
محمد آيت علو
شقوق مضيئة
قصص قصيرة
الأصواتُ تتعالى، تقدم أحدهم ولم يكن مجبرا من رؤية كل ما يمكن أن يدفعه إلى مأزق ما، حتى لايعير النظر دافعا للهجوم، يغمض عينيه، يظهر اللامبالاة تماما مثل الآخرين، كل مستقر داخل حالته، كأنهم منقطعون عما حولهم، لايعنيهم شيء، تقوقع تام، يغردون خارج سرب وحدتهم، يعرفون مسبقا ما ينتظرهم وما يتطلعون إليه، مشى بخطوات متثاقلة بطيئة..كان يبدو في العقد الخامس، وقد غزا الشيب مفرقه، وهو يقدم بطاقات الأعضاء يمدها إلى من لايراهم...وكان ما يجري أمامه قد وصل إلى مرحلة انفلات الأصوات، حرارة الأنفاس لم تبرد بعد، فما زالت الأصوات تتعالى وتختلط وتختنقُ حينها...فقد تمنوا لو كانت أوراقا نقدية بدل هذا الهراء...فكلهم يكرمون بعد فوات الأوان...!
الآن... قد يموت الواقفون..وكل الشعراء الحالمين الأصفياء والبسطاء قد يتنقلون إلى الضفة الأخرى،وقد يموتون لأنهم رقيقوا الإحساس...وأما أنا فستغلقني الأبوابُ ...بلا كلام. أما اليراع فقد تفيأ منحى آخر من البوح، باقتحام الذات وانقلابها عليه في الآن نفسه...وببَسط ما شاءَ له الانفلات من الألم والكمد...وقبل الختم وبعده، لاشيء تغير الكبر والعُجاب والحسد والتعالي والزهوُ الخَادع وكل ما يجري بين المثقفين وللأسف هو ما يجري في كل لقاء..أشبه بالذي يجري بالكهوف المجاورة...صرتُ أدركُ أن لفظة الثقافة التي هي شديدة الصلة بحياتنا، قد تميعت بل مسخت، أو ربما نحن الذين ضخمنا معناها بشيء من الهلامية والفضاضة المائعة، أدركت الآن أن الثقافة فعلٌ وليست مصدرا، إنها قيم وارتقاء وسمو نحو إنسانية الإنسان، وعلينا أن نعبر عنها بما نقوم به ونفعله. وإلا فويل للعالم من المثقفين إذا فسدوا، ثم لملمتُ ما تبقى من شدوي وحنيني، وما تبقى من فكري وصرخة روحي، ولم أستطع أن أتطهر أو أتخلص، فقد بقي هناك شيء ما يجثم على صدري...
أخي التوأم لم تكن هوايتُه القراءة ولا الكتابة، فهو لم يخط خطا ولن يفعل...ولن يكتبَ شيئا، ولن يحكي أية قصة عن الذي يقع...، ولايستطيع أن يتبنى أي رؤية، ولا أعتقد بأنه سيكتبُ سطرارسالة على حين غرة، وهو مثلُ أبيه لم يكتب خاطرة في حياته، لو سألت زوجته لفضلت الموت على كتابة سطرا واحدا، ولا أحد يكترث، لقد بدأت القصيدة بالتشتت والضياع لهذه الأسرة الصغيرة...مرة أخرى يُقتل الطفل في أحضاني، وأنا لا أدري، ثم هأنذا أفتح عيني حين أفتحها على كثير ...ولكن لا أرى أحدا...، ثم اقشعر بدني ورحلت...
ويبدو أنه كان في هذا الوقت بالذات كمن يقرأ كل أفكاري التي أحملها وأعتقد فيها...
فقد تخلى عن جائزته مقابل مبدإ كان يسكنه، ويتمثل في رد الاعتبار للجنوب المتوسطي تضامنا مع قوارب الموت...، مؤكدا على ضرورة رد الاعتبار لساكنته...
وكأنني ما زلت أسمع صدى صوته ونحن ننزل عبر سلاليم مبنى إذاعة طنجة الجهوية، بعدما توقفنا بقاعة الانتظار ، آنذاك وكأنني أرى الشمس وهي لا تكف عن مغازلة ضفائرها الذهبية...
يجلسُ سارحاً في شيء، عندئذ نهض عبرَ حطامه، نهضَ يحملُ حقيبة بنية بالية، وعيناه ضباب رقيق من الدموع ، يتكاثفُ فوقَ خديه، وتجاعيد الوجه عناقيد من الأسى، بدت أرجوانية في شمس الغروب، أصبح نضجها ملائما للدود، كأنما - وقد كان من قبل- يزرع حلمه في أرض خصبة، كي ينمو غرسه في اطمئنان، يرويه نهر الحب الوافد من أعين القرويين البسـطـاء، والأطـفـال، ويحصدونه فُلا وريحان، لا تغزوها الأحقاد، كأ نما ــ وقد فتح أشرعة مراكبه ــ يحاول أن يدير الدفة في وجــه التيار، لكن الموج يعلو، ويعلو، ويتناثر، ويعلم بأن عبور النهر يحتاج للرجال، لكن، هل كان العجوز حقاًّ يريدُ أن يلقي بنفسه في رحم التيار...؟!
اللَّونُ الأبيضُ المشِعُّ على امتدادِ الأفُقِ، يكسر اللونين الأخضر والأزرق، ثم يتوارى ويقبعُ خلفَ ستائر الخشوعِ إجلالاً لمن رحَلُوا، الجميع ينامُ رغماً عنهُ هنا الآنَ...! وأنا المجنَّحُ الوحيدُ بين هذه الحشودِ النَّائمةِ، أشعرُكأني بقيتُ مُنزوياً منعزلاً وحدي هنا، وكأنه لم يعد لي شيءٌ سوى أن أشربَ الحياةَ في جوفِ البحرِ...وأتنفس الهواء العليل في مكنونِ الغابةِ، وأتدثر بأوراقِها وأتسربلُ بأزهارها وأستنشقُ عبيرَ أريجها، وأتنقلُ في رَحِمِ طهرِها وصَفائِها، وأحتمي كقبرٍ مضيئٍ بنقاءِ وصفاءِ نقائها....
أرنُو إلى المقبرةِ فأرى على الشواهد أسماءَ مَنْ مَرُّوا، أستنفرُ خطايَ مِنْ مكانٍ لآخرَ، أرى الغابةَ والبحرَ تمتلئ الحياةُ في عيني مزيجاً من الثَّراءِ، في عِبارةٍ أو شَذْرةٍ من شذراتِ الولَهِ "هذه خلوةُ من خبرَ الحياةَ وعبرَ في صمتٍ".
البحرُ زاخرٌ بأَشْرِعَةِ الحياةِ والأسرارِ، والغابةُ حين تنحني كأنها تنبئ بسرِّ الوُجودِ لتمتَدَّ في الأعالي شامخةً بعد هدوءِ العواصفِ والأنواءِ، ضاربة في أعماقِ الأرضِ والحياةِ بالظِّلالِ والعَطاءِ...أجلسُ القُرْفُصاءَ أمام المقبرةِ...أُدْرِكُ بأنَّ هُنا سِرُّ الأسرارِ..تَنْبُتُ أحزاني فجأةً، أسحبُ أطرافَ الأفكارِ المبتورةِ الموزَّعَةِ على كافَّةِ الأرجاءِ بينَ البحرِ والغابةِ...تلك انطلاقةٌ أُخْرَى لتضربَ بأجنحتِكَ الوقتَ الآسر...
وكأنَّني أجتازُ قفراً من الغرَابةِ والعُزلةِ الآنَ...! أدُورُ في متاهاتِ تفكيرٍ تائهٍ، أغْفُو وأَسْبَحُ متأمِّلاً، أرى ما لا يُرى، يعتريني طيفٌ مِنَ الرُّؤَى والوجوهِ والصورِ، مثقلة بالآيات والعِبَر، فعلى لِحى أشجارِ الغابةِ نُحِثَتْ أسماءٌ وقلوبٌ...، وعلى شواهدِ القبورِ رُصِّعَتْ أسماءٌ وأسماءٌ لمنْ عَبَرَ في هذهِ الحياةِ، وآياتٌ وعِبَرٌ شتَّى أُخَر..، أرنُو إلى المقبرةِ فأرى الشَّاهدَ شاهِدَ صاحبِ الخلوةِ، فأتلبَّس بحرفِ البدءِ والختمِ مَرَّةً أُخْرَى" هُنا يرقدُ ..من كانَ يحبُّ الحياةَ!!" فأشتعِلُ بالوَلَهِ!! تَضْطَرِبُ حالتي، تختَفي مَعَالمُ طَريقِي، وأَجْزَعُ من الخاتمةِ! أُفتَتنُ كمن يرتعِشُ في يدهِ مفتاحُ بابٍ وهو في عَجَلةٍ من أمرهِ لموعدِه معَ سفرٍ عاجلٍ لَمْ يُرَتِّب لَهُ وَلم يكن في الحُسْبَان، رَحَّالَةٌ بلا محطَّاتِ وُصُول....هو الَّذي كانَ يحلُمُ بالحُبِّ والسَّفَرِ البعيدِ، لكن هذهِ المرة تتَثاقَلُ الخُطُواتُ كمَنْ لايَنْوِي الوُصُولَ....
الغائبونَ تحتَ التُّرابِ أكثرُ حضوراً منَّا، وقد مَضَواْ فوقَ أَجْنِحَةِ الرَّحيلِ، كشواهدَ القُبورِكانَ غِيَّابهُم، أُوَدِّعُهُم رغماً عَنِّي، ويمضون إلى حيثُ تستريحُ أرواحُهُم..، وجوهُهمُ المُشرِقَةُ كما لَوْ كانَ موتهُم اختيارُهم، كانوا نجوماً في الظُّلْمَةِ، ترَكُوا السَّاحَة مَلآ بالحُضورِ الزائفِ وغابُوا بشيءٍ يُشْبِهُ الفَقْدَ...لكن ذكراهُم ستظَلُّ مَوْشُومةً مُشِعَّةً في القلبِ، فلقد عاشُوا للخيرِ والحُبِّ والعطاءِ، وسيلهجُ ويَنْبُضُ القلبُ بذكرِهِم، قلوبهُمُ النابضة بالصِّدْقِ والإشْرَاقِ وحُبِّ النَّاسِ لن تتوقَّفَ، وستدقُّ دقاتٍ عديدةٍ إلى آخرِ العُمْرِ...! رحالة تركَ خلفَهُ أكبر الأثر!!
هذانِ دَربانِ، الأوَّلُ يأخُذُني للبحرِ، والثاني يأخذُني للمَقْبرَةِ...فأَرْنُو إلى القبورِ، أستنفرُ خُطايَ، أفكر في النهاية، أحتاطُ من المجهولِ، أُنْصِتُ لنداءِ الغيبِ، البحرُ زاخرٌ بصنوفِ الحياةِ، يمنحُ الكائنَ أسرارَ الدَّهْرِ المنسابةِ كالأمواجِ في مدِّها وجَزْرِها، أشرعة بيضاء تنشرُ امتداداً من الحياةِ الذَّاهِبَةِ الفانيةِ، والقبرُ مليئٌ بحياةٍ أبديةٍ حقيقيةٍ خاليةٍ من الزَّيْفِ، حياةٌ طاهرةٌ صامتةٌ لكنها كاشفة، هُنا جواب واعضٌ يقينِيٌّ عن كل أسئلتي وحَيْرَتِي، وأرى ما لايُرى، فهأنذَا أطوفُ ما أطوفُ، لكن حتماً سَتَسْرَحُ بي قدمايَ رغماً عَني حيثُ تريدُ...
أعتمِرُ قُبَّعَتي ثم أُصَوِّبُ خُطايَ من نُقْطةٍ ما ثم تنطلقُ الخطواتُ...، تتساقطُ اتِّباعاً في مَهَبِّ ما لايُدْرَكُ، والقلبُ يَنْخَلِعُ من مكانهِ، يتهَلَّلُ للوداعِ، قد تهدينا الخُطُواتُ إلى ما قد وُجِدَ بهما، قد أركضُ وأَجْتَرُّ حرَّ الآهِ...! ثم أنبِشُ عن مُسْتَقَرٍّ يمسحُ ما في القلبِ من كَمَدٍ، مستقر أُسائِلُ فيه عن حرفِ البَدْءِ وحرفِ الختمِ، فأطلبُ مدداً...، غير أنَّ خُطوةً واحدةً خاطئةً قد ترميني في الهُوَّةِ السَّحيقَةِ، لكن حَسْبِي الإحْتِمَاءُ بالحذرِ إن نفَعْ، أُقَدِّمُ رِجْلاً ويُؤَخِّرُ أُخْرَى، كمَنْ لايَنْوِي الوُصُول...
كانَ ذلكَ آخِرَ يومٍ له بيننا هُنا، ورقةٌ أخرى تُطْوَى إلى الأبَد، لم يُسْعِدْهُ أحدٌ حتى الوداعَ الأخيرَ، حدَّ الرَّمق، رمق النهاية، لم يبقَ لي غير ذكراه الجميلة، صورتُه الوحيدَةُ على الجدار، لا أحدَ يشعرُ بكآبَتِها، عيناهُ تحدِّقانِ في، وكأنَّ رُوحَهُ تتلبسُ بي...ترتِّلُ أشواقَهَا في ثُقوبِ الشَّبابيك... وكأنَّ واحدنا يشبِهُ الآخرَ، لم يكن يحبُّ الصُّعودَ إلى القِمَمِ أو الإبحارِ، لكنَّهُ كان يحِبُّ البحرَ ويسيرُ قريباً منهُ، وَيتبعُ الغُروبَ إلى أقصى نُقطَةٍ، لكن كل ما فَخِرَ بهِ فيما مضى صارَ مجرَّدَ تخاريف، وعبثاً حاولَ الخروجَ، عبثاً حاولَ تَضْميدَ الجراحِ، لكن الريَّاحَ تأتي على غيرِ اشتهاء...
لم يكن ينامُ كثيراً في آخر أيامِهِ، كان يتَّكِؤ بحذائهِ المثقوبَ وكان دوماً على أُهبَةِ الاستعدادِ، لأنَّهُ كان يحلمُ بالحبِّ والسَّفرِ البعيدِ ...
الخطواتُ تتلوها الخطواتُ، وهو يمشي ثمَّةَ مكانٌ سوف يصلُ إليه، وبعدهُ ثمةَ مكانٌ آخرَ، لم يحس بخطاه أبداً، لايلتَفِتُ، كلُّ الأشياءِ من حولهِ تبدُو غائمةً، والشمسُ محرقةٌ، والسرابُ يكتَسِحُ الطريقَ الوَعْرَ الجافَّ، منذُ ساعاتٍ وهو يسيرُ، شرَدَ ذهنُهُ إلى بعيدٍ، إلى الماضي الَّذي تجسَّدَ أمامهُ في هذهِ اللَّحَظاتِ، فَرَاحَ يستعرضُ صُوَّرَهُ...كمَنْ يحاولُ عبثاً أن يُقَصِّرَ المسافَةَ، فلا الطريقُ قصُرَت، ولا الذِّكرَياتُ جادَت، تعب ولم يتعب الشُّرودُ، ووَهْمُ الوصولِ مُرْفَقٌ بألفِ احتمالٍ، فلقاءُ أُمِّهِ قد يكونُ الأخيرَ..
كم هو فظيعٌ أَلمُ الفراقِ...سنواتٌ سيئة، حين يعيش الإنسانُ على ألمِ الفقدِ، وكعادتهِ يظلُّ يمشي تائهاً يستَبِدُّ بِهِ الشُّرُودُ من كفنٍ إلى كفن، يعصُرُه الصَّمْتُ سحاباتٍ وقلَّما باسماتٍ، تسقي أَدِيمَ الرَّحيل، يتجرَّعُهُ العَويلُ مسافاتٍ بين النَّعيمِ والجَحِيمِ، بين اليقظَةِ والحُلْمِ، والخُطوات تصيرُ أَمْيالاً!
تَعِبَ من كثرةِ المشْيِ، المسافةُ طويلةٌ، وحقيبةُ الأغراضِ الَّتي يحملُها على كتفهِ ثقيلةٌ، والطريقُ ما تزال طويلة، تحسَّسَ الصَّخْرةَ الملساءَ بالقربِ من الشَّجرَةِ الوارفَةِ الظِّلالِ فجلسَ، نَظَر َبالقُربِ منهُ قافلةٌ من النَّملِ راح يُتابِعُها، ثم نظرَ بعيداً...
هُوَ الَّذي قد ترحلُ أمُّهُ هذا اليوم، يأخذهُ الشَّتاتُ والتِّيهُ إلى حيثُ لايدري، يُسنِدُ ظهرَهُ إلى جذعِ الشَّجَرةِ ليستريحَ، يُمَدِّدُ جسَدهُ على الأرضِ العراءِ كمَنْ لايَنْوِي الوُصُولَ.
كانَ ذلكَ آخِرَ يومٍ له بيننا هُنا، ورقةٌ أخرى تُطْوَى إلى الأبَد، لم يُسْعِدْهُ أحدٌ حتى الوداعَ الأخيرَ، حدَّ الرَّمق، رمق النهاية، لم يبقَ لي غير ذكراه الجميلة، صورتُه الوحيدَةُ على الجدار، لا أحدَ يشعرُ بكآبَتِها، عيناهُ تحدِّقانِ في، وكأنَّ رُوحَهُ تتلبسُ بي...ترتِّلُ أشواقَهَا في ثُقوبِ الشَّبابيك... وكأنَّ واحدنا يشبِهُ الآخرَ، لم يكن يحبُّ الصُّعودَ إلى القِمَمِ أو الإبحارِ، لكنَّهُ كان يحِبُّ البحرَ ويسيرُ قريباً منهُ، وَيتبعُ الغُروبَ إلى أقصى نُقطَةٍ، لكن كل ما فَخِرَ بهِ فيما مضى صارَ مجرَّدَ تخاريف، وعبثاً حاولَ الخروجَ، عبثاً حاولَ تَضْميدَ الجراحِ، لكن الريَّاحَ تأتي على غيرِ اشتهاء...
لم يكن ينامُ كثيراً في آخر أيامِهِ، كان يتَّكِؤ بحذائهِ المثقوبَ وكان دوماً على أُهبَةِ الاستعدادِ، لأنَّهُ كان يحلمُ بالحبِّ والسَّفرِ البعيدِ ...
...ها خم قد غابُوا بشيءٍ يُشْبِهُ الفَقْدَ...لكن ذكراهُم ستظَلُّ مَوْشُومةً مُشِعَّةً في القلبِ، فمن بين ما أتذ كر من دُرَرهم وحكمهم وبمزيج من العشق والشوق، ما ذكره لي ذات يوم أبي ناصحا " لو علمت السرعة التي سينساك بها الناس بعد موتك يا بني...فلن تعيشَ لإرضاء أحد سوى الله".
منذُ ذلك اليوم، وأنا أدعو لوالدي أن يتغمدَهُ الله برحمته، ولم ولن أنساه ماحييتُ.
تردد
كمن يتهيأ للمغادرة، لكنه سرعان ما يعود ليخلع معطفه وقبعته ودثاره، ويعلق كل ذلك على المشجب، ثم يدلف إلى الحجرة، ويغلق الباب الداخلي وراءه، ولفترة طويلة ظل يرتب احتمالاته، حتى بدَا له القرار في النهاية، بعد الذعر المجنون الذي تراكم على وجهه الممتقع، ووضح بصورة أشد من ارتعاد شفتيه، وحالة التقوقع المخيف التي طحنت رأسه، وجعلته يغوص بين كتفيه، ضاغطا الجزء الأكبر من عنقه تحت ياقة القميص، تاركا معطفه الثقيل، والآن يهبط السلاليم العريضة في خفة طائر رافعا المكان إلى هيأته، فجأة يفتح الباب، ويطل برأسه ثم يقفله بسرعة، وقبل أن يفتح الباب ثانية توقف برهة كمن فطن إلى أن الشارع يعوم في سراب ووهم دائم، وباشتباكات الضغينة والشرور والمآسي...، يفتح الباب أخيراً كأنه نسي شيئا، لكنه لايطل...ويقفل الباب، لم يكن يعلم بأن شيئا قد انصرف من أمام بابه يحاول جاهداً اختلاس النظرات...!
وأنطلقُ إلى الشوارع...صوت حبيبتي الصغيرة يملأ كياني، والرذاذ يغسلُ هموم القلب. وما تزال الأرضُ الطيبةُ تحتضنُ مطر القلب ومطر السماء، مزيجاً واحداً يجسدُ حقولً اللهفة، ويرسمُ تفاصيلنا الصغيرة، ويعلنُ إصراره على أن نفتح في جدران الحزن كوةً للفرح والغبطة.
تعبثُ الريحُ بخصلات شعرك قبل أن يداهمك الصلعُ، وتلهو بمزق ثوبك ولا تعيرُ لشيء اهتماما.
تستلهمُ من الضمير صلابتهُ، ومن الحفيف موسيقاه...وتسرحُ في الحقول كنسمة صيف رطب طبيعة داخل طبيعة. ثم تحاولُ كما الغجرية أن تسابق الريح، وهي تقترب من الشاطئ ذي الرمال الذهبية، كانت أمواج البحر حين ذاك ترتطم فترسل رذاذها المتناثر على وجهها، مدت ببصرها إلى زرقة البحر وصفاء السماء، وهمت وحاولت أن تنسج منها شيئاً للذكرى، ثم تنهدت وأخرجت زفرة طويلة من صدرها المتعب، وانسكبت دمعة من مقلتها وهي تنظر إلى المدى البعيد. أسرعت اللحظات وأخذت الشمس تودع المكان وتعانق موج البحر المتلاطم وقرصها يختفي شيئا فشيئا. لم تكن تعلم إلى أين ستقودها قدماها، نظرت لمغيب الشمس الذي عكس لوناً قرمزياً على صفحات موج البحر الثائر، لكن الأحلام صارت ممزقة.
يَنقُرُ المطرُ زُجاجَ النَّافذَة....كعصفورة بريَة...يرقُصُ قلبكَ للمفاجأة المفرحة...تركضُ إلى النافذة..تشرعُها للمطر..تطلُّ بوجهكَ وتُفردهُ شراعاً ضاحكاً للريح...يُهاجمُكَ البردُ ثم الطين يحط على وجهك ويديك، تدركُ أن المطرَ سُلبَ نَقاؤه..تقفلُ نافذتك وتعود..صوت حبيبتك يأتي رقيقاً وراقصاً هذه المرة فرحاً بالمطر الذي رأت فيه ما لم تراه..وما لم يره الآخرون، تقول كم أتمنى أن أسير معك في الشوارع نفرد وجهينا للرذاذ، ونشرع قلبينا للحب، ونفتح في جدار الحزن كوة للفرح، ونطهر بالحب ساعة الوداع، فغداً كل منا سيذهبُ عنوةً مع الريح، غداً كلٌّ منا سيذهبُ إلى حال سبيله، فلنطهر بالحب ساعة الوداع.
تَوَقَّفتُ عندَ المكتبةِ لأشتريَ كتاباً أقرأهُ أثناءَ سفري غداً، ثم قَفَزْتُ إلى ناصيةِ الشَّارعِ في الجِهَةِ اليُمْنى لمفترقِ الطَّريقِ، لَكِنْ لَـمْ أجِدْ شيئاً يستحقُّ العناء... فكُلُّ العَناوين غارقةٌ في الفراغِ والأَلَمَ والخَواءَ والاجْتِرارَ، لاشَيءَ يُذْكَرُ... شيءٌ واحدٌ هو المَكْسَبُ والرِّبْحُ، والمَظاهِرُ والزَّهْوُ والزَّيْفُ الخَادِعُ، والمعيشُ اليومي، جاهدتُ التمزُّقَ لأخرجَ من هذا المسْتَنْقَعِ الكريهِ، في هذه اللَّحظة، أثارتني طفلة تنفخُ العلكة بالوناً غَيْرَ عابئةٍ بشيء..! ورَجلٌ واقفٌ بسترةٍ بُنيةٍ وسروال أسود مكوى بعناية، ينظرُ عابساً باستفهامٍ إلى آخر بازدراءٍ من الأسفلِ، هذا الأخير ضئيلُ البنيةِ، يقفُ على مفترق الطَّريقِ الضيِّقِ المُوحل، حذاؤهُ البلاستيكيِّ الشَّتْويِّ مليء برَوْثِ البهائمِ...وأثوابهُ الرثَّةُ لا تختلفُ عنها في اللَّوْنِ، وطفِقَ ينظر هو الآخرُ بتعبٍ وسأمٍ وحنَقٍ ونَفاذِ صبر، كأنَّه يترقَّبُ بحزن على وجـهٍ منَ الفَظَاعَةِ لزَخَّاتٍ من السُّحُبِ، تنتشرُ فوق رأسِهِ مُصْطَبغة بلون رمادي أدكن أمله للعودةِ والرُّجوعِ لبَلْدَتهِ، ينظرُ الآنَ إليهِ بهُدوءٍ حاكًّا شَعْرَ رأسِهِ بكلتا يديه، وعلى وجههِ علاماتُ ضيق ظاهر...ويبتسم كالأبله، يرفع عينيهِ ويتتبعُ بصعوبةٍ فكرة ملحاحة تنزلقُ بين الفينة والأخرى من ذهنه، وهو يمسحُ العرقَ بكِلْتا يَديْهِ، بصَقَ، نظَرَ إليهِ برعونة، وقال: لِمَ تنظرُ إليَّ هكذا؟ رفعَ رأسهُ، سَبَّهُ بزعيقٍ وشَتَمهُ ثم انسَحَب....
منذُ هاجرتُ...
سيفي أشرعُهُ في الوجوهِ الصَّاغِرهْ...
قافِيتي أنفُثُها في القُلوبِ
الحاسِدةِ...
الحَاقِدةِ، النَّاقِمهْ...
لعلَّ الحجارةَ تسقُطْ،
أبْني بها سِياجاً وصَرْحاً
منَ الحَنانِ والحبِّ...
والغَزلِ الرَّائقِ...
أفتحُ باباً منَ الدِّفْءِ للأشقياءْ...
أعلمهم عُذوبةَ الحُبِّ...
وما كان بيني وبينَكْ...
"أيَّتُها العَدوِيـَّةُ...البَدَويةُ
من دونك سلبُ النفوسِ، ونارُحربٍ تُوقَدْ..."
فلا تُطيلي التساؤل َعنْ سفري...
وغُربَتي في ليالي الشِّتاءْ...
فما زالتِ القبيلةُ تطلُبُ رأْسِي...
والشعراءُ مازالوا يُريقونَ ماءَ وجْهِي...
يَكيدونَ لِي...
وماعُدْتُ أُبالِى...
"فلا أهْلُ...ولا كأسُ...ولا نديمٌ...
ولا سَكنُ..."
فَأنا الذي طلَّقْتُ الدُّنيا
وجميعَ الفِتَنْ....
يَطيرُ القَلبُ
(1) حـلـم :
ويظل وجه الأرض مشرئبا إلى السماء ...
يظل الإنتظار ...
يحن إلى أجنحة الريح والعاصفة ..
يحن إلى انكسار الصمت ..
حين تعرف الخطى ..
كيف تجيء دروبا في الأرض ،
أو أجنحة السماء ...
قلبي يطير- لا تفكروا كيف؟ -عاشق يحلم !
(2) غـيـوم :
بين الأرض والسماء كان انتظارك ...
الذي يجيء بمواسم القطاف ؛
يودع الحزن المقيم ،
يحمل جذور المأساة...
من الأعماق، ويسافر.....
تفرش العيون أهدابها لك ...
هذي غيوم الغيث يا سنين الجذاب!
هذي غيوم الغيث...
بأزمنتنا المصفرة ...
فلتهطل أمطار الرحمة ...!
تواعد الجداول ، تواعد الحقول ...
(3) الـريـح:
إنها الريح،
قال الصمت،
لكن الصمت يطول ...
وانتظار الطارق المؤمل، يطول ...
تاه مع الطريق...
الطريق الذي طويت فيه الزمن ،
ستطرقه الأقدام !
والريح التي حلمت بها ...
ستجيء دائما ...!
تخصب الحياة..
رغم كل شيء ،
لا أحد سيلغي...
فرح الأشجار ...!
ويطول الإنتظار،
لكأنما ...
" الـبـاب مـا قـرعتـه غيـر الريح ..
آه !لعـل روحـا فـي الريــاح "(1)
(4) سـكـون:
أبررعند انقضاء النهار ،
بعقل المنطقي ،
والإنساني فعلي ،
أفلسف عجزي ،
وفي الغد أسلك عين المسار .
(5) انـتـظـار :
أنا في انتظار الذي يأتي...
و لا يأ تي...
أفكر في اللحظة القادمة ..
وأمضي مع النظرة الحالمة ،
أُبَدِّدُ في كل يوم جديد ...
شبابي، وروحي...وفكري السديد ...
وأجهل ما أريد ...!
(6) غـمـوض:
الحقيقة ... مخبأة ،
خلف هدوء ملامح غجرية ،
وصمت عينين زرقاوين ،
وضحكة فاتنة رقيقة ...
(7) ضـيـاع :
لم يبق من شوارع الليل ،
مكان لم أتجول فيه ...
العينان الزرقاوتان ...
أخذتا كل مساحة الليل !
(8) ملامح :
تلك الملامح ...
حين تمر بصمت ...
تكسر جدار الصوت !
فتعانق الريح ،
وتهدهد القلب الجريح ...
(9) مـغـامـر :
أحب ولوج المجاهل ،
أفنى في خضم البحار ،
أفنى في خضم السواحل ،
لدي كل الجسارة ،
لأصعد لتلك القمم ،
لا أخاف التردي ...
لا أخاف التحدي، ولا الجسارة ...،
لكن يستهلك الطريق مستقبلي .
(10) صـمــت :
أنا ما عدت أنبس ببنت شفة…
وما عدت قادرا
على أن أحاور...
فإن الذي في خيالي كثير..
كثير وكثير...
وكثير... يدجن عنف السؤال المداور ،
ولكنه . . .كيف يصمد قصر الرمال،
إذا ما علته المياه ؟!
(11) مـسـاحـة :
قلبي مساحة بحجم الكون ...
كل المسافات تؤمه ، لأنه ،
مفترق للطرق ...
ورغم ما يعج في عيون المارين ،
الرامقين من وهــج ،
يقابلهم دوما ...
بأعصاب من ثلــج!
(12) البلبل:
بلبل ٌكان يأتي فيسعدني
بأنغامه السجيَهْ..
يشدو ويشدو ما شاءْ
يَطيرُ بي إلى الآفاق ِ
إلى أفنانٍ نَدِيَهْ..
دوماً، في كلِّ صَباحٍ
كانَ يَأْتي..لا تَسْأْلُوا ...
من أين؟
لكنه كان يأتي...!
ينقر الخشب المتشقق...
فأُحِسُّ بِأَنَّهُ كانَ يَتَألمُ..
مِثْلِي كَانَ...
وينكسرُ البلْبُلُ من يَأْسِهِ هُنَاكْ....
أَلْمَحُهُ هُنَاكَ مُبَلَّلاً بِالمطَر
أَلْمَحُنَا رُوحَيْنِ تَوْأَمَيْنِ...
مِثْلَ الطِّينِ تَحْتَ المطَرِ
لِذلكَ كُنْتُ أَدْعُوهُ...
أدعوهُ: ــ كُنْ أيُّها البلبلُ صدري،
وصوتي،
واذهب إلى آخر السنوات،
حصاد الأماكن، والناس،
وارجع؛ لكي تخبر دمي..
أن هذي الخُطَى، لم تكن بدأ موتي...!ــ
كان يأتي...لست أدري...
من أين يأتي...؟
لكنه كان يأتي...
ومرة فاجأوه على غصن قلبي،
وكان صغيرا ...
صغيرا... صغير...
وإذ أمسكوه بجناحيه الصغيرين
صحتُ: دعوني أطير!
فقد كان طيبا في صدره الحب،
والفرح البكر، مثل إطلالة الشمس،
لا يتقي السهم، لا يَتَّقِي الشراك...
ولا فِخَاخَ الصَّباح...
مبتعداً... لا يخون،
مثلَ طائر غادر الليل والطرقات على عجل،
بعد أن طالع الأرض بــأمنيات...
كسرت كل الجنون، حينما أُبْصِر ...
كل مالا يراه المَدى، والعُيون...
وكانت له أرضُهُ،
وتلال الصهيل...وعيونهُ..
ما تشتَهِي أن ْتكون،
فهو أمضى السيوف،
وأوفى الأصدقاء، وأعلى الحُصُون.
أجل! كان يأتي...ومن أين؟ كان يأتي...
لستُ أَدْري...لكِنَّهُ كان يأتي...
(13) ســـؤال؟ :
سألت الدَّرْبَ والقَلْبَ، متَى أَهدأ ؟
فأجابني : " عِنْدما يَنتهِي مشوارك الَّذِي لمْ يَبْدَأْ !"
الهامش __________________________
(1) سطران شعريان للشاعر العراقي الكبير بدر شاكر السياب
ماذَا يَبْقَى لَك...؟!
ما الفائِدهْ؟؟
حين يتنكَّرُ الأصحابُ...!؟
ويطعَنُ الأحبابْ...،
أو يتمَسَّحون بعتَبَةِ الرَّحيل في وجوهٍ...
ما عادتْ تَذْكُرُ أَصْحابَها،
وكأنَّهُم افترشوا ثَرْثَرَتَهُم،
وأيامَهُمُ الحُلْوة...!
ونَامُوا للأبدِ...!
رَاحُوا،
هَدَأوا كالأنقاض،
أو بَقايا رَمادْ ،
وحتَّى حينَ يأتُون َمن أَطْرافِ الوَقْتِ...
من غَياباتِ النِّسْيانِ...
أَنْتَ الوحيدُ، الأجْرَبُ،
وحْدَكْ....!
ماذا يَبْقَى لَكْ ؟!
غيرَ نافورةِ ذكرياتٍ
غير صمتٍ،
ووَجَعٍ في القلْبِ...
حكاياتٍ لا تنْتهِي...
في صُورٍ حَدْباءَ...
صمتٍ متعَرِّجٍ، مُتمَوِّجٍ مَقِيتْ....
يَمْتَدُّ بحراً غزيراً عَميقٍ...
منْ يَدْلُفه لامحالةَ يغْرَقْ
داخله مفقودٌ،
والخارجُ منه مولودٌ
وحدَكْ ... ! أنا الغريقُ
صمتي ماءُ وجْهِي يتدفَّقْ
صمتي لا يُبْقِي على شيء ٍ
حتَّى يمُوتْ...
أنت وحْدَكْ ؟!
ماذا يَبْقَى لَكْ ؟!
تَصيرُ مبعثرَ الكِيانِ،
مُنْكَسِرَ النَّفْسِ والهُوٍيهْ...
هي طريقتُكَ وحيداً،
يتلبَّسُك الوقتُ ليْلاً طويلاً....
دهراً يَطولُ...
حتَّى تخْتَفِي مَعالِمُ الطَّريقْ...
وكأن الوقْتَ لا يَمُرْ...!
والعقارِبُ لا تَحيدُ، ولا تَزول ْ
فَأَغْدُو أنا اللَّيلْ...!
كَأَنَّكَ نِهايَةُ رمَقْ !
وأَسْئِلتي تصيرُ غاباتٍ
من الوَجْدِ والأرَقِ
المعلَّقِ...
أوِ المحْتَرِقِ...
تتمَسَّحُ بالوقْتِ،
وَمِنْ مُهَجٍ..
تلْهَجُ...
أَن ْ يا دُنيا إلى أيْن ؟!
إلى أين أيَّتُها الخُيولُ الجامِحَةُ ؟!
المصلوبةُ أنتِ...
مثلَ خَناجِر عتيقةٍ حدَّ الحَلْقِ
ليس لكَ غير الصَّبرِ دَواءْ ...
وانتظارِ الفَرَجْ...
وليس لكَ معَ طُول اللَّيلِ إلَّا..
تعَقُّبَ الضِّياءْ...
فمَعَ الضَّرَّاءِ السَّراءْ...
وأن تتشَمَّرْ، وتُرَتِّبَ مع الفَجْر ِلِقاءْ...
حتى تَنْصت إلى همَساتِهِ
وإلى ما يُرسِلُهُ إليْكَ مِنْ شُعَاعٍ...
ومِنْ بهْجَهْ...
حينَ يمُرُّ ببابِكْ..
وما سَيُرْسِلهُ من فرحٍ في حجْمِ السَّماءِ...!
إليْكَ وحْدَكَ قصراً....!
وحدكَ يقيناً كُنْتَ تَنْتَظِرْ...
وما وضَعْتَ في الحُسْبانْ...
عيْناً وفضولاً...
منَ الغَدْرِ يَرْصُدُنِي ويتَرَقَّبْ...
وأنا ما وضَعْتُ...
مُحالاً يتعَقَّبْ...
يَقْتَفِي أثَري مِثْل العُقَّابِ في المَمَرْ...
وَكَيفَ يصْمُدُ قصرُ الرِّمالِ،
إِذا ما عَلَتْهُ المِياهْ؟!
وحدي أَعْلُو على صَهْوَةِ الوَقْتِ،
ولنْ تَكُونَ النِّهَايَهْ...!
ومرَّةً أُخْرَى أَجْتَرُّ غُرْبَتي...
وأَجُرُّ أَذْيالَ خَيْبَتي...
أُفْرِغُ عُزْلَتي ،
غَصَصِي الحَرَّى
مرَّةً تِلْوَ أُخْرى
أتَخَفَّفُ،
أُحاوِلُ أنْ أنْسَى...
أَتأفَّفُ،
أَتْلُو في صمتٍ،
عباراتِ وَجْدٍ، ألماً تَتَدَفَّق ْ
أَتجرَّعُها كَأْساً من شتَّى ألوان ٍ الأَحْزانْ...!
وَحْدي على صَهْوَةِ الوَقْتِ،
وَحْدي حافياً...
على سَطْحِ الرِّمالِ ...
هائماً في الصَّحْراءِ،
لا أَهْتَدي مثل العُمْيان
رِجْلايَ تتَعَرَّقان ِ
تَغْرَقَان ...
تغرقَانِ...وكأنَّهُما في الوَحَلْ
ثم تَحْتَرِقان...
كما قَلْبِيَ المُدْمَى
في عُمْق ِ لَظَى الرِّمالِ
الَّتِي تُحْمى ...
وسَطَ سَعيرِ النِّيرانْ...
وكَأَنِّي وَحْدي واقِفٌ...
على فَوْهةِ بُركانْ،
أُعَدِّدُ قَتْلايَ...!
والَّذِينَ صَارُوا..
بِلَا عَدَدْ...!
وهاهي الأسْماءُ تُغازِلُ صَمْتي،
فِي كَمَدْ؟
وَحْدي أَعْبُر ُمَتاهاتِ النِّسيانْ...!
كَشَجَرٍ، كحَفِيفٍ تعْبثُ بهِ الرِّيَّاحُ والجُؤَارْ
تَبْحثُ أَوْراقي في تَعَبٍ،
عَنْ أَصلِها والفُرُوعْ
والأَغْصان ...
تُوَلْوِلُ إذا ما انْفَصَلتْ
عَنِ الشَّجَرِ، وتَنْتَحِبُ آخِرِ القَرارْ
ثُمَّ مِنْ جَديدٍ تَصيرُ إلى مَا كَانْ...!
أُحَدِّقُ في مَأْسَاتي،
مِثْلَ شَجَرةٍ عتيقَةٍ...
كَمِ اخْضَرَّتْ،
وَكَمْ أَيْنَعَتْ، وَأَتْمرَتْ...
وكَمْ أَطْعَمتْ...
وما شَحَّتْ وَما بَخِلَتْ...
ثُم شاخَتْ وهَرِمَتْ...
مثلَ مَأْسَاتي...
وصارت مَنْخُورَةً مَلْآ بالثُّقوبْ
مِثْلَ فُؤادي المشْقُوقِ
بصُنوفٍ شَتَّى...
وغَدا مِنَ الخَيْباتِ والشُّحوبْ
كأَشْجارٍ مُتَراميةِ الأَحْزانِ
أشجارٍ خَفِيَّةِ الظِّلِّ
امْتَلأَتْ غَصَصاً حرَّى..
فصارَت مَنْسِيَّهْ ،
ثُمَّ مَنْفِيَّهْ...
أو نَخْلٍ كَرَّستْهُ الفُصُولْ،
أو كَرُمَّانةٍ عارِيَّهْ،
ما عادَتْ تَكْبُرْ...
أو سِنْدِيَّانَةٍ مُنْتَحرَهْ،
ما عادَتْ لَها ظلال ٌ وأَفْياءْ
كان يُمْكِنُ أن تَتعَزَّى،
و تَنْسَى،و تَغْفِرْ أَن ْ
قَدْ أَفاءَتْ مراراً...،
!!على عابِرِ سَبيلٍ...
أو قاطِعِ الطَّريقْ...!
أو شَجرةِ لَوْزٍ مَجْروحَةٍ، مَنْشُورةِ الجُذورْ
مَبْتُورَةِ الجُذُوعِ بِلا أَحْضانْ
كَما لَوْ طَالَتْها عاصِفَهْ...
خاطِفَةٍ مِنْ بَريقْ
أو طارَدَتْها أَيادِ مُحْتَطِبٍ،
فقطَّعَتْها إِرَباً، إرَباً...
وغَدَّتْها...
وعَدَّتْها لِلْحَريقْ...!
أو زَيْتُونَةٍ مُرَّةٍ حَدِجهْ...
أو صَهْباءَ مَلْساءَ الأَغْصانِ
صارَتْ بِلا أَفْنَانْ
أو لَيْمونَةٍ غَدَتْ مَنْظراً وَ زينَهْ
أو شجَرَةِ جَوْز ٍشاحِبَةٍ خَرِبَهْ..
مِنْ عُرْيٍ وأكْلِ الدِّيدان ْ
أو شجَرَةِ أَرْز ٍ مَحْروقةٍ بِلا لِحاءْ
أو خوخَةٍ صارَتْ حَنْضلاً...
منْ شِدَّة الأَشْجانْ
أو كَشَجرةِ تينٍ عَقِيمَهْ...
لَمْ تَعُدْ لَها قِيمَهْ... ؛
سَكَنَتْها العَناكِيبُ و النِّمال ْ ،
وصارَتْ تَنْعَق ُ فَوْقَها الغِرْبانْ ...
ومرَّةً أُخْرى شُحوبْ..!
أُحَدِّقُ في مَأْسَاتي،
مثلَ لَوْحةٍ تُناغِي جِدارْ...!
أو مِسْمار ٍ وحيدٍ بلَا إِطارْ...
وأنا الَّذي رَسَمْتُ بِساطاً...
وجِناناً مِنَ الحُلْمِ الأَخْضَرْ،
وطَرَّزْتُ على أَقْمِشَةِ الصَّباحِ
نافُورَةَ الإشْراقِ ..
مِشْكاةً منَ النُّورِ...
والضِّيَّاءِ والحُبورْ
أنا الَّذِي رَسَمْتُ شمْساً،
لا تغيب،
ولا تَجْنحُ وراءَ المَسَافاتِ
تَمْتَدُّ لأبْعَد مَدَى..
تَمْتَدُّ في الفَضَا،
تَنْسابُ في السَّما...
وَتَدومُ أَكْثَرْ...!
وأنا الَّذي رَدَّدْتُ على أنْغامِ العِشْقِ،
بأَنِّي سأشُقُّ ...
بسَيْفي كُلَّ دُروبِ النَّصْرِ،
وسَأَقْطِفُ هاماتِ القَهْرِ،
كَيْ يَنْعمَ غَيْري...
بَعَبيرِالحَياهْ
أنا الَّذي رَدَّدْتُ
على أنْغامَ العُشَّاقِ،
تَراتيلَ بِشارَةٍ،
تُدَغْدِغُ براءَةَ الأطفالْ..
وأَرْضاً مُمَدَدَةٍ،
مُطَهَّرَة لِبَني الإنْسَانْ
أَرْضاً مُمَهَّدَةٍ بِلا حُدُودْ
لا تَعْتَرِفُ بالأعْراقِ
لا تَزحَفُ فيها خَبايا الشرِّ
أَوِ الشِّقاقْ
ولا ألوان الكُرْهِ..
أرضاً مُثْقَلةً...
بِالخَيْرِ ، بالحب و بالسَّلامْ...
وكَمْ غَرَّدْتُ بالصُّمودِ والتَّحَدِّي...
والوُقوفِ في وَجْهِ القَهْرِ...
ورَفْعِ القُيودِ،
ودَفْعِ الضَّجَرْ...!
أنا الَّذي صَدَحْتُ بِأَنْغامِ العِشْقِ،
أناشِيدَ وملاحِمَ خُرافِيةٍ من حماسَهْ
وسلاماً وأمْناً وحُبًّا
حتَّى تكْبُرَ الفَرْحَة حياةً من سماحَهْ
تَصيرُ علامهْ..
تكْبُرُ أطواداً من المَرْمرْ.....!
لكن !
ومرَّةً أُخْرى،
وكأَنَّني منَ السَّذاجَةِ أَجْفُلُ
وأَغْفَلْ...
وَأنا الَّذي لاَ حَوْلَ لي...
ولَسْتُ ممَّنْ يُحْسِنُ التَّسْيِيرَ أو يُدَبِّرْ..
ويا وَيْحي كيْف نَسيتْ...؟!
فسُبحانَ الَّذي بِيَدِهِ الأَمْرُ هُوَ المُدبِّرْ...
وأنا ما وَضَعْتُ في الحُسبانِ ...
ناراً لا تُبْقي ولا تَدَرْ...!
وفضولاً، وعُيوناً ...
من الغَدْرِ تَرْصُدُني...
وتَتَرقَّبْ...
وهَا قَدْ مَضَى عُمْري،
وخَابَ ظَنِّي
وطَال َدَرْبي،
وما عَادَت رُؤايَ مُنيرَهْ..
و أنا ما وَضَعْتُ...
مُحالاً يَتَعقَّبْ ...
يَقْتَفي أثَري..
مِثْل العُقَّابِ في المَمرْ...
وكأن َّالنِّسيان َمَرَّةً أُخْرى...
حليفاً يَصيرُ...
يَصيرُ دَيْدَني...
وما كُنْتُ قبل اليَومِ أُدرِكُ بأن َّالحَمامَ...
بالغَدرِ يُعدَمْ....!
وما عادَتْ أحْلامي مضيئَهْ
تصيرُ الآن َعَديمَهْ
تصيرُ ذِكْرى أليمَهْ
تصيرُ بِلا جَدْوَى
فما الفائده ؟؟
ما الفائِدَهْ ؟
في حُلْمٍ على امْتِدادِ بَيْداءْ ...
يصيرُ بِلا جَدَوى؛
ويُصِر على إِخْرَاجي وَ نَفْيِي ...
يُعادِينِي...
ومرَّةً أُخْرى شُحوبْ...!
ما الفائدهْ ؟؟
حينَ يتَنَكَّرُ الأَصْحابُ...!؟
ويَطْعَنُ الأَحْبابْ...،
أو يتَمَسَّحون َ بِعَتَبَةِ الرَّحيل ِفي وُجُوهٍ...
ما عَادَتْ تَذْكُر أَصْحابَها،
وكأنَّهُم افْتَرشُوا ثَرْثَرَتَهُم،
وأيامَهُم الحُلْوَةِ!
ونَامُوا للأبدِ...!
سَقَطُوا...
ثُم هَدَأُوا كالأَنْقاضِ ،
أو بَقايا رمَادْ ،
وحتَّى حِينَ يأتون َمِنْ أَطْرافِ الوَقْتِ...
مِنْ غَياباتِ النِّسيَانْ..
أنْتَ الوَحيدُ، الأجْرَبُ،
وَحْدكَ...!
ماذا يَبْقى لَكْ ؟!
غَيْر ذكرياتٍ
وجَماجِمَ وُجوهٍ
وُجوهٍ ووجوهٍ
تَزْحَفُ ببطءٍ شَديدٍ،
وعُيون ٍتَخْتلِس ُبِفُضولٍ،
كأنَّها تَحرُسُ أمواتاً لا تَعْرِفُها،
وَكَما لَوْ أنَّها،
لَمْ يَفْتَقِدْها أَحدْ،
ولا أحَدْ؟!
هي َطَريقَتُك في أن ْتكون َوحيداً...
وتُلِحُّ مرَّةً أُخْرى ...
فهَلْ ترانِي أتَجاوَزُ أو أَعْبُرُ؟!
وَلَمْ يَعُدْ هُناكَ أحَدْ.
طِينُ الشَّجَن...!
يتلبَّسُكَ الوَقْتُ...!!
يَعْصُرُكَ....
تَشْرَبُ عُزْلَتَكَ....!
تشْرَبُكَ أكْثَرْ...!
ومَرَّةً أُخْرَى شُحوبْ....؛
ثم إليْكِ أيَّتُها الذَّاتُ...!
أُعَرِّجُ وأَؤُوبُ...
ذاتَ مرَّةٍ، ومَرَّاتٍ أُخْرَى...؛
وَكُلَّما سَكَنَ شَجَنْ،
ويسقُطُ القَلْبُ....!
يَهْوي، يَخِر ٌ وَيَنْتَحِبُ
في أسْمال ِشحَّاذٍ...
كَما فَعل" أُوديسُوس" في"الأُوديسهْ"،
ماذا عَسانِي أنْ أصنَعَ لَكِ أيْضاً...؟؟
وأنا مِنْ كَفَنٍ إلى كَفنٍ...!
إذا ما أَنْكَرَتْنِي
في هَذا الصَّباحْ،
ولمْ تَرْأَفِي بِي...
أيَّتُها الذَّاتُ الغالِيَهْ....!
ومنْ نِهايَةِ نَفْسِي،
أَخْرُجُ وحيداً...!
لأبْحَثَ عَنْ ذاتٍ...
أَنْتَمي لِمِساحَاتِها...!
ولأَرقُبَ لَوْن اللَّوْنِ الَّذي يَتَغيَّر ُجِهاراً
ليلاً ونَهاراً،
يصيرُ ليلاً دامساً...
مِنْ رَمْسِ...
يُعانِدُ، يَكْبُرُ، يصيرُ لَيلاءَ أَطوَلْ؟
يَشيخُ يَغُوصُ...
يَضْطَرمُ في الفُؤادِ غَصَصاً حَرَّى ....
وعِنْدَما تُقْرَعُ أجْراسُ الغِيابِ
بِرَنينِها القاطِعْ،
سَتُبْصِرِينَني في أَحْلامِكِ...
حَدَّ المَوْتِ....!
ستُبْصِرينَني مثْلَ
النُّورِ السَّاطِعْ...
ولا أَحَدْ سيَقول ُ...
وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ...،
قد تَغَيَّر وَجْهُ الزَّمَنِ المُتَعَهِّرْ...!؟
هُوَ خُروجُكَ منَ المَعْنى بِلا صَدى،
ويسْقُطُ الحُلْمُ....!
يَسْقُطُ الحُلْمٌ...!
يسْقُطُ الحُلْمْ...!
ثم أَرْكَبُ مِنَ التَّحَدِّي
والإصْرار ِبُراقاً...
بُراقاً، يُشْرِقُ نُوراً حَادِقاً
مِنَ الآمَالِ العَريضَهْ....
والفَأْلِ الحَسَنِ...
وأَصْطَنِعُ قُوَّةً مِنْ شِدَّةِ المِحَنْ ..
ثُم أَحمِل زاداً منَ الحُلْمِ وَ الحَنِينْ...
ومرَّةً أُخْرى إلْحَاحٌ في الدُّعاءْ...
أتَلَحَّفُ بِه،
وأَطِيرُ شَوْقاً...
للأيَّامِ الَّتِي سَتأْتِي...
وَتُنْسِينِي ...
تُنْسِيني أَنِينِي،
تُعَوِّضُني...
تَضُمُّني لِلْأَيامِ الحُلْوةِ...
أَيَّاماً هَنِيَّهْ...!
أَصِيرُ في الأَيَّامِ شَهْداً وَعَسلاً...
ثُم تَتَعهَّدُني أَيَّامي...
تُداعِبُني...
تُدَغْدغُني...
تأْخُذُني الأيامُ الحُلْوَةُ،
إِلى قَلعَةٍ مِنْ غَمامْ،
إِلى رَحابَةِ فَضاءْ..
فَأَنْسُجُ مِنْ حِجارَتِها
حِينَ تَسَّاقَط رُطَباً...
وتَمْراً وَحِنْطَةً...أَعْجِنُها طِيناً
للطِّينِ الغالِي...
بِيَدي وفُؤادِي الظَّمْآنِ...
أَبْنِي بِها مُرُوجاً مِنَ الحُبِّ...
و فِجاجاً مِنَ الغَزَلِ الرَّائِقِ للإنْسَانْ...
أَهْدِمُ سِياجاً
أَفْتَحُ باباً مِنَ الدِّفْءِ..
والوُدِّ للأشْقِياءْ...
أَفْتَحُ آفاقاً عَذْبَةً منَ السَّماحَةِ والرَّحْمَهْ...
وَدُنْيَا مِنَ الحُبِّ...
أُغَنِّي بشِعْري مِنَ الجَنَانِ...
لِكُلِّ مَا هُوَ جَمِيلٍ ...
فِي هَذا الوُجودِ...
لِكُلِّ هِبَةٍ مِنَ الرَّحْمَنْ
وَأَزْرعُ مَفَاتيحَ، وَ بَسَماتِ الخَيْرْ
أَشْدُو بِكُلِّ مَا يَنْبَغِي...
أن يَسُودَ بيْنَ بنِي البَشَرْ
وَيُحَقِّقُ إِنْسَانِيَةَ الإِنْسَانْ.
بيننا والذي فات...!
-1-
بيننا و الذي فات دهر طويل...!
وهم ثقيل، وأحلام غر،
يجرحها بالسؤال التذكر...!
ماذا لدينا من الأمس !؟
غير الندوب
على ظهر القلب...!
ملح على الوجه، تصلب،
وملأ الشراع ثقوب.. !!
فحرك جناحيك، إن كنت تقدر،
يا طائر العمر، حرك جناحيك...!
و استبدل الماء بالريح،
واستبدل الحزن و الصمت،
بالفرح، باللامبالاة، وبالصيحة البكر...
بيننا، وبين الذي يزعم الناس آمالهم
وهم ثقيل...!
والتفاصيل تقتل أيامنا..
بالجدال البليد،
فامتشق الآن...،
واخرج بالجواد الجموح،
رغم نزيف الجروح،
لا تمل عن طريقك،
مهما تقاطر في الدرب نحوك،
هوج الحشود...!
-2-
لقد ضاق الصدر،
لقد صدئ الصبر،
لقد ضاقت القيم،
ويبقى الحزن حليف....!
فمتى يلم الحزن بقاياه ويرحل !؟
أخمن أني أصنع هذي الأرض من الدوران،
أستيقظُ قاراتي ...
من تحت الأرض،
أنسج للبؤساء،
وسادات الأحلام
أرصد كل الشارات على الشط...!
أكاد أموت وحيدا، قبل أواني،
ومع ذلك أصر على المكابرهْ...!
فأتسامى، ثم أشق بحورا وبحوراً...!
أصير مَدى !!
-3-
لم تحط الطيور مرة هنا،
أو يمر القطيع!
لو يجيءُ الرَّاعي،
الصبيُّ الحزينْ،
و يجرحُها بالغناء..!
أو تصب السحابة في حجرها شجناً،و صقيعْ....!
أو تجردها من الظلال رياح،
لو يطاردها محتطب،
لو يقطعها إربا، إربا للحريق!
كان يمكن أن تتعزى،
و تنسى،و تغفر أن
قد أفاءَت مراراً...،
على (رجل) !! قاطعِ الطَّريقْ...!
عَصْرٌ شَاحِب
1ـــ شحوب
عند كل خريف،
أتحول إلى شاعر
يكتبُ لنفسه فقطْ...!
تتنوعُ المُذَكِّراتُ اليوميَةُ،
وتضطَرُّ أنتَ ..
أمام رائحة الموتِ و الجوعِ، والإهانةِ،
و فقدانِ الكرامةِ،
وفي عصر شاحبٍ زائفٍ ـ
إلى مغالبةِ إرادتك بعبثٍ قاتلٍ،
تصر، تتعالى،
تغالي، تكابر،
لكن،عبثاً تُحاولْ...!
فالطيور تقل ،
والغاباتُ تتسمَّمُ،
و فرحتي تتَّسخُ،
فهذا العصرُ ماتْ...!؟
2 ـــ رحيل عصر
هذا العصر ماتَ...!
دفنته يدُ الزَّمنِ الآتْ،
لا رائحة للعمر البشري،
في بروق الزمن العدمِيِّ،
هذا العصر ماتْ،
أصبحَ سطراً مهملاً...
في كتابِ الأبديَةِ !
نحن الآنَ تحتَ الأرضِ،
لا رائحةَ للزَّمَنْ!
و لسطور الدهر توائم!
لاصوت يميزها، ولا لونْ
تحت الأرض،
ويتشوفهُ (الأحياء/الأموات)
في زمنٍ لا يفقهُ قدسيةَ الموْتِ!
هذا العصر مات،
دفنتهُ يدُ الزَّمَنِ الآتْ...!
نحنُ الآن َتحتَ الأرضِ...!؟
3 ـــ خريف
الخريف يربط بصري بالأرض،
و الطريقْ
يجعل من الزمن العَامِّ،
سؤالي الفلسفيِّ
عن العظامِ، والنُّحاسِ،
والورق،
وأنا وَالنَّاسِ،
وخلية نمل كرست استعدادها،
بانتظار تصَوُّرٍ جديدٍ للسَّفَرِ.
فهذه الطرق، والأجساد الداخلية تشتَّتْ...!
خرج الطفلُ من الطِّفْلِ،
بعد أن طردَتني مدونةُ الأحوال الشخصيةِ،
من حديثِ المَقَاهي...!
4 ـــ نصفي الآ خــــر
نصفي الآخرَ يصْحُو ...
من تحتِ الأرضِ،
وفوق الأرض يحْلمُ،
يصيرُ يعشَقُ قاصرةَ الطَّرْفِ،
يخطُو...
ويخطُو...
والخطوةُ الأُخْرَى ظُروفْ !!
و يتحيَّنُ نضْجَ هاتِيكَ القُطُوفْ،
وأنا الَّذِي كابَرتُ وغامَرتُ...،
أصير الآن صامتاً،
شاحباً، وحزيناً،
وأرى أَعداءَنا...،
خُطُواتُهم خارطهْ،
لكن...!
نصفي الآخر...
يُصرُّ، يُغالِي،
يركَلُ عَجيزة التّاريخِ الهادئِهْ،
من أجل فراغِ،
يملأهُ الشعراءْ...!
من أجل الشَّهْوةِ،
قبل انتماءِ الطَّبيعَةِ إلى عَقلي،
من أجل الوهْمِ...!
من أجلِ ذلك كلِّهْ...!
أنحني إلى أصابعي
فأجدُ البياضَ...،
أجــدُ الســَّــرابْ...!
مَوْجُ الشِّتَاء...
"في ذكرى أبو طويس..."
ارحميني لسْت شاعراً
صدقِّينِي...
سئمتُ الذِّكريات
ماتَتْ أحاسيسي،
ماتَتْ كنغمةٍ في قَعْرِ المحيطات،
لا النَّايُ ولا العودُ يسمعها،
سوى الموج الصاخب في الطرقات،
يحملها، يرسلها أنينا تبكيني
وتبكي الحادثات،
تسلبني روحي،
تفنيني،
تسرق أيامي الباقيات،
تزيحني ...
عن محيط العاطفات،
ارحميني لست شاعرا...
صدقيني سئمت الذكريات،
قلمي كسرته...
رميته بعيداً
وكلُّ شيءٍ مات...!
كل شيء مات في حسرات...!
تبلد الإحساس،
وغاب الإلهام،
وماتت القيم...
كآخر الأغنيات...!
ارحميني، لست شاعرا
صدقيني...
سئمت الذكريات
أليست هذه أعينك...؟
وإني أرى فيها شتاء يمشي
مكبلا، أسيرا، متعبا...
وينبئ بربيع مثقل بالأنين...
فما عاد وقت
للحب ولا للحنين...،
وعندما يكفر الظل بانتمائي،
خذي جسدي،
مزقيه أشرعة وسفين،
وأبحري في دمائي...!
ربما يا سيدتي،
يحيا بك هذاالسجين،
يحيا بك هذا الدفين،
يا نقطة العبورمن دمائي...
إلى دمائك...!
ها برد الأموات يصب في جسدي
من سمائك!
وأظل أغرق،
أغرق في هجير..
قرارك ياسيدتي!
ها كل النجوم تحط على كتفي،
وترتعش الشمس..
يبللها وهج الرحيل!
أتراك ترحلين...؟
وللفجر احتراق،
يسيل وهجا مسيجا بالإغتراب؟
وإني أراه الآن،
يا سيدتي متعبا...!
يمتطي زرقة الليل كي يستريح.
²²²²²²²
هو الآن!يسكنه الحلم،
يؤلفه الموج،
كآخر دمع تجفف...
في عين الباكيات!
ارحميني ،لست شاعرا...!
صدقيني سئمت الذكريات
ماتت أحاسيسي، ماتت...!
كنغمة في قعر المحيطات،
لا النايُ ولا العودُ، يسمعها...
سوى الموج الصاخب في الطرقات، يحملها...
يُرسِلها أنيناً،
تبكيني و تبكي الحَادثات،
تزيحني عن محيط العاطفات
صدقيني...
سئمت الذكريات.
مَتَى تَكْبرُ آدَمِيَّتُنا..؟!
أقولُ لمن ودَّعوا شُعاعي..!
ضِيائي، بَهائي..
بين الذهاب والإيابِ
ومن أَبْدَعُوا
في حُرْقَة الوَجْدِ
صَبابَتِي...
أقولُ لمن صنَعوا تابوتاً
من ضَياعي
وهيَّأُوهُ للغياب...
ستأتونَ إِثْري..
وتحْيَون َ الوضع مثلي..
أوليس الصُّبحُ بقريب...!
أقول لمن صنعوا في الهواءِ مَمَرَّات
وحبال وعلامات من عِظام
لمن علَّقوا صُوراً
وتماثيلَ وجماجم
أقولُ لا تُحَدِّقوا في المَدَى
فليس هناكَ سِوى السَّراب
اِغفُلوا كثيراً،
وأَعِدُّوا لأَنْفُسِكُم ما تشتهُون
من أماني، وأحلامٍ عِذاب
قبل أن تأتوا تباعاً خَلْفي
مُدْعِنين تَقتَفُونَ أثَري
يا أحباب كلُّهُم مَرُّوا من هُنا...!
لكن، ياأحباب!
يقيناً الَّذين يُخْفُون آلامَهم...
يا أحباب! يقيناً الَّذين
يُخْفُون أَسْرارَهُم!
يا أحباب!
الَّذين يَرقصُون على الجِراح...
يا أحباب!
يقيناً الَّذينَ يصْبِرون على البَلاءِ!
حقًّا هُمُ الأقوياءْ..
رجالٌ هُمُ الرِّجالْ
ومِنْ جَلَدٍ..
ومن غَيْر جَدَلٍ،
الصَّبْرُ هوَ الحَياهْ...!
وأقولُ لمن يكرهُني دهراً طويلا...
وبلا سبَبْ،
أقولُ لمن يقرأُني ،
أو يلْبسُني مقلوباً
رأساً على عَقِبْ،
لاتنحثُوا في السَّرابْ..
لاتُكَرِّسُوا فُصول العَذاب
حَرِّرُوا وَحْشَةَ الأُنْسِ..
أَسْعِدُوا مَنْ حولَكُمْ...
قبل أن تتجَرَّعُوا من نفسِ الكأسِ
أقولُ لمن وَدَّعُوا شُعَاعِي
ضِيائِي ، بَهائِي للغيابِ..
كُلُّنا سنَحْتَضِرْ
أنا الحضورُ ،"حين يجِدُّ جِدِّكُمْ..."
أنا الغياب...!
"وفي اللَّيلةِ الظَّلْماءِ يُفتقَدُ البَدْرُ"
أقولُ لمنْ أيقظَ شَجَني،
سَماحَتي..
بباقَةِ وَرْدٍ وزَهَرْ ،
ومَنْ فرَشُوا الأرضَ
مِسْكاً وعَنْبَرْ...!
أقولُ: لاتُسرِفوا في الثَّناءِ..
فحُبِّي ليس مرهوناً بكُم..
فأنا هكذا،
حُبي امتدادٌ دائمْ..
حبِّي عقيدةٌ من سِلْمِي وَسلامِي
ولسوفَ أُحبُّكمْ
دوماً وأكثرْ..
فأنا أحبكم ... وأكثر..
"ما اخْضَرَّ في الشَّجَرِ الْمُوَرَّقِ عْودُ..."
لاظِل َّيَعْكِسُني في المَغيبْ..
وستأتون إلى حيثُ تغرُبُ الشَّمس
حيث تَغْدوا الدُّروبُ رماداً
ولن يكون عندكم
وقتٌ للشَّجَنْ
ولتعلَمُوا أنَّ نَبْضي مِنْ دَمِكُمْ
وهَا هُوَ حِسِّي قد خَذَلْتُمُوهُ
أَخْمَدْتُمُوهُ..
أطفأتُموهُ..
وما أَبْصَرْتُمُوهُ...!
وحتَّى حِين أَشْعَلْتمُوهُ الآنَ..
كان قد فاتَ الأوانْ ...
غيرَ أنِّي أحْتَمي بالنِّسيانْ...!
أنا من قريةٍ
بلا أشجارْ
قرية من الصُّخورِ
والأحجارْ
القلوبُ كالوجوهِ...
كائناتٌ لاتُحتمل ْ
كائنات متعددة الحِيلْ ...
وجوهٌ تُرافِقُني ،
وأَسْتَحضِرها مزيجاً من العِبَرْ
فلا أشعرُ أنِّي وَحْدِي في جميع الصُّوَر ْ
وأرجعُ أقوُل لاتُسرفوا في الثَّناءِ
فأنا أُحِبُّكمْ دوماً وأكثر...
يا أحباب... الآن تُحبونني
تقولون : لقَد كان مِنَّا، وكان لَنَا...
وأنا كُنْتُ بينَكم دهراً طويلا
غير أني أقولُ،
وسأقولُ: متَى تكْبُرُ آدَمِيَّتُنا...؟!
متَى تكبُرُ...؟؟
ويتَسَامَى مَعْنَى الإنسان ِفِينا..
نَسْمةً في قيظِ أَيامِنا العَليلةِ، مَتَى؟؟
وأقولُ لمن ودَّعُوني،
وتَرَكُوني للغِيابِ...
"غداً سنَرفعُ الشِّراعَ
كلٌّ إلَى سَبيلْ
فَطَهِّرُوا بالحُبِّ ساعةَ الوَدَاعْ.."
خَلْفَ الأَبْوابِ هُناكَ..
البَابُ: بابُكَ...!
وهَذا القَوْسُ المُتَهالَكُ،
وسَط المَبْنى الأثَرِيِّ،
والأسْوارُ: أَحْجار ٌعَتيقَةٌ،
ومِزْهَرِيَّاتٌ عَلى الجِدَارْ
أَكَاليلُ عِشْقٍ،
نبَتَتْ بيْنَ الشُّقوقِ،
نَبتَتْ على القُرمُودِ الأخْضَر ِ
وَالأَحْمَرِ مِنَ الجَمْرِ
نَبَتَتْ فَوْقْ...!
عُنْوَةً نبَتَتْ،
زَهْراً، عَوسَجاً و زِنْبَقْ...!
²²²²²²²
الفَانُوسُ: فانوسُكَ...!
وهذا الزُّجَاجُ البِلَّوْرِيُّ،
يَترَاقَصُ نَشْوَةً،
ويكْبُرُ في العُيُون ِكَوَرْدٍ تـَفَتَّقْ،
أَوْ نَجْمٍ فِي الأَعَالِي تَأَلَّقْ،
وهَدِير ِالبَحْرِ يُدَوِّي الصُّخورَ،
مِنْ شِدَّةِ العِشْقِ...
يُناغِي في مَدِّ وجَزْرْ
ومِنَ الإرْتِطامِ،
أَمْواجُهُ تتَفَجَّرْ...!
وكأنَّها تَرنُو إلى الحَالِمِينَ
غَرْباً و شَرْقْ،
مَنَاراً ، قوْساً...
منَ الزرْقَةِ والزَّبَدِ الأيْيَضْ
تَشْدُو بِالحُلْمِ المُتَماسِكِ فِينا وَشْماً،
لاَحِبْراً على ورَقْ،
وَشْماً في أجْسادِنا المُشْبَعَةِ...
بالسَّفَرِ البَعِيدِ...!
تَنْطَلِقُ،تَنطلِقُ...
تنطَلِقُ بِلا أَرَقْ.
²²²²²²²
الوقْتُ: وقْتُكَ...!
فَاخْلَعْ نعْلَيْكَ...
وادْنُ، اقْتَرِبْ أَكْثضرْ،
وادْلُفْ،
لِتَصْفَعَ وجْهَ الصَّباحِ فِينا...!
لِتُكَسِّرَ واجِهَتَنا النَّائِمَةَ
على الأمَانِي ِّالعِتاقْ
كَسِّرْها رعْداً،
إعصاراً وَميضاً وبَرْقْ...!
وضَعْ أَشْلاءَك،َ...
وَكأَنْ لاأحَدْ، والْحَقْ...!
إلحَقْ بالحَالِمينَ،
فالكَأسُ بلا قَرارْ...!
طَبعاً...! فَلا أحَد سيُبالي!
لاأحد سيَسأَلْ...!
وحَتَّى وإنْ سألتَني ...!
عنِ الَّذِي سيَكُونُ...!
فلا تسْأَلْنِي عنِ الذَّهابِ والإِيَّابِ،
لا تَسْألْني عنِ الغِيَّابْ...!
لاتسألني عنِ الدِّفء،
عنِ الأحْبابِ، عن السُّهادِ
عنِ الأرَقْ،
عن الانْحِسارِ...
والكُسُوفِ وإدْمَان ِ القَلَقْ،
طبعاً...وَفِي نِهايَةِ الطَّريقِ لَا أحَدْ...!
قَد يَعبُرونْ، سيَسكُنُونَ
القَلْب، ويظِنُّونَ...!
بفُضُولٍ...
سيَذْكُرونَ فِي المَقاهِي والدروبْ...
وبيْنَ الأَحْيَاءْ
فِي هَذِهِ الحيَاهْ،
والَّتِي مَا عَادَتْ حياهْ...!
سيَذْكُرُونَنا في هَذِهِ الحيَاةِ،
الَّتِي خَبَرتْنا جِيراناً أصْدِقاءَ ورِفَاقَ دَرْبٍ،
لمَّا كُنَّا نَتَطارَحُ الهَمَّ كَالأَحِبَّهْ.
سيذْكُرُونَنا لحْظَةَ غَفْوَةٍ...!
سيذْكُرُونَنا...
لَكِنْ ، مُجَرَّد نَقيق سُؤالْ...!
مثلَ شَايٍ باردٍ،
مَنْسِي المَوعِدِ...
والفَرْحَهْ...!
أجلْ! سيَذْكُرونَ... ثُمَّ مَاذا سَيحْدُثْ؟!،
سَنتَمَدَّدُ على الأرضِ
العَراَءْ
عَلى الأَرْضِ الباردةِ
الخَلاَءِ ونَنامْ...
ننامُ بعمقٍ،
ثم يَنْسَوْنْ...!
سيذْكُرُوننَا مُجَرَّدَ نقيق سُؤالْ،
²²²²²²²
ألاحِقُ في الأزِقَّةِ السَّاعاتِ،
فَأَغْدُو خَلْفَها،
هذِهِ الحيَوانَاتِ الجَمِيلَةِ الَّتِي تَحْمِلُ حِقْدَ الإِنْسَانْ،
والسَّاحَاتُ غُولاً في وجْهِي...!
ومِنْ بابٍ إلى بابٍ، أَشْدُو كَحالمٍ،
ــ أنا الَّذي أغْوَتْنِي هَذه الأبوابُ بمَساحيقِهاــ
ضيَّعَتْني خِلالَ تَسَلُّقِ هَاماتِها...!
وجوهاً غَزيرةً تُطْلِقُ عِنانَها للرِّيحْ...!
وها أندا أصْعَدُ هَـــــذي التِّلالْ،
كما أفْعَل كُلَّ يَوْمْ،
والسَّنَواتِ الخَالِيَهْ
كَيْ أتَسَلَّى قليلاً...!
ثُمَّ أقِفُ على قِمَّةِ التَّلَّةِ هُناكَ...!
كَكُرَةِ ثَلْجْ،
أتَحَلَّلُ مِنْ شِدَّةِ الوَجْدْ،
أتَحَلَّلُ، وَأَنا كُلِّي عِشْقْ...!
أَتَوقَّدُ جمراً، وأحْتَرِقْ،
أتَحَلَّلُ مِنْ جَمْرِ الشَّوْقِ...
ثُمَّ أتَدفَقْ...!
أتدَفَّقُ، شَلَّالاً زُلاَلاً....!
ماءً عَذْباً فُراتاً
ومِنْ شِدَّةِ البَوْحِ أغْرَقْ...!
ثُمَّ أنْسابُ مِنْ غَيرِ وَعْيٍ،
في مَهَبِّ الرِّيحِ المَجْنونةِ،
تقْذِفُني نَحْو الهَاوِيــَـهْ..!
العَلاماتُ، واللافِتاتُ تُحرِّكُها الرِّياحْ،
وأنا المُتَدحْرَجُ، لاأقِفُ !
تائهٌ في مَهَبِّ الرِّيحِ.
كفِكْرةٍ مُتَحِّررَةٍ،
أهْتِفُ عنْدَ كُلِّ بابٍ ،
أَدُقُّ...،
أصِيحُ: أَيْنَ الإنْسانْ...؟ أَيْنَ الإِنْســــــانْ؟
أينَ الإنْســــــانْ؟
ياأيُّها الأَخْرَقْ...
فلا ألْقى لَديَّ سِوى فَحيحَ سُؤالْ،
حيثُ أَدُوبُ كالجَليدِ أَمامَ النَّارْ،
ثُم أَحْمِلُ غَصَصي الحَرَّى وكُل مَا سَكَنْ،
مِنْ وَحشَةٍ،
من غربةٍ، ومِنْ أرَقْ
مِنْ كَمدٍ ووَجعٍ، وحَزَنْ،
أَصيرُ جُثةً هامدةً،
تهاوَتْ على الأرْضِ،
تغرَقُ الوَحْشَةُ...،
تَغْرَقْ،
في بِحارِ دماءٍ بريئـــــــةٍ تتعَمَّقْ ....
تغرَقُ، بِلا قَرارْ...!
فلا تُغْريكَ الأسْوارُ، ولا تَهُمُّكَ الأَخْطارُ،
سِوى ثِقْل الهَواجِسِ الإنْسانِيــــــَــهْ.
²²²²²²²
فَتَحْتُ البابَ، فانْدفَعتْ...
رياحٌ قوِيــــــهْ،
غالبْتُها سائراً باتجاهِ البَحرْ،
أحسَسْت بعَياءٍ،
التفَتْتُ...
رأيتُ إنساناً تفكَّكْ...!؟
رأيتُ خواءً...!
وصياحاً بَل عُواءً...!
ثُم غُولاً فَاغِراً فاهْ...!
ويا لَيْتَني ما رَأيْت ولَا أَبْصرْتُ...!
رأيتُ إنساناً تحَوَّلْ...
سقطَتْ منهُ الأكُفُّ،والأصابِعْ...!؟
انْهَمرَتِ الأطْرافُ...،
تَخَلْخَلَتِ العُيُونُ والأنْفُ...!
انْسَلَّتِ الأَدْرُعُ،
الْتَفَّتِ السَّاقُ بالسَّاقِ ...
ثُم تَبَخَّرَ الجَسَدُ...،
لَمْ يعُد شَيئاً...!
أَحَقا كَانْ...؟!
وهَلْ كَان...؟
دَبَّ في رَحِم الأَرْضْ...!؟
²²²²²²²
خَلْفَ الأَبْوابِ، هُناكَ،...
كانَتِ الفتَياتُ يصْدَحْنَ بالغِناءِ ،
والمُنْتَزَهاتُ والخُضْرةُ!
والحفلاتُ...
وَ الفُروسِيةُ، والزَّغاريدُ الآسِرَهْ!
والماءُ العَذْبُ الزُّلاَلُ ، والرَّوَابِي،
وَالمُروجُ، والغِدْرانُ...!
والرَّوابي الحالمَةُ...
وأعْشاشُ الطُّيُور،
وَالبَلاَبيلُ تَصْدَحُ...
وأَجْرانُ الحُبوبِ المُتْخَمهْ،
والنَّوايا الحِسَانْ...
كانَ الإنْسانُ حَقا إِنْسَانْ...!؟
²²²²²²²
وَراءَ هَذا البابِ،
قِطَطٌ لَامعَةُ العُيونِ...!
وَشَيءٌ مِنْ بَريقْ...
تَموءُ بيْنَ الخَرابْ،
وأُخرَى هائِجَةٌ تتَقاتَلُ..
بيْن صفائِحِ القُمامـَـــــهْ،
والجُرْذانُ، والغِرْبانُ، والجَماجِمْ،
وهَياكِلُ رُؤُوسٍ ، أَقْبعُ خَلْفَها،
مِثْلَ غُرابٍ في الأَنْقاضِ يَنْعَقْ.
ثُم أسِيرُ في وَحْشَتي...
ضارِباً في زَحْمَةِ الأَزِقَّةِ وَالدُّرُوبْ،
وأَنْتَفِضُ ثائِراً كمَوْجِ البَحْرِ
أَوْ كالثَّلْجِ أَهِيمُ أَمَامَ إِشْراقَةِ شَمْسٍ حَارِقَة
أَدُوبُ في غُرْبَتي..شَلَّالاً
أَتَفَتَّتُ مِنَ المَلَلْ..
أَتلَمَّسُ الطَّريقْ... لكِنْ، سَرْعَانَ
وَكَأَنَّ جسَد الدُّنْيا شُحُوبُ جفَافٍ
في وَدَاعِ الغُرُوب...
فَجْأَةً...!
سُدَّت أَمَامي كُلُّ السُّبُلْ،
شَحَّتْ يَنابيعُ مَائي،
ولَيْلي صَار طَويلاً ثقيلاً،
بَرْدُ الكَآبةِ قاسٍ يَزْحَفْ،
أُوَجِّهُ خُطُواتِي نَحْوَ المَجْهولِ!؟
لا نِهايَةَ لِي، ولا بِدايـــــَــــــــــــــهْ...!؟
لا بِدايةَ لِي، ولا نِهايـــــــــَــــــــــهْ...!؟
فأَكْتشِفُ أن َّكُلَّ الأَبْوابِ:
مُزَيَّفَهْ...،
دَنِيئـــــَـــــــهْ...!
مُهْتَرئةٌ،
وَقاتِمـَــــــــــــــهْ....!
²²²²²²²
غَيرَذَاكَ الباب المُشْرَعَ بالنُّورِ،
محاولَتِي الأخِيرَةُ
لأنْ أَفوزَ فَوْزاً عَظيما...!
وقَدْ هَيَّأتُ للتِّرْحالِ ــ منْ وَجَعِ الفُؤادِ ــ مَراكِبْ،
أَشُمُّ رائِحَة الاخْضِرارِ،
أَشُمُّ رائِحَةَ الطِّينِ تَخْتَلِطُ بِعَبيرِ المَطَرِ
أَسْتَنشِقُ الماءَ الزُّلالَ...
تَتَّسِعُ الرِّئَتانِ،
يَتَّسِعُ القَلْبُ...
يَسْكُننِي النُّورُ مِنْ بِدايَتهِ...!
أَراهُ بِرُوحِي، وبِقلْبي أُبْصِرُهُ...
ويَأْسِرُني...!
يَحْمِلُني إلى آفَاقِهِ الرَّحْبَهْ،
ولَنْ أَخيبْ،
سَيَكُون ُذاكَ البابُ...!
كما صَوَّرَتْهُ مُهْجَتي
فِطْرَتِي..
فِراسَتِي، مَقاماتِي...
هُوَ البابُ الحَقِّ...
إليْهِ أفيءُ ...
حِينَ تُسَدُّ في الَوَجْهِ كُلُّ الأَبـــْــوَابْ...!
شقوق مضيئة
قصص قصيرة
الأصواتُ تتعالى، تقدم أحدهم ولم يكن مجبرا من رؤية كل ما يمكن أن يدفعه إلى مأزق ما، حتى لايعير النظر دافعا للهجوم، يغمض عينيه، يظهر اللامبالاة تماما مثل الآخرين، كل مستقر داخل حالته، كأنهم منقطعون عما حولهم، لايعنيهم شيء، تقوقع تام، يغردون خارج سرب وحدتهم، يعرفون مسبقا ما ينتظرهم وما يتطلعون إليه، مشى بخطوات متثاقلة بطيئة..كان يبدو في العقد الخامس، وقد غزا الشيب مفرقه، وهو يقدم بطاقات الأعضاء يمدها إلى من لايراهم...وكان ما يجري أمامه قد وصل إلى مرحلة انفلات الأصوات، حرارة الأنفاس لم تبرد بعد، فما زالت الأصوات تتعالى وتختلط وتختنقُ حينها...فقد تمنوا لو كانت أوراقا نقدية بدل هذا الهراء...فكلهم يكرمون بعد فوات الأوان...!
الآن... قد يموت الواقفون..وكل الشعراء الحالمين الأصفياء والبسطاء قد يتنقلون إلى الضفة الأخرى،وقد يموتون لأنهم رقيقوا الإحساس...وأما أنا فستغلقني الأبوابُ ...بلا كلام. أما اليراع فقد تفيأ منحى آخر من البوح، باقتحام الذات وانقلابها عليه في الآن نفسه...وببَسط ما شاءَ له الانفلات من الألم والكمد...وقبل الختم وبعده، لاشيء تغير الكبر والعُجاب والحسد والتعالي والزهوُ الخَادع وكل ما يجري بين المثقفين وللأسف هو ما يجري في كل لقاء..أشبه بالذي يجري بالكهوف المجاورة...صرتُ أدركُ أن لفظة الثقافة التي هي شديدة الصلة بحياتنا، قد تميعت بل مسخت، أو ربما نحن الذين ضخمنا معناها بشيء من الهلامية والفضاضة المائعة، أدركت الآن أن الثقافة فعلٌ وليست مصدرا، إنها قيم وارتقاء وسمو نحو إنسانية الإنسان، وعلينا أن نعبر عنها بما نقوم به ونفعله. وإلا فويل للعالم من المثقفين إذا فسدوا، ثم لملمتُ ما تبقى من شدوي وحنيني، وما تبقى من فكري وصرخة روحي، ولم أستطع أن أتطهر أو أتخلص، فقد بقي هناك شيء ما يجثم على صدري...
أخي التوأم لم تكن هوايتُه القراءة ولا الكتابة، فهو لم يخط خطا ولن يفعل...ولن يكتبَ شيئا، ولن يحكي أية قصة عن الذي يقع...، ولايستطيع أن يتبنى أي رؤية، ولا أعتقد بأنه سيكتبُ سطرارسالة على حين غرة، وهو مثلُ أبيه لم يكتب خاطرة في حياته، لو سألت زوجته لفضلت الموت على كتابة سطرا واحدا، ولا أحد يكترث، لقد بدأت القصيدة بالتشتت والضياع لهذه الأسرة الصغيرة...مرة أخرى يُقتل الطفل في أحضاني، وأنا لا أدري، ثم هأنذا أفتح عيني حين أفتحها على كثير ...ولكن لا أرى أحدا...، ثم اقشعر بدني ورحلت...
ويبدو أنه كان في هذا الوقت بالذات كمن يقرأ كل أفكاري التي أحملها وأعتقد فيها...
فقد تخلى عن جائزته مقابل مبدإ كان يسكنه، ويتمثل في رد الاعتبار للجنوب المتوسطي تضامنا مع قوارب الموت...، مؤكدا على ضرورة رد الاعتبار لساكنته...
وكأنني ما زلت أسمع صدى صوته ونحن ننزل عبر سلاليم مبنى إذاعة طنجة الجهوية، بعدما توقفنا بقاعة الانتظار ، آنذاك وكأنني أرى الشمس وهي لا تكف عن مغازلة ضفائرها الذهبية...
يجلسُ سارحاً في شيء، عندئذ نهض عبرَ حطامه، نهضَ يحملُ حقيبة بنية بالية، وعيناه ضباب رقيق من الدموع ، يتكاثفُ فوقَ خديه، وتجاعيد الوجه عناقيد من الأسى، بدت أرجوانية في شمس الغروب، أصبح نضجها ملائما للدود، كأنما - وقد كان من قبل- يزرع حلمه في أرض خصبة، كي ينمو غرسه في اطمئنان، يرويه نهر الحب الوافد من أعين القرويين البسـطـاء، والأطـفـال، ويحصدونه فُلا وريحان، لا تغزوها الأحقاد، كأ نما ــ وقد فتح أشرعة مراكبه ــ يحاول أن يدير الدفة في وجــه التيار، لكن الموج يعلو، ويعلو، ويتناثر، ويعلم بأن عبور النهر يحتاج للرجال، لكن، هل كان العجوز حقاًّ يريدُ أن يلقي بنفسه في رحم التيار...؟!
اللَّونُ الأبيضُ المشِعُّ على امتدادِ الأفُقِ، يكسر اللونين الأخضر والأزرق، ثم يتوارى ويقبعُ خلفَ ستائر الخشوعِ إجلالاً لمن رحَلُوا، الجميع ينامُ رغماً عنهُ هنا الآنَ...! وأنا المجنَّحُ الوحيدُ بين هذه الحشودِ النَّائمةِ، أشعرُكأني بقيتُ مُنزوياً منعزلاً وحدي هنا، وكأنه لم يعد لي شيءٌ سوى أن أشربَ الحياةَ في جوفِ البحرِ...وأتنفس الهواء العليل في مكنونِ الغابةِ، وأتدثر بأوراقِها وأتسربلُ بأزهارها وأستنشقُ عبيرَ أريجها، وأتنقلُ في رَحِمِ طهرِها وصَفائِها، وأحتمي كقبرٍ مضيئٍ بنقاءِ وصفاءِ نقائها....
أرنُو إلى المقبرةِ فأرى على الشواهد أسماءَ مَنْ مَرُّوا، أستنفرُ خطايَ مِنْ مكانٍ لآخرَ، أرى الغابةَ والبحرَ تمتلئ الحياةُ في عيني مزيجاً من الثَّراءِ، في عِبارةٍ أو شَذْرةٍ من شذراتِ الولَهِ "هذه خلوةُ من خبرَ الحياةَ وعبرَ في صمتٍ".
البحرُ زاخرٌ بأَشْرِعَةِ الحياةِ والأسرارِ، والغابةُ حين تنحني كأنها تنبئ بسرِّ الوُجودِ لتمتَدَّ في الأعالي شامخةً بعد هدوءِ العواصفِ والأنواءِ، ضاربة في أعماقِ الأرضِ والحياةِ بالظِّلالِ والعَطاءِ...أجلسُ القُرْفُصاءَ أمام المقبرةِ...أُدْرِكُ بأنَّ هُنا سِرُّ الأسرارِ..تَنْبُتُ أحزاني فجأةً، أسحبُ أطرافَ الأفكارِ المبتورةِ الموزَّعَةِ على كافَّةِ الأرجاءِ بينَ البحرِ والغابةِ...تلك انطلاقةٌ أُخْرَى لتضربَ بأجنحتِكَ الوقتَ الآسر...
وكأنَّني أجتازُ قفراً من الغرَابةِ والعُزلةِ الآنَ...! أدُورُ في متاهاتِ تفكيرٍ تائهٍ، أغْفُو وأَسْبَحُ متأمِّلاً، أرى ما لا يُرى، يعتريني طيفٌ مِنَ الرُّؤَى والوجوهِ والصورِ، مثقلة بالآيات والعِبَر، فعلى لِحى أشجارِ الغابةِ نُحِثَتْ أسماءٌ وقلوبٌ...، وعلى شواهدِ القبورِ رُصِّعَتْ أسماءٌ وأسماءٌ لمنْ عَبَرَ في هذهِ الحياةِ، وآياتٌ وعِبَرٌ شتَّى أُخَر..، أرنُو إلى المقبرةِ فأرى الشَّاهدَ شاهِدَ صاحبِ الخلوةِ، فأتلبَّس بحرفِ البدءِ والختمِ مَرَّةً أُخْرَى" هُنا يرقدُ ..من كانَ يحبُّ الحياةَ!!" فأشتعِلُ بالوَلَهِ!! تَضْطَرِبُ حالتي، تختَفي مَعَالمُ طَريقِي، وأَجْزَعُ من الخاتمةِ! أُفتَتنُ كمن يرتعِشُ في يدهِ مفتاحُ بابٍ وهو في عَجَلةٍ من أمرهِ لموعدِه معَ سفرٍ عاجلٍ لَمْ يُرَتِّب لَهُ وَلم يكن في الحُسْبَان، رَحَّالَةٌ بلا محطَّاتِ وُصُول....هو الَّذي كانَ يحلُمُ بالحُبِّ والسَّفَرِ البعيدِ، لكن هذهِ المرة تتَثاقَلُ الخُطُواتُ كمَنْ لايَنْوِي الوُصُولَ....
الغائبونَ تحتَ التُّرابِ أكثرُ حضوراً منَّا، وقد مَضَواْ فوقَ أَجْنِحَةِ الرَّحيلِ، كشواهدَ القُبورِكانَ غِيَّابهُم، أُوَدِّعُهُم رغماً عَنِّي، ويمضون إلى حيثُ تستريحُ أرواحُهُم..، وجوهُهمُ المُشرِقَةُ كما لَوْ كانَ موتهُم اختيارُهم، كانوا نجوماً في الظُّلْمَةِ، ترَكُوا السَّاحَة مَلآ بالحُضورِ الزائفِ وغابُوا بشيءٍ يُشْبِهُ الفَقْدَ...لكن ذكراهُم ستظَلُّ مَوْشُومةً مُشِعَّةً في القلبِ، فلقد عاشُوا للخيرِ والحُبِّ والعطاءِ، وسيلهجُ ويَنْبُضُ القلبُ بذكرِهِم، قلوبهُمُ النابضة بالصِّدْقِ والإشْرَاقِ وحُبِّ النَّاسِ لن تتوقَّفَ، وستدقُّ دقاتٍ عديدةٍ إلى آخرِ العُمْرِ...! رحالة تركَ خلفَهُ أكبر الأثر!!
هذانِ دَربانِ، الأوَّلُ يأخُذُني للبحرِ، والثاني يأخذُني للمَقْبرَةِ...فأَرْنُو إلى القبورِ، أستنفرُ خُطايَ، أفكر في النهاية، أحتاطُ من المجهولِ، أُنْصِتُ لنداءِ الغيبِ، البحرُ زاخرٌ بصنوفِ الحياةِ، يمنحُ الكائنَ أسرارَ الدَّهْرِ المنسابةِ كالأمواجِ في مدِّها وجَزْرِها، أشرعة بيضاء تنشرُ امتداداً من الحياةِ الذَّاهِبَةِ الفانيةِ، والقبرُ مليئٌ بحياةٍ أبديةٍ حقيقيةٍ خاليةٍ من الزَّيْفِ، حياةٌ طاهرةٌ صامتةٌ لكنها كاشفة، هُنا جواب واعضٌ يقينِيٌّ عن كل أسئلتي وحَيْرَتِي، وأرى ما لايُرى، فهأنذَا أطوفُ ما أطوفُ، لكن حتماً سَتَسْرَحُ بي قدمايَ رغماً عَني حيثُ تريدُ...
أعتمِرُ قُبَّعَتي ثم أُصَوِّبُ خُطايَ من نُقْطةٍ ما ثم تنطلقُ الخطواتُ...، تتساقطُ اتِّباعاً في مَهَبِّ ما لايُدْرَكُ، والقلبُ يَنْخَلِعُ من مكانهِ، يتهَلَّلُ للوداعِ، قد تهدينا الخُطُواتُ إلى ما قد وُجِدَ بهما، قد أركضُ وأَجْتَرُّ حرَّ الآهِ...! ثم أنبِشُ عن مُسْتَقَرٍّ يمسحُ ما في القلبِ من كَمَدٍ، مستقر أُسائِلُ فيه عن حرفِ البَدْءِ وحرفِ الختمِ، فأطلبُ مدداً...، غير أنَّ خُطوةً واحدةً خاطئةً قد ترميني في الهُوَّةِ السَّحيقَةِ، لكن حَسْبِي الإحْتِمَاءُ بالحذرِ إن نفَعْ، أُقَدِّمُ رِجْلاً ويُؤَخِّرُ أُخْرَى، كمَنْ لايَنْوِي الوُصُول...
كانَ ذلكَ آخِرَ يومٍ له بيننا هُنا، ورقةٌ أخرى تُطْوَى إلى الأبَد، لم يُسْعِدْهُ أحدٌ حتى الوداعَ الأخيرَ، حدَّ الرَّمق، رمق النهاية، لم يبقَ لي غير ذكراه الجميلة، صورتُه الوحيدَةُ على الجدار، لا أحدَ يشعرُ بكآبَتِها، عيناهُ تحدِّقانِ في، وكأنَّ رُوحَهُ تتلبسُ بي...ترتِّلُ أشواقَهَا في ثُقوبِ الشَّبابيك... وكأنَّ واحدنا يشبِهُ الآخرَ، لم يكن يحبُّ الصُّعودَ إلى القِمَمِ أو الإبحارِ، لكنَّهُ كان يحِبُّ البحرَ ويسيرُ قريباً منهُ، وَيتبعُ الغُروبَ إلى أقصى نُقطَةٍ، لكن كل ما فَخِرَ بهِ فيما مضى صارَ مجرَّدَ تخاريف، وعبثاً حاولَ الخروجَ، عبثاً حاولَ تَضْميدَ الجراحِ، لكن الريَّاحَ تأتي على غيرِ اشتهاء...
لم يكن ينامُ كثيراً في آخر أيامِهِ، كان يتَّكِؤ بحذائهِ المثقوبَ وكان دوماً على أُهبَةِ الاستعدادِ، لأنَّهُ كان يحلمُ بالحبِّ والسَّفرِ البعيدِ ...
الخطواتُ تتلوها الخطواتُ، وهو يمشي ثمَّةَ مكانٌ سوف يصلُ إليه، وبعدهُ ثمةَ مكانٌ آخرَ، لم يحس بخطاه أبداً، لايلتَفِتُ، كلُّ الأشياءِ من حولهِ تبدُو غائمةً، والشمسُ محرقةٌ، والسرابُ يكتَسِحُ الطريقَ الوَعْرَ الجافَّ، منذُ ساعاتٍ وهو يسيرُ، شرَدَ ذهنُهُ إلى بعيدٍ، إلى الماضي الَّذي تجسَّدَ أمامهُ في هذهِ اللَّحَظاتِ، فَرَاحَ يستعرضُ صُوَّرَهُ...كمَنْ يحاولُ عبثاً أن يُقَصِّرَ المسافَةَ، فلا الطريقُ قصُرَت، ولا الذِّكرَياتُ جادَت، تعب ولم يتعب الشُّرودُ، ووَهْمُ الوصولِ مُرْفَقٌ بألفِ احتمالٍ، فلقاءُ أُمِّهِ قد يكونُ الأخيرَ..
كم هو فظيعٌ أَلمُ الفراقِ...سنواتٌ سيئة، حين يعيش الإنسانُ على ألمِ الفقدِ، وكعادتهِ يظلُّ يمشي تائهاً يستَبِدُّ بِهِ الشُّرُودُ من كفنٍ إلى كفن، يعصُرُه الصَّمْتُ سحاباتٍ وقلَّما باسماتٍ، تسقي أَدِيمَ الرَّحيل، يتجرَّعُهُ العَويلُ مسافاتٍ بين النَّعيمِ والجَحِيمِ، بين اليقظَةِ والحُلْمِ، والخُطوات تصيرُ أَمْيالاً!
تَعِبَ من كثرةِ المشْيِ، المسافةُ طويلةٌ، وحقيبةُ الأغراضِ الَّتي يحملُها على كتفهِ ثقيلةٌ، والطريقُ ما تزال طويلة، تحسَّسَ الصَّخْرةَ الملساءَ بالقربِ من الشَّجرَةِ الوارفَةِ الظِّلالِ فجلسَ، نَظَر َبالقُربِ منهُ قافلةٌ من النَّملِ راح يُتابِعُها، ثم نظرَ بعيداً...
هُوَ الَّذي قد ترحلُ أمُّهُ هذا اليوم، يأخذهُ الشَّتاتُ والتِّيهُ إلى حيثُ لايدري، يُسنِدُ ظهرَهُ إلى جذعِ الشَّجَرةِ ليستريحَ، يُمَدِّدُ جسَدهُ على الأرضِ العراءِ كمَنْ لايَنْوِي الوُصُولَ.
كانَ ذلكَ آخِرَ يومٍ له بيننا هُنا، ورقةٌ أخرى تُطْوَى إلى الأبَد، لم يُسْعِدْهُ أحدٌ حتى الوداعَ الأخيرَ، حدَّ الرَّمق، رمق النهاية، لم يبقَ لي غير ذكراه الجميلة، صورتُه الوحيدَةُ على الجدار، لا أحدَ يشعرُ بكآبَتِها، عيناهُ تحدِّقانِ في، وكأنَّ رُوحَهُ تتلبسُ بي...ترتِّلُ أشواقَهَا في ثُقوبِ الشَّبابيك... وكأنَّ واحدنا يشبِهُ الآخرَ، لم يكن يحبُّ الصُّعودَ إلى القِمَمِ أو الإبحارِ، لكنَّهُ كان يحِبُّ البحرَ ويسيرُ قريباً منهُ، وَيتبعُ الغُروبَ إلى أقصى نُقطَةٍ، لكن كل ما فَخِرَ بهِ فيما مضى صارَ مجرَّدَ تخاريف، وعبثاً حاولَ الخروجَ، عبثاً حاولَ تَضْميدَ الجراحِ، لكن الريَّاحَ تأتي على غيرِ اشتهاء...
لم يكن ينامُ كثيراً في آخر أيامِهِ، كان يتَّكِؤ بحذائهِ المثقوبَ وكان دوماً على أُهبَةِ الاستعدادِ، لأنَّهُ كان يحلمُ بالحبِّ والسَّفرِ البعيدِ ...
...ها خم قد غابُوا بشيءٍ يُشْبِهُ الفَقْدَ...لكن ذكراهُم ستظَلُّ مَوْشُومةً مُشِعَّةً في القلبِ، فمن بين ما أتذ كر من دُرَرهم وحكمهم وبمزيج من العشق والشوق، ما ذكره لي ذات يوم أبي ناصحا " لو علمت السرعة التي سينساك بها الناس بعد موتك يا بني...فلن تعيشَ لإرضاء أحد سوى الله".
منذُ ذلك اليوم، وأنا أدعو لوالدي أن يتغمدَهُ الله برحمته، ولم ولن أنساه ماحييتُ.
تردد
كمن يتهيأ للمغادرة، لكنه سرعان ما يعود ليخلع معطفه وقبعته ودثاره، ويعلق كل ذلك على المشجب، ثم يدلف إلى الحجرة، ويغلق الباب الداخلي وراءه، ولفترة طويلة ظل يرتب احتمالاته، حتى بدَا له القرار في النهاية، بعد الذعر المجنون الذي تراكم على وجهه الممتقع، ووضح بصورة أشد من ارتعاد شفتيه، وحالة التقوقع المخيف التي طحنت رأسه، وجعلته يغوص بين كتفيه، ضاغطا الجزء الأكبر من عنقه تحت ياقة القميص، تاركا معطفه الثقيل، والآن يهبط السلاليم العريضة في خفة طائر رافعا المكان إلى هيأته، فجأة يفتح الباب، ويطل برأسه ثم يقفله بسرعة، وقبل أن يفتح الباب ثانية توقف برهة كمن فطن إلى أن الشارع يعوم في سراب ووهم دائم، وباشتباكات الضغينة والشرور والمآسي...، يفتح الباب أخيراً كأنه نسي شيئا، لكنه لايطل...ويقفل الباب، لم يكن يعلم بأن شيئا قد انصرف من أمام بابه يحاول جاهداً اختلاس النظرات...!
وأنطلقُ إلى الشوارع...صوت حبيبتي الصغيرة يملأ كياني، والرذاذ يغسلُ هموم القلب. وما تزال الأرضُ الطيبةُ تحتضنُ مطر القلب ومطر السماء، مزيجاً واحداً يجسدُ حقولً اللهفة، ويرسمُ تفاصيلنا الصغيرة، ويعلنُ إصراره على أن نفتح في جدران الحزن كوةً للفرح والغبطة.
تعبثُ الريحُ بخصلات شعرك قبل أن يداهمك الصلعُ، وتلهو بمزق ثوبك ولا تعيرُ لشيء اهتماما.
تستلهمُ من الضمير صلابتهُ، ومن الحفيف موسيقاه...وتسرحُ في الحقول كنسمة صيف رطب طبيعة داخل طبيعة. ثم تحاولُ كما الغجرية أن تسابق الريح، وهي تقترب من الشاطئ ذي الرمال الذهبية، كانت أمواج البحر حين ذاك ترتطم فترسل رذاذها المتناثر على وجهها، مدت ببصرها إلى زرقة البحر وصفاء السماء، وهمت وحاولت أن تنسج منها شيئاً للذكرى، ثم تنهدت وأخرجت زفرة طويلة من صدرها المتعب، وانسكبت دمعة من مقلتها وهي تنظر إلى المدى البعيد. أسرعت اللحظات وأخذت الشمس تودع المكان وتعانق موج البحر المتلاطم وقرصها يختفي شيئا فشيئا. لم تكن تعلم إلى أين ستقودها قدماها، نظرت لمغيب الشمس الذي عكس لوناً قرمزياً على صفحات موج البحر الثائر، لكن الأحلام صارت ممزقة.
يَنقُرُ المطرُ زُجاجَ النَّافذَة....كعصفورة بريَة...يرقُصُ قلبكَ للمفاجأة المفرحة...تركضُ إلى النافذة..تشرعُها للمطر..تطلُّ بوجهكَ وتُفردهُ شراعاً ضاحكاً للريح...يُهاجمُكَ البردُ ثم الطين يحط على وجهك ويديك، تدركُ أن المطرَ سُلبَ نَقاؤه..تقفلُ نافذتك وتعود..صوت حبيبتك يأتي رقيقاً وراقصاً هذه المرة فرحاً بالمطر الذي رأت فيه ما لم تراه..وما لم يره الآخرون، تقول كم أتمنى أن أسير معك في الشوارع نفرد وجهينا للرذاذ، ونشرع قلبينا للحب، ونفتح في جدار الحزن كوة للفرح، ونطهر بالحب ساعة الوداع، فغداً كل منا سيذهبُ عنوةً مع الريح، غداً كلٌّ منا سيذهبُ إلى حال سبيله، فلنطهر بالحب ساعة الوداع.
تَوَقَّفتُ عندَ المكتبةِ لأشتريَ كتاباً أقرأهُ أثناءَ سفري غداً، ثم قَفَزْتُ إلى ناصيةِ الشَّارعِ في الجِهَةِ اليُمْنى لمفترقِ الطَّريقِ، لَكِنْ لَـمْ أجِدْ شيئاً يستحقُّ العناء... فكُلُّ العَناوين غارقةٌ في الفراغِ والأَلَمَ والخَواءَ والاجْتِرارَ، لاشَيءَ يُذْكَرُ... شيءٌ واحدٌ هو المَكْسَبُ والرِّبْحُ، والمَظاهِرُ والزَّهْوُ والزَّيْفُ الخَادِعُ، والمعيشُ اليومي، جاهدتُ التمزُّقَ لأخرجَ من هذا المسْتَنْقَعِ الكريهِ، في هذه اللَّحظة، أثارتني طفلة تنفخُ العلكة بالوناً غَيْرَ عابئةٍ بشيء..! ورَجلٌ واقفٌ بسترةٍ بُنيةٍ وسروال أسود مكوى بعناية، ينظرُ عابساً باستفهامٍ إلى آخر بازدراءٍ من الأسفلِ، هذا الأخير ضئيلُ البنيةِ، يقفُ على مفترق الطَّريقِ الضيِّقِ المُوحل، حذاؤهُ البلاستيكيِّ الشَّتْويِّ مليء برَوْثِ البهائمِ...وأثوابهُ الرثَّةُ لا تختلفُ عنها في اللَّوْنِ، وطفِقَ ينظر هو الآخرُ بتعبٍ وسأمٍ وحنَقٍ ونَفاذِ صبر، كأنَّه يترقَّبُ بحزن على وجـهٍ منَ الفَظَاعَةِ لزَخَّاتٍ من السُّحُبِ، تنتشرُ فوق رأسِهِ مُصْطَبغة بلون رمادي أدكن أمله للعودةِ والرُّجوعِ لبَلْدَتهِ، ينظرُ الآنَ إليهِ بهُدوءٍ حاكًّا شَعْرَ رأسِهِ بكلتا يديه، وعلى وجههِ علاماتُ ضيق ظاهر...ويبتسم كالأبله، يرفع عينيهِ ويتتبعُ بصعوبةٍ فكرة ملحاحة تنزلقُ بين الفينة والأخرى من ذهنه، وهو يمسحُ العرقَ بكِلْتا يَديْهِ، بصَقَ، نظَرَ إليهِ برعونة، وقال: لِمَ تنظرُ إليَّ هكذا؟ رفعَ رأسهُ، سَبَّهُ بزعيقٍ وشَتَمهُ ثم انسَحَب....
منذُ هاجرتُ...
سيفي أشرعُهُ في الوجوهِ الصَّاغِرهْ...
قافِيتي أنفُثُها في القُلوبِ
الحاسِدةِ...
الحَاقِدةِ، النَّاقِمهْ...
لعلَّ الحجارةَ تسقُطْ،
أبْني بها سِياجاً وصَرْحاً
منَ الحَنانِ والحبِّ...
والغَزلِ الرَّائقِ...
أفتحُ باباً منَ الدِّفْءِ للأشقياءْ...
أعلمهم عُذوبةَ الحُبِّ...
وما كان بيني وبينَكْ...
"أيَّتُها العَدوِيـَّةُ...البَدَويةُ
من دونك سلبُ النفوسِ، ونارُحربٍ تُوقَدْ..."
فلا تُطيلي التساؤل َعنْ سفري...
وغُربَتي في ليالي الشِّتاءْ...
فما زالتِ القبيلةُ تطلُبُ رأْسِي...
والشعراءُ مازالوا يُريقونَ ماءَ وجْهِي...
يَكيدونَ لِي...
وماعُدْتُ أُبالِى...
"فلا أهْلُ...ولا كأسُ...ولا نديمٌ...
ولا سَكنُ..."
فَأنا الذي طلَّقْتُ الدُّنيا
وجميعَ الفِتَنْ....
يَطيرُ القَلبُ
(1) حـلـم :
ويظل وجه الأرض مشرئبا إلى السماء ...
يظل الإنتظار ...
يحن إلى أجنحة الريح والعاصفة ..
يحن إلى انكسار الصمت ..
حين تعرف الخطى ..
كيف تجيء دروبا في الأرض ،
أو أجنحة السماء ...
قلبي يطير- لا تفكروا كيف؟ -عاشق يحلم !
(2) غـيـوم :
بين الأرض والسماء كان انتظارك ...
الذي يجيء بمواسم القطاف ؛
يودع الحزن المقيم ،
يحمل جذور المأساة...
من الأعماق، ويسافر.....
تفرش العيون أهدابها لك ...
هذي غيوم الغيث يا سنين الجذاب!
هذي غيوم الغيث...
بأزمنتنا المصفرة ...
فلتهطل أمطار الرحمة ...!
تواعد الجداول ، تواعد الحقول ...
(3) الـريـح:
إنها الريح،
قال الصمت،
لكن الصمت يطول ...
وانتظار الطارق المؤمل، يطول ...
تاه مع الطريق...
الطريق الذي طويت فيه الزمن ،
ستطرقه الأقدام !
والريح التي حلمت بها ...
ستجيء دائما ...!
تخصب الحياة..
رغم كل شيء ،
لا أحد سيلغي...
فرح الأشجار ...!
ويطول الإنتظار،
لكأنما ...
" الـبـاب مـا قـرعتـه غيـر الريح ..
آه !لعـل روحـا فـي الريــاح "(1)
(4) سـكـون:
أبررعند انقضاء النهار ،
بعقل المنطقي ،
والإنساني فعلي ،
أفلسف عجزي ،
وفي الغد أسلك عين المسار .
(5) انـتـظـار :
أنا في انتظار الذي يأتي...
و لا يأ تي...
أفكر في اللحظة القادمة ..
وأمضي مع النظرة الحالمة ،
أُبَدِّدُ في كل يوم جديد ...
شبابي، وروحي...وفكري السديد ...
وأجهل ما أريد ...!
(6) غـمـوض:
الحقيقة ... مخبأة ،
خلف هدوء ملامح غجرية ،
وصمت عينين زرقاوين ،
وضحكة فاتنة رقيقة ...
(7) ضـيـاع :
لم يبق من شوارع الليل ،
مكان لم أتجول فيه ...
العينان الزرقاوتان ...
أخذتا كل مساحة الليل !
(8) ملامح :
تلك الملامح ...
حين تمر بصمت ...
تكسر جدار الصوت !
فتعانق الريح ،
وتهدهد القلب الجريح ...
(9) مـغـامـر :
أحب ولوج المجاهل ،
أفنى في خضم البحار ،
أفنى في خضم السواحل ،
لدي كل الجسارة ،
لأصعد لتلك القمم ،
لا أخاف التردي ...
لا أخاف التحدي، ولا الجسارة ...،
لكن يستهلك الطريق مستقبلي .
(10) صـمــت :
أنا ما عدت أنبس ببنت شفة…
وما عدت قادرا
على أن أحاور...
فإن الذي في خيالي كثير..
كثير وكثير...
وكثير... يدجن عنف السؤال المداور ،
ولكنه . . .كيف يصمد قصر الرمال،
إذا ما علته المياه ؟!
(11) مـسـاحـة :
قلبي مساحة بحجم الكون ...
كل المسافات تؤمه ، لأنه ،
مفترق للطرق ...
ورغم ما يعج في عيون المارين ،
الرامقين من وهــج ،
يقابلهم دوما ...
بأعصاب من ثلــج!
(12) البلبل:
بلبل ٌكان يأتي فيسعدني
بأنغامه السجيَهْ..
يشدو ويشدو ما شاءْ
يَطيرُ بي إلى الآفاق ِ
إلى أفنانٍ نَدِيَهْ..
دوماً، في كلِّ صَباحٍ
كانَ يَأْتي..لا تَسْأْلُوا ...
من أين؟
لكنه كان يأتي...!
ينقر الخشب المتشقق...
فأُحِسُّ بِأَنَّهُ كانَ يَتَألمُ..
مِثْلِي كَانَ...
وينكسرُ البلْبُلُ من يَأْسِهِ هُنَاكْ....
أَلْمَحُهُ هُنَاكَ مُبَلَّلاً بِالمطَر
أَلْمَحُنَا رُوحَيْنِ تَوْأَمَيْنِ...
مِثْلَ الطِّينِ تَحْتَ المطَرِ
لِذلكَ كُنْتُ أَدْعُوهُ...
أدعوهُ: ــ كُنْ أيُّها البلبلُ صدري،
وصوتي،
واذهب إلى آخر السنوات،
حصاد الأماكن، والناس،
وارجع؛ لكي تخبر دمي..
أن هذي الخُطَى، لم تكن بدأ موتي...!ــ
كان يأتي...لست أدري...
من أين يأتي...؟
لكنه كان يأتي...
ومرة فاجأوه على غصن قلبي،
وكان صغيرا ...
صغيرا... صغير...
وإذ أمسكوه بجناحيه الصغيرين
صحتُ: دعوني أطير!
فقد كان طيبا في صدره الحب،
والفرح البكر، مثل إطلالة الشمس،
لا يتقي السهم، لا يَتَّقِي الشراك...
ولا فِخَاخَ الصَّباح...
مبتعداً... لا يخون،
مثلَ طائر غادر الليل والطرقات على عجل،
بعد أن طالع الأرض بــأمنيات...
كسرت كل الجنون، حينما أُبْصِر ...
كل مالا يراه المَدى، والعُيون...
وكانت له أرضُهُ،
وتلال الصهيل...وعيونهُ..
ما تشتَهِي أن ْتكون،
فهو أمضى السيوف،
وأوفى الأصدقاء، وأعلى الحُصُون.
أجل! كان يأتي...ومن أين؟ كان يأتي...
لستُ أَدْري...لكِنَّهُ كان يأتي...
(13) ســـؤال؟ :
سألت الدَّرْبَ والقَلْبَ، متَى أَهدأ ؟
فأجابني : " عِنْدما يَنتهِي مشوارك الَّذِي لمْ يَبْدَأْ !"
الهامش __________________________
(1) سطران شعريان للشاعر العراقي الكبير بدر شاكر السياب
ماذَا يَبْقَى لَك...؟!
ما الفائِدهْ؟؟
حين يتنكَّرُ الأصحابُ...!؟
ويطعَنُ الأحبابْ...،
أو يتمَسَّحون بعتَبَةِ الرَّحيل في وجوهٍ...
ما عادتْ تَذْكُرُ أَصْحابَها،
وكأنَّهُم افترشوا ثَرْثَرَتَهُم،
وأيامَهُمُ الحُلْوة...!
ونَامُوا للأبدِ...!
رَاحُوا،
هَدَأوا كالأنقاض،
أو بَقايا رَمادْ ،
وحتَّى حينَ يأتُون َمن أَطْرافِ الوَقْتِ...
من غَياباتِ النِّسْيانِ...
أَنْتَ الوحيدُ، الأجْرَبُ،
وحْدَكْ....!
ماذا يَبْقَى لَكْ ؟!
غيرَ نافورةِ ذكرياتٍ
غير صمتٍ،
ووَجَعٍ في القلْبِ...
حكاياتٍ لا تنْتهِي...
في صُورٍ حَدْباءَ...
صمتٍ متعَرِّجٍ، مُتمَوِّجٍ مَقِيتْ....
يَمْتَدُّ بحراً غزيراً عَميقٍ...
منْ يَدْلُفه لامحالةَ يغْرَقْ
داخله مفقودٌ،
والخارجُ منه مولودٌ
وحدَكْ ... ! أنا الغريقُ
صمتي ماءُ وجْهِي يتدفَّقْ
صمتي لا يُبْقِي على شيء ٍ
حتَّى يمُوتْ...
أنت وحْدَكْ ؟!
ماذا يَبْقَى لَكْ ؟!
تَصيرُ مبعثرَ الكِيانِ،
مُنْكَسِرَ النَّفْسِ والهُوٍيهْ...
هي طريقتُكَ وحيداً،
يتلبَّسُك الوقتُ ليْلاً طويلاً....
دهراً يَطولُ...
حتَّى تخْتَفِي مَعالِمُ الطَّريقْ...
وكأن الوقْتَ لا يَمُرْ...!
والعقارِبُ لا تَحيدُ، ولا تَزول ْ
فَأَغْدُو أنا اللَّيلْ...!
كَأَنَّكَ نِهايَةُ رمَقْ !
وأَسْئِلتي تصيرُ غاباتٍ
من الوَجْدِ والأرَقِ
المعلَّقِ...
أوِ المحْتَرِقِ...
تتمَسَّحُ بالوقْتِ،
وَمِنْ مُهَجٍ..
تلْهَجُ...
أَن ْ يا دُنيا إلى أيْن ؟!
إلى أين أيَّتُها الخُيولُ الجامِحَةُ ؟!
المصلوبةُ أنتِ...
مثلَ خَناجِر عتيقةٍ حدَّ الحَلْقِ
ليس لكَ غير الصَّبرِ دَواءْ ...
وانتظارِ الفَرَجْ...
وليس لكَ معَ طُول اللَّيلِ إلَّا..
تعَقُّبَ الضِّياءْ...
فمَعَ الضَّرَّاءِ السَّراءْ...
وأن تتشَمَّرْ، وتُرَتِّبَ مع الفَجْر ِلِقاءْ...
حتى تَنْصت إلى همَساتِهِ
وإلى ما يُرسِلُهُ إليْكَ مِنْ شُعَاعٍ...
ومِنْ بهْجَهْ...
حينَ يمُرُّ ببابِكْ..
وما سَيُرْسِلهُ من فرحٍ في حجْمِ السَّماءِ...!
إليْكَ وحْدَكَ قصراً....!
وحدكَ يقيناً كُنْتَ تَنْتَظِرْ...
وما وضَعْتَ في الحُسْبانْ...
عيْناً وفضولاً...
منَ الغَدْرِ يَرْصُدُنِي ويتَرَقَّبْ...
وأنا ما وضَعْتُ...
مُحالاً يتعَقَّبْ...
يَقْتَفِي أثَري مِثْل العُقَّابِ في المَمَرْ...
وَكَيفَ يصْمُدُ قصرُ الرِّمالِ،
إِذا ما عَلَتْهُ المِياهْ؟!
وحدي أَعْلُو على صَهْوَةِ الوَقْتِ،
ولنْ تَكُونَ النِّهَايَهْ...!
ومرَّةً أُخْرَى أَجْتَرُّ غُرْبَتي...
وأَجُرُّ أَذْيالَ خَيْبَتي...
أُفْرِغُ عُزْلَتي ،
غَصَصِي الحَرَّى
مرَّةً تِلْوَ أُخْرى
أتَخَفَّفُ،
أُحاوِلُ أنْ أنْسَى...
أَتأفَّفُ،
أَتْلُو في صمتٍ،
عباراتِ وَجْدٍ، ألماً تَتَدَفَّق ْ
أَتجرَّعُها كَأْساً من شتَّى ألوان ٍ الأَحْزانْ...!
وَحْدي على صَهْوَةِ الوَقْتِ،
وَحْدي حافياً...
على سَطْحِ الرِّمالِ ...
هائماً في الصَّحْراءِ،
لا أَهْتَدي مثل العُمْيان
رِجْلايَ تتَعَرَّقان ِ
تَغْرَقَان ...
تغرقَانِ...وكأنَّهُما في الوَحَلْ
ثم تَحْتَرِقان...
كما قَلْبِيَ المُدْمَى
في عُمْق ِ لَظَى الرِّمالِ
الَّتِي تُحْمى ...
وسَطَ سَعيرِ النِّيرانْ...
وكَأَنِّي وَحْدي واقِفٌ...
على فَوْهةِ بُركانْ،
أُعَدِّدُ قَتْلايَ...!
والَّذِينَ صَارُوا..
بِلَا عَدَدْ...!
وهاهي الأسْماءُ تُغازِلُ صَمْتي،
فِي كَمَدْ؟
وَحْدي أَعْبُر ُمَتاهاتِ النِّسيانْ...!
كَشَجَرٍ، كحَفِيفٍ تعْبثُ بهِ الرِّيَّاحُ والجُؤَارْ
تَبْحثُ أَوْراقي في تَعَبٍ،
عَنْ أَصلِها والفُرُوعْ
والأَغْصان ...
تُوَلْوِلُ إذا ما انْفَصَلتْ
عَنِ الشَّجَرِ، وتَنْتَحِبُ آخِرِ القَرارْ
ثُمَّ مِنْ جَديدٍ تَصيرُ إلى مَا كَانْ...!
أُحَدِّقُ في مَأْسَاتي،
مِثْلَ شَجَرةٍ عتيقَةٍ...
كَمِ اخْضَرَّتْ،
وَكَمْ أَيْنَعَتْ، وَأَتْمرَتْ...
وكَمْ أَطْعَمتْ...
وما شَحَّتْ وَما بَخِلَتْ...
ثُم شاخَتْ وهَرِمَتْ...
مثلَ مَأْسَاتي...
وصارت مَنْخُورَةً مَلْآ بالثُّقوبْ
مِثْلَ فُؤادي المشْقُوقِ
بصُنوفٍ شَتَّى...
وغَدا مِنَ الخَيْباتِ والشُّحوبْ
كأَشْجارٍ مُتَراميةِ الأَحْزانِ
أشجارٍ خَفِيَّةِ الظِّلِّ
امْتَلأَتْ غَصَصاً حرَّى..
فصارَت مَنْسِيَّهْ ،
ثُمَّ مَنْفِيَّهْ...
أو نَخْلٍ كَرَّستْهُ الفُصُولْ،
أو كَرُمَّانةٍ عارِيَّهْ،
ما عادَتْ تَكْبُرْ...
أو سِنْدِيَّانَةٍ مُنْتَحرَهْ،
ما عادَتْ لَها ظلال ٌ وأَفْياءْ
كان يُمْكِنُ أن تَتعَزَّى،
و تَنْسَى،و تَغْفِرْ أَن ْ
قَدْ أَفاءَتْ مراراً...،
!!على عابِرِ سَبيلٍ...
أو قاطِعِ الطَّريقْ...!
أو شَجرةِ لَوْزٍ مَجْروحَةٍ، مَنْشُورةِ الجُذورْ
مَبْتُورَةِ الجُذُوعِ بِلا أَحْضانْ
كَما لَوْ طَالَتْها عاصِفَهْ...
خاطِفَةٍ مِنْ بَريقْ
أو طارَدَتْها أَيادِ مُحْتَطِبٍ،
فقطَّعَتْها إِرَباً، إرَباً...
وغَدَّتْها...
وعَدَّتْها لِلْحَريقْ...!
أو زَيْتُونَةٍ مُرَّةٍ حَدِجهْ...
أو صَهْباءَ مَلْساءَ الأَغْصانِ
صارَتْ بِلا أَفْنَانْ
أو لَيْمونَةٍ غَدَتْ مَنْظراً وَ زينَهْ
أو شجَرَةِ جَوْز ٍشاحِبَةٍ خَرِبَهْ..
مِنْ عُرْيٍ وأكْلِ الدِّيدان ْ
أو شجَرَةِ أَرْز ٍ مَحْروقةٍ بِلا لِحاءْ
أو خوخَةٍ صارَتْ حَنْضلاً...
منْ شِدَّة الأَشْجانْ
أو كَشَجرةِ تينٍ عَقِيمَهْ...
لَمْ تَعُدْ لَها قِيمَهْ... ؛
سَكَنَتْها العَناكِيبُ و النِّمال ْ ،
وصارَتْ تَنْعَق ُ فَوْقَها الغِرْبانْ ...
ومرَّةً أُخْرى شُحوبْ..!
أُحَدِّقُ في مَأْسَاتي،
مثلَ لَوْحةٍ تُناغِي جِدارْ...!
أو مِسْمار ٍ وحيدٍ بلَا إِطارْ...
وأنا الَّذي رَسَمْتُ بِساطاً...
وجِناناً مِنَ الحُلْمِ الأَخْضَرْ،
وطَرَّزْتُ على أَقْمِشَةِ الصَّباحِ
نافُورَةَ الإشْراقِ ..
مِشْكاةً منَ النُّورِ...
والضِّيَّاءِ والحُبورْ
أنا الَّذِي رَسَمْتُ شمْساً،
لا تغيب،
ولا تَجْنحُ وراءَ المَسَافاتِ
تَمْتَدُّ لأبْعَد مَدَى..
تَمْتَدُّ في الفَضَا،
تَنْسابُ في السَّما...
وَتَدومُ أَكْثَرْ...!
وأنا الَّذي رَدَّدْتُ على أنْغامِ العِشْقِ،
بأَنِّي سأشُقُّ ...
بسَيْفي كُلَّ دُروبِ النَّصْرِ،
وسَأَقْطِفُ هاماتِ القَهْرِ،
كَيْ يَنْعمَ غَيْري...
بَعَبيرِالحَياهْ
أنا الَّذي رَدَّدْتُ
على أنْغامَ العُشَّاقِ،
تَراتيلَ بِشارَةٍ،
تُدَغْدِغُ براءَةَ الأطفالْ..
وأَرْضاً مُمَدَدَةٍ،
مُطَهَّرَة لِبَني الإنْسَانْ
أَرْضاً مُمَهَّدَةٍ بِلا حُدُودْ
لا تَعْتَرِفُ بالأعْراقِ
لا تَزحَفُ فيها خَبايا الشرِّ
أَوِ الشِّقاقْ
ولا ألوان الكُرْهِ..
أرضاً مُثْقَلةً...
بِالخَيْرِ ، بالحب و بالسَّلامْ...
وكَمْ غَرَّدْتُ بالصُّمودِ والتَّحَدِّي...
والوُقوفِ في وَجْهِ القَهْرِ...
ورَفْعِ القُيودِ،
ودَفْعِ الضَّجَرْ...!
أنا الَّذي صَدَحْتُ بِأَنْغامِ العِشْقِ،
أناشِيدَ وملاحِمَ خُرافِيةٍ من حماسَهْ
وسلاماً وأمْناً وحُبًّا
حتَّى تكْبُرَ الفَرْحَة حياةً من سماحَهْ
تَصيرُ علامهْ..
تكْبُرُ أطواداً من المَرْمرْ.....!
لكن !
ومرَّةً أُخْرى،
وكأَنَّني منَ السَّذاجَةِ أَجْفُلُ
وأَغْفَلْ...
وَأنا الَّذي لاَ حَوْلَ لي...
ولَسْتُ ممَّنْ يُحْسِنُ التَّسْيِيرَ أو يُدَبِّرْ..
ويا وَيْحي كيْف نَسيتْ...؟!
فسُبحانَ الَّذي بِيَدِهِ الأَمْرُ هُوَ المُدبِّرْ...
وأنا ما وَضَعْتُ في الحُسبانِ ...
ناراً لا تُبْقي ولا تَدَرْ...!
وفضولاً، وعُيوناً ...
من الغَدْرِ تَرْصُدُني...
وتَتَرقَّبْ...
وهَا قَدْ مَضَى عُمْري،
وخَابَ ظَنِّي
وطَال َدَرْبي،
وما عَادَت رُؤايَ مُنيرَهْ..
و أنا ما وَضَعْتُ...
مُحالاً يَتَعقَّبْ ...
يَقْتَفي أثَري..
مِثْل العُقَّابِ في المَمرْ...
وكأن َّالنِّسيان َمَرَّةً أُخْرى...
حليفاً يَصيرُ...
يَصيرُ دَيْدَني...
وما كُنْتُ قبل اليَومِ أُدرِكُ بأن َّالحَمامَ...
بالغَدرِ يُعدَمْ....!
وما عادَتْ أحْلامي مضيئَهْ
تصيرُ الآن َعَديمَهْ
تصيرُ ذِكْرى أليمَهْ
تصيرُ بِلا جَدْوَى
فما الفائده ؟؟
ما الفائِدَهْ ؟
في حُلْمٍ على امْتِدادِ بَيْداءْ ...
يصيرُ بِلا جَدَوى؛
ويُصِر على إِخْرَاجي وَ نَفْيِي ...
يُعادِينِي...
ومرَّةً أُخْرى شُحوبْ...!
ما الفائدهْ ؟؟
حينَ يتَنَكَّرُ الأَصْحابُ...!؟
ويَطْعَنُ الأَحْبابْ...،
أو يتَمَسَّحون َ بِعَتَبَةِ الرَّحيل ِفي وُجُوهٍ...
ما عَادَتْ تَذْكُر أَصْحابَها،
وكأنَّهُم افْتَرشُوا ثَرْثَرَتَهُم،
وأيامَهُم الحُلْوَةِ!
ونَامُوا للأبدِ...!
سَقَطُوا...
ثُم هَدَأُوا كالأَنْقاضِ ،
أو بَقايا رمَادْ ،
وحتَّى حِينَ يأتون َمِنْ أَطْرافِ الوَقْتِ...
مِنْ غَياباتِ النِّسيَانْ..
أنْتَ الوَحيدُ، الأجْرَبُ،
وَحْدكَ...!
ماذا يَبْقى لَكْ ؟!
غَيْر ذكرياتٍ
وجَماجِمَ وُجوهٍ
وُجوهٍ ووجوهٍ
تَزْحَفُ ببطءٍ شَديدٍ،
وعُيون ٍتَخْتلِس ُبِفُضولٍ،
كأنَّها تَحرُسُ أمواتاً لا تَعْرِفُها،
وَكَما لَوْ أنَّها،
لَمْ يَفْتَقِدْها أَحدْ،
ولا أحَدْ؟!
هي َطَريقَتُك في أن ْتكون َوحيداً...
وتُلِحُّ مرَّةً أُخْرى ...
فهَلْ ترانِي أتَجاوَزُ أو أَعْبُرُ؟!
وَلَمْ يَعُدْ هُناكَ أحَدْ.
طِينُ الشَّجَن...!
يتلبَّسُكَ الوَقْتُ...!!
يَعْصُرُكَ....
تَشْرَبُ عُزْلَتَكَ....!
تشْرَبُكَ أكْثَرْ...!
ومَرَّةً أُخْرَى شُحوبْ....؛
ثم إليْكِ أيَّتُها الذَّاتُ...!
أُعَرِّجُ وأَؤُوبُ...
ذاتَ مرَّةٍ، ومَرَّاتٍ أُخْرَى...؛
وَكُلَّما سَكَنَ شَجَنْ،
ويسقُطُ القَلْبُ....!
يَهْوي، يَخِر ٌ وَيَنْتَحِبُ
في أسْمال ِشحَّاذٍ...
كَما فَعل" أُوديسُوس" في"الأُوديسهْ"،
ماذا عَسانِي أنْ أصنَعَ لَكِ أيْضاً...؟؟
وأنا مِنْ كَفَنٍ إلى كَفنٍ...!
إذا ما أَنْكَرَتْنِي
في هَذا الصَّباحْ،
ولمْ تَرْأَفِي بِي...
أيَّتُها الذَّاتُ الغالِيَهْ....!
ومنْ نِهايَةِ نَفْسِي،
أَخْرُجُ وحيداً...!
لأبْحَثَ عَنْ ذاتٍ...
أَنْتَمي لِمِساحَاتِها...!
ولأَرقُبَ لَوْن اللَّوْنِ الَّذي يَتَغيَّر ُجِهاراً
ليلاً ونَهاراً،
يصيرُ ليلاً دامساً...
مِنْ رَمْسِ...
يُعانِدُ، يَكْبُرُ، يصيرُ لَيلاءَ أَطوَلْ؟
يَشيخُ يَغُوصُ...
يَضْطَرمُ في الفُؤادِ غَصَصاً حَرَّى ....
وعِنْدَما تُقْرَعُ أجْراسُ الغِيابِ
بِرَنينِها القاطِعْ،
سَتُبْصِرِينَني في أَحْلامِكِ...
حَدَّ المَوْتِ....!
ستُبْصِرينَني مثْلَ
النُّورِ السَّاطِعْ...
ولا أَحَدْ سيَقول ُ...
وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ...،
قد تَغَيَّر وَجْهُ الزَّمَنِ المُتَعَهِّرْ...!؟
هُوَ خُروجُكَ منَ المَعْنى بِلا صَدى،
ويسْقُطُ الحُلْمُ....!
يَسْقُطُ الحُلْمٌ...!
يسْقُطُ الحُلْمْ...!
ثم أَرْكَبُ مِنَ التَّحَدِّي
والإصْرار ِبُراقاً...
بُراقاً، يُشْرِقُ نُوراً حَادِقاً
مِنَ الآمَالِ العَريضَهْ....
والفَأْلِ الحَسَنِ...
وأَصْطَنِعُ قُوَّةً مِنْ شِدَّةِ المِحَنْ ..
ثُم أَحمِل زاداً منَ الحُلْمِ وَ الحَنِينْ...
ومرَّةً أُخْرى إلْحَاحٌ في الدُّعاءْ...
أتَلَحَّفُ بِه،
وأَطِيرُ شَوْقاً...
للأيَّامِ الَّتِي سَتأْتِي...
وَتُنْسِينِي ...
تُنْسِيني أَنِينِي،
تُعَوِّضُني...
تَضُمُّني لِلْأَيامِ الحُلْوةِ...
أَيَّاماً هَنِيَّهْ...!
أَصِيرُ في الأَيَّامِ شَهْداً وَعَسلاً...
ثُم تَتَعهَّدُني أَيَّامي...
تُداعِبُني...
تُدَغْدغُني...
تأْخُذُني الأيامُ الحُلْوَةُ،
إِلى قَلعَةٍ مِنْ غَمامْ،
إِلى رَحابَةِ فَضاءْ..
فَأَنْسُجُ مِنْ حِجارَتِها
حِينَ تَسَّاقَط رُطَباً...
وتَمْراً وَحِنْطَةً...أَعْجِنُها طِيناً
للطِّينِ الغالِي...
بِيَدي وفُؤادِي الظَّمْآنِ...
أَبْنِي بِها مُرُوجاً مِنَ الحُبِّ...
و فِجاجاً مِنَ الغَزَلِ الرَّائِقِ للإنْسَانْ...
أَهْدِمُ سِياجاً
أَفْتَحُ باباً مِنَ الدِّفْءِ..
والوُدِّ للأشْقِياءْ...
أَفْتَحُ آفاقاً عَذْبَةً منَ السَّماحَةِ والرَّحْمَهْ...
وَدُنْيَا مِنَ الحُبِّ...
أُغَنِّي بشِعْري مِنَ الجَنَانِ...
لِكُلِّ مَا هُوَ جَمِيلٍ ...
فِي هَذا الوُجودِ...
لِكُلِّ هِبَةٍ مِنَ الرَّحْمَنْ
وَأَزْرعُ مَفَاتيحَ، وَ بَسَماتِ الخَيْرْ
أَشْدُو بِكُلِّ مَا يَنْبَغِي...
أن يَسُودَ بيْنَ بنِي البَشَرْ
وَيُحَقِّقُ إِنْسَانِيَةَ الإِنْسَانْ.
بيننا والذي فات...!
-1-
بيننا و الذي فات دهر طويل...!
وهم ثقيل، وأحلام غر،
يجرحها بالسؤال التذكر...!
ماذا لدينا من الأمس !؟
غير الندوب
على ظهر القلب...!
ملح على الوجه، تصلب،
وملأ الشراع ثقوب.. !!
فحرك جناحيك، إن كنت تقدر،
يا طائر العمر، حرك جناحيك...!
و استبدل الماء بالريح،
واستبدل الحزن و الصمت،
بالفرح، باللامبالاة، وبالصيحة البكر...
بيننا، وبين الذي يزعم الناس آمالهم
وهم ثقيل...!
والتفاصيل تقتل أيامنا..
بالجدال البليد،
فامتشق الآن...،
واخرج بالجواد الجموح،
رغم نزيف الجروح،
لا تمل عن طريقك،
مهما تقاطر في الدرب نحوك،
هوج الحشود...!
-2-
لقد ضاق الصدر،
لقد صدئ الصبر،
لقد ضاقت القيم،
ويبقى الحزن حليف....!
فمتى يلم الحزن بقاياه ويرحل !؟
أخمن أني أصنع هذي الأرض من الدوران،
أستيقظُ قاراتي ...
من تحت الأرض،
أنسج للبؤساء،
وسادات الأحلام
أرصد كل الشارات على الشط...!
أكاد أموت وحيدا، قبل أواني،
ومع ذلك أصر على المكابرهْ...!
فأتسامى، ثم أشق بحورا وبحوراً...!
أصير مَدى !!
-3-
لم تحط الطيور مرة هنا،
أو يمر القطيع!
لو يجيءُ الرَّاعي،
الصبيُّ الحزينْ،
و يجرحُها بالغناء..!
أو تصب السحابة في حجرها شجناً،و صقيعْ....!
أو تجردها من الظلال رياح،
لو يطاردها محتطب،
لو يقطعها إربا، إربا للحريق!
كان يمكن أن تتعزى،
و تنسى،و تغفر أن
قد أفاءَت مراراً...،
على (رجل) !! قاطعِ الطَّريقْ...!
عَصْرٌ شَاحِب
1ـــ شحوب
عند كل خريف،
أتحول إلى شاعر
يكتبُ لنفسه فقطْ...!
تتنوعُ المُذَكِّراتُ اليوميَةُ،
وتضطَرُّ أنتَ ..
أمام رائحة الموتِ و الجوعِ، والإهانةِ،
و فقدانِ الكرامةِ،
وفي عصر شاحبٍ زائفٍ ـ
إلى مغالبةِ إرادتك بعبثٍ قاتلٍ،
تصر، تتعالى،
تغالي، تكابر،
لكن،عبثاً تُحاولْ...!
فالطيور تقل ،
والغاباتُ تتسمَّمُ،
و فرحتي تتَّسخُ،
فهذا العصرُ ماتْ...!؟
2 ـــ رحيل عصر
هذا العصر ماتَ...!
دفنته يدُ الزَّمنِ الآتْ،
لا رائحة للعمر البشري،
في بروق الزمن العدمِيِّ،
هذا العصر ماتْ،
أصبحَ سطراً مهملاً...
في كتابِ الأبديَةِ !
نحن الآنَ تحتَ الأرضِ،
لا رائحةَ للزَّمَنْ!
و لسطور الدهر توائم!
لاصوت يميزها، ولا لونْ
تحت الأرض،
ويتشوفهُ (الأحياء/الأموات)
في زمنٍ لا يفقهُ قدسيةَ الموْتِ!
هذا العصر مات،
دفنتهُ يدُ الزَّمَنِ الآتْ...!
نحنُ الآن َتحتَ الأرضِ...!؟
3 ـــ خريف
الخريف يربط بصري بالأرض،
و الطريقْ
يجعل من الزمن العَامِّ،
سؤالي الفلسفيِّ
عن العظامِ، والنُّحاسِ،
والورق،
وأنا وَالنَّاسِ،
وخلية نمل كرست استعدادها،
بانتظار تصَوُّرٍ جديدٍ للسَّفَرِ.
فهذه الطرق، والأجساد الداخلية تشتَّتْ...!
خرج الطفلُ من الطِّفْلِ،
بعد أن طردَتني مدونةُ الأحوال الشخصيةِ،
من حديثِ المَقَاهي...!
4 ـــ نصفي الآ خــــر
نصفي الآخرَ يصْحُو ...
من تحتِ الأرضِ،
وفوق الأرض يحْلمُ،
يصيرُ يعشَقُ قاصرةَ الطَّرْفِ،
يخطُو...
ويخطُو...
والخطوةُ الأُخْرَى ظُروفْ !!
و يتحيَّنُ نضْجَ هاتِيكَ القُطُوفْ،
وأنا الَّذِي كابَرتُ وغامَرتُ...،
أصير الآن صامتاً،
شاحباً، وحزيناً،
وأرى أَعداءَنا...،
خُطُواتُهم خارطهْ،
لكن...!
نصفي الآخر...
يُصرُّ، يُغالِي،
يركَلُ عَجيزة التّاريخِ الهادئِهْ،
من أجل فراغِ،
يملأهُ الشعراءْ...!
من أجل الشَّهْوةِ،
قبل انتماءِ الطَّبيعَةِ إلى عَقلي،
من أجل الوهْمِ...!
من أجلِ ذلك كلِّهْ...!
أنحني إلى أصابعي
فأجدُ البياضَ...،
أجــدُ الســَّــرابْ...!
مَوْجُ الشِّتَاء...
"في ذكرى أبو طويس..."
ارحميني لسْت شاعراً
صدقِّينِي...
سئمتُ الذِّكريات
ماتَتْ أحاسيسي،
ماتَتْ كنغمةٍ في قَعْرِ المحيطات،
لا النَّايُ ولا العودُ يسمعها،
سوى الموج الصاخب في الطرقات،
يحملها، يرسلها أنينا تبكيني
وتبكي الحادثات،
تسلبني روحي،
تفنيني،
تسرق أيامي الباقيات،
تزيحني ...
عن محيط العاطفات،
ارحميني لست شاعرا...
صدقيني سئمت الذكريات،
قلمي كسرته...
رميته بعيداً
وكلُّ شيءٍ مات...!
كل شيء مات في حسرات...!
تبلد الإحساس،
وغاب الإلهام،
وماتت القيم...
كآخر الأغنيات...!
ارحميني، لست شاعرا
صدقيني...
سئمت الذكريات
أليست هذه أعينك...؟
وإني أرى فيها شتاء يمشي
مكبلا، أسيرا، متعبا...
وينبئ بربيع مثقل بالأنين...
فما عاد وقت
للحب ولا للحنين...،
وعندما يكفر الظل بانتمائي،
خذي جسدي،
مزقيه أشرعة وسفين،
وأبحري في دمائي...!
ربما يا سيدتي،
يحيا بك هذاالسجين،
يحيا بك هذا الدفين،
يا نقطة العبورمن دمائي...
إلى دمائك...!
ها برد الأموات يصب في جسدي
من سمائك!
وأظل أغرق،
أغرق في هجير..
قرارك ياسيدتي!
ها كل النجوم تحط على كتفي،
وترتعش الشمس..
يبللها وهج الرحيل!
أتراك ترحلين...؟
وللفجر احتراق،
يسيل وهجا مسيجا بالإغتراب؟
وإني أراه الآن،
يا سيدتي متعبا...!
يمتطي زرقة الليل كي يستريح.
²²²²²²²
هو الآن!يسكنه الحلم،
يؤلفه الموج،
كآخر دمع تجفف...
في عين الباكيات!
ارحميني ،لست شاعرا...!
صدقيني سئمت الذكريات
ماتت أحاسيسي، ماتت...!
كنغمة في قعر المحيطات،
لا النايُ ولا العودُ، يسمعها...
سوى الموج الصاخب في الطرقات، يحملها...
يُرسِلها أنيناً،
تبكيني و تبكي الحَادثات،
تزيحني عن محيط العاطفات
صدقيني...
سئمت الذكريات.
مَتَى تَكْبرُ آدَمِيَّتُنا..؟!
أقولُ لمن ودَّعوا شُعاعي..!
ضِيائي، بَهائي..
بين الذهاب والإيابِ
ومن أَبْدَعُوا
في حُرْقَة الوَجْدِ
صَبابَتِي...
أقولُ لمن صنَعوا تابوتاً
من ضَياعي
وهيَّأُوهُ للغياب...
ستأتونَ إِثْري..
وتحْيَون َ الوضع مثلي..
أوليس الصُّبحُ بقريب...!
أقول لمن صنعوا في الهواءِ مَمَرَّات
وحبال وعلامات من عِظام
لمن علَّقوا صُوراً
وتماثيلَ وجماجم
أقولُ لا تُحَدِّقوا في المَدَى
فليس هناكَ سِوى السَّراب
اِغفُلوا كثيراً،
وأَعِدُّوا لأَنْفُسِكُم ما تشتهُون
من أماني، وأحلامٍ عِذاب
قبل أن تأتوا تباعاً خَلْفي
مُدْعِنين تَقتَفُونَ أثَري
يا أحباب كلُّهُم مَرُّوا من هُنا...!
لكن، ياأحباب!
يقيناً الَّذين يُخْفُون آلامَهم...
يا أحباب! يقيناً الَّذين
يُخْفُون أَسْرارَهُم!
يا أحباب!
الَّذين يَرقصُون على الجِراح...
يا أحباب!
يقيناً الَّذينَ يصْبِرون على البَلاءِ!
حقًّا هُمُ الأقوياءْ..
رجالٌ هُمُ الرِّجالْ
ومِنْ جَلَدٍ..
ومن غَيْر جَدَلٍ،
الصَّبْرُ هوَ الحَياهْ...!
وأقولُ لمن يكرهُني دهراً طويلا...
وبلا سبَبْ،
أقولُ لمن يقرأُني ،
أو يلْبسُني مقلوباً
رأساً على عَقِبْ،
لاتنحثُوا في السَّرابْ..
لاتُكَرِّسُوا فُصول العَذاب
حَرِّرُوا وَحْشَةَ الأُنْسِ..
أَسْعِدُوا مَنْ حولَكُمْ...
قبل أن تتجَرَّعُوا من نفسِ الكأسِ
أقولُ لمن وَدَّعُوا شُعَاعِي
ضِيائِي ، بَهائِي للغيابِ..
كُلُّنا سنَحْتَضِرْ
أنا الحضورُ ،"حين يجِدُّ جِدِّكُمْ..."
أنا الغياب...!
"وفي اللَّيلةِ الظَّلْماءِ يُفتقَدُ البَدْرُ"
أقولُ لمنْ أيقظَ شَجَني،
سَماحَتي..
بباقَةِ وَرْدٍ وزَهَرْ ،
ومَنْ فرَشُوا الأرضَ
مِسْكاً وعَنْبَرْ...!
أقولُ: لاتُسرِفوا في الثَّناءِ..
فحُبِّي ليس مرهوناً بكُم..
فأنا هكذا،
حُبي امتدادٌ دائمْ..
حبِّي عقيدةٌ من سِلْمِي وَسلامِي
ولسوفَ أُحبُّكمْ
دوماً وأكثرْ..
فأنا أحبكم ... وأكثر..
"ما اخْضَرَّ في الشَّجَرِ الْمُوَرَّقِ عْودُ..."
لاظِل َّيَعْكِسُني في المَغيبْ..
وستأتون إلى حيثُ تغرُبُ الشَّمس
حيث تَغْدوا الدُّروبُ رماداً
ولن يكون عندكم
وقتٌ للشَّجَنْ
ولتعلَمُوا أنَّ نَبْضي مِنْ دَمِكُمْ
وهَا هُوَ حِسِّي قد خَذَلْتُمُوهُ
أَخْمَدْتُمُوهُ..
أطفأتُموهُ..
وما أَبْصَرْتُمُوهُ...!
وحتَّى حِين أَشْعَلْتمُوهُ الآنَ..
كان قد فاتَ الأوانْ ...
غيرَ أنِّي أحْتَمي بالنِّسيانْ...!
أنا من قريةٍ
بلا أشجارْ
قرية من الصُّخورِ
والأحجارْ
القلوبُ كالوجوهِ...
كائناتٌ لاتُحتمل ْ
كائنات متعددة الحِيلْ ...
وجوهٌ تُرافِقُني ،
وأَسْتَحضِرها مزيجاً من العِبَرْ
فلا أشعرُ أنِّي وَحْدِي في جميع الصُّوَر ْ
وأرجعُ أقوُل لاتُسرفوا في الثَّناءِ
فأنا أُحِبُّكمْ دوماً وأكثر...
يا أحباب... الآن تُحبونني
تقولون : لقَد كان مِنَّا، وكان لَنَا...
وأنا كُنْتُ بينَكم دهراً طويلا
غير أني أقولُ،
وسأقولُ: متَى تكْبُرُ آدَمِيَّتُنا...؟!
متَى تكبُرُ...؟؟
ويتَسَامَى مَعْنَى الإنسان ِفِينا..
نَسْمةً في قيظِ أَيامِنا العَليلةِ، مَتَى؟؟
وأقولُ لمن ودَّعُوني،
وتَرَكُوني للغِيابِ...
"غداً سنَرفعُ الشِّراعَ
كلٌّ إلَى سَبيلْ
فَطَهِّرُوا بالحُبِّ ساعةَ الوَدَاعْ.."
خَلْفَ الأَبْوابِ هُناكَ..
البَابُ: بابُكَ...!
وهَذا القَوْسُ المُتَهالَكُ،
وسَط المَبْنى الأثَرِيِّ،
والأسْوارُ: أَحْجار ٌعَتيقَةٌ،
ومِزْهَرِيَّاتٌ عَلى الجِدَارْ
أَكَاليلُ عِشْقٍ،
نبَتَتْ بيْنَ الشُّقوقِ،
نَبتَتْ على القُرمُودِ الأخْضَر ِ
وَالأَحْمَرِ مِنَ الجَمْرِ
نَبَتَتْ فَوْقْ...!
عُنْوَةً نبَتَتْ،
زَهْراً، عَوسَجاً و زِنْبَقْ...!
²²²²²²²
الفَانُوسُ: فانوسُكَ...!
وهذا الزُّجَاجُ البِلَّوْرِيُّ،
يَترَاقَصُ نَشْوَةً،
ويكْبُرُ في العُيُون ِكَوَرْدٍ تـَفَتَّقْ،
أَوْ نَجْمٍ فِي الأَعَالِي تَأَلَّقْ،
وهَدِير ِالبَحْرِ يُدَوِّي الصُّخورَ،
مِنْ شِدَّةِ العِشْقِ...
يُناغِي في مَدِّ وجَزْرْ
ومِنَ الإرْتِطامِ،
أَمْواجُهُ تتَفَجَّرْ...!
وكأنَّها تَرنُو إلى الحَالِمِينَ
غَرْباً و شَرْقْ،
مَنَاراً ، قوْساً...
منَ الزرْقَةِ والزَّبَدِ الأيْيَضْ
تَشْدُو بِالحُلْمِ المُتَماسِكِ فِينا وَشْماً،
لاَحِبْراً على ورَقْ،
وَشْماً في أجْسادِنا المُشْبَعَةِ...
بالسَّفَرِ البَعِيدِ...!
تَنْطَلِقُ،تَنطلِقُ...
تنطَلِقُ بِلا أَرَقْ.
²²²²²²²
الوقْتُ: وقْتُكَ...!
فَاخْلَعْ نعْلَيْكَ...
وادْنُ، اقْتَرِبْ أَكْثضرْ،
وادْلُفْ،
لِتَصْفَعَ وجْهَ الصَّباحِ فِينا...!
لِتُكَسِّرَ واجِهَتَنا النَّائِمَةَ
على الأمَانِي ِّالعِتاقْ
كَسِّرْها رعْداً،
إعصاراً وَميضاً وبَرْقْ...!
وضَعْ أَشْلاءَك،َ...
وَكأَنْ لاأحَدْ، والْحَقْ...!
إلحَقْ بالحَالِمينَ،
فالكَأسُ بلا قَرارْ...!
طَبعاً...! فَلا أحَد سيُبالي!
لاأحد سيَسأَلْ...!
وحَتَّى وإنْ سألتَني ...!
عنِ الَّذِي سيَكُونُ...!
فلا تسْأَلْنِي عنِ الذَّهابِ والإِيَّابِ،
لا تَسْألْني عنِ الغِيَّابْ...!
لاتسألني عنِ الدِّفء،
عنِ الأحْبابِ، عن السُّهادِ
عنِ الأرَقْ،
عن الانْحِسارِ...
والكُسُوفِ وإدْمَان ِ القَلَقْ،
طبعاً...وَفِي نِهايَةِ الطَّريقِ لَا أحَدْ...!
قَد يَعبُرونْ، سيَسكُنُونَ
القَلْب، ويظِنُّونَ...!
بفُضُولٍ...
سيَذْكُرونَ فِي المَقاهِي والدروبْ...
وبيْنَ الأَحْيَاءْ
فِي هَذِهِ الحيَاهْ،
والَّتِي مَا عَادَتْ حياهْ...!
سيَذْكُرُونَنا في هَذِهِ الحيَاةِ،
الَّتِي خَبَرتْنا جِيراناً أصْدِقاءَ ورِفَاقَ دَرْبٍ،
لمَّا كُنَّا نَتَطارَحُ الهَمَّ كَالأَحِبَّهْ.
سيذْكُرُونَنا لحْظَةَ غَفْوَةٍ...!
سيذْكُرُونَنا...
لَكِنْ ، مُجَرَّد نَقيق سُؤالْ...!
مثلَ شَايٍ باردٍ،
مَنْسِي المَوعِدِ...
والفَرْحَهْ...!
أجلْ! سيَذْكُرونَ... ثُمَّ مَاذا سَيحْدُثْ؟!،
سَنتَمَدَّدُ على الأرضِ
العَراَءْ
عَلى الأَرْضِ الباردةِ
الخَلاَءِ ونَنامْ...
ننامُ بعمقٍ،
ثم يَنْسَوْنْ...!
سيذْكُرُوننَا مُجَرَّدَ نقيق سُؤالْ،
²²²²²²²
ألاحِقُ في الأزِقَّةِ السَّاعاتِ،
فَأَغْدُو خَلْفَها،
هذِهِ الحيَوانَاتِ الجَمِيلَةِ الَّتِي تَحْمِلُ حِقْدَ الإِنْسَانْ،
والسَّاحَاتُ غُولاً في وجْهِي...!
ومِنْ بابٍ إلى بابٍ، أَشْدُو كَحالمٍ،
ــ أنا الَّذي أغْوَتْنِي هَذه الأبوابُ بمَساحيقِهاــ
ضيَّعَتْني خِلالَ تَسَلُّقِ هَاماتِها...!
وجوهاً غَزيرةً تُطْلِقُ عِنانَها للرِّيحْ...!
وها أندا أصْعَدُ هَـــــذي التِّلالْ،
كما أفْعَل كُلَّ يَوْمْ،
والسَّنَواتِ الخَالِيَهْ
كَيْ أتَسَلَّى قليلاً...!
ثُمَّ أقِفُ على قِمَّةِ التَّلَّةِ هُناكَ...!
كَكُرَةِ ثَلْجْ،
أتَحَلَّلُ مِنْ شِدَّةِ الوَجْدْ،
أتَحَلَّلُ، وَأَنا كُلِّي عِشْقْ...!
أَتَوقَّدُ جمراً، وأحْتَرِقْ،
أتَحَلَّلُ مِنْ جَمْرِ الشَّوْقِ...
ثُمَّ أتَدفَقْ...!
أتدَفَّقُ، شَلَّالاً زُلاَلاً....!
ماءً عَذْباً فُراتاً
ومِنْ شِدَّةِ البَوْحِ أغْرَقْ...!
ثُمَّ أنْسابُ مِنْ غَيرِ وَعْيٍ،
في مَهَبِّ الرِّيحِ المَجْنونةِ،
تقْذِفُني نَحْو الهَاوِيــَـهْ..!
العَلاماتُ، واللافِتاتُ تُحرِّكُها الرِّياحْ،
وأنا المُتَدحْرَجُ، لاأقِفُ !
تائهٌ في مَهَبِّ الرِّيحِ.
كفِكْرةٍ مُتَحِّررَةٍ،
أهْتِفُ عنْدَ كُلِّ بابٍ ،
أَدُقُّ...،
أصِيحُ: أَيْنَ الإنْسانْ...؟ أَيْنَ الإِنْســــــانْ؟
أينَ الإنْســــــانْ؟
ياأيُّها الأَخْرَقْ...
فلا ألْقى لَديَّ سِوى فَحيحَ سُؤالْ،
حيثُ أَدُوبُ كالجَليدِ أَمامَ النَّارْ،
ثُم أَحْمِلُ غَصَصي الحَرَّى وكُل مَا سَكَنْ،
مِنْ وَحشَةٍ،
من غربةٍ، ومِنْ أرَقْ
مِنْ كَمدٍ ووَجعٍ، وحَزَنْ،
أَصيرُ جُثةً هامدةً،
تهاوَتْ على الأرْضِ،
تغرَقُ الوَحْشَةُ...،
تَغْرَقْ،
في بِحارِ دماءٍ بريئـــــــةٍ تتعَمَّقْ ....
تغرَقُ، بِلا قَرارْ...!
فلا تُغْريكَ الأسْوارُ، ولا تَهُمُّكَ الأَخْطارُ،
سِوى ثِقْل الهَواجِسِ الإنْسانِيــــــَــهْ.
²²²²²²²
فَتَحْتُ البابَ، فانْدفَعتْ...
رياحٌ قوِيــــــهْ،
غالبْتُها سائراً باتجاهِ البَحرْ،
أحسَسْت بعَياءٍ،
التفَتْتُ...
رأيتُ إنساناً تفكَّكْ...!؟
رأيتُ خواءً...!
وصياحاً بَل عُواءً...!
ثُم غُولاً فَاغِراً فاهْ...!
ويا لَيْتَني ما رَأيْت ولَا أَبْصرْتُ...!
رأيتُ إنساناً تحَوَّلْ...
سقطَتْ منهُ الأكُفُّ،والأصابِعْ...!؟
انْهَمرَتِ الأطْرافُ...،
تَخَلْخَلَتِ العُيُونُ والأنْفُ...!
انْسَلَّتِ الأَدْرُعُ،
الْتَفَّتِ السَّاقُ بالسَّاقِ ...
ثُم تَبَخَّرَ الجَسَدُ...،
لَمْ يعُد شَيئاً...!
أَحَقا كَانْ...؟!
وهَلْ كَان...؟
دَبَّ في رَحِم الأَرْضْ...!؟
²²²²²²²
خَلْفَ الأَبْوابِ، هُناكَ،...
كانَتِ الفتَياتُ يصْدَحْنَ بالغِناءِ ،
والمُنْتَزَهاتُ والخُضْرةُ!
والحفلاتُ...
وَ الفُروسِيةُ، والزَّغاريدُ الآسِرَهْ!
والماءُ العَذْبُ الزُّلاَلُ ، والرَّوَابِي،
وَالمُروجُ، والغِدْرانُ...!
والرَّوابي الحالمَةُ...
وأعْشاشُ الطُّيُور،
وَالبَلاَبيلُ تَصْدَحُ...
وأَجْرانُ الحُبوبِ المُتْخَمهْ،
والنَّوايا الحِسَانْ...
كانَ الإنْسانُ حَقا إِنْسَانْ...!؟
²²²²²²²
وَراءَ هَذا البابِ،
قِطَطٌ لَامعَةُ العُيونِ...!
وَشَيءٌ مِنْ بَريقْ...
تَموءُ بيْنَ الخَرابْ،
وأُخرَى هائِجَةٌ تتَقاتَلُ..
بيْن صفائِحِ القُمامـَـــــهْ،
والجُرْذانُ، والغِرْبانُ، والجَماجِمْ،
وهَياكِلُ رُؤُوسٍ ، أَقْبعُ خَلْفَها،
مِثْلَ غُرابٍ في الأَنْقاضِ يَنْعَقْ.
ثُم أسِيرُ في وَحْشَتي...
ضارِباً في زَحْمَةِ الأَزِقَّةِ وَالدُّرُوبْ،
وأَنْتَفِضُ ثائِراً كمَوْجِ البَحْرِ
أَوْ كالثَّلْجِ أَهِيمُ أَمَامَ إِشْراقَةِ شَمْسٍ حَارِقَة
أَدُوبُ في غُرْبَتي..شَلَّالاً
أَتَفَتَّتُ مِنَ المَلَلْ..
أَتلَمَّسُ الطَّريقْ... لكِنْ، سَرْعَانَ
وَكَأَنَّ جسَد الدُّنْيا شُحُوبُ جفَافٍ
في وَدَاعِ الغُرُوب...
فَجْأَةً...!
سُدَّت أَمَامي كُلُّ السُّبُلْ،
شَحَّتْ يَنابيعُ مَائي،
ولَيْلي صَار طَويلاً ثقيلاً،
بَرْدُ الكَآبةِ قاسٍ يَزْحَفْ،
أُوَجِّهُ خُطُواتِي نَحْوَ المَجْهولِ!؟
لا نِهايَةَ لِي، ولا بِدايـــــَــــــــــــــهْ...!؟
لا بِدايةَ لِي، ولا نِهايـــــــــَــــــــــهْ...!؟
فأَكْتشِفُ أن َّكُلَّ الأَبْوابِ:
مُزَيَّفَهْ...،
دَنِيئـــــَـــــــهْ...!
مُهْتَرئةٌ،
وَقاتِمـَــــــــــــــهْ....!
²²²²²²²
غَيرَذَاكَ الباب المُشْرَعَ بالنُّورِ،
محاولَتِي الأخِيرَةُ
لأنْ أَفوزَ فَوْزاً عَظيما...!
وقَدْ هَيَّأتُ للتِّرْحالِ ــ منْ وَجَعِ الفُؤادِ ــ مَراكِبْ،
أَشُمُّ رائِحَة الاخْضِرارِ،
أَشُمُّ رائِحَةَ الطِّينِ تَخْتَلِطُ بِعَبيرِ المَطَرِ
أَسْتَنشِقُ الماءَ الزُّلالَ...
تَتَّسِعُ الرِّئَتانِ،
يَتَّسِعُ القَلْبُ...
يَسْكُننِي النُّورُ مِنْ بِدايَتهِ...!
أَراهُ بِرُوحِي، وبِقلْبي أُبْصِرُهُ...
ويَأْسِرُني...!
يَحْمِلُني إلى آفَاقِهِ الرَّحْبَهْ،
ولَنْ أَخيبْ،
سَيَكُون ُذاكَ البابُ...!
كما صَوَّرَتْهُ مُهْجَتي
فِطْرَتِي..
فِراسَتِي، مَقاماتِي...
هُوَ البابُ الحَقِّ...
إليْهِ أفيءُ ...
حِينَ تُسَدُّ في الَوَجْهِ كُلُّ الأَبـــْــوَابْ...!