الأخبار
2024/5/17
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

العبودية والعنصرية بقلم:عادل بن مليح الأنصاري

تاريخ النشر : 2020-06-20
العبودية والعنصرية بقلم:عادل بن مليح الأنصاري
العبودية والعنصرية

( عادل بن مليح الأنصاري )

للعبودية تاريخ ربما يؤرخ بظهور التجمعات البشرية ذاتها , ومن الصعب جدا أن تشتمل مقالة سريعة بالإلمام بذلك التاريخ الطويل , ولكن بشكل مختصر يمكن أن يزودنا التاريخ بسجلاته التي دونت عبر طرقه المختلفة بمعلومات لا حصر لها عن تلك الحالة البشرية , ومن المؤكد أنه لا علاقة بين العبودية وبين لون البشرة , فالعبودية ليست حكرا على أصحاب البشرة السوداء , بل أن المجتمعات البشرية شرقها وغربها , أبيضها وأحمرها وأصفرها كانت ضحايا هذا النمط من الحالة الإنسانية التاريخية , فالرق أو العبودية ظهرت في الحضارات القديمة جميعها , مثل سومر ومصر والصين والإمبراطورية الأكادية وآشور وإيران القديمة واليونان والهند والرومان والعرب جاهلية وإسلاما , وكذلك حضارة ما قبل وجود أمريكا في الأمريكتين , وكان العبيد في روما القديمة يقومون بأنشطة غير أخلاقية كثيرة غير الحروب مثل الترفيه الجنسي لأسيادهم أو المصارعة حتى الموت في حلبات مكشوفة أحيانا ممتلئة بالجماهير التي تصرخ وتنتشي بمنظر الدماء والموت وتقطيع الأطراف من قِبل العبيد لبعضهم البعض كما تنقله لنا هوليود عبر مئات الأفلام السينمائية .
وتقول بعض الدراسات أن العبودية ظهرت مع ظهور الزراعة خلال ثورة العصر الحجري الحديث وقبل ما يقارب 11000 سنة , وكان الرقيق يمثلون جزءا لا بأس به من كل مجتمع , فمثلا في سينيجامبيا بين 1300 و 1900 كان ما يقارب ثلث السكان مستعبدين , وفي سيراليون والكاميرون كان نصف السكان من العبيد حسب بعض الدراسات , وكذلك مالي وسيجو وغانا , وقد قدرت جمعية مكافحة العبودية أنه كان في أثيوبيا 2مليون مستعبد .
وهناك عبر الشبكة لمن أراد المزيد ما يثري حاجته الفكرية للبحث والتقصي , ولكن المهم أن الرق والعبودية كحالة إنسانية ليست مرتبطة بسواد البشرة فقط بل هي حالة تشارك فيها جميع الأجناس والأعراق حتى الأوربيين والأسيويين وغيرهم , بل أن الأسرى المسلمين أيضا كانوا يباعون كعبيد علي يد المسيحيين حين يُؤسرون في المعارك , وكانت الحاجة لظهور تلك التجارة في بني البشر ومنذ القدم لأسباب اقتصادية واجتماعية وربما سياسية , فتوسع المجتمعات خاصة الزراعية أظهرت الحاجة لتوفر عمال رخيصي الثمن ولا يملكون من أمرهم شيئا في الرفض أو التذمر مهما كانت الظروف والأحوال وسوء المعاملة , وليس أفضل من سلبهم من حق الحرية والتصرف في النفس , وكانت العبودية الجنسية من أهم تلك المتطلبات , فالنساء المستعبدات لا يملكن حق الرفض والاعتراض والامتناع عن كل الممارسات الغير إنسانية أو الأخلاقية التي تمارس في حقهن .
وربما كان الأسبان هم السباقون في أوربا الذين يجلبون الأفارقة كعبيد بسبب انتشار الأمراض والنقص في الأيدي العاملة , ثم تبعهم البرتغاليون ثم الأنجليز , وكلما توسعت الزراعة والمدن وتطور الاقتصاد زادت الحاجة للرقيق لسد الحاجات المتزايدة للعمالة الرخيصة والمسلوبة الإرادة والاختيار , وربما كانت أكثر صور الأنشطة التي عرفها التاريخ في مجال الرق , تلك التي مورست ضد القارة السمراء عبر التاريخ الحديث , فهناك الكثير من صور الوحشية والقسوة التي تعامل بها تجار الرقيق مع أبناء تلك القارة المقهورة , وقد ساعدت بعض العوامل الديموغرافية تجار الرقيق وخاصة الأوربيين من التوسع وحتى الإجرام في التعامل مع الأفارقة كمخلوقات تحت مستوى البشر لنقلهم بطرق وحشية إلى أوربا وأمريكا , رغم موت الكثيرين ونزع الأطفال والرجال والنساء من بين ذويهم كحيوانات لا قيمة لهم , فأفريقيا بالنسبة لأوربا وأمريكا وهي مجتمعات حديثة واعدة ترى أنهم أهلٌ للحضارة والرقي , وفي حاجة لتلك المخلوقات لتحمل أعباء العمل وبناء المزارع والمدن , وخلق الرفاهية للأوربي والأمريكي على حساب حياتهم ومشاعرهم ووجودهم , ويجدر الإشارة هنا أن العرب كذلك مارسوا تلك العبودية أيضا ولنفس الأغراض الغير إنسانية أحيانا كما في أوربا قديما وحتى نهاية العبودية لدى الجميع , فهي حالة إنسانية كما قلنا لا تخص جنس أو بلد أو حضارة , فالحالة الديموغرافية لأبناء القارة السمراء ساهمت في وقوعهم في براثن تلك التجارة القبيحة , فالبدائية والفقر وانعدام التعليم والتواصل مع العالم الحديث , والجوع والحروب والنزاعات وضعف النظم السياسية وحقوق الفرد والجماعة وافتقاد الحماية المجتمعية , كل ذلك ساهم في سهولة وقوعهم في مصايد تجار الرقيق عبر تاريخهم التعيس .
اليوم ربما انتهت العبودية بمفهومها القديم , كحق تملك حياة إنسان من قبل إنسان آخر يفعل به ما يشاء بدون محاذير أخلاقية أو غير أخلاقية , وربما ظهرت أشكال أخرى من العبودية الحديثة التي تمتلك النفوس دون الأبدان , ولكن الأبدان تتبع النفوس , فهي بصورة أو بأخرى مستعبدة بدون أغلال مرئية , واستعباد النفوس بطرق حديثة وبطرق لا يمكن تصورها لا شك فيه , فتجار الرقيق بالأمس ورثوا أبناءهم اليوم ذات المنطق ولكن بطرق حديثة أشد فتكا واستعبادا من السلاسل والأغلال القديمة , فالاستعباد بالقوة العسكرية والاقتصادية والاستخباراتية والثقافية لا حصر لها , ومنها ما ندركه ومنها ما لا نستطيع إدراكه , وقد يلجأ العبد قديما لمحاولة التحرر والفرار إذا أتيحت له الفرصة لذلك , فثورة الزنج , وثورة سبارتاكوس , مازال التاريخ يحفظ لنا وقائعها , ولكن عبيد اليوم لن يستطيعوا مقاومة الأساليب الشيطانية الحديثة التي تقوم على دراسات وخطط واستراتيجيات تفوق عقول العبيد البسيطة , فلذلك تعتبر عبودية اليوم أقوى وأدهى وأمر من عبودية الأمس , فالعبد في الأمس لا يتعدى ألمه وحزنه وخسارته نفسه وربما اسرته , ولكن عبيد اليوم يلحقون الضرر بأممهم ومجتمعاتهم وتاريخهم , وتجار العبيد اليوم أصبحوا يديروا سوق النخاسة العالمي من خلف حجاب أو عبر وكلاء لهم , وربما وصلت أصابعهم العابثة حتى أقوى ساسة العالم ليصبحوا كالدمى يحركونها لتمرير مخططاتهم المأمولة .

ولكن هل ما هي العلاقة بين العبودية والعنصرية التي تعالى صوتها هذه الأيام بسبب مقتل الأمريكي الأسود (جورج فلويد) ؟
في مقال سابق هنا تحت عنوان (الحلم الأمريكي) , قلنا أن العنصرية في أمريكا ثقافة مجتمعية تغذيها مؤسسات مؤثرة اجتماعيا بشكل لا يمكن تجاهله , فهوليود جسدت في الذاكرة الأمريكية خاصة وفي الذاكرة العالمية عامة , مشاهد العنصرية المرتبطة بالأفارقة أو بأصحاب البشرة السمراء , ومنها مثلا :
The Help
Years a Slave 12
Driving Miss Daisy
Amistad
Malcolm X
The Color Purple

وهذه قطرة من بحر تلك الأفلام العنصرية التي كانت وما زالت تغذي الذاكرة الأمريكية بتاريخ العنصرية البغيض , ونحن نعلم أن أمريكا قامت أساسا على بركان عنصري دموي , فالأمريكان ليسوا إلا تجمعات بشرية من أوربا في البداية , غرست وجودها في هذا العالم الجديد على أجساد وأرواح السكان الأصليين من الهنود الحمر , ثم جلبوا الأفارقة لأغراض اقتصادية للعمل في المزارع والمناجم وفي البيوت , ولأن جلب الأفارقة كان أسهل الطرق لتوفير الأيدي العاملة والقوية , والتي ساهمت كما قلنا العوامل الديموغرافية في بلادهم لاستسلامهم لمصيرهم المحتوم في تلك البلاد الجديدة , فقد انطبعت العبودية في أذهان الأمريكان وأحفادهم بلون البشرة السمراء فقط , وانقطعت العلاقة التاريخية الثقافية بين العبودية كحالة بشرية وبين لون البشرة , فاختفت صورة الرقيق ببشرته الأوربية أو الأسيوية أو الهندية أو الفارسية وغيرها , واستطاعت الثقافة الهوليودية تثبيت صورة الرقيق بصورته السمراء فقط عبر عشرات الأفلام العنصرية , ومن هنا ارتبطت العنصرية باللون الأسمر غالبا عند الأمريكي , ورغم وجود ملايين الأجانب في أمريكا بل نستطيع أن نقول أن أمريكا كلها عبارة عن دخلاء على أرض ليست لهم , إلا أنهم نادرا ما يمارسون العنصرية ضد الأسيويين أو اللاتينيين أو الهنود أو غيرهم .
نجد في أمريكا أطياف مجتمعية عديدة , والسود كغيرهم ساهموا ومازالوا يساهمون في بناء أمريكا , بل ربما لهم بصمة أقوى من غيرهم في جميع مناحي الحياة الأمريكية , إلا أن حمى العنصرية تطالهم دون غيرهم في مراحل مختلفة من حياتهم اليومية , قد يجد الأمريكي الأبيض صعوبة في الفصل بين ثقافته الهوليودية عن السود وكونهم كانوا عبيدا مملوكون لأجدادهم كما يمتلكون أثاث المنزل , وبين تقبلهم كقوة اجتماعية مبدعة وناجحة في كل مجال , وربما تتملكهم الغيرة من تفوق السود في بعض المجالات وهوليود تعرض عليهم تلك الحياة البائسة التي عاشها أجدادهم في الأمس القريب , فامتزجت نظرتهم الدونية للعبيد مع عنصريتهم التي ألبسوا جلبابها للسود دون غيرهم .
هل سيأتي يوم سينتقم السود لتاريخ أجدادهم البائس فيقوموا بتحطيم الصنم الأمريكي الذي ساهم في بنائه اجدادهم ذات يوم , وهل تشحذ هوليود رغباتهم تلك بأفلامها العنصرية ؟ الكلمة للتاريخ كما هي دائما .
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف