الأخبار
2025/7/6
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

قراءة في قصيدة د. باسمة محفوض في البدء كانت القصيدة بقلم: د. وليد العرفي

تاريخ النشر : 2020-06-22
قراءة في قصيدة د. باسمة محفوض في البدء كانت القصيدة  بقلم: د. وليد العرفي
قراءة أسلوبيّة في قصيدة : "في البدء كانتِ القصيدة" للشَّاعرة:  د. باسمة محفوض
 بقلم:  د. وليد العرفي

تبدأ الشاعرة د. باسمة محفوض قصيدتَها بشبه الجملة : (في فضاء)، وهذا الاستهلال ينم على تحديد مكان؛  فحرف الجر هنا يدخل في إطار تحديد الحيز المكاني ، وهو حيز مفتوح ، ومتعدد، إنه فضاء يعج بأسماء النساء ، والمرأة رمز دال على الحيوية والخصوبة والتجدد فكيف إذا كان جمعاً ؟ تقول :

في فضاء يعج بضجيج النساء ما بين سجا ولودا وزهرة…
وصياد كان قد خرج إلى غابة الكلمات ؛ ليحتطب قصيدة يستدفئ بها ويولم للقلم والدفتر…
ما بين أقصوصة خرافية وخرافة واقعية…
ما بين أجيال وأجيال من الورود…
تتمايل تلك القصيدة بكامل أنوثتها ، وطغيان جمالها ، وفستانها الحريري المخضوضر…
تجلس على صخرة الإحساس ؛ فتنبجس منها آلاف الكلمات… والصياد يراقب…

وعلى هذا تتبدَّى جمالية التقديم الذي يأتي بصورة الصياد الذي يبحث عن اقتناص القصيدة واللحظة العابرة في هذا الأفق الذي بدت فيه الشاعرة ترسم لوحة رومانسيتها من خلال المكان (غابة ) والطبيعة التي ظهرت عبر الحقل الدلالي من خلال دوال  : (ورود ، يحتطب ، يستدفىء ، صخرة ، تنبجس ، مخضوضر ..." والعودة إلى الطبيعة عودة إلى الفطرة والذات وهي إذن إعادة الاعتبار إلى العفوية والحرية هي تجاوز للتقاليد بصيغها الاجتماعية والفنية "[1]. 

يخرج الصياد من كنانته قلما ويصوبه نحو بياض الورق
فيحتك القلم بالورق على أمل أن تخلق قوة الاحتكاك شرارة من وحي وإلهام…
ويمعن الصياد في محاولاته البدائية؛ ليشعل شرارة الكلمات فتكون له بداية حضارته وأول تأريخ لوجوده…
تراقبه القصيدة، وهي جالسة ساق على ساق وتبتسم…
ترمقه بعينيها الجميلتين ، ثم تختفي في أعماق الغابة ضاحكة هازئة بجفاف القلم، ويتم الورق…

تتجلّى هنا جمالية التصوير ، وفاعلية الحدث الإبداعي باستدعاء الشاعرة قصة الإنسان البدائي في اكتشاف النار ، والنار أحد عناصر الطبيعة الأربعة إلى جانب الماء والهواء والتراب وقد حقّقت الشاعرة وجودها باللفظ أو الإيحاء ، وهو ما يستلزم إكمال تلك العناصر ؛ لإتمام مشهدية الحياة ، وتكامل عناصر الوجود مع بعضها بعضاً في تضافر جمالي ، ورؤيا تُعبّر عن ارتباط بواقع موجود ،لا بواقع متخيل افتراضي ، وهو ما يبدو في المقطع الأخير الذي يرسم نطاق حركته من خلال حركة التفات أسلوبي  بالانتقال من نمط التعبير السردي ، والكلام الخبري إلى نمط الأسلوب الإنشائي عبر صيغة  النداء : "
يا من حسبت أن اصطياد القصائد كاصطياد الطرائد فكر ثانية…
بوسعك أن توقع الطريدة في شباكك ولكن… حذار أن تقع في شباك القصيدة…
حذار من أوزانها وموسيقاها الشعرية…
حذار من تعابيرها المجازية، وصورها الرمزية التي تنقلك بلحظة من حياة إلى حياة…
حذار من قوافي خصرها ، وشلال شعرها ذي التفعيلة الحرة…
حذار من تمردها على كل المدارس النقدية…
حذار من سطوة حضورها الأنثوي الخلاق الذي يمحو بلحظة اسمك وعمرك وتاريخ ميلادك…
فإن حسبت أن الإبحار بين أمواج القصيدة كاقتطاع الحطب الجاف… فكر ثانية…
لن تولم للقلم والدفتر ما لم تلتهمك أشواق الكتابة…
لن تحتضنك القصيدة ما لم تقدم لها قلبك بكل مكنوناته الصافية الخالصة لا عيب فيها…
لن تتمايل القصيدة بقدها المياس بين أوراقك ما لم تركع في مذبح الإبداع وتتألم…
فبالألم تولد القصيدة…
لن تلثم شفاه القصيدة ما لم تصرخ شفاه قلبك….حيّ على الشعر…
لن تلد منك القصيدة بنتاً ما لم تكن شاعرًا حقيقياً تعمَّدْ وتوضأ في أنهار الشعر المقدسة…
في فضاء يعج بالنساء ما بين جهينة ورود وجنا ومجهولة…
تصمت الأصوات وتتسامى تراتيل الشعر… في البدء كانت القصيدة

وفي هذا المقطع يبدو ارتباط النص بمرجعيته الواقعية ، إذ تقيم الشاعرة حواراً مع الآخر الذي تتوجه إليه باسم فعل الأمر ، وهذا الأسلوب من القول الإنشائي يقوم بحمولاته الدلالية التي تُعبّر عن تخرج عن مقاصدها الآمرة إلى مساقات لفت الانتباه ، وإرادة قيام المخاطب بتغيير سلوكه ، وحرفه عمّا هو إليه ، واستمالته إلى ما تريده الشاعرة ، وقد لجأت الشاعرة في هذا السياق إلى تقنيات أسلوبية إضافية تمثلت بــ :

أولاُ ـــ تقنية التكرار : ويُشكل التكرار في الحياة عموماً ، واللغة الشعرية خصوصاً سمةً من السمات الأسلوبية المائزة ؛ لأنَّ : " الشاعر لا يكرر لفظاً  إلا إذا قصد من تكراره معنى أو إيحاء أو شعوراً خاصَّا "[2] 

وقدْ تردّد التكرار في نص شاعرتنا باسمة مفوض :  بشكليه الحرفي واللفظي :

1ــ تكرار الحرف :  وهذا النوع من التكرار يفيد بتأكيد المقولة التي جعلت من الحرف لازمة تتكرر بهدف تأكيد النفي في الحرف : " لن " ، وللتكرار الصوتي قدرة على تعميق الأثر في المستمع ، وهو  يعود إلى : ( فعالية الأصوات في قدرتها على إضافة طبقة دلالية من خلال الطبقة الصوتية )[3]، والصوت هو العامل  الأكثر تأثيراً  في التعبير الذي يريد الشاعر إيصاله  عبر ما يتردد من إشارات رامزة خافية ؛ فنبرة الصوت تُمكّن من تأدية معنى ما ؛ فهو  : (  صيغة خطابية رامية إلى تلوين الرسالة الشعرية بمميزات صوتية مثيرة هدفها إشراك الآخر المتلقي في عملية التواصل الفني ، ولذلك يُعدُّ التلازم الحرفي من أعم خصائص الخطاب الشعري في البنيات التشاكلية[4] ؛ فهو وفق هذا التصور يعمل على: (تهيئة السامع للدخول في أعماق الكلمة الشعرية )[5] ،              

2ــ تكرار اللفظ المفرد : وهذا النمط من التكرار يهدف إلى تأكيد القول المكرر، وإثباته ؛ ففي تكرارها : " احذر" سعت الشاعرة إلى محاولة استلابها إرادة المتلقي ، وربطها بإرادتها التي جاءت عبر تكرار يُفيد بما تراه وتريد من المتلقي إنجازه من رغباته التي لن تتحقّق إن لم يُغيّر سمت التعامل مع القصيدة .

ثانياً ـــ تقنية التعالق النصي مع الموروث الديني ، وقد شكّل التراث الديني  منهلاً خصباً للاستقاء منه بما يُمثّله  ذلك الإرث من مُسلَّمات قارّة ، وأفكارٍ ثابتة خالدة في الفكر البشري   من نمطيات التعالق الديني نجد :

ــــــ التعالق مع  التراث الإسلامي الذي لجأت فيه أول ما قيل من إشهار للإسلام ، وهو  تكبير الآذان " حي على الصلاة"  الذي نطق به بلال الحبشي ؛ فكان إشهاراً للدين الإسلامي الجديد ، وإعلاناً عن تأسيس الدولة الإسلامية الوليدة حينها ، وقد جاء  في سياق محوّر بقولها : " حي على الشعر"

ــــ التعالق مع الموروث الديني  في الكتاب المقدس الذي استثمرت مرجعيته في إحالة العنوان عليه : " في البدء كانت القصيدة " ؛ فهو إشهار للقصيدة يُحيل على مرجعية ما ورد في الكتاب المُقدَّس  :

في البدء كانت الكلمة والكلمة عند الله وكان الكلمة الله " [6]

ولا بدَّ من الإشارة هنا إلى أنَّ الشاعرة قد أفادت من مرجعية  تلك المقولة ليس بوصفها منقولاً بما هي عليه ، وإنما قد وظّفتها بدلالتها التاريخية المرتبطة بالماضي من منظور خاص بها يُعبّر عن رؤيتها المعاصرة لما تؤمن به ، وتعتقد فيه .

ــــ التعالق النصي مع مقولات الرومانسيين الذي يتبدّى في قولها :

" بالألم تُولد القصيدة "   فهي تُحيل على مقولة لا شيء يصنع الشعر العظيم كالألم العظيم ، أو الشاعر معدنه الألم

وهكذا تبدو الشاعرة د. باسمة محفوض شاعرة ذات لغة اكتسبت خصوصيتها من خلال أسلوبها الذي وسمته بطابعها الرومانسي الشفاف ، وقد أضفت عليه بصمتها الذَّاتية التي جاءت بلغة سهلة واضحة تعرف كيف تُحدّد سمت بوصلتها من دون أن تنحرف في منعرجات المصطلحات الضبابية ، ومخاتلات اللغة الغامضة ، وقد كان ذلك الطريق الذي جاء باستقامته وشفافيته أقصر الطرق في الوصول إلى قلب المتلقّي ، واستطاعت بحنكة ومهارة دغدغة أحاسيسه ، والاستحواذ على عاطفته .   

[1] ـــــ خالدة سعيد : (1986) م ، حركية الإبداع  ، ــ دراسات في الأدب العربي الحديث ــ  ، دار الفكر ، بيروت ، ط 3،  ص 27.

[2]ـ  نعمة العزاوي (1978) م :  النقد اللغوي عند العرب حتى نهاية القرن السابع عشر الهجري: ، بغداد ، ص 68.

[3] ـ مصطفى صالح علي :  أسلوب التكرار في شعر نزار قباني ، جامعة الأنبار ، العراق ، ع:33، ص 145  .

[4] ـ عبد الرحيم كيوان : (2002) م ، من جماليات الإيقاع في الشعر العربي ، دار أبي رقراق ، ص 290    .

[5] ــ موسى ربايعة :  (1990) م ، التكرار في الشعر الجاهلي ، مجلة مؤتة ، الاردن ،  مجلد 5 عدد 1، ص 167

[6] ــ يوحنا : 1/ 30
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف