
الحزن في بعض قصائد الشاعر التونسي القدير جلال باباي لون من«الصوفية دون تصوف».
«كل شيء يولد صغيراً، ثم يكبر،إلا الحزن فإنه يولد كبيراً، دثم يصغر»، هذه إحدى الجمل الشائعة عن الحزن،الذي يعد ظاهرة في الأدب العربي القديم والحديث،ويرتبط أكثر ما يرتبط بالشعر،الحزن في الأدب قديم قدم الإنسان المبدع،نقع على بعض مظاهره في الملاحم والأساطير،وقد أشار العديد من النقاد إلى الحساسية الخاصة،التي تميز المبدع عن سائر أبناء عصره،ولاحظوا أن الفرق بين الشعراء وغيرهم يتجلى في التكوين النفسي للشاعر،وعلى الرغم من أن البشر جميعهم يشعرون بالألم،فإنهم يعانون الحزن بنسب متفاوتة،ولأسباب متعددة،فإن هناك فرقاً بين أن يعاني الإنسان الحزن،وأن يجعل من الحزن فلسفة،ويجسّد تلك الفلسفة في الأدب.
لم تعد ظاهرة الحزن ترتبط بأسباب عرضية،أو بحدث يهم الشاعر،ويدفعه إلى الحزن،كما كانت الحال في الشعر العربي القديم،فمن بين بواعث الحزن ومظاهره في الشعر،أن يفقد الشاعر أخاً أو حبيبة،فيدعوه هذا إلى رثاء الفقيد بقصائد متخمة حزناً،مثل الخنساء في رثاء أخيها،وأبو ذؤيب الهذلي في رثاء أبنائه،وجرير في رثاء زوجته،وهناك من يشعر بقرب الموت فيرثي نفسه،كما فعل مالك بن الريب،وقد يعاني الشاعر مرضاً نال منه في نخاع العظم( الشاعر التونسي القدير جلال باباي نموذجا)،فيعبر عن ألمه.
أبدع الشاعر جلال باباي في تحويل الحزن إلى إطار ذهني وجداني،وإلى أسلوب شعري؛ بحيث يعجز صاحب الحزن أن يحدد لك أسبابه ومصادره،فقد تداخلت الأسباب والمصادر، وانصهرت في عاطفة أو حالة وجدانية شاملة،لا مهرب منها ولا غنى عنها،فالحزن عند صاحب الحزن شيء دائم لا عارض،وهو قدره،وما أخذ به نفسه في مواجهة الكون المحتمل والواقع المريض.
إذا امتد به الزمن أن يستقل،ويتحول إلى حالة مزاجية وجدانية شاملة،قد تشتد بفعل المؤثرات الخارجية؛لكنه موقف احتجاج شعوري عام،واحتماء في حنايا الذات،ومعاناة من الوحدة والانتظار،وأيضاً حنين إلى شيء ماض أو مفتقد أو قل إنه حلم بالماضي أو بالعودة،والحزن إذا امتد به الزمن يصبح من مكونات الذات الإنسانية،يصبح ذلك الشطر المهم من الذات،الذي تركن إليه في اضطرابها،والحزن في هذا المعنى موقف نفسي وجداني أو فلسفي خاص وهو لون من«الصوفية دون تصوف».
وهنا أضيف:لا يكاد القاريء يفتح ديواناً شعريا لأحد الشعراء من القدماء أو من المحدثين والمعاصرين إلاّ ويلمس أن غيمة ثقيلة من الحزن والألم، والمعاناة ،وفراق الأحبة قد نٓشرت رداءها وحٓجبت نور الشمس في سماء صفحاته..
والغريب في الأمر أن مثل هذا الإيقاع الموسيقي الروحي الحزين يستهوي و يستميل النفوس والأذواق لأسباب قد يكون منها ملامسة الأحاسيس ، وإنعكاس ذلك الشعور على واقعهم المعاش ،وتجربتهم الحياتية في محيطهم الإجتماعي ..
جلال باباي من الشعراء القلائل الذين واجهوا المحن والشدائد بصبر الأنبياء،ولم تنل منهم المواجع رغم حدتها وتحدوا الأزمنة المفروشة بالرحيل بقصائد عذبة تداعب الذائقة الفنية للمتلقي،رغم مسحة الحزن التي تعتري البعض منها،ولا لوم على شاعرنا (جلال باباي) الذي يشكو مرضا عضالا يصارعه بإرادة فذّة لا تلين..
لنستمتع مع بعضنا بهذا القصيد،وأرجو من ذوي القلوب الرحيمة أن لا ينهمر الدمع غزيرا على خدودهم النحاسية..فالشاعر (جلال) لا يستعطف أحدا ولا "يتاجر" بمعاناته،إذ عهدناه جاسرا جسورا،يربتبك الوَجع حين يحدّق في عينيه..ولم يبلغ التشاؤم النفسي لديه مبلغه..وهنا تكمن الإرادة ويتجّسد التحدي..
يتيمة ذاكرتي من الرفقاء
إلاٌ طللي على البحر
يمسٌح على وجهي الكءيب
ويدوٌن بدفاتري
درسا جديدا في الوفاء
أين جلاٌس الصالونات والمقاهي ؟
متى يستقيم اعوجاج الجسد؟
من يعيد طفولة قصائدي
التي تاهت منيٌ هذا المساء؟
أيتها الوردة البريئة
أزيلي غماماتي
فلا المطر غسٌلتني بالأغنيات
ولا القمر أذاب يسراي من السقم
إلاٌ...هذا البحر يمتدٌ بلاجزع
إلى واحة القلب رغم الأنواء .
وتختلف الرؤى للواقع المعاش من شاعر لآخر.ويظل الصّراع بين مواجهة الذات الفردية مع نفسها ،وبين مواجهتها للعالم الخارجي.وتظلّ مشاعر الغربة والضّياع والألم (الحزن العميق )هي السّمة المُهيمنة على أشعار بعض الشعراء،وأستسمح لنفسي أن أستثني (جلال) منهم إجلالا وإكبارا لصبره الجميل..
محمد المحسن (شاعر وناقد تونسي)
«كل شيء يولد صغيراً، ثم يكبر،إلا الحزن فإنه يولد كبيراً، دثم يصغر»، هذه إحدى الجمل الشائعة عن الحزن،الذي يعد ظاهرة في الأدب العربي القديم والحديث،ويرتبط أكثر ما يرتبط بالشعر،الحزن في الأدب قديم قدم الإنسان المبدع،نقع على بعض مظاهره في الملاحم والأساطير،وقد أشار العديد من النقاد إلى الحساسية الخاصة،التي تميز المبدع عن سائر أبناء عصره،ولاحظوا أن الفرق بين الشعراء وغيرهم يتجلى في التكوين النفسي للشاعر،وعلى الرغم من أن البشر جميعهم يشعرون بالألم،فإنهم يعانون الحزن بنسب متفاوتة،ولأسباب متعددة،فإن هناك فرقاً بين أن يعاني الإنسان الحزن،وأن يجعل من الحزن فلسفة،ويجسّد تلك الفلسفة في الأدب.
لم تعد ظاهرة الحزن ترتبط بأسباب عرضية،أو بحدث يهم الشاعر،ويدفعه إلى الحزن،كما كانت الحال في الشعر العربي القديم،فمن بين بواعث الحزن ومظاهره في الشعر،أن يفقد الشاعر أخاً أو حبيبة،فيدعوه هذا إلى رثاء الفقيد بقصائد متخمة حزناً،مثل الخنساء في رثاء أخيها،وأبو ذؤيب الهذلي في رثاء أبنائه،وجرير في رثاء زوجته،وهناك من يشعر بقرب الموت فيرثي نفسه،كما فعل مالك بن الريب،وقد يعاني الشاعر مرضاً نال منه في نخاع العظم( الشاعر التونسي القدير جلال باباي نموذجا)،فيعبر عن ألمه.
أبدع الشاعر جلال باباي في تحويل الحزن إلى إطار ذهني وجداني،وإلى أسلوب شعري؛ بحيث يعجز صاحب الحزن أن يحدد لك أسبابه ومصادره،فقد تداخلت الأسباب والمصادر، وانصهرت في عاطفة أو حالة وجدانية شاملة،لا مهرب منها ولا غنى عنها،فالحزن عند صاحب الحزن شيء دائم لا عارض،وهو قدره،وما أخذ به نفسه في مواجهة الكون المحتمل والواقع المريض.
إذا امتد به الزمن أن يستقل،ويتحول إلى حالة مزاجية وجدانية شاملة،قد تشتد بفعل المؤثرات الخارجية؛لكنه موقف احتجاج شعوري عام،واحتماء في حنايا الذات،ومعاناة من الوحدة والانتظار،وأيضاً حنين إلى شيء ماض أو مفتقد أو قل إنه حلم بالماضي أو بالعودة،والحزن إذا امتد به الزمن يصبح من مكونات الذات الإنسانية،يصبح ذلك الشطر المهم من الذات،الذي تركن إليه في اضطرابها،والحزن في هذا المعنى موقف نفسي وجداني أو فلسفي خاص وهو لون من«الصوفية دون تصوف».
وهنا أضيف:لا يكاد القاريء يفتح ديواناً شعريا لأحد الشعراء من القدماء أو من المحدثين والمعاصرين إلاّ ويلمس أن غيمة ثقيلة من الحزن والألم، والمعاناة ،وفراق الأحبة قد نٓشرت رداءها وحٓجبت نور الشمس في سماء صفحاته..
والغريب في الأمر أن مثل هذا الإيقاع الموسيقي الروحي الحزين يستهوي و يستميل النفوس والأذواق لأسباب قد يكون منها ملامسة الأحاسيس ، وإنعكاس ذلك الشعور على واقعهم المعاش ،وتجربتهم الحياتية في محيطهم الإجتماعي ..
جلال باباي من الشعراء القلائل الذين واجهوا المحن والشدائد بصبر الأنبياء،ولم تنل منهم المواجع رغم حدتها وتحدوا الأزمنة المفروشة بالرحيل بقصائد عذبة تداعب الذائقة الفنية للمتلقي،رغم مسحة الحزن التي تعتري البعض منها،ولا لوم على شاعرنا (جلال باباي) الذي يشكو مرضا عضالا يصارعه بإرادة فذّة لا تلين..
لنستمتع مع بعضنا بهذا القصيد،وأرجو من ذوي القلوب الرحيمة أن لا ينهمر الدمع غزيرا على خدودهم النحاسية..فالشاعر (جلال) لا يستعطف أحدا ولا "يتاجر" بمعاناته،إذ عهدناه جاسرا جسورا،يربتبك الوَجع حين يحدّق في عينيه..ولم يبلغ التشاؤم النفسي لديه مبلغه..وهنا تكمن الإرادة ويتجّسد التحدي..
يتيمة ذاكرتي من الرفقاء
إلاٌ طللي على البحر
يمسٌح على وجهي الكءيب
ويدوٌن بدفاتري
درسا جديدا في الوفاء
أين جلاٌس الصالونات والمقاهي ؟
متى يستقيم اعوجاج الجسد؟
من يعيد طفولة قصائدي
التي تاهت منيٌ هذا المساء؟
أيتها الوردة البريئة
أزيلي غماماتي
فلا المطر غسٌلتني بالأغنيات
ولا القمر أذاب يسراي من السقم
إلاٌ...هذا البحر يمتدٌ بلاجزع
إلى واحة القلب رغم الأنواء .
وتختلف الرؤى للواقع المعاش من شاعر لآخر.ويظل الصّراع بين مواجهة الذات الفردية مع نفسها ،وبين مواجهتها للعالم الخارجي.وتظلّ مشاعر الغربة والضّياع والألم (الحزن العميق )هي السّمة المُهيمنة على أشعار بعض الشعراء،وأستسمح لنفسي أن أستثني (جلال) منهم إجلالا وإكبارا لصبره الجميل..
محمد المحسن (شاعر وناقد تونسي)