي من قبل والديها ربما لقلة حكمتها ولشعورها بالحسد من شقيقتها حيث سيكون لها دوراً سلبياً ومدمراً في حياة الأميرة إلهام (نفرتيتي) مستقبلاً.. وكانت إلهام قد حظيت بثقة والدها لذلك كان بوسعها أن تقدم له النصح عند الملمات فيستمع إليها، وكان يعرف مسبقاً بزيارة الملك أمنحتب الثالث تلك الأيام للمحمية.. إذ سمعت بذلك السفر ابنتُهُ الأميرة إلهام، فطلبت من أمها الملكة مثال السفر مع أبيها إلى تلك البلاد.. ورغم عدم تصور الملك رافائيل لرفقة ابنته في هذه الرحلة الطويلة الصعبة الطرقات من باب أن ابنته ما لبثت صغيرة بالعمر ناهيك عن ذكورية المجتمع الذي لم يكن يقيم وزناً كبيراُ لدور المرأة في الحياة السياسية والحياة العامة، رغم أنها في تلك الحقبة كانت تتبوأ أحياناً أكبر المناصب في الممالك المختلفة، إلا أن الملك استجاب أخيراً لطلب زوجته الملكة الجميلة مثال لسببين:
أولاً:- كونها في نظره أن زوجته "مثال" أمٌّ مدبرة وتدرك دوافع أي قرار تتخذه وهو ما أورثته لابنتها وإلا ما وثقت بها إلى هذا الحد.
ثانياً:- ومن منطلق المسؤولية ربما كانت الأم تهدف لابنتها النبيهة الذكية بتلك الرحلة، التعرف على عريس ذي قامة وقيمة، قد يكون من نصيبها.. ولا أستبعد أن الأم برمجت الابنة على أحد الهدفين كي تفتح نوافذ الأسئلة أمام ابنتها فتبرج عقلها الباطن على حصد المنافع المتاحة ما أمكن.
وعليه فإن إلهام من جهتها كانت تستشعر بأن مستقبلها يبدأ من هنا، ربما لم تكن تعلم بما يخبئه الغيب لكن قناديل قلبها أخذتها إلى هذه البحيرة فكان هذا اللقاء مع. أمير مصر الشاب.
ولا شك أن اللقاء لن يكون مبتذلاً بينهما، لعدة أسباب منطقية، تتجلى في الآتي:
كونهما أولاً ابني ملكين جاءا إلى هذه المحمية للتفاوض ووضع النقاط على الحروف في شأن استراتيجي سيغير وجه المنطقة في إطار محددات جديدة؛ لذلك كان على الأميرين التطرق إلى ذلك من باب الإشباع المعرفي وتبادل الآراء والأحلام في أفق مفتوح دون قيود دبلوماسية.. ثم اجتماعهما على حب الفن والشعر والروحانيات المرتبطة بفلسفة الأديان وقد انسجما معاً وسط هذه الطبيعة الخلابة التي اشتهرت بها الممالك الكنعانية.. فأين التقى الأميران إذن في سياق هذا اللقاء العجيب؟
إذ تطرق الأميران في حوارهما الثقافي العميق إلى كل المواضيع حيث دخلا إليها من خلال الأديان وبخاصة إله التوحيد الكنعاني وشمل الحديث الإله الفرعوني “أمون” وإله أمنحتب، “أتون” اله الشمس الموحد الذي كان في مفهوم اخناتون لا شريك له وذو النور الذي يفيد جميع الكائنات الحية من إنسان وحيوان ونبات، ممثلاً بقرص الشمس، وأشعتها التي تمنح الحياة والرخاء لكل الكائنات الحية.. إنه إله الشمس والريح والخصوبة؛ ومعنى اسمه “الخفي”.. وانتقد أمنحتب عملية سطو كهنة معبد الكرنك على مقدّرات مصر والممالك الكنعانية، بالتحالف مع السلطات الفاسدة من خلال جباية الضرائب، بالإضافة لما يدفعه الناس من قرابين لآلهة آمون المتجبرة بكهنتها الظالمين.
كانت الأميرة إلهام جريئة معه إذ سألته عدة أسئلة متتابعة:
” بِمَ تفكر عادة، وما هي تطلعاتك المستقبلية، وما دينك، ولمن تصلي”؟
فقال لها: “إنا لا أصلي لأحد. بل أجدني مثلك، أتأمل الشمس التي تحملينها في يدك، وتحلمين بها لتحقق آمالك، وأفكر في رع، الإله المصري الذي يعبدونه، إذ يرونه في أشعة الشمس.. الطاقة المسيطرة على الوجود.. وأنا شاب مسالم، لا أحب الحروب، ولا أحب قتل الحيوانات الآمنة”.
وبالمقابل يذهل أمنحتب برأيها المطابق لرأيه، ولقدرتها على الحوار، والتعبير عن النفس.. فينسجم معها، وتصير بينهما مواءمة يستطيعان أن يتحادثا بها، إذ قالت:
“علاقة الملك الإله برجال الدين، تشبه علاقة المغني بفريق الموسيقا. هذا يغني وأولئك يعزفون”.
وقالت:
“ما دمنا نفكر بهذه الإنسانية الخيالية، والمحبة المتبادلة، وما دمت أنت ولي عهد ملك مصر، فلماذا هذه المشاحنات بين شعبينا، ولماذا تزداد قسوة الفراعنة على أبناء شعبنا في هذه السنوات العجاف، وذلك بابتزازهم واستغلال طاقاتهم، التي اتفقنا على أن مصدرها هو إلهنا الواحد أتون-الشمس الذي يعطي الطاقة للجميع بلا تمييز.. لماذ نجد عندكم التمييز بين حاكم ومحكوم.. بين سيد ومسود.. وبين فرعوني وكنعاني؟
ثم افترقا وقد جمعهما حب “أتون” قلب رع الإله الفرعوني، وارتبطا بعهد على حلّ النزاع بين ممالكهم سلمياً درءاً لنشوب حرب مدمرة لا تبقي ولا تذر.
ومن الطبيعي أن لقاءً كهذا لن يكون عابراً وقد ترسخت وعودهما في وجدانيهما كأنها اتفاقيات ملزمة أخلاقياً بسبب التربية الرفيعة التي أغنتهما بحب المسؤولية والتمسك بالواجبات المنوطة بهما، رغم ما قد يتعرض له الأمير أمنحتب من ضغوطات معاندة لعواطفه وأمنياته الشخصية كونه سيتولى ذات يوم مسؤولية إدارة البلاد.. أي أن حياته مرتبطة بمصلحة البلاد.. لكن أميراً عاشقاً مثقفاً مثل أمنحتب سيغير المعادلة في سياق علاقته مع ملهمته الأميرة إلهام، لأنه بذلك سوف يجمع بين حبه لها، وسيظفر بحكمتها التي سيتعينه- كما سنرى لاحقاً- على مزاولة مهامه الملكية. فكيف يفهم ذلك في سياق تداعيات الأحداث المتلاحقة في هذه الرواية وصولاً إلى الذروة!
إذ أنه بعد ثلاثة أعوام من اللقاء الذي جمعهما على ضفاف البحيرة في مملكة حبرون الكنعانية، اشتد تمرد الممالك الكنعانية على مملكة مصر الفرعونية، وبينما الملك امنحوتب الثالث يتلهى بالصيد في البراري مع حاشيته، كانت زوجته الملكة “تيي” تحرض ابنها الأمير أمنحتب ( إخناتون- لاحقاً) على مواجهة الممالك المتمردة في مجدو الكنعانية، وتمهيداً لذلك قامت بتعيين أحد أقوى رجال جيشها (حور محب) قائداً للجيش.. فقد كا أحد عشاقها المخلصين لذلك سوف تستأمنه على ابنها الذي لم تكن شديدة الثقة بقدرته على القيادة؛ فهو عاطفي تتحكم به مشاعرة وكثير التأمل بالغيبيات على حساب تفاصيل واجباته في الإدارة من منطلق كونه ولياً للعهد، دون أن تدرك بأن التأمل من شيم القادة الناجحين الذين يوفقون بين مصلحة الملك والشعب والدين دون تجاوزات.. وهكذا يحقق الملك توازناته ويستطيع إدارة البلاد دون تحديات يصعب معالجتها.. وهي مبادئ قديمة ومتجددة وقياسية في كل زمان ومكان.
ولعل من أهم شواهد الخلاف الفكري بين الملكة الأم والأمير امنحتب، وبواعث الخيبة التي تحكمت بمشاعرها تجاه ولي عهد البلاد، ما ورد في النص التالي من الرواية:
"تسمع الملكة ولي العهد أمنحتب يتلو آيات صلاته الخاصة التي يمجد فيها آتون،
طبعاً تستغرب الأم هذا النأي بالنفس من قبل ولدها أمنحتب، فيقول لها بكل ثقة ورسوخ فكري وإيمان صادق:
" أنا لا أستطيع أن أُفتِّح عينيّ في هذا القوي الخارق للكون كله، المهيمن على كل شيء بعطائه.. أنا أقف خاشعا متعبداً تحت بركات أشعته التي تغمرنا، فتغسل آثامنا بإشعاعاتها المبثوثة، حرارة ونعيماً على جسدي وأجساد الآخرين.. لاحظي يا أمي أن البشر سواسية في تمتعهم بأشعة أتون..إنه يعطينا من روحه بالتساوي.. لايفرق في عطائه بين غني وفقير.. ولا بين راعي أغنام، وفارس حصان، ولا بين رجل من رجال دين آمون، ورجل لا يؤمن بهذا الآمون.. هذا الإله لا يحرق غير المؤمنين به، بل يتركهم وشأنهم يتمتعون بنوره، مثلهم مثل غيرهم، ما دام الناس كلهم أبناؤه المكرمون. هذا هو الإله المانح للجميع بلا استثناء، وليس آمون الحاقد، الحارق لكل الكافرين به بنار الآخرة، التي لم يرها أحد، ولن يراها أحد، ليُبلغ عن صحتها أو عدم وجودها."
الأم لم يعجبها هذا الكلام، وفق تقديراتها المنبعثة من مكوناتها الفكرية وتجربتها الواقعية، إنها خيبة الملكة الأم التي تسيّر الأمور على حسابات الواقع ونتائجه بابنها الذي يصرف معظم وقتها على التؤملات؛ فلم تجد إلا أن "تصرخ بولدها، ولكن برأفة أم:
يا ولدي اترك هذه الخزعبلات والخرافات، فأنت تقف في وجه فيضان نيل دافق من المؤمنين بآمون.. وانتبه إلى أن لا شيء يسمى حقيقة، فنحن ولدنا في متاهة، ونعيش في متاهة، وسنموت في متاهة، فلا تفكر في الحقيقة، ولا تجعل لأفكارك لساناً.. فهناك كلام للعامة، وهو الإله أمون، وكلام للخاصة، وهم أقرب الأصدقاء والمفكرين، وكلام لخاصة الخاصة وهو أنت وحدك لا شريك لك. فلتقل وحدك لنفسك أن حقيقة الإله هو أتون، ولا تقل ذلك للناس..لأن الحقيقة كل الحقيقة هي ما يُجمع عليه القوم، حتى ولو كان خطأً.. وليس ما يتخيله المفكرون الذين ينتهون بأفكارهم السامية إلى ساطور المذبح"
لذلك أرسلت قائد الجيش الجديد والذي ينعم بمحل ثقتها (حور محب) على رأس حملة يقودها ولي العهد امنحتب (إخناتون- لاحقاً) لمواجهة تلك الممالك الكنعانية التي استعدت لمواجهتهم بقيادة ملك (مجدو) الكنعاني، رفائيل حيث تزعم جيوش الحلفاء، من أمراء الممالك الكنعانية في بلاد الشام والذين سعوا إلى التحرر من ضغوطات المملكة الفرعونية، لإبعاد هيمنتها عليهم.
من جهة أخرى كانت الأميرة إلهام بنت رفائيل بما تتمتع به من حكمة وإلهام قد تناقشت مع والدها حول الخطة القتالية المزمع اعتمادها في المواجهة والقائمة بداية على المبادرة بالسلام، وقد كلفها الملك بتقديم ورقة سلام، بدل أن يقدم القائد الكنعاني ميكافيل ورقة الحرب باسم الإله بعل، رب الحرب والدفاع عن المظلومين في مثل هذه المواقع.. والنتيجة المفترضة لهذا الطرح السلمي وفق رؤية الأميرة التي اكتسبت ثقة الكنعانيين هي وقف الهيمنة المصرية على بلاد كنعان، وإذا فشلت المفاوضات التي من المفترض أن يشهدها الميدان، فقد قالت الأميرة كنعان في إحدى حواراتها:
"وفي حالة اندلاع الحرب التي نستعد لها بحذر، ولكننا لا نتمناها.. فلقد تفاهمنا كيف سندير المعركة، وكيف سنتصرف إذا وقع المحظور". أي أن خيار السلم إذا تبناه الضعيف فهو استسلام مهين كما هو حال معاهدة أوسلو في وقتنا الراهن.. وكان التجربة الكنعانية مليئة بالعبر التي تم تجاهلها.. ورغم شدة الموقف على الأميرة المرهفة المشاعر فقد أخذتها التداعيات في إعماقها إلى ما قالته في الحوار أعلاه:، حيث كانت ترتعش استعداداً وليس خوفاً، وهي تضيف:
"يقولون أن معركة مجدو ستكون معركة تاريخية فاصلة، وأنها ستكون ساحقة ماحقة.. ولكن القائد الأعلى الملك رافائيل، والقائد العام ميكافيل وضعا خطة لتفاديها، ليس خوفا منهم، وإنما محبة للإنسانية، وحفظاً لدماء الكنعانيين ودماء إخوتهم المصريين".
وفي ساحة المعركة وقبل أن يتقابل الجيشان، حيث انتدب الملك رفائيل ابنته الأميرة الهام لتتقدم الصفوف من أجل ملاقاة خصمها أمنحتب والتفاوض معه إن تيسر لها الأمر كما اتفقا مسبقاً، بالمقابل كان الأمير امنحتب قد تقدم في منطقة النزال إلى مقدمة جيشه، مذهولاً من سوء الحظ الذي وضعه في مواجهة مع حبيبة قلبه وملهمته الأميرة إلهام.. من هنا أخذهما حوار القلب قبل حوار العقل.. وسارا حسب إيمانهما بالاله المصري “أتون، والإله الكنعاني الواحد الأحد إيل”.. وهكذا انتهت الحرب على وفاق واتفاق قبل أن يتلاحم الجيشان فتعاهدا على المحبة والسلام.
والنتيجة كانت أن عرض أمنحتب على الملك رافائيل توثيق معاهدة رسمية لإرساء سلام ومحبة دائمة بين الفراعنة والكنعانيين كافة، واعتبارهم منذ هذا اليوم أُمّة واحدة.. والنتيجة الأهم التي قلبت كل موازين العلاقة بين الطرفين تجلت بقرار الملك بقبول عرض الأمير أمنحتب بالزواج من الأميرة إلهام، التي انتشت بين ذراعيه، وتمنت لو بقيت غارقة في حضنه، ولكنها انفضّت عنه، لتُبقي جذوة المحبة في انتظار التنفيذ.
وهنا نزلت دموع أمنحتب وهو يقول لها أمام أبويها:
ستكونين الزوجة الملكية ..
الملكة العظمى..
ولن يكون حب كبير
كحب كل منا للآخر.
وستبقين جميلة وشابة
وسعيدة إلى الأبد."
وتفادياً من اعتراض الملكة الأم على هذه الخطوة التي تجاوز فيها الابن مشورتها كملكة أم، طلب أمنحتب من صهره الملك رافائيل الانتظار لحين إبلاغ أمه بهذا الخبر، التي من المؤكد أنها ستفرح به حينما تقدر حسناته الاجتماعية والسياسية، نظراً للأسباب الكثيرة التي يعرفها الطرفان.. وبعد الحصول من والده على الموافقة، وهو يعرف أن أباه لا يمانع في مثل هذا الزواج لعدة أسباب أهمها:
- أنه يكن كل التقدير للملك رافائيل كما تجلى ذلك في لقائهما المسبق في حبرون.
- ولأنه من قبلِهِ تزوج من الكنعانية تيي، التي تحمل عنه مسؤوليات كثيرة في الحكم، معزّزة بأخيها المستشار الملكي الأكبر آي، القادم إليهم من بلاد كنعان، بعد أن كان مستخدماً كوالٍ على بعض الممالك الكنعانية، من قبل الفرعون.
وكانت الخاتمة سارة، إذ عقد الأمير امنحتب قرانه على الأميرة الكنعانية إلهام (نفرتيتي). فلحقته الأميرة إلهام بوفد عرس بهيج على ظهر باخرة فرعونية عملاقة كانت قد صنعت في جبيل الكنعانية، لتكون زوجته الفاتنة ووصلت إلى(طيبة).. عاصمة مملكة مصر الفرعونية، وهناك تقبلت الملكة الفرعونية الأم ”تيي” الأمر بكل بهجة وفرح.. وكان قد أعلن عن وفاة الملك امنحتب الثالث أثناء غياب ولده الأمير أمنحتب في المعركة ، فنصب على إثر ذلك ولياً العهد أمنحتب ملكا على البلاد.. واصبح اسمه امنحتب الرابع لكنه فور تعيينه، نودي باسمه الملكي ليكون “إخناتون” وعليه فقد نصّب زوجته الكنعانية وملهمته إلهام، ملكة على مصر، ونوديت باسم “نفرتيتي” اي الجميلة أتت.
كان لدى نفرتيتي مشروعٌ ثقافيٌ على أساس ديانة التوحيد الكنعانية (إيل) التي اتفقت بها مع إخناتون على أن يتماثل الدينان التوحيديا “إيل وأتون”، ليكون الإله الحقيقي هو الشمس وقلبها أتون، فسعت وزوجها لتحويل الناس من عبادة “أمون” إلى اله التوحيد “أتون”. واسترعى الأمر منهما تهميش سلطة كهنة معبد الكرنك الذي تلقى دعماً معنوياً من قائد الجيش حور محب والملكة الأم “تيي” لذلك آثر إخناتون الابتعاد عن الصراعات العائلية في طيبة، فقام لأجل ذلك بإنشاء عاصمة جديدة وأطلق عليها اسم “أخت أتون” وأنشأ فيها معابد خاصة بآلهة التوحيد التي سميت العاصمة الجديدة باسمها.. وعمم فيها عملة مصرية جديدة ، أسوة بالعملة الكنعانية (الشاقل) موطداً علاقة مصر بالممالك الكنعانية على قاعدة الاحترام المتبادل.
من هنا دب الصراع غير المعلن بين اتباع “أمون” في العاصمة طيبة يقوده كهنة الكرنك من جهة، واتباع وكهنة أتون في العاصمة الجديدة “أخت أتون” بقيادة الملك إخناتون وزوجته وملهمته الكنعانية “نفرتيتي”.
واستمر الحال طويلاً لتنساب المياه من تحت قدمي الملكة المغبونة نفرتيتي فتوجه لها المفاجآت ضربتها الموجعة فتخرب مسيرة حياتها، وذلك بزواج الملك إخناتون من ابنتهما الأميرة “ميريت أتون”، وكان الزواج في دائرة الأقارب الضيقة مسموحاً به.. والأنكى أن الملك إخناتون الذي خان عهده بحبيبة قلبه نفرتيتي قد انغمس في حياته الشخصية مع زوجته الجديدة وعمد إلى حياة اللهو والترف على حساب قلبها المكلوم، ومصالح مملكته الممتدة التي عمّت فيها الفوضى ليتلظى المُلْك تحت قدميه.. وخاصة حينما ضربت في كبريائها الملكي بإعلان ابنتهما وزوجته الجديدة”الزوجة الملكية العظمى” فتكون نفرتيتي بذلك قد خرجت من مركز الفعل إلى هامش الضياع.. حيث عانت “نيفرتيتي”.. وأصيبت من جراء ذلك “بلوثة عقلية لم ينجُ منها دماغُها، مما اضطرها للخروج من قصرها،
وأخيراً تخرج نيفرتيتي من قصرها، والتداعيات التي أدت إلى ذلك كثيرة ولا مجال لتفصيلها في سياق هذا المقال الذي جاء ليركز على مكونات العلاقة الوجدانية بين نفرتيتي الكنعانية وإخناتون حيث اجتمع ذووه، الذين كانوا مختلفين على حقوقهم لخلافة الأسرة الثامنة عشرة، فأسسوا أسرة جديدة، وأسَاؤوا لسمْعَة إخناتون وخلفائه، مشيرين إليه في السجلات الأرشيفية، بلقب “العدو”
“مات الملك إخناتون مُحطم القلب.. بعد أن أدرك أنه لم يعد مقبولًا لدى شعبه، وأن شعبه غير جدير به. مات واندثر بلا مراسم جنازة تليق بمقامه، ولا حتى أغاني جنائزية من أشعاره التي هزت الفكر الكوني، وأوصلت السماء بالأرض. مات فعادت مصر إلى الممارسة الدينية الأصولية الأمونية المستبدة تدريجيًا.. حتى أنه بعد عدة أعوام، لم يكن حكام الأسرة الثامنة عشرة متفقين على حقوق واضحة للخلافة، فأسسوا أسرة جديدة، وأسَاؤوا لسمْعَة إخناتون وخلفائه” من جديد وسعو لطمس آثاره .
هذه هي سردية إخناتون العاشق. وها هي حبيبة قلبه وملهمته، الكنعانية الأصل نفرتيتي.
حيث كانت تداعيات الرواية منطقية وفق أحكام التاريخ في تفاصيله الدقيقة؛ ليدخلها الكاتب في أجواء خيالية خدمة للقصة التاريخية المحورية. وهذا دارج في القصص المستلهمة من التاريخ.. وقد سبق فحماوي الروائيُّ الكبيرُ نجيب محفوظ الذي كتب الثلاثية التاريخية:
( عبث الأقدار 1939، رابوديس 1943، كفاح طيبة 1944) بالإضافة لرواية “العائش في الحقيقة” (1985) التي تحدثت جميعاً عن إخناتون. وهي ذات الفترة التي غطتها رواية فحماوي”إخناتون ونفرتيتي الكنعانية”.
عمان- الأردن17-6-2020.
الرواية تقول الكثير وهذا غيض من فيض..
21 يونيو 2020
الحب وتداعيات الفجيعة في رواية "إخناتون ونفرتيتي الكنعانية"
صدرت رواية "أخناتون ونفرتيتي الكنعانية" التي كتبها صبحي فحماوي في فبراير 2020 عن الدار الأهلية للطباعة والنشر- بيروت- عمّان- وهي قصة حب شهيرة للأمير إخناتون، ابن الإمبراطور المصري أمنحتب الثالث، والأميرة الكنعانية إلهام- نيفرتيتي، ابنة رفائيل ملك مملكة مجدو.. فقد تمكن الحب من الجمع بين الأميرة إلهام التي أصبح اسمها فيما بعد “نفرتيتي” ابنة ملك مجدو الكنعاني، رفائيل، والامير امنحتب الذي سمي فيما بعد ب(إخناتون) ولي عهد مملكة مصر الفرعونية.. وذلك قبل معركة مجدو المفصلية بثلاث سنوات حينما التقيا على هامش اللقاء الودي الذي جمع بين ملوك الكنعانيين المتذمرين من سلطة مصر وجبروتها ومصادرتها لهيبة ممالكهم وثرواتها، مع ملك مصر امنحتب الثالث، حيث تم تصوير نموذج لذلك في مملكة الخليل الكنعانية .. وتجدر الإشارة في سياق أحداث هذه الرواية إلى أهم عوامل نجاح أي احتلال في بسط سلطته منذ القدم.. إنها العمالة للمحتل وخيانة الأوطان.. وفي تلك الحقبة برز اسم عبدي حيبا حيث جرى اللقاء بين القادة في المحمية الفرعونية التي تقع تحت إشرافه، فهو خادم محميات الفرعون الملكية في جنوب فلسطين الكنعانية، الذي يُسوِّق المصريون اسمه وسمعته المشبوهة على نطاق واسع وكان يعيش في مملكة حبرون.. وفي المقابل كان الحب هو الذي يهيء الظروف للتلاقي والحوار البناء وإبرام الاتفاقيات الجادة القائمة على السلام العادل.
وفي الحقيقة كانت حبرون حيث يقيم العميل عبدي حيبا تفرض حقوق الولاء على مواطني المنطقة الكنعانية، وأن من حق مأمور المحمية أن يحتمي بالفرعون المصري مباشرة، إذا لزم الأمر، من دون الالتفات إلى سلطة ملك الخليل.. وهنا يكمن سر اليد الطولى للمحتل وعرفته بنقاط ضعف الخصم ورغم ذلك كانت الحنكة السياسية التي يتمتع بها قائد مثل الملك الكنعاني رفائيل قد أخذته بداية إلى مربع التفاوض مع ملك مصر العظيم أمنحتب الثالث، حول تفاصيل العلاقة المتأزمة بين مصر والممالك الكنعانية وذلك لوضع النقاط على الحروف، كان الأمير امنحتب – ولم يكن اسمه (إخناتون) بعد- في موقف حالم جمع بينه وبين معشوقته الملهمة التي ظفر بها بالصدفة العجيبة المدهشة، وذلك أثناء محاولته إنقاذ فتاة جميلة من عمق البحيرة العذبة، ليتبين فيما بعد أنها الأميرة الكنعانية الهام (نفرتيتي فيما بعد زواجها).. رغم أنها لم تكن بحاجة لشهامة الأمير كونها سباحة ماهرة، لكنه القدر الذي جمع بينهما.
وتجدر الإشارة إلى أن الأميرة إلهام هي الأبنة الثانية لرافائيل ملك مجدو الكنعانية الشهيرة، حيث كانت له ابنة أخرى تدعى موت نجمت، ويبدو أنها كانت تُعامل بإهمال نسبي من قبل والديها ربما لقلة حكمتها ولشعورها بالحسد من شقيقتها حيث سيكون لها دوراً سلبياً ومدمراً في حياة الأميرة إلهام (نفرتيتي) مستقبلاً.. وكانت إلهام قد حظيت بثقة والدها لذلك كان بوسعها أن تقدم له النصح عند الملمات فيستمع إليها، وكان يعرف مسبقاً بزيارة الملك أمنحتب الثالث تلك الأيام للمحمية.. إذ سمعت بذلك السفر ابنتُهُ الأميرة إلهام، فطلبت من أمها الملكة مثال السفر مع أبيها إلى تلك البلاد.. ورغم عدم تصور الملك رافائيل لرفقة ابنته في هذه الرحلة الطويلة الصعبة الطرقات من باب أن ابنته ما لبثت صغيرة بالعمر ناهيك عن ذكورية المجتمع الذي لم يكن يقيم وزناً كبيراُ لدور المرأة في الحياة السياسية والحياة العامة، رغم أنها في تلك الحقبة كانت تتبوأ أحياناً أكبر المناصب في الممالك المختلفة، إلا أن الملك استجاب أخيراً لطلب زوجته الملكة الجميلة مثال لسببين:
أولاً:- كونها في نظره أن زوجته "مثال" أمٌّ مدبرة وتدرك دوافع أي قرار تتخذه وهو ما أورثته لابنتها وإلا ما وثقت بها إلى هذا الحد.
ثانياً:- ومن منطلق المسؤولية ربما كانت الأم تهدف لابنتها النبيهة الذكية بتلك الرحلة، التعرف على عريس ذي قامة وقيمة، قد يكون من نصيبها.. ولا أستبعد أن الأم برمجت الابنة على أحد الهدفين كي تفتح نوافذ الأسئلة أمام ابنتها فتبرج عقلها الباطن على حصد المنافع المتاحة ما أمكن.
وعليه فإن إلهام من جهتها كانت تستشعر بأن مستقبلها يبدأ من هنا، ربما لم تكن تعلم بما يخبئه الغيب لكن قناديل قلبها أخذتها إلى هذه البحيرة فكان هذا اللقاء مع. أمير مصر الشاب.
ولا شك أن اللقاء لن يكون مبتذلاً بينهما، لعدة أسباب منطقية، تتجلى في الآتي:
كونهما أولاً ابني ملكين جاءا إلى هذه المحمية للتفاوض ووضع النقاط على الحروف في شأن استراتيجي سيغير وجه المنطقة في إطار محددات جديدة؛ لذلك كان على الأميرين التطرق إلى ذلك من باب الإشباع المعرفي وتبادل الآراء والأحلام في أفق مفتوح دون قيود دبلوماسية.. ثم اجتماعهما على حب الفن والشعر والروحانيات المرتبطة بفلسفة الأديان وقد انسجما معاً وسط هذه الطبيعة الخلابة التي اشتهرت بها الممالك الكنعانية.. فأين التقى الأميران إذن في سياق هذا اللقاء العجيب؟
إذ تطرق الأميران في حوارهما الثقافي العميق إلى كل المواضيع حيث دخلا إليها من خلال الأديان وبخاصة إله التوحيد الكنعاني وشمل الحديث الإله الفرعوني “أمون” وإله أمنحتب، “أتون” اله الشمس الموحد الذي كان في مفهوم اخناتون لا شريك له وذو النور الذي يفيد جميع الكائنات الحية من إنسان وحيوان ونبات، ممثلاً بقرص الشمس، وأشعتها التي تمنح الحياة والرخاء لكل الكائنات الحية.. إنه إله الشمس والريح والخصوبة؛ ومعنى اسمه “الخفي”.. وانتقد أمنحتب عملية سطو كهنة معبد الكرنك على مقدّرات مصر والممالك الكنعانية، بالتحالف مع السلطات الفاسدة من خلال جباية الضرائب، بالإضافة لما يدفعه الناس من قرابين لآلهة آمون المتجبرة بكهنتها الظالمين.
كانت الأميرة إلهام جريئة معه إذ سألته عدة أسئلة متتابعة:
” بِمَ تفكر عادة، وما هي تطلعاتك المستقبلية، وما دينك، ولمن تصلي”؟
فقال لها: “إنا لا أصلي لأحد. بل أجدني مثلك، أتأمل الشمس التي تحملينها في يدك، وتحلمين بها لتحقق آمالك، وأفكر في رع، الإله المصري الذي يعبدونه، إذ يرونه في أشعة الشمس.. الطاقة المسيطرة على الوجود.. وأنا شاب مسالم، لا أحب الحروب، ولا أحب قتل الحيوانات الآمنة”.
وبالمقابل يذهل أمنحتب برأيها المطابق لرأيه، ولقدرتها على الحوار، والتعبير عن النفس.. فينسجم معها، وتصير بينهما مواءمة يستطيعان أن يتحادثا بها، إذ قالت:
“علاقة الملك الإله برجال الدين، تشبه علاقة المغني بفريق الموسيقا. هذا يغني وأولئك يعزفون”.
وقالت:
“ما دمنا نفكر بهذه الإنسانية الخيالية، والمحبة المتبادلة، وما دمت أنت ولي عهد ملك مصر، فلماذا هذه المشاحنات بين شعبينا، ولماذا تزداد قسوة الفراعنة على أبناء شعبنا في هذه السنوات العجاف، وذلك بابتزازهم واستغلال طاقاتهم، التي اتفقنا على أن مصدرها هو إلهنا الواحد أتون-الشمس الذي يعطي الطاقة للجميع بلا تمييز.. لماذ نجد عندكم التمييز بين حاكم ومحكوم.. بين سيد ومسود.. وبين فرعوني وكنعاني؟
ثم افترقا وقد جمعهما حب “أتون” قلب رع الإله الفرعوني، وارتبطا بعهد على حلّ النزاع بين ممالكهم سلمياً درءاً لنشوب حرب مدمرة لا تبقي ولا تذر.
ومن الطبيعي أن لقاءً كهذا لن يكون عابراً وقد ترسخت وعودهما في وجدانيهما كأنها اتفاقيات ملزمة أخلاقياً بسبب التربية الرفيعة التي أغنتهما بحب المسؤولية والتمسك بالواجبات المنوطة بهما، رغم ما قد يتعرض له الأمير أمنحتب من ضغوطات معاندة لعواطفه وأمنياته الشخصية كونه سيتولى ذات يوم مسؤولية إدارة البلاد.. أي أن حياته مرتبطة بمصلحة البلاد.. لكن أميراً عاشقاً مثقفاً مثل أمنحتب سيغير المعادلة في سياق علاقته مع ملهمته الأميرة إلهام، لأنه بذلك سوف يجمع بين حبه لها، وسيظفر بحكمتها التي سيتعينه- كما سنرى لاحقاً- على مزاولة مهامه الملكية. فكيف يفهم ذلك في سياق تداعيات الأحداث المتلاحقة في هذه الرواية وصولاً إلى الذروة!
إذ أنه بعد ثلاثة أعوام من اللقاء الذي جمعهما على ضفاف البحيرة في مملكة حبرون الكنعانية، اشتد تمرد الممالك الكنعانية على مملكة مصر الفرعونية، وبينما الملك امنحوتب الثالث يتلهى بالصيد في البراري مع حاشيته، كانت زوجته الملكة “تيي” تحرض ابنها الأمير أمنحتب ( إخناتون- لاحقاً) على مواجهة الممالك المتمردة في مجدو الكنعانية، وتمهيداً لذلك قامت بتعيين أحد أقوى رجال جيشها (حور محب) قائداً للجيش.. فقد كا أحد عشاقها المخلصين لذلك سوف تستأمنه على ابنها الذي لم تكن شديدة الثقة بقدرته على القيادة؛ فهو عاطفي تتحكم به مشاعرة وكثير التأمل بالغيبيات على حساب تفاصيل واجباته في الإدارة من منطلق كونه ولياً للعهد، دون أن تدرك بأن التأمل من شيم القادة الناجحين الذين يوفقون بين مصلحة الملك والشعب والدين دون تجاوزات.. وهكذا يحقق الملك توازناته ويستطيع إدارة البلاد دون تحديات يصعب معالجتها.. وهي مبادئ قديمة ومتجددة وقياسية في كل زمان ومكان.
ولعل من أهم شواهد الخلاف الفكري بين الملكة الأم والأمير امنحتب، وبواعث الخيبة التي تحكمت بمشاعرها تجاه ولي عهد البلاد، ما ورد في النص التالي من الرواية:
"تسمع الملكة ولي العهد أمنحتب يتلو آيات صلاته الخاصة التي يمجد فيها آتون،
طبعاً تستغرب الأم هذا النأي بالنفس من قبل ولدها أمنحتب، فيقول لها بكل ثقة ورسوخ فكري وإيمان صادق:
" أنا لا أستطيع أن أُفتِّح عينيّ في هذا القوي الخارق للكون كله، المهيمن على كل شيء بعطائه.. أنا أقف خاشعا متعبداً تحت بركات أشعته التي تغمرنا، فتغسل آثامنا بإشعاعاتها المبثوثة، حرارة ونعيماً على جسدي وأجساد الآخرين.. لاحظي يا أمي أن البشر سواسية في تمتعهم بأشعة أتون..إنه يعطينا من روحه بالتساوي.. لايفرق في عطائه بين غني وفقير.. ولا بين راعي أغنام، وفارس حصان، ولا بين رجل من رجال دين آمون، ورجل لا يؤمن بهذا الآمون.. هذا الإله لا يحرق غير المؤمنين به، بل يتركهم وشأنهم يتمتعون بنوره، مثلهم مثل غيرهم، ما دام الناس كلهم أبناؤه المكرمون. هذا هو الإله المانح للجميع بلا استثناء، وليس آمون الحاقد، الحارق لكل الكافرين به بنار الآخرة، التي لم يرها أحد، ولن يراها أحد، ليُبلغ عن صحتها أو عدم وجودها."
الأم لم يعجبها هذا الكلام، وفق تقديراتها المنبعثة من مكوناتها الفكرية وتجربتها الواقعية، إنها خيبة الملكة الأم التي تسيّر الأمور على حسابات الواقع ونتائجه بابنها الذي يصرف معظم وقتها على التؤملات؛ فلم تجد إلا أن "تصرخ بولدها، ولكن برأفة أم:
يا ولدي اترك هذه الخزعبلات والخرافات، فأنت تقف في وجه فيضان نيل دافق من المؤمنين بآمون.. وانتبه إلى أن لا شيء يسمى حقيقة، فنحن ولدنا في متاهة، ونعيش في متاهة، وسنموت في متاهة، فلا تفكر في الحقيقة، ولا تجعل لأفكارك لساناً.. فهناك كلام للعامة، وهو الإله أمون، وكلام للخاصة، وهم أقرب الأصدقاء والمفكرين، وكلام لخاصة الخاصة وهو أنت وحدك لا شريك لك. فلتقل وحدك لنفسك أن حقيقة الإله هو أتون، ولا تقل ذلك للناس..لأن الحقيقة كل الحقيقة هي ما يُجمع عليه القوم، حتى ولو كان خطأً.. وليس ما يتخيله المفكرون الذين ينتهون بأفكارهم السامية إلى ساطور المذبح"
لذلك أرسلت قائد الجيش الجديد والذي ينعم بمحل ثقتها (حور محب) على رأس حملة يقودها ولي العهد امنحتب (إخناتون- لاحقاً) لمواجهة تلك الممالك الكنعانية التي استعدت لمواجهتهم بقيادة ملك (مجدو) الكنعاني، رفائيل حيث تزعم جيوش الحلفاء، من أمراء الممالك الكنعانية في بلاد الشام والذين سعوا إلى التحرر من ضغوطات المملكة الفرعونية، لإبعاد هيمنتها عليهم.
من جهة أخرى كانت الأميرة إلهام بنت رفائيل بما تتمتع به من حكمة وإلهام قد تناقشت مع والدها حول الخطة القتالية المزمع اعتمادها في المواجهة والقائمة بداية على المبادرة بالسلام، وقد كلفها الملك بتقديم ورقة سلام، بدل أن يقدم القائد الكنعاني ميكافيل ورقة الحرب باسم الإله بعل، رب الحرب والدفاع عن المظلومين في مثل هذه المواقع.. والنتيجة المفترضة لهذا الطرح السلمي وفق رؤية الأميرة التي اكتسبت ثقة الكنعانيين هي وقف الهيمنة المصرية على بلاد كنعان، وإذا فشلت المفاوضات التي من المفترض أن يشهدها الميدان، فقد قالت الأميرة كنعان في إحدى حواراتها:
"وفي حالة اندلاع الحرب التي نستعد لها بحذر، ولكننا لا نتمناها.. فلقد تفاهمنا كيف سندير المعركة، وكيف سنتصرف إذا وقع المحظور". أي أن خيار السلم إذا تبناه الضعيف فهو استسلام مهين كما هو حال معاهدة أوسلو في وقتنا الراهن.. وكان التجربة الكنعانية مليئة بالعبر التي تم تجاهلها.. ورغم شدة الموقف على الأميرة المرهفة المشاعر فقد أخذتها التداعيات في إعماقها إلى ما قالته في الحوار أعلاه:، حيث كانت ترتعش استعداداً وليس خوفاً، وهي تضيف:
"يقولون أن معركة مجدو ستكون معركة تاريخية فاصلة، وأنها ستكون ساحقة ماحقة.. ولكن القائد الأعلى الملك رافائيل، والقائد العام ميكافيل وضعا خطة لتفاديها، ليس خوفا منهم، وإنما محبة للإنسانية، وحفظاً لدماء الكنعانيين ودماء إخوتهم المصريين".
وفي ساحة المعركة وقبل أن يتقابل الجيشان، حيث انتدب الملك رفائيل ابنته الأميرة الهام لتتقدم الصفوف من أجل ملاقاة خصمها أمنحتب والتفاوض معه إن تيسر لها الأمر كما اتفقا مسبقاً، بالمقابل كان الأمير امنحتب قد تقدم في منطقة النزال إلى مقدمة جيشه، مذهولاً من سوء الحظ الذي وضعه في مواجهة مع حبيبة قلبه وملهمته الأميرة إلهام.. من هنا أخذهما حوار القلب قبل حوار العقل.. وسارا حسب إيمانهما بالاله المصري “أتون، والإله الكنعاني الواحد الأحد إيل”.. وهكذا انتهت الحرب على وفاق واتفاق قبل أن يتلاحم الجيشان فتعاهدا على المحبة والسلام.
والنتيجة كانت أن عرض أمنحتب على الملك رافائيل توثيق معاهدة رسمية لإرساء سلام ومحبة دائمة بين الفراعنة والكنعانيين كافة، واعتبارهم منذ هذا اليوم أُمّة واحدة.. والنتيجة الأهم التي قلبت كل موازين العلاقة بين الطرفين تجلت بقرار الملك بقبول عرض الأمير أمنحتب بالزواج من الأميرة إلهام، التي انتشت بين ذراعيه، وتمنت لو بقيت غارقة في حضنه، ولكنها انفضّت عنه، لتُبقي جذوة المحبة في انتظار التنفيذ.
وهنا نزلت دموع أمنحتب وهو يقول لها أمام أبويها:
ستكونين الزوجة الملكية ..
الملكة العظمى..
ولن يكون حب كبير
كحب كل منا للآخر.
وستبقين جميلة وشابة
وسعيدة إلى الأبد."
وتفادياً من اعتراض الملكة الأم على هذه الخطوة التي تجاوز فيها الابن مشورتها كملكة أم، طلب أمنحتب من صهره الملك رافائيل الانتظار لحين إبلاغ أمه بهذا الخبر، التي من المؤكد أنها ستفرح به حينما تقدر حسناته الاجتماعية والسياسية، نظراً للأسباب الكثيرة التي يعرفها الطرفان.. وبعد الحصول من والده على الموافقة، وهو يعرف أن أباه لا يمانع في مثل هذا الزواج لعدة أسباب أهمها:
- أنه يكن كل التقدير للملك رافائيل كما تجلى ذلك في لقائهما المسبق في حبرون.
- ولأنه من قبلِهِ تزوج من الكنعانية تيي، التي تحمل عنه مسؤوليات كثيرة في الحكم، معزّزة بأخيها المستشار الملكي الأكبر آي، القادم إليهم من بلاد كنعان، بعد أن كان مستخدماً كوالٍ على بعض الممالك الكنعانية، من قبل الفرعون.
وكانت الخاتمة سارة، إذ عقد الأمير امنحتب قرانه على الأميرة الكنعانية إلهام (نفرتيتي). فلحقته الأميرة إلهام بوفد عرس بهيج على ظهر باخرة فرعونية عملاقة كانت قد صنعت في جبيل الكنعانية، لتكون زوجته الفاتنة ووصلت إلى(طيبة).. عاصمة مملكة مصر الفرعونية، وهناك تقبلت الملكة الفرعونية الأم ”تيي” الأمر بكل بهجة وفرح.. وكان قد أعلن عن وفاة الملك امنحتب الثالث أثناء غياب ولده الأمير أمنحتب في المعركة ، فنصب على إثر ذلك ولياً العهد أمنحتب ملكا على البلاد.. واصبح اسمه امنحتب الرابع لكنه فور تعيينه، نودي باسمه الملكي ليكون “إخناتون” وعليه فقد نصّب زوجته الكنعانية وملهمته إلهام، ملكة على مصر، ونوديت باسم “نفرتيتي” اي الجميلة أتت.
كان لدى نفرتيتي مشروعٌ ثقافيٌ على أساس ديانة التوحيد الكنعانية (إيل) التي اتفقت بها مع إخناتون على أن يتماثل الدينان التوحيديا “إيل وأتون”، ليكون الإله الحقيقي هو الشمس وقلبها أتون، فسعت وزوجها لتحويل الناس من عبادة “أمون” إلى اله التوحيد “أتون”. واسترعى الأمر منهما تهميش سلطة كهنة معبد الكرنك الذي تلقى دعماً معنوياً من قائد الجيش حور محب والملكة الأم “تيي” لذلك آثر إخناتون الابتعاد عن الصراعات العائلية في طيبة، فقام لأجل ذلك بإنشاء عاصمة جديدة وأطلق عليها اسم “أخت أتون” وأنشأ فيها معابد خاصة بآلهة التوحيد التي سميت العاصمة الجديدة باسمها.. وعمم فيها عملة مصرية جديدة ، أسوة بالعملة الكنعانية (الشاقل) موطداً علاقة مصر بالممالك الكنعانية على قاعدة الاحترام المتبادل.
من هنا دب الصراع غير المعلن بين اتباع “أمون” في العاصمة طيبة يقوده كهنة الكرنك من جهة، واتباع وكهنة أتون في العاصمة الجديدة “أخت أتون” بقيادة الملك إخناتون وزوجته وملهمته الكنعانية “نفرتيتي”.
واستمر الحال طويلاً لتنساب المياه من تحت قدمي الملكة المغبونة نفرتيتي فتوجه لها المفاجآت ضربتها الموجعة فتخرب مسيرة حياتها، وذلك بزواج الملك إخناتون من ابنتهما الأميرة “ميريت أتون”، وكان الزواج في دائرة الأقارب الضيقة مسموحاً به.. والأنكى أن الملك إخناتون الذي خان عهده بحبيبة قلبه نفرتيتي قد انغمس في حياته الشخصية مع زوجته الجديدة وعمد إلى حياة اللهو والترف على حساب قلبها المكلوم، ومصالح مملكته الممتدة التي عمّت فيها الفوضى ليتلظى المُلْك تحت قدميه.. وخاصة حينما ضربت في كبريائها الملكي بإعلان ابنتهما وزوجته الجديدة”الزوجة الملكية العظمى” فتكون نفرتيتي بذلك قد خرجت من مركز الفعل إلى هامش الضياع.. حيث عانت “نيفرتيتي”.. وأصيبت من جراء ذلك “بلوثة عقلية لم ينجُ منها دماغُها، مما اضطرها للخروج من قصرها،
وأخيراً تخرج نيفرتيتي من قصرها، والتداعيات التي أدت إلى ذلك كثيرة ولا مجال لتفصيلها في سياق هذا المقال الذي جاء ليركز على مكونات العلاقة الوجدانية بين نفرتيتي الكنعانية وإخناتون حيث اجتمع ذووه، الذين كانوا مختلفين على حقوقهم لخلافة الأسرة الثامنة عشرة، فأسسوا أسرة جديدة، وأسَاؤوا لسمْعَة إخناتون وخلفائه، مشيرين إليه في السجلات الأرشيفية، بلقب “العدو”
“مات الملك إخناتون مُحطم القلب.. بعد أن أدرك أنه لم يعد مقبولًا لدى شعبه، وأن شعبه غير جدير به. مات واندثر بلا مراسم جنازة تليق بمقامه، ولا حتى أغاني جنائزية من أشعاره التي هزت الفكر الكوني، وأوصلت السماء بالأرض. مات فعادت مصر إلى الممارسة الدينية الأصولية الأمونية المستبدة تدريجيًا.. حتى أنه بعد عدة أعوام، لم يكن حكام الأسرة الثامنة عشرة متفقين على حقوق واضحة للخلافة، فأسسوا أسرة جديدة، وأسَاؤوا لسمْعَة إخناتون وخلفائه” من جديد وسعو لطمس آثاره .
هذه هي سردية إخناتون العاشق. وها هي حبيبة قلبه وملهمته، الكنعانية الأصل نفرتيتي.
حيث كانت تداعيات الرواية منطقية وفق أحكام التاريخ في تفاصيله الدقيقة؛ ليدخلها الكاتب في أجواء خيالية خدمة للقصة التاريخية المحورية. وهذا دارج في القصص المستلهمة من التاريخ.. وقد سبق فحماوي الروائيُّ الكبيرُ نجيب محفوظ الذي كتب الثلاثية التاريخية:
( عبث الأقدار 1939، رابوديس 1943، كفاح طيبة 1944) بالإضافة لرواية “العائش في الحقيقة” (1985) التي تحدثت جميعاً عن إخناتون. وهي ذات الفترة التي غطتها رواية فحماوي”إخناتون ونفرتيتي الكنعانية”.
عمان- الأردن17-6-2020.
الرواية تقول الكثير وهذا غيض من فيض..
21 يونيو 2020